الأحد، 31 أكتوبر 2021

رأسمالية الزومبي – كريس هارمان – الفصل الرابع عشر والأخير: من يستطيع الانتصار – ترجمة رمضان متولي

 الفصل الرابع عشر:

من يستطيع الانتصار؟

السؤال الحاسم:

نعيش في ظل نظام مضطرب، يغذي الحروب والأزمات، ويلتهم حتى الأساس البيئي الذي يقوم عليه. هذا ما سيدفع القطاعات القومية المكونة لهذا النظام في أزمات سياسية واجتماعية متكررة على مدار القرن الحادي والعشرين. فكما كان القرن العشرون قرنا من الحروب والحروب الأهلية والثورات، كذلك سيكون القرن الحادي والعشرين. غير أن ذلك يترك سؤالا حاسما - أو السؤال الحاسم - مفتوحا: ما هي القوى الموجودة التي تمتلك القدرة على مقارعة النظام وتغيير العالم؟

كانت إجابة هذا السؤال بسيطة عند الماركسية الكلاسيكية. فنمو الرأسمالية صاحبه بالضرورة نمو الطبقة التي تستغلها الرأسمالية، وهي الطبقة العاملة، التي ستكون بدورها في مركز الثورة على هذا النظام.

ليست الطبقة العاملة أول طبقة خضعت للاستغلال والقهر  في التاريخ، غير أنها اختلفت عن نحو مائتي جيل من فقراء الفلاحين والعبيد الذين سبقوها في أمور شديدة الأهمية. فالاستغلال الرأسمالي تركز في مواقع ضخمة للعمل في مدن وتكتلات صناعية عملاقة، ما منح الطبقة العاملة قوة عند نقاط فاصلة في المجتمع الذي وجدت فيه. ويميل هذا الاستغلال كذلك إلى خلق تجانس أو تماثل في أوضاع أعضاء هذه الطبقة لأن رأس المال يعمل باستمرار على اختزال مختلف أشكال العمل الملموس إلى عمل مجرد. كما احتاج رأس المال إلى طبقة يستغلها لديها مستوى من الثقافة – معرفة القراءة والكتابة ومعرفة الحساب والأرقام ومعرفة بالعالم بوجه عام – ليست أعلى من الطبقات المستغلة التي سبقتها فحسب، بل أعلى كذلك من معظم الطبقات الحاكمة السابقة. وقد اجتمعت هذه العوامل حتى خلقت إمكانية عند الطبقة العاملة للسيطرة على المجتمع ككل وإدارته على نحو لم يكن متوفرا لدى الطبقات المستغلة التي سبقتها.

غير أن الإمكانية ليست واقعا متحققا. فلم يكن تطور الرأسمالية عملية بسيطة وسلسة في مسار صاعد، وكان لها أثرها على الطبقة المستغلة التي خلقتها. بل شهدت تفاوتا عبر الزمن، مع تركز العمال في مراكز للاستغلال خلال فترات الرخاء، ثم طرد بعض هؤلاء من تلك المراكز خلال فترات الأزمة. كما شهدت تفاوتا جغرافيا، مع ظهور مراكز للاستغلال في ارتباط بدول قومية قبل أخرى، ثم انهارت وتدهورت لتحتل مكانها مراكز جديدة.  وقد أدت هذه الأشكال من التفاوت الرأسمالي إلى تفاوت داخل الطبقة العاملة، بظهور مستويات مختلفة من المهارات والأجور، تصاحبها المنافسة على الوظائف والأمان الوظيفي بين مجموعات مختلفة من العمال، مع انتماء قطاعات من العمال إلى دولة بعينها تسيطر عليهم لأنها تبدو مركزا لتحقيق إصلاحات في النظام. ورغم ذلك، كانت هذه الطبقة بالنسبة للماركسية الكلاسيكية طبقة تدفعها ضغوط النظام عليها إلى الوحدة بين فترة وأخرى. فتباين المهارات الذي ينشأ في لحظة معينة سوف يتآكل في أخرى. والمنافسة بين العمال سوف تتلاشى عندما يناضلون معا لتحقيق أهداف مشتركة تعلو في أهميتها. وسوف تفقد الأيديولوجيات القومية سيطرتها عليهم أمام فظائع الحروب الإمبريالية.   

هذه الفكرة القائلة بأن الطبقة العاملة هي العامل الذي يستطيع تغيير المجتمع تعرضت للنقد أكثر من تحليل ماركس للدينامية الاقتصادية للنظام. ويسير هذا النقد على النحو التالي: كان ماركس اقتصاديا عبقريا، ورائدا في علم الاجتماع، لكنه وقع في رؤية نبوئية دراماتيكية حول المستقبل تنسب إلى الطبقة العاملة دورا ميتافيزيقيا. وتستمر الحجة بالقول بأن انتشار الرأسمالية الحديثة لم يصاحبه نمو في الطبقة العاملة، كما لم يحدث تجانس وتماثل في أوضاع العمال الموجودين ولم يطوروا وعيا في مواجهة مع النظام.  

كانت هذه الانتقادات واسعة الانتشار فعلا خلال مرحلة الرخاء الطويل التي أعقبت الحرب، وكما ذكرت دراسة اجتماعية عن العمال البريطانيين أن:

"فكرة التلاشي والتحلل الوشيك للطبقة العاملة فكرة هامة ومتكررة – خاصة في الأوساط الليبرالية. وترى أنه مع استمرار تطور المجتمعات الصناعية، فإن الطبقة العاملة، باعتبارها فئة اجتماعية لها طرائقها الخاصة المميزة في الحياة، وقيمها وأهدافها الخاصة، سوف تتآكل باستمرار بفعل مسارات التغيير الرئيسية. وأن فكرة الطبقة العاملة نفسها قد تشكلت خلال مرحلة طفولة المجتمع الصناعي، وأنها في الواقع تنتمي إلى هذه المرحلة: وسوف تفقد باستمرار سندها الإمبيريقي في المرحلة القادمة. ولاشك أن التفاوتات الاجتماعية سوف تستمر، لكنها سوف تتغير وتهيكل حتى أن مجتمع المستقبل سوف يغلب عليه طابع مجتمع "الطبقة الوسطى"، لا يمكن فيه تمييز تقسيمات الماضي."(1)

كانت هذه الأفكار من الانتشار حتى أنها هيمنت على تفكير شخصيات راديكالية مثل عالم الاجتماع الأمريكي رايت ميلز(2) وثوريين مثل هربرت ماركيوز(3)، بينما قام علماء الاجتماع المحدثون بتعميم مفهوم "المجتمع ما بعد الصناعي" على البلدان المتقدمة ككل. وقد ظهروا  جميعا في صورة الحمقى نوعا ما عندما قام العمال الفرنسيون في مايو 1968 بأكبر إضراب عام في التاريخ حتى الآن، وعندما اكتسحت موجات من النضالات الصناعية إيطاليا وبريطانيا والأرجنتين وأسبانيا والبرتغال خلال سنوات 1969 حتى 1975. ومع ذلك انتعشت هذه الفكرة مجددا في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين لأن عملية إعادة هيكلة الرأسمالية عبر الأزمة حطمت كثيرا من القطاعات القديمة الراسخة للطبقة العاملة كما أدت هزيمة الإضرابات إلى انحسار النضال الطبقي.  

كان لاكلو وموف يسبحان مع تيار الرأي السائد بين المثقفين عندما أكدا في كتاب واسع التأثير في منتصف ثمانينيات القرن العشرين أن: " من المستحيل أن نتحدث اليوم عن تجانس الطبقة العاملة وأن نتتبع جذوره في آلية ينطوي عليها منطق التراكم الرأسمالي."(4) كذلك فعل كل من مايكل هاردت وأنطونيو نجري عندما زعما في عام 2000 أن "الطبقة العاملة الصناعية اختفت تماما عن الأنظار. ليس أنها لم تعد موجودة، وإنما أزيحت عن موقعها المميز في الاقتصاد الرأسمالي."(5)  

غير أن الأمر البديهي (أو الحس المشترك) عند الفلاسفة، وليس ذلك للمرة الأولى، يأتي مفارقا للواقع الامبيريقي. فقد قدرت دراسة تفصيلية أجراها ديون فيلمر على القوى العاملة العالمية خلال منتصف تسعينيات القرن الماضي أن 2474 مليون شخص يشاركون في قوة العمل غير المنزلي عالميا، منهم 889 مليون يعملون مقابل أجور ورواتب، و1000 مليون يعملون بشكل أساسي في زراعة الأرض لحسابهم الخاص، و 480 مليونا يعملون لحسابهم الخاص في الصناعة والخدمات.(6) وربما أن حوالي 10 بالمئة ممن يعملون لدى الغير ينتمون إلى الطبقة المتوسطة الجديدة ويحصلون على قيمة أكبر مما ينتجون مقابل المساعدة في السيطرة على جمهور العمال. ومعنى ذلك أن لدينا نحو 700 مليون عامل، حوالي ثلثهم يعمل في "الصناعة" والبقية تعمل في قطاع "الخدمات"(7). وعلى ذلك يلزم أن يكون العدد الإجمالي للطبقة العاملة، شاملا من تعولهم ومن تقاعدوا منها، ما بين 1.5 مليار إلى ملياري نسمة. وتشير الأرقام الأحدث الصادرة عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة إلى عدد يزيد كثيرا على تقديرات فيلمر بالنسبة لإجمالي من يعملون في الصناعة عالميا.(8) إن أي شخص يعتقد أننا "نودع" تلك الطبقة لا يعيش في العالم الحقيقي.  

لقد ميز ماركس بين طبقة توجد في ذاتها كعنصر موضوعي في بنية اجتماعية، تشكلت بفعل علاقة البشر بوسائل إنتاج حاجاتهم المعيشية وطبقة لذاتها لديها وعي بموقعها ومصالحها في مواجهة مصالح طبقة أخرى. والنتيجة الرئيسية التي يمكن استخلاصها من كل هذه الأرقام هي أن الطبقة العاملة توجد كطبقة في ذاتها أكثر من أي وقت مضى بعدد أساسي يبلغ نحو ملياري نسمة، أو ثلث إجمالي سكان العالم.  وفوق ذلك يوجد عدد كبير جدا من صغار الفلاحين، يصل إلى 50 بالمئة، يقومون جزئيا بعمل مأجور، وهم لذلك يتعرضون لكثير من نفس آليات النظام التي يتعرض لها العمال. إن البروليتاريا العالمية وأشباه البروليتاريا مجتمعين أصبحوا أغلبية سكان العالم لأول مرة في التاريخ.

غير أننا نحتاج إلى الذهاب إلى ماوراء هذه الأرقام العامة إذا كان لنا أن ندرك مدى قدرة الطبقة العاملة العالمية على تحدي هذا النظام. فمن الضروري بداية أن نبحث كيف تؤدي التغيرات التي يشهدها النظام إلى تغيير قطاعات مختلفة من العمال. 

البلدان "المتقدمة": آثار إعادة الهيكلة

إن عمليات إعادة الهيكلة المتكررة للإنتاج تعني أن الطبقة العاملة في البلدان المتقدمة اليوم تختلف في جوانب عديدة عن الطبقة العاملة منذ 40 أو 50 عاما. لكن ذلك لا يبرر الزعم بأن الطبقة العاملة قد اختفت نتيجة "تحلل التصنيع" أو "المجتمع ما بعد الصناعي" أو "الاقتصاد عديم الوزن".

خذ مثلا أكبر اقتصاد في العالم، وهو اقتصاد الولايات المتحدة. فقد ثارت حالة من الذعر من عملية "تحلل الصناعة" خلال ثمانينيات القرن العشرين أمام التحديات التي واجهت التفوق الصناعي للولايات المتحدة في مجالات مثل إنتاج السيارات وأجهزة الكمبيوتر. لكن عدد العمال الذين يشتغلون في الصناعة في عام 1998 كان يزيد بنحو 20 بالمئة عن عددهم في عام 1971، وبنحو 50 بالمئة عن عددهم في 1950، وبلغ تقريبا ثلاثة أضعاف العدد في عام 1900. وقد لاحظ كل من بالدوز وكوبر وكرافت في بداية هذا القرن أن "عدد الأمريكيين الذين يعملون حاليا في صناعة السيارات والحافلات وأجزائها أكثر مما كان عليه الرقم في أي وقت خلال الفترة الممتدة منذ حرب فييتنام حتى الآن."(9)

وحتى بعد أن أدى ركود عامي 2001-2002 إلى انكماش الصناعة انكماشا هائلا، وفقدان نحو سدس الوظائف الصناعية، كانت الطبقة العاملة أبعد ما تكون عن التلاشي. فكان الإنتاج الصناعي في عام 2007 أعلى بنسبة 8 بالمئة عن مستوى عام 2000، وبنسبة 30 بالمئة عن عام 1996.(10) واستمرت الولايات المتحدة أكبر مركز للصناعة في العالم، بإنتاج يبلغ خمس الإنتاج العالمي (يسبقها الاتحاد الأوروبي المكون من 15 دولة مسجلا ربع الإنتاج العالمي)(11)، وذلك برغم كثرة الحديث عن نزوح الصناعة إلى العالم الثالث بالجملة.

بالنسبة لليابان كانت الأرقام أكثر إثارة للدهشة والذهول. فقد زادت القوى العاملة في الصناعة بأكثر من الضعف خلال الفترة بين 1950 و 1971، ثم زادت بنسبة 13 بالمئة أخرى بحلول عام 1998. إن انخفاض التوظيف في قطاع الصناعة في عدد من البلدان على مدى العقود الثلاثة الأخيرة لا يشير إلى اضمحلال التصنيع في مجمل العالم القديم المتقدم صناعيا. فقد كان لدى هذا العالم 112 مليون وظيفة في الصناعة في عام 1998(12) – بما يزيد بمقدار 25 مليون وظيفة عن عام 1951، ويقل بمقدار 7.4 مليون فقط عن عام 1971. وربما لم تكن إيطاليا أنطونيو نيجري في نفس الزمرة مع الولايات المتحدة واليابان، لكن العمال الصناعيين بالتأكيد لم يتلاشوا، بل كان لديها 6.5 مليون عامل في عام 1998، بما يقل بمقدار السدس فقط عن عددهم في عام 1971.(13)  

ينبغي أن نضيف أن هذه الأرقام حول التوظيف في الصناعة لا تقدر الأهمية الاقتصادية للصناعة عموما، وللصناعة التحويلية على وجه الخصوص، حق قدرها. فكما يلاحظ بوب روثرون عن حق أن:

"تقريبا كل نشاط اقتصادي ذي بال في المجتمع الحديث يستخدم سلعا مصنعة... وكثير من الصناعات الخدمية المنتشرة تستخدم كمية كبيرة من المعدات.(14)"

إن الانخفاض الصغير في إجمالي عدد العمال الصناعيين لا يرجع إلى تراجع أهمية الصناعة، وإنما إلى أن إنتاجية العامل في الصناعة ارتفعت بوتيرة أسرع من إنتاجية العامل في "الخدمات". وأصبح عدد أقل قليلا من العمال الصناعيين ينتجون سلعا أكثر كثيرا من نظرائهم منذ ثلاثة عقود ماضية.(15) ومازال العمال الصناعيون على نفس القدر من الأهمية للاقتصاد الرأسمالي حاليا كما كانوا في أوائل سبعينيات القرن الماضي. وليس أبعد عن الصواب من تلك العبارات البراقة والسطحية لأمثال هاردت ونيجري حول تدهور أهمية عمال الصناعة.

إن التمييز المعتاد بين "الصناعة" و"الخدمات" تمييز يبهم أكثر مما يكشف، فقد أصبحت "الخدمات" تصنيفا يدرج تحته كل ما يتبقى من أشياء لا تندرج في قطاعي الصناعة والزراعة. وهكذا نجد أن انتقال جانب من الأعمال من تصنيفها تحت "الصناعة" إلى تصنيف "الخدمات" لا يعدو تغييرا في المسمى الذي يطلق على أعمال متطابقة في جوهرها. فنجد أن شخصا (عادة رجلا) كان يعمل على آلة طباعة لدى دار نشر صحفية منذ ثلاثين عاما قد صنف ضمن نوع معين من عمال الصناعة (عمال الطباعة)، ثم شخصا آخرا (عادة إمرأة) تعمل على آلة لمعالجة الكلمات لدى دار نشر صحفية في الوقت الراهن يتم تصنيفها ضمن "عمال الخدمات". غير أن العمل الذي يقومان به يظل واحدا في جوهره، ومنتجه النهائي متطابقا بدرجة أو بأخرى. وقد اضطلع أستاذ الاقتصاد روبرت روثورن بإجراء تحليل إحصائي لإجمالي قطاع "الخدمات" على دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) ككل، كشف عن انخفاض صغير في التوظيف في "إجمالي السلع والخدمات المرتبطة بالسلع" – من 76 بالمئة من جملة العمالة المستخدمة في عام 1970 إلى 69 بالمئة في عام 1990.(16). غير أن هذه النسبة بالتأكيد ليست تحولا جذريا في مجال العمل.

كثير من الأعمال يجري تصنيفها تحت "الخدمات" وتلعب دورا جوهريا في عملية التراكم في العالم الحديث _ خاصة خدمات تقديم الرعاية الصحية والتعليم، كما رأينا في الفصلين الخامس والسابع. ويعمل في خدمات الصحة والتعليم في الولايات المتحدة حاليا ما يزيد على عشرة ملايين عامل (تقريبا واحد من كل ثلاثة عشر عامل من إجمالي قوة العمل) لا يمكن للرأسمالية الأمريكية أن تعمل بدونهم. كما أن الاتجاه في المدى الطويل هو دفع هؤلاء العمال باستمرار للعمل تحت ظروف تشبه ظروف العمال الصناعيين وعمال المكاتب العاديين، مثل ربط الأجر بالنتائج، ووضع أنظمة للتقييم، وزيادة التركيز على الالتزام بمواعيد العمل، مع تشديد قواعد الانضباط.

هناك أسطورة تزعم أن قوة العمل في قطاع "الخدمات" تتكون من أشخاص يحصلون على أجور مرتفعة ويتمتعون بالسيطرة على شروط عملهم الخاصة، ولا يحتاجون أبدا إلى أن تتسخ أياديهم. وهكذا كتبت بولي توينبي الكاتبة لدى جريدة الجارديان:

"لقد شهدنا أسرع تغيير يجري على طبقة اجتماعية في التاريخ المدون: فالطبقة العاملة التي كانت كبيرة في عام 1977 عندما كان ثلثا السكان منخرطين في أعمال يدوية انكمشت إلى الثلث في حين ارتقى الباقون لينضموا إلى الطبقة الوسطى من ذوي الياقات البيضاء الذين يملكون منازلهم."(17)

لو كانت توينبي ألقت نظرة على تقرير مكتب الإحصاء القومي "الحياة في بريطانيا 2000"، ربما كانت اكتشفت أن 51 بالمئة من الرجال و 38 بالمئة من النساء يعملون في مختلف وظائفها التي تندرج تحت فئة "الأعمال اليدوية".(18) ذلك لأن "الصناعات الخدمية" تشمل عمال النظافة، والأعمال المعاونة بالمستشفيات، وعمال الموانئ، وسائقي الشاحنات، والقطارات والأوتوبيسات، وعمال البريد. وإلى جانب هؤلاء عدد كبير جدا من النساء – 50 بالمئة – يعملن في الوظائف " غير اليدوية الوسيطة والصغيرة" حيث الأجور تكون عادة أقل من أجور معظم الأعمال اليدوية وظروف العمل غالبا في نفس صعوبتها على الأقل. في الولايات المتحدة، كان 50 بالمئة من الموظفين العاملين في وظائف ترتبط بالقطاع الخدمي في عام 2001 يقومون بأعمال يدوية أو أعمال كتابية روتينية أو أعمال مشابهة.(19) يشكل هؤلاء بالإضافة إلى 33 مليون يعملون في الصناعات اليدوية التقليدية ثلاثة أرباع قوة العمل في البلاد.

تمر جميع البلدان ذات الاقتصاد "المتقدم" (وكثير من البلدان ذات الاقتصاد "غير المتقدم") بعمليتين ترتبط إحداهما بالأخرى. حيث تقع الطبقة العاملة اليدوية التقليدية تحت ضغوط متزايدة بسب محاولة رأس المال اعتصار عملها الإنتاجي المباشر للحصول على مزيد من الأرباح منه. وفي نفس الوقت، تخضع الطبقة العاملة الجديدة "التي تعمل في قطاع الخدمات الذي لا ينتج سلعا مادية" لعملية بلترة مع شروع رأس المال في تخفيض تكاليف الأنشطة غير الإنتاجية والأنشطة ذات الإنتاجية غير المباشرة.

إن كل أزمة وقعت خلال العقود الأربعة الأخيرة تضمنت زيادة مفاجئة في معدلات البطالة -  الدائمة في بعض الحالات – وإزالة مراكز للإنتاج قديمة وراسخة (مصانع وموانئ ومناجم، إلخ). ومن ثم، يحاول رأس المال ومبرروه الاستفادة من شعور العمال بغياب الأمان الوظيفي في إعادة تشكيل حياتهم لتلائم متطلبات رأس المال الخاصة التي تتغير باستمرار. وأصبحت شعاراتهم هي "المرونة" في وقت العمل، وفي أسواق العمل وطرائقه، وجميعها يجري تبريرها تحت ادعاء أن "التوظيف مدى الحياة ينتمي إلى عهد مضى". وقد قبلت بحوث أكاديمية كثيرة هذه الرسالة، كما تبناها الديمقراطيون الاجتماعيون الذين ينتمون إلى "الطريق الثالث" ومن ينتمون إلى اليسار "المستقل" كحقيقة لا تقبل المساءلة. نموذج ذلك – وهو نموذج واسع التأثير بأكثر مما ينبغي – هو عالم الاجتماع مانويل كاستلز الذي يرى أن هناك:

"عدم استقرار هيكلي في أسواق العمل في كل مكان مع ضرورة المرونة في التوظيف، وحركية العمل، وإعادة اكتساب المهارات لدى قوة العمل بوتيرة مستمرة. وقد تلاشى أو تآكل مفهوم التاريخ المهني المستقر الذي يتسم بقابلية التنبوء به، مع تحول العلاقات بين رأس المال والعمل إلى علاقات فردية، كما أن شروط العمل التعاقدية تتجنب نظام المفاوضة الجماعية."(20)

 

إن الزعم بقدرة الرأسمالية على تدمير الوظائف الصناعية تدميرا فوريا مبالغة هائلة لما يحدث في عملية إعادة الهيكلة. فكما رأينا في الفصل العاشر من هذا الكتاب إن رأس المال يستغرق وقتا وجهدا عند تصفية الاستثمار الصناعي في مكان من العالم ونقله إلى مكان آخر – كما أن الاستثمارات الجديدة مازالت في غالبيتها داخل مثلث البلدان المتقدمة، رغم أن بروز الصين كمركز صناعي يدخل تعديلا جديدا على تلك الصورة. حتى في صناعة الإليكترونيات، التي تتسم فيها المكونات ومعظم المنتجات النهائية بخفة الوزن وانخفاض تكلفة نقلها، لم نشهد انتقالا صريحا وقاطعا للإنتاج المتمركز في البلدان المتقدمة إلى التعاقد الخارجي في جنوب العالم خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي وأوائل العقد الأول من الألفية الجديدة:

" رغم ارتفاع نسبة الإنتاج خارج مثلث أوروبا وأمريكا الشمالية واليابان، وارتباطها حقيقة بالأسواق العالمية فضلا عن الأسواق المحلية، فقد انحصرت في عدد قليل من البلدان الآسيوية. وفي نفس الوقت، استمرت قوة العمل الإنتاجية "المحلية" بالولايات المتحدة في نموها."(21)

 بصورة عامة، مازال رأس المال يرى وجوده في المناطق التي حققت التصنيع بحلول منتصف القرن العشرين أكثر ربحية. ربما يحصل العمال عادة على أجور أفضل في هذا المناطق، غير أن توفر مستويات من المهارة المترسخة مع الاستثمارات القائمة في المصانع والبنية الأساسية يعني كذلك أنهم أعلى إنتاجية، ويقدمون للنظام قيمة زائدة أكبر كثيرا من إخوتهم وأخواتهم الأفقر في مناطق العالم الثالث. وهذا ما يفسر حالة الركود أو التباطؤ الشديد في متوسط معدل النمو التي صبغت معظم بلدان أمريكا اللاتينية خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، وحالة التدهور المطلق في معظم دول أفريقيا.

لم يكن الأثر الأهم لعمليات نقل الإنتاج للخارج وزيادة الواردات هو دورها في تدمير الوظائف، وإنما في مساعدة أصحاب الأعمال على تقويض ثقة العمال في قدرتهم على الدفاع عن الأجور وشروط وساعات العمل.

وقد كشفت دراسة لكيت برونفنبرينر أن العمال الأمريكيين كانوا يشعرون بالقلق بشأن  مستقبل أوضاعهم الاقتصادية خلال فترة الانتعاش الاقتصادي في تسعينيات القرن الماضي أكثر من القلق الذي كانوا يعانونه أثناء فترة الركود الاقتصادي العميق في عامي 1990-1991. "فأكثر من نصف أصحاب العمل هددوا بإغلاق المصانع كليا أو جزئيا" أثناء الحشد التنظيمي الذي كانت تقوم به النقابات. غير أنه بعد ذلك "قام أصحاب العمل بتنفيذ تهديدهم بإغلاق المنشآت كليا أو جزئيا في أقل من 3 بالمئة فقط" من إجمالي الحالات. (22) بمعنى آخر، من مصلحة أصحاب العمل المبالغة في التأكيد على حالة عدم الاستقرار الوظيفي لإحباط العمال وتدمير روحهم المعنوية وإضعاف مستوى المقاومة. وتلك الأصوات التي تنتمي إلى اليسار وتقوم بالمبالغة في تصوير حالة عدم الأمان الوظيفي قد تعزز من ذلك الإحباط والتدمير المعنوي وتضيف إليه بدلا من مواجهته عن طريق إدراك ومعرفة العوامل المضادة التي تمنح العمال مزيدا من القوة وتكفل استمرارها إذا توافرت لديهم الثقة في استخدامها.

إن الشواهد لا تدعم ولا تبرر تلك الصورة التي تعكس انتشارا منتظما لا يلين للوظائف التي تفتقد إلى الأمان والاستقرار الوظيفي.لقد نتجت عن أزمة أوائل تسعينيات القرن الماضي فعلا زيادة كبيرة في الوظائف "غير المستقرة أو المؤقتة" في أوروبا الغربية، ومع ذلك ظلت 82 بالمئة من الوظائف وظائف دائمة مقابل 18 بالمئة فقط من الوظائف غير الدائمة – وهي النسبة التي استمرت دون تغيير يذكر خلال الفترة بين عامي 1995 و 2000. وبرغم التباين الواسع بين مختلف البلدان(23)، انتهت دراسة لمنظمة العمل الدولية عن أوروبا الغربية في عام 2001 إلى أن:

"الشواهد لا تدعم ذلك الرأي القائل بأننا نشهد نشأة نوع  ُجديد‘ من علاقات العمل هو ما نراه في     ُ نهاية المسار المهني ‘ و ُ انتهاء الوظيفة الدائمة مدى الحياة ‘".(24)

وكشفت دارسة مسحية أجريت على العمال البريطانيين في عام 2000 أن 5 بالمئة فقط منهم يعملون بعقود مؤقتة (25) بينما ارتفعت نسبة الذين عملوا في مؤسسة واحدة لمدة تزيد على عشر سنوات من 29 بالمئة إلى 31 بالمئة (26). بل حتى في إسبانيا، التي يوجد بها أعلى مستوى من "عدم الأمان أو الاستقرار" الوظيفي في أوروبا، تبلغ نسبة العمال ذوي الوظائف الدائمة 65 بالمئة من إجمالي القوة العاملة. 

إن رأس المال لا يستطيع الاستمرار دون عمال لديهم مهارات معينة ويفضل العمال الذين يشعرون بدرجة من المسئولية نحو عملهم. كما أن أصحاب العمل يستغرقون وقتا في تدريب العمال ونادرا ما يكونون على استعداد لفقدهم إذا استطاعوا تجنب ذلك. ولهذا السبب، لا يتعاملون دائما مع العمال كما لو كانوا أشياء "يمكن الاستغناء عنها"، حتى لو تعلق الأمر بعمالة نصف ماهرة أو غير ماهرة. وقد يستفيدون من تعميم حالة عدم الأمان الوظيفي بما يجعل غالبية العمال أصحاب الوظائف الآمنة خائفين من احتمال أن يفقدوها. لكن ذلك لا يعني أن رأس المال يستطيع فعلا الاستغناء عنهم. كما يعني أن هؤلاء العمال لديهم القدرة على مقاومة شروطه حتى وإن كانوا لا يعون ذلك في أغلب الأحيان.

 

الطبقات العاملة الجديدة في "العالم الثالث":

يعيش نحو 60 بالمئة من جملة العمال الصناعيين في العالم خارج البلدان "المتقدمة" الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وربما 25 بالمئة منهم في الصين، ونحو 7 بالمئة في الهند ومثلهم في أمريكا اللاتينية.(27) ولا تقدم هذه الأرقام أكثر من لمحة بسيطة عن التغير الكبير الذي نتج عن انتشار عملية التوسع الذاتي للرأسمالية في مختلف أنحاء العالم.  

منذ ستين عاما، كان 80 بالمئة من سكان العالم يعيشون في الريف، وكان 30 أو 40 أو حتى 50 بالمئة يعملون في زراعة الأرض حتى في بلدان ينظر إليها كبلدان "متقدمة"، مثل فرنسا أو إيطاليا أو اليابان. وحاليا، يعيش ما يقرب من نصف سكان العالم في مدن وأحياء مدينية، كما أن سكان الحضر يشكلون الأغلبية حتى في بلدان يعتقد أنها ريفية في أغلب الأحوال – 84 بالمئة في البرازيل، 76 بالمئة في المكسيك، 63 بالمئة في الإكوادور ومثلها في الجزائر.(28)

لا يعني التوسع الحضري وانتشار علاقات السوق بالضرورة نموا في العمل المأجور.(29) فعلى امتداد العالم نجد أن الناس يهاجرون المناطق الريفية بمعدل يزيد كثيرا عن معدل نمو فرص الكسب المستقرة لهم في القطاعات الحديثة من الاقتصاد. ويصدق ذلك بوجه خاص في البلدان التي يكون النمو الاقتصادي فيها بطيئا أو سلبيا. هكذا انخفض التوظيف مقابل أجر من حيث الأعداد المطلقة في العديد من البلدان الإفريقية خلال ثمانينيات القرن الماضي(30)، كما أن نصف قوة العمل غير الزراعية في أفريقيا يعملون لحسابهم الخاص.(31) بل حتى في الصين، حيث معدل التراكم السريع، كان معدل نمو الطبقة العاملة المستخدمة أبطأ من معدل النمو الاقتصادي (32). غير أنه عموما لا ينبغي المطابقة بين بطء نمو التوظيف و"انحسار التصنيع"(33).

في مناطق كثيرة من الجنوب العالمي يحدث نمو في العمل المأجور، ولكن بصورة متقطعة نتيجة للحركة الفوضوية لنمو الصناعة الرأسمالية ارتفاعا وهبوطا. وفي كثير من الحالات نجد النمو الذي يحدث في القطاع "غير الرسمي" من الشركات متناهية الصغر يطغى على النمو في الصناعة الحديثة والتوظيف "الرسمي". وقد ارتفع نصيب الشركات الصغيرة والقطاع غير الرسمي في توظيف العمالة غير الزراعية في أمريكا اللاتينية ككل من 40 بالمئة في عام 1980 إلى 53 بالمئة في 1990 (34)، ولم يكن نصف سكان الحضر في  البرازيل من "العاملين في القطاع الرسمي"، رغم أن أكثر من نصف قوة العمل في القطاع غير الرسمي كانوا عمالا بأجر.(35)

في الهند، كان ولا يزال النمو الاقتصادي يتركز أكثر ما يتركز في القطاع غير الرسمي "غير المنظم"، دون أي حقوق للعمال، بينما أربعون بالمئة من سكان الحضر يعملون لحسابهم الخاص – ويعملون في أنشطة عائلية، عادة بدون امتلاك منشأة خاصة، أو كبائعين جائلين، أو سائقي توكتوك (دراجة بخارية ثلاثية العجلات)، أو في جر عربات اليد وما شابه من أعمال.(36)، كذلك في الصين ينمو القطاع غير الرسمي بوتيرة سريعة – مع زيادة أعداد العمال غير المصنفين رسميا في الحضر "ويقومون بأعمال في القطاع غير الرسمي (مثلا باعة متجولون، عمال بناء، وخدم منازل)" بمقدار 79 مليونا في الفترة بين عامي 1995 و 2002. وقد ارتفعت نسبتهم إلى 40 بالمئة من العمال في الحضر بحلول عام 2002.(37). وبالإضافة إلى هؤلاء الذين يعملون في القطاع غير الرسمي، وغالبا يمتزجون بهم، هناك المحرومون من أي فرص للتوظيف بواسطة الرأسمالية الحديثة، أي العاطلون الذين يشكلون 10 بالمئة أو أكثر في مدن العالم الثالث.(38)

إن عجز عملية التوظيف المنتظم في المدن عن استيعاب العمالة الهائلة التي تتدفق من الريف ينتج مباشرة عن منطق الرأسمالية. فقد تسببت المنافسة على المستوى العالمي في تحول الرأسماليين إلى أنماط الإنتاج "كثيفة رأس المال" التي لا تتطلب أعدادا كبيرة من العمال الجدد.  

قدم ماركس وصفا جيدا للعملية التي ينمو من خلالها القطاع غير الرسمي عبر دراسة المجتمع البريطاني منذ 150 عاما:

"...يستقطب رأس المال الذي يتكون خلال عملية التراكم أعدادا من العمال تقل باستمرار في تناسب مع حجمه، ويلفظ رأس المال القديم ... المزيد والمزيد من العمال الذين قام بتوظيفهم من قبل."(39)

وينتج عن هذه الدينامية كما  ُ راكدا ‘ يعتبر أحد مكونات ُ جيش العمال الفعلي ‘ يتم ُ توظيفه بصورة غير منتظمة إلى أقصى حد ‘:

"تتدهور ظروف حياته إلى أدنى كثيرا من متوسط المستوى الطبيعي للطبقة العاملة؛ وذلك ما يجعل منه على الفور موضوعا لمجالات خاصة من الاستغلال الرأسمالي... تتسم بأقصى عدد من ساعات العمل وأقل مستوى من الأجور.... ويزداد حجم هذا المكون مع زيادة وتطور القدرة على التراكم وتكوين فائض من السكان."(40) 

وبوجه عام، فإن مصدر المعاناة عند جزء كبير من سكان الحضر في بلدان العالم الثالث ليس استغلال رأس المال الكبير لهم استغلالا فائقا، بل واقع أن رأس المال الكبير لا يجد وسيلة لتحقيق أرباح كافية من خلال استغلالهم أصلا. ويتضح ذلك أكثر ما يتضح في حالة جزء كبير من أفريقيا جنوب الصحراء. فبعد اعتصار القارة والاستحواذ على ثرواتها خلال الفترة من بداية تجارة العبيد وحتى نهاية الإمبراطورية في خمسينيات القرن الماضي، أصبح القائمون على إدارة النظام العالمي (ومنهم حكام المنطقة نفسها الذين ينقلون ثرواتهم الخاصة إلى أوروبا وأمريكا الشمالية) أكثر استعدادا لتجاهل وشطب معظم سكانها كشعوب "هامشية" بالنسبة لاحتياجاتهم – وذلك باستثناء المناطق المحلية التي توجد بها المواد الأولية ذات الأهمية الكبرى، وخاصة النفط.

 

العلاقة بين القطاع الرسمي والقطاع غير الرسمي:

إن التفاوت في توسع القطاع الصناعي والنمو السريع للقطاع غير الرسمي يمكن أن يؤديا إلى استنتاجات تتعلق بعدم قدرة العمال على التنظيم والنضال تقارن إلى حد كبير مع الأفكار المتعلقة "بالقلق وغياب الثقة" في البلدان الصناعية القديمة. فمن ناحية، يفترض أن العمال الذين يعملون في وظائف مستقرة في القطاع الرسمي ينتمون إلى الأرستقراطية العمالية صاحبة الامتيازات – كما يشير تقرير حول منطقة شمال شرق البرازيل، فإن "التوظيف الرسمي يعد امتيازا، لا يحظى به إلا أقل من نصف الراغبين في وظيفة بالقطاع الرسمي."(41) وفي نفس الوقت، فإن من يعملون في القطاع غير الرسمي يعانون من "عزلة اجتماعية" وليس بمقدورهم تنظيم أنفسهم. 

إن العمل في القطاع الرسمي يحظى قطعا بامتيازات تزيد على العمل في القطاع غير الرسمي. وفي الهند يحصل العمال في "القطاع المنظم" على أجور تزيد بنسبة (30 أو 40 أو حتى 100 بالمئة) عن أجور العاملين في القطاع "غير المنظم".(42) وفي الصين، كان العمال في قطاع الصناعة الكبيرة يحصلون حتى أواخر تسعينيات القرن الماضي على "طبق الأرز الحديدي" الذي يمثل الدخل المضمون بالإضافة إلى مجموعة مزايا محددة تتعلق بالإسكان والرعاية الصحية ومعاش التقاعد – وكلها أمور يحرم منها العمال الذين يهاجرون من الريف بحثا عن عمل في المدينة.

غير أن أصحاب العمل لم يمنحوا العمال هذه المزايا بسبب طيبة قلوبهم، بل لأنهم يحتاجون إلى درجة من الاستقرار في قوة العمل، وتحديدا عندما يتعلق ذلك بعمال مهرة لا يرغبون في أن يقوم منافسوهم باصطيادهم خلال أوقات الرخاء.(43) وفي كثير من الصناعات، تزداد إنتاجية القوى العاملة كلما زادت خبراتها وكانت مستقرة في عملها. ويكون رأس المال مستعدا لدفع أجور أعلى لبعض العمال في تلك الصناعات لأنه يستطيع أن يحقق أرباحا أكثر من ورائهم إذا فعل ذلك. ومن هنا ينشأ هذا التناقض الصارخ بأن بعض قطاعات العمال في العالم يحصلون على أجور أفضل من الآخرين ويخضعون لاستغلال أكبر. ولنفس السبب نجد أن العمال في القطاع الرسمي لديهم قدرة على النضال في مواجهة رأس المال بطريقة يخشاها.  

نادرا ما يترتب على توسع القطاع غير الرسمي تدمير القطاع الرسمي، فقد سجل نمو القطاع غير الرسمي في مدينة ساو باولو، أهم المدن الصناعية في البرازيل، نموا بنسبة 70 بالمئة تقريبا خلال تسعينيات القرن العشرين، لكن عدد العمال الذين يعملون بشكل "رسمي" لدى القطاع الخاص ظل مرتفعا بأكثر من أربعة أضعاف عدد العمال الذين يعملون بشكل "غير رسمي".(44) ومن الخطأ أن نتحدث عن "البلترة المعكوسة" كما يفعل أشخاص مثل باولو سينجر.(45) بل إن ما يحدث هو إعادة هيكلة للقوى العاملة عبر قيام الشركات الكبرى بفصل بعض المهام والأعمال (عادة لا تتطلب قدرا كبيرا من المهارة ولذلك يسهل إنجازها بعمالة مؤقتة وغير مستقرة) وإسنادها إلى شركات صغيرة، ومقاولي أنفار، وعمال يعلمون لحسابهم الخاص افتراضا.

لم يعد نمو القوى العاملة في القطاع غير الرسمي بأي فائدة على القوى العاملة في القطاع الرسمي، بل على العكس من ذلك، فقد صاحب ذلك النمو زيادة في استغلال العاملين في هذا القطاع – وفي حالات كثيرة تدهور في الأجور وشروط العمل. وكان ذلك أشد وضوحا في إفريقيا، حيث بلغ تدهور الأجور الحقيقية للعاملين خلال ثمانينيات القرن العشرين حدا لا يصدق من فرط ضخامته. وقد تحدث تقرير صادر في عام 1991 عن:

"انخفاض شديد في الأجور الحقيقية... بلغ تدهورها نحو 30 بالمئة في المتوسط بين عامي 1980 و 1986... وفي كثير من البلدان، بلغ متوسط انخفاض الأجور الحقيقية 10 بالمئة سنويا منذ عام 1980... وانخفض الحد الأدنى للأجور بنسبة 20 بالمئة في المتوسط خلال تلك الفترة.(46)"

 

وفي أمريكا اللاتينية انخفضت الأجور الحقيقية في القطاع الصناعي بنسبة تزيد على 10 بالمئة خلال ثمانينيات القرن العشرين، وقد انخفضت كذلك في القطاع الرسمي في الهند في أواخر تسعينيات القرن الماضي.(47)

 

إن استخدام القطاع غير الرسمي في ضرب العمال في القطاع الرسمي نتج عنه افتراض شائع بأن العمال في القطاع غير الرسمي عاجزون لا حول لهم ولا قوة. غير أن رأس المال يواجه هنا أيضا مشكلة. فكلما زاد اعتماده عليهم كلما تعاظمت قدراتهم الكامنة على مقاومة مطالبه. ففي الهند شهدت شرائح العمال التي تنتمي إلى القطاع غير الرسمي – منتجو السلع الوسيطة في القطاع غير المنظم، مثل إنتاج العناصر الكيميائية الأساسية، ومنتجات المعادن والمنتجات المعدنية اللافلزية والمعدات -  زيادة في الأجور مع زيادة الإنتاجية، بما يؤشر على أن "القوة التفاوضية للعمال من هذه الشرائح ليست ضعيفة بقدر ما تقتضي شروط عملها."(48)

إن ظاهرة التوظيف غير الرسمي ليست بأي حال جديدة في تاريخ الرأسمالية. فغالبا ما يلعب التوظيف غير الرسمي دورا هاما في صناعات معينة. كما أن بعض أشكال التعاقد مع مقاولي الأنفار قديمة للغاية – وكانت شائعة في مصانع النسيج أثناء الثورة الصناعية. وفي مناجم الولايات المتحدة وبريطانيا خلال القرن التاسع عشر، كان المشرفون أو الملاحظون يجلبون العمال ويدفعون لها أجورهم من مبلغ مالي يحصلون عليه هم من مالكي المنجم. وربما أن هؤلاء العمال غير المنتظمين لا يشعرون بأنهم جزء من الطبقة العاملة، فغالبا ما كانوا منعزلين عن نضالات القطاعات الأخرى في هذه الطبقة لسنوات أو حتى عقود متصلة. غير أن إمكانية النضال داخل هذه القطاعات من العمال واردة دائما، وعندما تتحول إلى واقع قد يصبح الصراع مريرا، مع مسحة من التمرد العنيف.  

وقد لاحظ فريدريك إنجلز هذا التطور تحديدا في عام 1859 عندما أضرب عمال الموانئ في لندن للمرة الأولى، وكتب:

"كانت المنطقة الشرقية من لندن، وحتى الآن، تعاني حالة من الركود ويضربها الفقر والبؤس الشديد، وأهم خصائصها تلك البلادة على وجوه الرجال الذين حطم الجوع معنوياتهم وفقدوا كل أمل في الحياة... والآن، هذا الإضراب العظيم لأكثر العناصر إحباطا بين الجميع، عمال الميناء، ليس الرجال الأقوياء وذوي الخبرة الذين يعملون عملا منتظما ويحصلون على أجور أفضل نسبيا في وظيفة مستقرة، وإنما أولئك الذين حدث أن حطوا إلى منطقة الموانئ، أمثال يونس الذين عانوا تحطم سفنهم في كل مجال آخر، الذين يتضورون جوعا، بحر متلاطم من الحيوات المحطمة في سبيلها إلى التدمير الشامل.  وهذه الكتلة البشرية التي تكسوها الكآبة واليأس والذين يقاتل بعضهم بعضا في معارك عنيفة حرفيا عندما يفتح الميناء أبوابه كل صباح حتى يكون أول من يصل إلى الرجل الذي يسجل أسماءهم، هذه الكتلة التي تتجمع بصورة عشوائية وتتغير يوميا، نجحت في توحيد صفوفها مشكلة فرقة من 40000 رجل، تحافظ على نظامها وتبث الذعر في صفوف شركات الميناء القوية..."(49).  

إن فكرة إنجلز شديدة الأهمية في القرن الواحد والعشرين. فقد شهد العالم في مختلف أرجائه ثلاثة عقود من الهزيمة والإحباط بالنسبة للعمال. ونتج عن ذلك نزعة قدرية بشأن إمكانية النضال، انعكست في كثير من الدراسات التي رصدت معاناة الفقراء والمضطهدين، التي صورتهم دائما كضحايا، بينما يندر أن تصورهم كمناضلين. هكذا نجد مادة هائلة برعاية منظمة العمل الدولية حول "الإقصاء الاجتماعي" – وهي إحدى الأفكار التي تناسب البيروقراطيين الذين يديرون مثل هذه الهيئات. أفكار مثل تحويل قوة العمل إلى "قوة عمل غير منتظمة" أو "قوة عمل نسائية" تصبح أساليب أكاديمية تنميطية لاستبعاد إمكانيات النضال – حتى وإن كان بعض الذين يقومون بهذه الدراسات يحاولون الإفلات من الإطار الفكري الذي وقعوا في حبائله.  إن هذا الميل إلى النظر إلى فقراء المدن والعمال الدائمين كجماعات منفصلة ومعزولة تماما عن بعضها البعض يهمين بصورة خاصة بين نشطاء المنظمات غير الحكومية. أما الواقع فهو أكثر تعقيدا من ذلك، فالأحياء العشوائية نفسها نادرا ما تكون متجانسة من حيث تكوينها الاجتماعي. ويعيش فيها العمال الدائمون جنبا إلى جنب العمال غير المنتظمين، وأفقر قطاعات العمالة المستقلة والعاطلين، بل وبعض قطاعات البرجوازية الصغيرة.  ويروي مايك ديفيز كيف أن:

"الصورة النمطية التقليدية عن الهندي، الذي يعيش على الأرصفة، تراه فلاحا معدما، انتقل حديثا من الريف إلى المدينة، ويعيش متطفلا عن طريق التسول، غير أن بحثا أجري في مومباي أظهر أن جميعهم تقريبا (97 بالمئة منهم) لديهم عائل واحد على الأقل، وأن 70 بالمئة منهم يعيشون في المدينة منذ 6 سنوات على الأقل. وفعليا، فإن كثيرا من قاطني الأرصفة عمال – سائقو توكتوك، وعمال بناء وحمالون في الأسواق – الذين تضطرهم أعمالهم أن يعيشوا في قلب العاصمة التي لا يتحملون كلفة الحياة بها في ظروف مغايرة."(50)

ويوضح كل من ليو زيليج وكلير سيروتي أن أبحاثا حديثة أجريت على مقاطعة سويتو في جنوب أفريقيا تبين أن "78.3% من العائلات لديها مزيج من البالغين من الذين يعملون، ومن يعملون لصالح أنفسهم، ومن العاطلين عن العمل." وينتهيان إلى أن:

"المقاطعات ومدن الصفيح في جنوب أفريقيا يمكن اعتبارها نقطة تقاطع بين النقابيين وطلاب الجامعات وخريجيها، والعاطلين عن العمل والباعة المتجولين. ورغم أن شبح البطالة يؤثر على كل شرائح المجتمع، فإن هذه الجماعات ليست في انفصال عن بعضها البعض بصورة دائمة، ويمكن أن تتواجد في نفس العائلة الواحدة يساند بعضها الآخر."(51)

هذه الصورة لا تختلف عن مدينة إل ألتو، وهي المدينة التي تقع على أطراف العاصمة البوليفية لاباز، ويعيش فيها مئات الآلاف، أغلبهم من أبناء شعب الأياما الأصلي الذين انتقلوا إلى المدينة من الريف أو مناجم القصدير المغلقة، والذين تتسم محاولاتهم لكسب العيش بسمات القطاع غير الرسمي في المدن المماثلة في جميع أنحاء العالم الثالث. غير أن إل ألتو "هي كذلك المنقطة الصناعية الرئيسية في إقليم لاباز"(52)، حيث يوجد 54 بالمئة من القوى العاملة الصناعية في الإقليم، وقد زاد عدد العاملين في قطاع الصناعة بها بنسبة 80 بالمئة في الأعوام العشرة الأخيرة. إن المهم هو "الاختلاط بين الطابع غير الرسمي والأنشطة الصغيرة التي تقوم على العمل الأسري من ناحية، ودرجة احتواء قوة العمل في نظام العمل المأجور في أنشطة إنتاجية من ناحية أخرى،" حتى يكون لأشكال التنظيم المحلية محتوى طبقي (إلى جانب المحتوى الخاص بالسكان الأصليين).(53)

وفي ظل هذه الظروف، تتوفر للنضالات العمالية إمكانية أن تلعب دور المركز لكل أشكال الغضب والتذمر عند الغالبية العظمى من أولئك الذين يعيشون في الأحياء العشوائية الفقيرة. وهكذا استطاعت سلسلة من الاحتجاجات وأحداث الشغب في جنوب أفريقيا بهدف توفير الخدمات الأساسية أن تخلق مناخا كان فيه:

"إضراب عمال القطاع العام في يونيو 2007 أكبر الإضرابات العامة منذ نهاية عهد العنصرية، جاذبا إليه كثيرا من الناس إلى الحراك النقابي للمرة الأولى. إن إمكانية أن تغذي هذه النضالات بعضها البعض – أي نضالات المجتمع المحلي ونضالات مواقع العمل – لا توجد فقط في عقول المناضلين، ولكن كما توضح الدراسة، تعبر عن حقيقة الاقتصاد العائلي في جنوب أفريقيا المعاصرة."(54)

في بوليفيا، كانت إل ألتو مركزا لما يشبه الانتفاضات التي ضمت إليها عمال المناجم مع المعلمين والفلاحين وتنظيمات السكان الأصليين للإطاحة بحكومتين في 18 شهرا. وفي مصر أواخر عام 2006، شن 24 ألفا من عمال مصنع مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى إضرابا:

"أطلق موجة من الاحتجاجات العمالية في مختلف أنحاء مصر شملت قطاعات اقتصادية وصناعات مختلفة، من المحلة إلى كفر الدوار إلى شبين الكوم، ومن صناعة الغزل والنسيج إلى صناعة الأسمنت إلى السكة الحديد وعمال مترو الأنفاق والنقل العام. وانتقلت موجة الإضرابات من القطاع العام إلى القطاع الخاص إلى موظفي الخدمة المدنية، ومن المناطق الصناعية القديمة إلى المدن الجديدة في جميع المحافظات. وانتقلت من قطاع النسيج إلى الصناعات الهندسية والكيماوية إلى قطاع البناء والتشييد وإلى خدمات النقل والمواصلات. وكان لهذه الإضرابات أثر واسع النطاق، وقد انتشرت إلى قطاعات ليست لديها ثقافة الاحتجاج، مثل المعلمين والأطباء وموظفي الخدمة المدنية، بل وحتى إلى سكان المناطق العشوائية مثل سكان قلعة الكبش وفلاحي قرية الأطش.(55) 

تبين هذه الأمثلة أن الانقسامات والسلبية التي تركز عليها تقارير الإقصاء الاجتماعي والجمعيات غير الحكومية ليست قدرا محتوما على الطبقة العاملة في العالم الثالث. إن تدمير الرأسمالية المتواصل لأنماط الحياة الاقتصادية والاجتماعية القديمة أثناء إعادة هيكلة نفسها على نطاق عالمي لا يسبب المعاناة فحسب، بل ينشأ عنه كذلك إمكانية المقاومة التي قد تعبر عن نفسها بصورة مفاجئة وحيث لا يتوقع أحد.

في واقع الأمر، هناك نمط لهذه النضالات نتج عن التأثير الأول لعملية التصنيع الراسمالي في هذه البلدان، وقد تم توثيقه على سبيل المثال في مجموعة "فلاحون وبروليتاريون"، التي حررها كوهن وجوتكايند وبلازيير منذ ثلاثين عاما.(56) وهناك عدد لا يحصى من الأمثلة في العقود الأخيرة يؤكد على هذه الصورة. ويجب أن نتوقع مزيدا منها مع تفاعل الأزمة الاقتصادية مع التغير المناخي وأزمات الأمن الغذائي خلال ما تبقى من هذا القرن.

 

التفتيت والمرارة والتمرد

لكن شعور الناس بالغضب والمرارة إزاء الفقر والاضطهاد قد ينفجر بطرق أخرى، ومن الضروري أيضا أن نعترف بذلك. إن تفتت وتشظي خبرات الناس الحياتية في أحياء وأكواخ الفقراء في العالم يؤدي في أغلب الأحوال إلى تحول مجموعات مختلفة منهم ضد بعضها الآخر. وكما يوضح مايك ديفيز:

"إن أولئك المنغمسين في المنافسة في القطاع غير الرسمي في ظل معروض وفير ولا نهائي من العمال يبلغون عادة في تلك المنافسة حد الحرب الشاملة، حرب الكل ضد الكل، يتحول فيها الصراع عادة إلى عنف ديني أو عرقي أو عنصري. ويستخدم عرابو وأسياد القطاع غير الرسمي (وهم لا يظهرون في الصورة في معظم ما كتب عن هذا القطاع) أساليب القسر بذكاء وحنكة، بل حتى العنف الشديد المتواصل، بهدف تنظيم المنافسة وحماية استثماراتهم..."    

إن حقيقة هذه التطورات لا يمكن أن ينكرها شخص قرأ تقارير وتعليقات عن أحداث الشغب بين السنة والشيعة والعرقيات المختلفة التي تشل مدينة كراتشي في باكستان بين فترة وأخرى، أو عن تاريخ الهجمات التي تشن ضد السكان من أصول صينية في ماليزيا وإندونيسيا، أو عن موجة الهجوم على اللاجئين من زيمبابوي في مدن جنوب أفريقيا التي وصفها ليو زيليج وكلير سيروتي.

وتقدم مدينة مومباي نموذجا تصويريا حول كيفية تحول تلك المشاعر. ففي عام 1982، تطورت انتفاضة شبه عفوية قام بها عمال مصانع النسيج في المدينة إلى واحد من أكبر الإضرابات العمالية في تاريخ العالم، امتد عاما كاملا وضم إليه مئات الآلاف من العمال وهيمن على الحياة السياسية في عاصمة الهند الصناعية والتجارية بعد أن أقام شبكات من الدعم تمتد عميقا داخل القرى التي تعود إليها أصول كثير من العمال المشاركين(57). وأثناء الإضراب كانت الوحدة تربط بين المجموعات الدينية والطائفية المختلفة التي تشكل جمهرة الطبقات الدنيا في بومباي. لكن الإضراب هزم. وفي أعقاب تلك الهزيمة، احتلت منظمة شيف سينا موقعا مهيمنا في مناطق واسعة من المدينة، وهي منظمة سياسية أسست على تحويل مشاعر المتحدثين بلغة المراتي المحلية ضد الجماعات الأخرى، ثم مشاعر الهندوس ضد المسلمين. وانتهى الأمر باندلاع الاضطرابات الدموية ضد السكان المسلمين في عام 1992-1993.

كانت الوحدة في النضال قد خلقت حسا تضامنيا كان له بالتالي أثر جاذب على الجمهرة الواسعة من العمال في القطاع غير الرسمي والذين يعملون لصالح أنفسهم والعاطلين من الفقراء والقطاعات الفقيرة من البرجوازية الصغيرة. وأدت الهزيمة إلى بروز النزعات القطاعية والصراعات الطائفية لدى البرجوازية الصغيرة صاحبة النفوذ في أوساط من يعملون لصالح أنفسهم والعاطلين وشرائح واسعة من العمال.

 كان ذلك مثالا ساطعا على كيف يمكن أن تسير مشاعر الإحباط والمرارة وسط "الجموع الغفيرة" في مدن العالم الثالث الكبرى في مسارين مختلفين، أحدهما هو انخراط العمال في نضال جماعي يجذبون إليه  الملايين من الفقراء خلفهم، أما الآخر فهو أن يستغل الديماجوجيون الشعور بالإحباط وفقدان الأمل وحالة التشظي في توجيه مشاعر الغضب والمرارة عند قطاع من جماهير الفقراء ضد قطاعات أخرى. لهذا السبب لا يمكن اعتبار الطبقة العاملة مجرد جماعة أخرى بين الجماعات داخل "الجموع الغفيرة" أو "الشعب"، ليس لها أهمية خاصة وجوهرية في النضال ضد النظام. كما لا يمكن اعتبار النضالات العمالية من جانب من ينظمونها نضالات مهمة فقط بسبب محتواها الاقتصادي. بل إنها هامة تحديدا لأن العمال لديهم القدرة على تحديد وجهة  كل مشاعر الغضب والمرارة وسط الجماهير التي يصيبها اليأس بدونه وهي تحاول البقاء في الأحياء الفقيرة وأكواخ المدن الكبرى في العالم.  

 

الفلاحون      

 " مزق تطور نمط الإنتاج الرأسمالي شريان الحياة لأسلوب الإنتاج الصغير في الزراعة؛ إن الإنتاج الصغير يسير نحو الخراب والدمار بلا رجعة...نحن نتوقع نهاية محتومة للفلاح الصغير."(58)  

هكذا كتب إنجلز في منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر. وقد برهن النمو الهائل للمدن في مختلف أنحاء العالم على مدار نصف القرن الأخير على صحة الكثير من الأسباب التي استند إليها في خطابه. إن الفلاحين يغيبون اليوم عن منطقة شمال غرب أوروبا القارية كما اختفوا من انجلترا في عصر إنجلز. لكن انكماش أعدادهم على مستوى العالم يسير أبطأ بكثير مما كان يتوقع هو وماركس، وما زالوا يشكلون نحو ثلث سكان العالم. وواقع الأمر، في معظم أنحاء أمريكا اللاتينية كما في كل أفريقيا وجنوب شرق آسيا تقريبا، أن مئات الملايين من صغار الفلاحين الأفراد يتعلقون بالأرض التي يملكونها أو يستأجرونها. ويجدون أنفسهم عالقين مرة بعد أخرى في دائرة جهنمية، حيث يعانون من ضغوط ارتفاع أسعار الطاقة والأسمدة والمدخلات من ناحية، وضغوط المنافسة من جانب المزارع الرأسمالية بآلاتها ومعداتها الحديثة من الناحية الأخرى. كما أن مشاعر السخط الناتجة عن تلك المعاناة مازالت قادرة على أن تجعل من صغار الفلاحين حقيقة سياسية هامة في بلاد رئيسية في الجنوب العالمي. حتى في أمريكا اللاتينية، حيث انكمشت أعداد الفلاحين بمقدار النصف بين عقدي الستينيات والثمانينيات من القرن العشرين(59)، كانت حركات التمرد ضد الرأسمالية، وهي حركات قوامها الفلاحون، هي التي أخذت بمخيلة الشعوب حول العالم، مع حركة الزباتيستا في جنوب المكسيك، وحركة عمال بلا أرض في البرازيل MST، علاوة على قطاع كبير من الحركة التي دفعت إيفو موراليس إلى رئاسة بوليفيا في عام 2006.

 دفعت هذه الحركات الكثير من الناشطين إلى تبني ما يسمى أحيانا آراء "شعبوية جديدة".(60) وهي الآراء التي تعتبر طبقة الفلاحين وكيل التغيير الاجتماعي، أو على الأقل إحدى مكونات الوكالة "المتعددة". وأحيانا يعتبر كذلك مستقبل إنتاج الغذاء في العالم معتمدا عليهم، ذلك أن إنتاج الغذاء لكل هكتار غالبا يكون أكبر في الأراضي الفلاحية الصغيرة منها في الحيازات الكبيرة.(61)

غير أنه يغيب عن هذا الإقرار باستمرار طبقة صغار الفلاحين وبقائها كقوة، حتى وإن كانت في حالة انحسار، كيف أنها تغيرت تغييرا عميقا بفعل الرأسمالية، رغم أن هذا التغيير لم يحدث بالضرورة بالطريقة التي توقعها ماركس وإنجلز. وقد أوضح حمزة علوي وتيودور شانين في أواخر ثمانينات القرن الماضي أن "نمطين مختلفين للإنتاج الزراعي" قد تطورا في ظل الرأسمالية -  "الزراعة التي تقوم على العمل المأجور" من ناحية، و"شكل من أشكال تنظيم الإنتاج يعتمد على المزرعة العائلية التي تندمج في نمط الإنتاج الرأسمالي." وفي هذا الشكل الثاني يكون "الاقتصاد الفلاحي مندمجا اندماجا هيكليا داخل نمط الإنتاج الرأسمالي" و"فائض القيمة يجري استخلاصه من الفلاح عبر الدور الذي يلعبه رأس المال التجاري ومؤسسات الائتمان"، و "يساهم في تراكم رأس المال – ولكن خارج نطاق الاقتصاد الفلاحي الذي يستخلص منه هذا الفائض."(62)  

إن الفلاحين الذين سحبوا في مدارات الرأسمالية على هذا النحو لا يمثلون مجموعة متجانسة، وإنما يخلتفون فيما بينهم على أساس حجم الحيازة، وما يملكونه من معدات وآلات، ومستوى المديونية. فمن ناحية، هناك من تمكنوا بوسيلة أو بأخرى من تحويل أنفسهم إلى رأسماليين زراعيين صغار، وعلى الناحية الأخرى، هناك العمال الذين لا يملكون أرضا. وبين هؤلاء وأولئك شريحة أخرى، أصغر أو أكبر، تعتمد على العمل الأسري، وقد تستخدم عمالا بأجر بين الحين والآخر، وربما تستكمل الدخل اللازم لإعالة الأسرة بالعمل كأجراء زراعيين لدى آخرين.

إن العمل خارج القطاع الزراعي يمكن أن يكون ضروريا بالنسبة لفقراء الفلاحين ومتوسطيهم. فتكشف الأرقام من 15 بلدا ناميا خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي أن الدخل من مصادر غير النشاط الزراعي بلغ 30 بالمئة إلى 40 بالمئة من إجمالي دخل الأسر الريفية. وقد ارتفعت هذه النسبة في الصين من 10 بالمئة في عام 1980 إلى 35 بالمئة في عام 1995.(63) "وأصبح الحصول على وظائف خارج القطاع الزراعي حاسما وضروريا لتجنب مصير الحياة الفلاحية والإفلات من البؤس الريفي."(64)  وفي مصر، كان 25 بالمئة من دخل الأسرة الريفية تحصل عليه من "أجور عن أعمال خارج القرية" خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي.(65)

لا تندمج العائلات الفلاحية كلها في الاقتصاد عموما بنفس الطريقة. وبالنسبة لكثير منها لا يوجد إلا أكثر أشكال العمل المأجور تدنيا. غير أن أقلية منها قد تقيم صلات مع أصحاب المواقع المتميزة – توفير الدعم والتأييد للسياسيين، تقديم خدمات لكبار ملاك الأراضي أو مقدمي القروض، مستغلين ما يفترض إنها التشابكات العائلية التقليدية أو العشيرة أو القبيلة. وينشأ تمايز بين العائلات الفلاحية مع ارتباط الصراع حول الأرض وتداخله مع الصراعات في الاقتصاد الأشمل، على مستوى محلي وقومي أو حتى مستوى عالمي.(66)

معني هذا التمايز أن ما يوصف تقليديا "بحركات فلاحية" ليس لها مسار تطور أوتوماتيكي واحد في معارضة الرأسمالية والطبقات الحاكمة. تأتي القيادة في الحركات الفلاحية غالبا من بين أولئك الذين كانوا أكثر نجاحا في زيادة حيازاتهم من الأرض وفي مراكمة ما يكفي من رأس المال لاستخدام قوة العمل بدلا من بيع قوة عملهم. إذ يتمتع هؤلاء بحرية من الكد اليومي وصلات مع المجتمع الأوسع كافية حتى يأخذوا زمام المبادرة عندما يتعلق الأمر بتعبئة الآخرين وتحريكهم. وقد لاحظ حمزة علوي منذ زمن بعيد أن تمردات الفلاحين يقودها غالبا الفلاحون المتوسطون، لا فقراء الفلاحين ولا العمال الزراعيون الذين لا يملكون أرضا.(67) إن اختراق الرأسمالية للريف يعني، في واقع الأمر، أن صغار الرأسماليين الزراعيين يمكن أن يكونوا هم الذين يقودون الحركات الفلاحية، ويطرحون مطالب مثل تخفيض أسعار الأسمدة التي يكونون هم أنفسهم أكثر المستفيدين منها.

ليس هذا هو الاتجاه الوحيد الذي يمكن أن تسير فيه التمردات الريفية. إن تمايز الفلاحين يعني غالبا أن الفلاحين الفقراء والمتوسطين يتعرضون لضغوط من أولئك الذين يستخدمون علاقاتهم السياسية من أجل طردهم من الأرض – طبقة ملاك الأراضي الهندوسية في الهند، كوادر الحزب المحلية في الصين، رؤساء القبائل المرتبطون بأجهزة الدولة في أفريقيا، أو بارونات الصويا في البرازيل. ويمكن أن ينتج عن ذلك انتفاضات فلاحية تتوجه ضد صغار الرأسماليين الزراعيين لا تحت قيادتهم. غير أن هذه الانتفاضات تضطر إلى مواجهة قوات الدولة بعد ذلك، والتي تحاول أن تعزلها في مواقع محددة، اعتمادا على الطريقة نفسها التي تحصل العائلة الفلاحية من خلالها على وسائل عيشها – بالعمل لإنتاج محصول من قطعة أرض تملكها بنفسها – من أجل تفريق الاحتجاجات. لذلك ورغم أن تمرد الزباتستا زلزل الدولة المكسيكية، لم يمنع ذلك الدولة من عزل الحركة فعليا في غابة لاكاندون حيث تظل هناك معزولة لمدة 15 عاما. إن مختلف الحركات الماوية للداليت ("المنبوذون" سابقا)، والشعوب القبلية، والعمال الزراعيين الذين لا يملكون أرضا، وفقراء الفلاحين جميعها مصدر إزعاج للرأسمالية الهندية، لكن طالما كان وجودها محصورا في المناطق النائية بالبلاد فإنها لا تكون مزعجة أكثر من لدغ البعوض لشخص بالغ صحته جيدة. 

ومع ذلك، يتيح اختراق الرأسمالية للريف بحد ذاته إمكانية أكبر من ذي قبل للارتباط بين القطاعات الفقيرة من الفلاحين وعمال المدن. لأنه يعني أن العائلات الفلاحية سيكون لها عبر الهجرة أعضاء ينتمون إليها في المدن. وتماما كما أن نضالات العمال يمكن أن توفر مركزا لتكثيف الغضب الذي تشعر به كل المجموعات التي تعيش في الأحياء الفقيرة والأكواخ في المدن، يمكنها أيضا أن تفعل نفس الشيء بالنسبة لمئات الملايين الذين مازالوا يكدحون على قطع من الأراضي النائية. لكن تحول هذه الإمكانية إلى واقع يعتمد على نضال العمال من أجل تحقيق مطالب تمتد لتغطي الشرائح الفقيرة في المدن وفي الأرياف سواء بسواء.

 

من يستطيع الانتصار؟  

إن تطور الرأسمالية نفسه هو ما يشكل ويعيد تشكيل حياة الناس الذين تستغلهم، خالقا الشروط الموضوعية التي يمكن أن تحول كتلة متباينة من الناس الذين يبيعون قوة عملهم إلى طبقة يتزايد وعيها بنفسها فتصبح طبقة "لذاتها". هذه الطبقة هي الفاعل المحتمل في تحدي حركة الرأسمالية المدمرة الفوضوية لأن الرأسمالية لا يمكنها البقاء بدونها. إن خطأ موف ولاكلو – وآلاف آخرين من علماء الاجتماع والفلاسفة والاقتصاديين الذين يكتبون إن الطبقة العاملة فقدت موقعها المركزي في النظام – هو أنهم لا يدركون الفكرة الأولية التي وضعها ماركس. إن النظام هو نظام للعمل المغترب الذي اكتسب حياة خاصة به، فلا يستطيع رأس المال أن يعيش ويبقى بدون مزيد من العمل ليتغذى عليه، تماما مثل مصاص الدماء الذي لا يستطيع البقاء بدون إمدادات طازجة من الدماء.

كانت هناك مراحل في تاريخ النظام كان يمتلك فيها الوسائل اللازمة لكي يربط الجماهير به، سواء بواسطة القمع أو بأن يجعلهم راضين نسبيا عنه. وقد بدا أن هتلر من ناحية وستالين من الناحية الأخرى كانا يحكمان على أساس القمع الشامل خلال الفترة التي أطلق عليها الثوري البلجيكي الروسي فيكتور سيرج وصف "منتصف ليل القرن".(68) فخلال خمسينيات القرن الماضي، كان ممكنا لرئيس وزراء بريطاني هو هارولد  ماكميلان أن يقول للشعب "إنكم لم تعيشوا رخاءً كهذا من قبل" وأن يوافقه على ذلك معظم العمال حتى ولو على مضض. لقد حاولت أن أوضح أن دينامية النظام سوف تجعل من الصعب على الرأسمالية أن تعزز سيطرتها بصورة دائمة على جماهير الناس سواء بهذه الوسيلة أو تلك.   

إن طبيعتها المضطربة نفسها تعني أنها لايمكن أن تسمح لمن تقوم باستغلالهم بالاستمرار عند أي درجة من الرضا والقبول لفترة طويلة من الزمن. ومع ترنح هذا النظام المنفلت من الرخاء إلى الأزمة ومحاولته زيادة الأرباح وشطب الديون في سعيه المجنون لأن يترنح مرة أخرى، فإنه يحطم نفس الآمال في حياة آمنة كان يدعمها في الماضي. إنه يصر على إلزام جماهير الشعب بأن يعملوا أكثر مقابل أجر أقل، وأن يقبلوا فقدان وظائفهم لأن الصيارفة فقدوا عقولهم، وأن يسلموا أنفسهم للمعاناة وشظف العيش في شيخوختهم، أن يتخلوا عن منازلهم للمرابين، أن يجوعوا على مساحاتهم الزراعية الصغيرة حتى يدفعوا الأموال للمرابين وموردي الأسمدة.

سوف تأتي ردود فعل الشعوب على ذلك، بل إن بعضها فعلا وقع وأنا أكتب هذه الكلمات، فالطفرة الأخيرة من الرخاء المدعوم بالتمويل منذ منتصف التسعينيات وحتى الآن شهدت اندلاع احتجاجات عفوية ضد ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة في عدد من البلدان.  والأشهر الأولى من الركود الجديد شهدت احتجاجات وأحداث شغب وإضرابات ضد آثاره. ولم يكن ليحدث غير ذلك. كل هذه الحركات يمكن أن توفر الظروف الملائمة للناس حتى يتعلموا بأنفسهم ويدركوا إمكانيات النضال الطبقي ضد النظام. وحتى لو استطاعت الرأسمالية أن تخرج من الأزمة الحالية سليمة تماما، فإن التفاعل بين الأزمات المتتالية – الاقتصادية والعسكرية والبيئية – سوف يعمل باستمرار على توفير الشروط التي يتولد عنها مزيد من الغضب والاستياء.

إنه لأمر يستحق التكرار مرة بعد أخرى، أن أغنى مجتمع في تاريخ البشرية، الولايات المتحدة، استطاع الاستمرار على مدى العقود الثلاثة الأخيرة قبل اندلاع الأزمة الحالية عن طريق تخفيض مستوى معيشة أولئك الذين يعملون بداخله. ينطبق ذلك أيضا على اليابان منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي وحتى الآن. وهما تقدمان المثال الذي يستعد أولئك الذين يحكمون أوروبا الغربية لتقليده، وأي نجاح سيحققونه في هذا المضمار سوف يضع ضغوطا مماثلة على أولئك الذين يشرفون على تراكم رأس المال في المجتمعات حديثة التصنيع في شرق وجنوب شرق آسيا. لا يعني ذلك بالضرورة أننا لن نشهد فترات تبدو فيها بعض أجزاء النظام أفضل مما كانت عليه في الماضي القريب بالنسبة لكثير ممن يعيشون في كنفها. كانت هذه هي الحال في منتصف وحتى أواخر الثمانينيات وفي منتصف وحتى أواخر التسعينيات، وقد تتكرر مرة أخرى. ولكن في "عالم الرأسمالية المنفلتة" في القرن الحادي والعشرين، لا يمكن لهذه الفترات أن تستمر زمنا طويلا، والأزمات التي يمكن أن تنهيها فجأة قد ترفع حدة الغضب إلى مستويات هائلة.

وضع لينين عددا من الشروط التي رأى أنها ضرورية حتى يدخل المجتمع في "أزمة ما قبل الثورة". شرطان منها سوف يتحققان مرة بعد أخرى في هذا القرن. فالطبقة الحاكمة لن تستطيع الاستمرار في الحكم بالوسائل القديمة، وجماهير الشعب لن يشعروا أنهم يستطيعون تحمل الأوضاع على حالتها القديمة. ترتب على توافر هذين الشرطين ثورات اجتماعية شديدة الأهمية خلال العقود التي أعقبت نهاية الرخاء الطويل – من إيران في 1979 وبولندا في 1980-1981 لتمتد إلى روسيا في 1989-1991 ثم إندونيسيا في 1998 والأرجنتين ثم فنزويلا وبوليفيا في السنوات التي أعقبت عام 2001. ودفع تصاعد الأزمة في أكتوبر عام 2008 الرئيس الفرنسي ساركوزي إلى تحذير زملائه من الحكام من خطر "1968 أوروبية". وسواء كان تحذيره عن حق أو خطأ في الأجل القصير، فسوف نرى انتفاضات اجتماعية كبيرة بشكل متكرر في العقود المقبلة. أما ما لايزال مفتقدا حتى الآن فهو الشرط الثالث الذي ركز عليه لينين، العنصر الذاتي: أي تيار سياسي قادر على كسب الجماهير لفكرة إعادة تنظيم المجتمع ومستعد لاتخاذ إجراء حاسم في لحظات هامة وقيادة الناس للنضال من أجلها.     

إن غياب هذا التيار هو نفسه نتيجة لعمليات موضوعية، بعضها ناقشناه في هذا الكتاب. إن آخر موجة عظيمة من التمرد ضد النظام في أواخر ستينيات القرن الماضي وأوائل السبعينيات عجزت عن تحقيق النجاح.(69) وفككت إعادة هيكلة النظام عبر الأزمات أوصال الكثير من القوى التي شاركت في ذلك التمرد تماما كما أن الهزيمة أحبطت معنويات اليسار. أصبح الإحباط أكثر عمقا وتأثيرا بسبب أن الغالبية العظمى من اليساريين في مختلف أنحاء العالم توحدوا مع مجتمعات الكتلة الشرقية القديمة، وهي مجتمعات تم، من الناحية الواقعية، استيعابها داخل دينامية النظام التي تتمثل في التراكم التنافسي، والتي عانت أكثر من معظم المجتمعات الأخرى من أزمة مرحلة رأسمالية الدولة في عمر النظام.

أصبح الوضع  كما لو كان يجب على كثير من اليسار أن يولد من جديد عندما بدأت المرحلة الأخيرة من التمرد في الانطلاق بتمرد منطقة تشياباس في المكسيك وموجة إضرابات عمال القطاع العام في فرنسا في 1995، ثم المظاهرات ضد العولمة الرأسمالية في 1999-2001، والحركة المناهضة لحرب العراق في 2002-2003. لكن أن تولد من جديد يعني ضرورة أن تتعلم من جديد. إجمالا، كان النشطاء يتحدثون عن مكافحة العولمة أو الليبرالية الجديدة، لا مقاومة الرأسمالية. غير أن النظام المنفلت خلق بنفسه الشروط الموضوعية لتحول آخر.

بينما أكتب هذه السطور، تجبر الأزمة التي تواجه النظام حاليا بتأثير حجمها وحده حتى من يديرون النظام على الحديث عن الرأسمالية، وضرورة الاعتراف أن ماركس كان لديه ما يقوله عنها قبل كينز بزمن طويل. كثير من أبناء الجيل الجديد من النشطاء بدأ يدرس كتاباته، وكثيرون من الجيل القديم فجأة يجدون أن لهم جمهورا يجب عليهم أن ينقلوا إليه ما تعلموه. 

إن ذلك في حد ذاته لا يضمن ظهور العنصر الذاتي الذي يمنع احتواء النظام الانتفاضات العظيمة القادمة ضده. فحتى يحدث ذلك، يجب أن يصبح من يدرسون الرأسمالية جزءا لا يتجزأ من حركة من يعانون تحت نيرها. ما نستطيع أن نؤكده يقينا هو أن العالم بدون حركة كهذه سيكون عالما لا يطاق بالنسبة لأغلبية من يعيشون فيه مع حلول نهاية هذا القرن. وكما كتب ماركس الشاب: "إن الفلاسفة فسروا العالم بطرق مختلفة، لكن المهم هو تغييره."                     

السبت، 2 أكتوبر 2021

رأسمالية الزومبي – كريس هارمان – الفصل الثالث عشر: النظام المنفلت ومستقبل البشرية – ترجمة رمضان متولي

 الفصل الثالث عشر:

النظام المنفلت ومستقبل البشرية

في عام 1999 نشر أنتوني جيدنز كتابا يحمل عنوانا غريبا، وكانت الأوهام حول العولمة وحول "النموذج الاقتصادي الجديد" في ذروتها. كان جيدنز، ولا زال، أشهر المدافعين الأكاديميين في بريطانيا عن فكر "الطريق الثالث" الذي ينبذ محاولات الاشتراكية الديمقراطية القديمة لترويض الرأسمالية، واستحق وصف "سوسيولوجي بلاط توني بلير".(1) غير أن عنوان كتابه كان "العالم المنفلت". ويقدم صورة للعالم كحصان مندفع، لا تستطيع الحكومات ولا الحركات الاجتماعية ولا الأفراد إيقافه، بل إن عليهم التوازن في وضع مختل وغير آمن. وأقصى ما يستطيعون هو محاولة التأثير على الاتجاه الذي يأخذهم فيه، عبر تحفيزه بالاستثمار في رأس المال الاجتماعي من ناحية، وكبح جماحه بتخفيض الإنفاق على الرعاية الاجتماعية من ناحية أخرى. ومع ذلك، فإن تتابع الأزمات والحروب التي تخللت العقود الأربعة الأخيرة تكشف عن عبثية هذه الجهود.

واقع الأمر أن العالم المنفلت هو النظام الاقتصادي الذي وصفه ماركس، إنه وحش فرانكنشتاين الذي أفلت من سيطرة البشر، مصاص الدماء الذي يستنزف دم الحياة من الأبدان التي يتغذى عليها. وقد قاده التوسع الذاتي فعلا إلى أن يحيط بالعالم كله، ويجر البشرية كلها داخل دوائره التي تحكمها المنافسة من أجل التراكم، والتراكم من أجل المنافسة.  

هذا التوسع الذاتي، في القرن الحادي والعشرين كما في منتصف القرن التاسع عشر عندما كان ماركس يجري أبحاثه لكتاب رأس المال، يتسم بالتوقف السريع والانطلاق من جديد، بالاندفاع للأمام في جنون تقطعه أزمات عميقة ومفاجئة. إن مرور النظام في دورات التوسع والركود هو طابعه الآخر الذي أشار إليه ماركس: إن ضغوط انخفاض ربحية رأس المال تدفع الرأسماليين إلى محاولة تخفيض الأجور والمزايا الاجتماعية في نفس الوقت الذي يضغطون فيه على الناس أن يعملوا أكثر، رغم أنهم بذلك يضعفون الطلب في أسواق السلع الاستهلاكية التي ينتجها رأسماليون آخرون. وقد رأينا كيف تضافرت هذه العوامل حتى تسببت في الكساد الكبير خلال سنوات ما بين الحربين، والأزمات الجديدة التي وقعت في أواخر سبعينيات القرن العشرين، والأزمة اليابانية الطويلة والممتدة خلال تسعينيات القرن الماضي. وقد رأينا كذلك كيف تسببت في فقاعة اقتصاد الديون التي توجت بالأزمة الكبرى في أعوام 2007-2009. وسوف نرى ذلك يتكرر بصورة أو بأخرى في العقود القادمة.

بل إن النظام، من بعض جوانبه، أكثر فوضوية مما وصف ماركس في تحليله. إن مجرد حجم الوحدات الكبيرة التي يتكون منها يعني أنه فقد بعض مرونته القديمة. فتدمير بعض رؤوس الأموال عبر الأزمات الدورية، الذي كان يوما يمنح الحياة لما تبقى منها، أصبح الآن يهدد بجر رؤوس الأموال الأخرى نحو الدمار. ربما تكون عمليات الإنقاذ التي تقوم بها الدولة قادرة على حماية النظام من الانهيار الكامل، لكنها لا تستطيع أن ترد إليه حيويته على المدى الطويل. ففي أفضل الأحوال، يمكنها أن تحقق فترة قصيرة من الانتعاش المحموم قبل وقوع أزمة أخرى. وعاجلا أو آجلا، تتسبب تكلفة توفير برامج الإنقاذ في ضغوط شديدة على موارد الدولة لتقترب من نقطة قاصمة.  

إن الدول الحديثة مؤسسات من صنع النظام الرأسمالي، تتغير وتتطور ببطء لتخدم احتياجات تجمعات رؤوس الأموال في المنطقة الجغرافية التي تشكلها. وبقدر ما يزيد اعتماد هذه التجمعات على علاقاتها بالنظام العالمي، بقدر ما تزيد حاجتها إلى سلطة الدول من أجل حماية مصالحها داخل حدودها. غير أن كل دولة لا تستطيع تحقيق هذه الأهداف إلا عبر ممارسة ضغوط على دول أخرى، وفي سياق هذه العملية تؤدي إلى زيادة حالة عدم استقرار النظام ككل. فالاجراءات التي تتخذها الدول لمساعدة رؤوس الأموال التي تعمل داخلها في أوقات الأزمات تتعدى بالضرورة على مصالح رؤوس أموال تعمل داخل دول أخرى، ما يؤدي إلى تأجيج حالة عدم الاستقرار. ولا يقتصر حجم تأثيرها على أزمة اقتصادية معينة، بل تقدم ملمحا عما ستؤول إليه صورة القرن الحادي والعشرين.

إن الرأسمالية نظام مضطرب لا يهدأ، سواء في فترات الازدهار أو الأزمة، في السلم أو في الحرب، في مدينة كبيرة أو قرية نائية بالريف. وعملية التراكم التنافسي تعيد تشكيل كل شيئ تلامسه، ثم وبعد أن تفرغ من ذلك، تعيد تشكيل كل شيئ مرة أخرى. إن سرعة التغيير ذاتها تكتسي أهمية هائلة. ذلك أنها تعني أن الأوزان الاقتصادية النسبية لمختلف الدول التي تعمل فيها وحدات رأس المال في تغير مستمر، تماما كما أن الدول مضطرة إلى محاولة التدخل لحماية رأسمالييها من التغيرات والتوترات المتلاحقة في النظام العالمي.

وهذه مشكلة حادة بالنسبة للولايات المتحدة في قمة التراتبية العالمية. فقد اعتمدت مكانتها في النظام على كونها "رجل شرطة" النظام بأكمله، تقدم حماية عامة على طريقة المافيا للطبقات الحاكمة الأخرى بينما تستخدم مكانتها تلك في ضمان مركز متميز لرؤوس الأموال التي تعمل داخلها. وفي أوقات الأزمات، تشتد حاجة رؤوس الأموال تلك إلى ذلك الموقع المتميز أكثر من أي وقت آخر. لكن إخفاقات "الحرب على الإرهاب" أدت إلى أن دولا أخرى كانت تشعر فعلا في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة بأنها في وضع قوي يسمح لها بأن تتحدى تلك الامتيازات، كما اتضح من زيادة نفوذ الصين في إفريقيا، ونفوذ روسيا في بعض مناطق الاتحاد السوفييتي السابق، وتأثير دول مجموعة البريكس في مفاوضات التجارة العالمية. ثم جاءت الأزمة التي بدأت عام 2007 مع انتشار توقعات بأنها سوف تضعف الهيمنة العالمية للولايات المتحدة أكثر في وقت تتطلع كثير من شركاتها الكبرى إلى تلك الهمينة لتساعدها في الخروج من الأزمة.

ربما أن الامبريالية الأمريكية قد شذبت مؤقتا مع إدراكها كيف أن بعض مغامراتها الأخيرة قد انتهت إلى غير صالحها – تماما كما فعلت حرب فييتنام. لكنها لا تستطيع أن تتخلى عن مكانتها العالمية، حتى وإن كان الدفاع عن تلك المكانة يؤدي إلى محاولات أخرى لتأكيد تفوقها العسكري في بلاد أخرى فقيرة بما يترتب عليها من دمار وخراب. فكان نشر مزيد من القوات العسكرية بقصد ضمان ألا يتحول انسحابها من العراق إلى هزيمة منكرة في أفغانستان. من الضروري ملاحظة أن موازنة باراك أوباما الأولى تضمنت زيادة الإنفاق العسكري لا تخفيضه. وكذلك موازنة كل من الصين وروسيا اللتان أعلنتا خلال نفس الشهر. إن الطريق الدامية التي انطلقت من كوريا إلى فييتنام ومن فييتنام إلى العراق لم تبلغ نهايتها بعد.

ليس هذا كل شيئ. إن الحدود البيئية "الجديدة" لرأس المال سوف يرتد تأثيرها على حدوده الاقتصادية. فتغير المناخ، والذروة النفطية، ونقص الغذاء عالميا سوف تعزز حالة عدم الاستقرار الاقتصادي في النظام التي تعبر عنها دورة الرخاء-الأزمة، والضغوط نحو انخفاض معدل الربح وتدفق رأس المال من صناعة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر.  وقد رأينا لمحة من ذلك في النصف الأول من عام 2008. فارتفاع أسعار الغذاء والطاقة أدى إلى موجة تضخمية ترتب عليها زيادة الصعوبات التي تواجه الحكومة في التعامل مع أزمة الائتمان في نفس وقت تسببها في احتجاجات وأحداث شغب وإضرابات في عدد من البلدان. ويمكننا أن نتوقع مزيدا من الصدامات داخل الدول وفيما بينها مع ما ستؤدي إليه مشكلات الأمن الغذائي وأمن الطاقة من تحويل للقيمة الزائدة من بعض قطاعات رأس المال إلى أخرى وإثارة الغضب الشعبي. وطوال الوقت، يمكن أن تؤثر نقاط الترجيح في تغير المناخ تأثيرا مفاجئا على حياة مئات الملايين من البشر، بطريقة تشبه كثيرا تأثير الأزمات الاقتصادية والحروب غير أنها أكثر تدميرا.

جاء أوضح اعتراف بالنتائج المحتملة من وزارة الدفاع الأمريكية، البنتاجون، في توقيت كان الموقف الرسمي لحكومة الولايات المتحدة مازال رافضا الاعتراف بحقيقة تغير المناخ. وحذرت الوزارة من مخاطر "نقص الغذاء نتيجة انخفاض صافي الإنتاج الزراعي عالميا"، "ونتيجة تدهور كمية ونوعية المياه العذبة في مناطق رئيسية بسبب تحول أنماط الإمطار، وزيادة وتيرة الفيضانات وموجات الجفاف"، "واضطراب فرص الحصول على إمدادات الطاقة نتيجة اتساع رقعة الجليد بالبحار وزيادة العواصف."

ومحصلة ذلك، كما يراها البنتاجون، هي زيادة اندلاع الحروب على الموارد والحروب الأهلية:

"مع انخفاض القدرة الاستيعابية محليا وعالميا، يمكن أن تتصاعد التوترات في مختلف أنحاء العالم، وينشأ عن ذلك استراتيجيتين أساسيتين: استراتيجية دفاعية وأخرى هجومية. فقد تقوم الأمم التي تستطيع ذلك ببناء حصون حقيقية حول بلادها لتحتفظ لنفسها بالموارد، أما الأمم الأقل حظا، وخاصة تلك التي لديها عداوات قديمة مع جيرانها، فقد تشرع في صراعات بهدف الحصول على الغذاء والمياه النظيفة أوالطاقة. ومن غير المحتمل أن تتشكل أحلاف مع تغير الأولويات الدفاعية وتحول الأهداف إلى الموارد اللازمة للبقاء بدلا من الدين أو الأيديولوجية أو الكرامة الوطنية..."

سوف يكون "عالما يزداد اضطرابا وربما أكثر ميلا إلى العنف".(2)

هذه الفوضى تنتظر في عالم تمتلك فيه ثمانية من أكبر الدول أسلحة نووية موجهة نحو دول أخرى، وعدد كبير من الدول تملك "أسلحة تقليدية" أكثر تدميرا وفظاعة من الأسلحة التي استخدمت في الحرب العالمية الثانية، كما أن الانتشار الواسع لمحطات الطاقة النووية المستخدمة للأغراض السلمية ربما يقدم أهدافا مدمرة وقاتلة للأسلحة التقليدية. إن النظام المنفلت يهدد بما هو أكثر من الأزمات الاقتصادية الدورية والحروب الفظيعة. ويجعل مجرد إمكانية الحفاظ على الحياة البشرية على الأرض محل شكوك وتساؤل. إن نظام العمل المغترب يقترب من أعلى نقطة في طبيعته التدميرية. والقضية الآن هي ما إذا كان من يقدمون هذا العمل لديهم القدرة على الاستيلاء على ثروته وإخضاعها للسيطرة الواعية أم لا.       

الثلاثاء، 28 سبتمبر 2021

رأسمالية الزومبي – كريس هارمان – الجزء الرابع (النظام المنفلت) - الفصل الثاني عشر: الحدود الجديدة لرأس المال – ترجمة رمضان متولي

 الجزء الرابع:

النظام المنفلت

 

الفصل الثاني عشر:

الحدود الجديدة لرأس المال

نظام يدمر نفسه

أصبحت الرأسمالية خلال القرن العشرين نظاما عالميا على نحو لم تكن عليه قبل ذلك. فلم تظهر أسواق عالمية وقطاع تمويل عالمي فحسب، وإنما نشأت كذلك صناعة رأسمالية وأنماط استهلاك رأسمالية في كل منطقة من مناطق العالم، وإن بصورة غير متكافئة. وبينما كان ذلك يحدث، تطور فيها اتجاه لم يلاحظه في طوره الجنيني إلا الأبعد نظرا من المفكرين في القرن التاسع عشر، ومن بينهم ماركس وإنجلز، حتى أصبح هذا الاتجاه بحلول نهاية القرن واضحا لكل من يهتم بالنظر. وهو اتجاه النظام إلى تقويض عملية التفاعل مع الطبيعة ذاتها التي يعتمد عليها مثل كل شكل آخر من أشكال المجتمع البشري.

كان أوضح تعبير عن ذلك والأكثر جذبا للانتباه هو الكيفية التي ترتفع بها درجة حرارة الكوكب بتأثير تراكم غازات معينة في الغلاف الجوي فتسبب تغيرا في المناخ.

كان للصناعة الرأسمالية ومنتجاتها دائما آثار مدمرة بيئيا. وقد عبر مراقبون من مختلف المشارب عن أسف وأسى إزاء تلوث المياه والهواء في المناطق الصناعية في بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر. فقد كتب تشارلز ديكينز في عام 1851 عن مدينته الخيالية (ولكن شديدة الواقعية) Coketown (أو مدينة الفحم – المترجم) "حيث كان يجري تدمير الطبيعة بنفس القوة التي كانت تشيد بها صروح الغازات والأجواء القاتلة."(1) ووصف إنجلز كيف "أن برادفورد تقع على جدول صغير ذي رائحة كريهة وقد كساه الفحم باللون الأسود. وخلال أيام الأسبوع تغطي المدينة سحب رمادية من دخان الفحم."(2) كانت أوبئة مثل الكوليرا والتيفويد تجتاج المدن؛ وكان مرض السل لعنة تعرفها جيدا معظم الأسر من الطبقة العاملة.

غير أن هذه الآثار البيئية المدمرة نتيجة التوسع الذاتي الأعمى لرأس المال كانت آثارا ذات طابع محلي. فكان يمكن الهروب من المدن المفعمة بضباب الأدخنة، والأنهار التي بلغت من التلوث أن الأسماك لا تستطيع البقاء فيها، وأكوام النفايات وبالوعات المجاري المفتوحة. كانت ضخامة حجم الإنتاج والتراكم الرأسمالي في القرن العشرين تعني كذلك دمارا بيئيا أعظم – مثل تحول أراض زراعية إلى قفار في بعض أجزاء الولايات المتحدة خلال عقد الثلاثينيات من القرن الماضي، وكارثة تسرب الغازات المريعة التي قتلت الآلاف في مدينة بوبال الهندية في عام 1984، وحوادث التسرب النووي في ثري مايل أيلاند في بنسلفانيا وفي تشيرنوبل في أوكرانيا، وتدمير حياة البشر ممن كانوا يعيشون حول بحر آرال الذين فقدوا ثلثي مواردهم من المياه لصالح زراعة القطن في الصحراء وترسب الأملاح في التربة، وانهيار المدن التي جرى بناؤها على خطوط صدع الزلازل. غير أن هذه الكوارث كانت محلية الطابع على الرغم من حجم الخسائر البشرية. وكان مؤيدو الرأسمالية – ومؤيدو رأسمالية الدولة التي كانت تسمى عادة "اشتراكية" – يستطيعون تجاهلها كحوادث عارضة. وكان معارضو الرأسمالية يستنكرون الفظائع الناجمة عنها، لكنهم لم يكونوا يعتبرون أن لها انعكاسا على النظام ككل.

ولم يحدث قبل انتهاء خمسينيات القرن العشرين أن اكتشف العلماء أول الدلائل على أن الغازات الناتجة عن نشاط الإنسان قد بدأت في خلق كارثة كونية بتسببها في ارتفاع متوسط درجات الحرارة – ولم يظهر دليل قطعي قبل أواخر الثمانينيات بشأن مدى الخطورة التي يتجه إليها هذا الوضع.(3)

النتائج العلمية معروفة بما يكفي لأن نقدم مجرد تلخيص لها هنا. فكما يعرف معظم الناس، أن أكثر هذه الغازات خطورة هو غاز ثاني أكسيد الكربون، الذي ينتج عن حرق مواد كربونية مثل النفط والفحم بهدف الحصول على الطاقة، رغم أن غازات أخرى مثل غاز الميثان وأكسيد النيتروز ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار. ويقاس تركيز هذه الغازات في الغلاف الجوي كأجزاء معادلة بالمليون وحدة من ثاني أكسيد الكربون. في عصور ما قبل الصناعة، كان هذا التركيز يبلغ 280 جزءا بالمليون؛ وحاليا يبلغ 385 جزءا تزداد بنحو 2.1 جزء بالمليون وحدة سنويا. وحتى الآن، كان هذا التغير كافيا لزيادة متوسط حرارة الكرة الأرضية بنحو 0.8 درجة سلزيوس، وإذا استمرت الانبعاثات عند معدلاتها الحالية سوف تزيد الحرارة أكثر بحوالي 0.2 درجة كل عشر سنوات، هذا إذا بقيت العوامل الأخرى على وضعها الحالي. غير أن ارتفاع درجات الحرارة ينتج عنه ميكانيزمات مختلفة كرد فعل قد تؤدي إلى زيادة وتيرة التغير – مثل ذوبان رؤوس جبال الجليد، وتسرب ثاني أكسيد الكربون في البحر أو غاز الميثان من السهول الجليدية في منطقة القطب الشمالي، وتصحر الغابات. لا يوجد اتفاق بين العلماء حول درجات الحرارة (أو "نقاط التحول") التي قد تتسبب في حدوث هذه الميكانيزمات، ولكن ما كان يحظى باتفاق واسع في عام 2007 أن بعضها قد يبدأ إذا ارتفعت الحرارة درجتين عن مستوى عصر ما قبل الصناعة – أو حوالي 1.2 درجة عن المستوى الحالي (وهذا لا يستبعد أن يبدأ حدوث بعض هذه الميكانيزمات قبل ذلك كما قال مثلا جيمس هانسون من علماء ناسا في أبريل 2008).(4)، ومن أجل تجنب بلوغ هذه النقطة لابد من الإبقاء على التركيز الكربوني منخفضا – وترى اللجنة الحكومية المشتركة حول التغير المناخي إبقاءه بين 445 و 490 جزءا بالمليون وحدة (ppm) غير أن مستوى 400 جزء فقط قد يدفع درجة الحرارة إلى الارتفاع حتى عتبة الدرجتين.(5)

على مدى العقدين الأخيرين، توصلت الحكومات إلى الاقتناع بأن ارتفاع حرارة الكوكب يمثل خطرا على كثير من البشر. فمثلا توصل تقرير ستيرن المقدم للحكومة البريطانية في عام 2006 إلى:

"أن كل بلدان العالم سوف تتأثر بتغير المناخ، غير أن أفقر البلدان سوف تعاني أكثر وأسبق من الأخرى. وقد يرتفع متوسط درجات الحرارة بمقدار 5 درجات مئوية عن مستويات ما قبل الصناعة إذا استمر التغير المناخي دون ضوابط. وسوف ينتج عن ارتفاع درجة الحرارة ثلاث أو أربع درجات مئوية غرق ملايين أخرى من البشر في الفيضانات. وربما يتسبب في نزوح 200 مليون من البشر نزوحا دائما بسبب ارتفاع مستوى مياه البحار، وزيادة قوة الفيضانات والجفاف. ويحتمل أن يتأثر إنتاج العالم من الغذاء تأثرا خطيرا أذا ارتفعت الحرارة 4 درجات مئوية أو أكثر. وقد يؤدي ارتفاعها بمقدار درجتين مئويتين إلى تعرض من 15% إلى 40% من الأنواع إلى خطر الانقراض.(6)"  

ومبكرا في عام 1992 في قمة الأرض بريو دي جانيرو، كان هناك اتفاق على ضرورة الشروع في مفاوضات على إجراءات لتخفيض الانبعاثات، كما أن مؤتمر كيوتو بعد ذلك بخمس سنوات نتج عنه اتفاق إطاري للتحرك. وبحلول عام 2007، حتى الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش تراجع وقبل مبدأ مواجهة ارتفاع حرارة الكوكب.

غير أن المهم أن هذا الاتفاق الكلامي لم يترجم إلى نوع من التحرك يحتمل أن يمنع بلوغ حد الواحد بالمئة ارتفاعا في الحرارة – أو حتى أرقاما أعلى. واستغرق الأمر أربع سنوات أخرى بعد كيوتو قبل أن يتوصل مؤتمر في لاهاي إلى اتفاق لتطبيقه. وجاء الاتفاق النهائي "ضعيفا، وغير ملزم ومليئا بثغرات السوق."(7) لم يقتصر الأمر على أن الولايات المتحدة واستراليا رفضتا التوقيع عليه. بل إن القوى الأوروبية، التي كان يفترض حرصها على الاتفاق، لم تلتزم بمستهدفاتها. ولم يحدث تخفيض للوتيرة التي واصلت بها غازات التغير المناخي زيادتها في الغلاف الجوي. فقد أعلن مشروع الكربون العالمي انبعاث رقم قياسي بلغ 7.9 مليار طن من الكربون في الغلاف الجوي في عام 2005، مقابل 6.8 مليار طن في عام 2000؛ وبلغ معدل الزيادة في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون خلال الفترة بين عامي 2000 و 2005 أكثر من 2.5 بالمئة سنويا – وكان في تسعينيات القرن العشرين واحد بالمئة سنويا.(8)

لقد جرى الاحتفاء باجتماع مجموعة الثمانية في روستوك في صيف عام 2007 كمناسبة سوف يعقبها تحرك أكثر حسما. غير أن قادة العالم، مصرحين بوجود مشكلة خطيرة، أجلوا حتى الشروع في أن يفعلوا شيئا في مواجهتها لمدة عامين. وكان كل ما اتفقوا على مناقشته في ذلك الوقت هو محاولة تخفيض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بمقدار النصف بحلول عام 2050، عندما يكون تخفيض الانبعاثات حتى بنسبة 80 بالمئة غير كاف لأن يضمن الحفاظ على ارتفاع حرارة الكوكب تحت درجتين مئويتين.(9)

واستمرت الحكومات التي أعلنت أن منع التغير المناخي على رأس أجندتها في أن تسلك كما لو أن التظاهر بأنها تفعل شيئا أكثر أهمية من الحقائق. فقد وصف توني بلير التغير المناخي "بأخطر قضية تواجه البشرية."(10) والتزمت حكومته بأن تستهدف رقما عالميا للتركز يبلغ 666 جزءا بالمليون من معادل ثاني أكسيد الكربون(وهو رقم يلائمها). مع أن تقرير ستيرن، الذي قامت هي بتكليفه، قدر أن تركيزا بمقدار 650 جزءا بالمليون يبلغ معه احتمال ارتفاع الحرارة بمقدار 3 درجات مئوية بين 60 إلى 95 بالمئة. كما أن تقريرا لوزارة البيئة صدر في عام 2003  كشف أن "مع استقرار تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي عند 550 جزءا بالمليون، ينتظر أن ترتفع معه مستويات الحرارة بمقدار يتراوح بين درجتين وخمس درجات مئوية."(11)

إن مشاهدة هذا السلوك يشبه قليلا مشاهدة تصوير بطيئ لحادث سيارة، سائقها يعرف أن كارثة في الطريق لكنه يواصل السير دون التفات.

 

  المنافسة والتراكم وتغير المناخ

ما تفسير هذا السلوك؟ الإجابة السهلة لدى جانب من حركة الدفاع عن البيئة هي "التمويه الأخضر" Greenwash أي أن الحكومات تتظاهر بالاهتمام بالموضوع فقط لأسباب تتعلق بكسب الشعبية. سيكون ذلك صحيحا بالنسبة لبعض السياسيين. ولكنه لا يفسر سلوك جميع اللاعبين الرئيسيين في النظام. وكثير منهم، وربما معظمهم، قد وصل إلى معرفة أن تغير المناخ سوف يلحق الدمار بالبيئة المادية والبيولوجية التي يعمل فيها النظام، وبالتالي بالنظام نفسه. إنهم يدركون الحاجة لأن يفعلوا شيئا، لكنهم يصبحون نصف مشلولين عندما يتعلق الأمر بالتنفيذ.

كما أن هذا الشلل لا يفسره مجرد الضغط الذي يمارس على السياسيين عن طريق حملات الضغط، والرشاوى وعمليات الابتزاز التي تقوم بها شركات كبيرة بعينها تخشى نقصا في أرباحها نتيجة أي تحول عن الإنتاج وعمليات النقل التي تعتمد على الكربون. فهذه الشركات غالبا رسخت رسوخا قويا ويمكنها، على سبيل المثال، تأجيل حتى الاعتراف بتغير المناخ بفعل حكومة الولايات المتحدة منذ سنوات عديدة. غير أنها تواجه بعض المعارضة من مصالح رأسمالية أخرى لديها مصلحة مالية حقيقية ومباشرة في محاولة تجنب التغير المناخي – شركات التأمين على سبيل المثال. إن ما ينبغي تفسيره هو عدم فاعلية هذه الضغوط المناهضة نسبيا.

هذه المشكلات تمتد إلى قلب النظام وفق بنيته الحالية. ذلك أن استخدام مستوى مرتفع للطاقة القائمة على الكربون يحتل مكانا محوريا في كل عملية من عمليات الإنتاج وإعادة الإنتاج تقريبا داخل النظام – ليس فقط بالنسبة للصناعة التحويلية، ولكن أيضا بالنسبة لإنتاج الغذاء وتوزيعه، وتدفئة وتشغيل المباني الإدارية أو المكتبية، ونقل قوة العمل من وإلى مواقع العمل، وإمدادها بما تحتاجه لتجديد نفسها وإعادة الإنتاج. إن القطع مع اقتصاد النفط والفحم يعني تحولا هائلا في هذه البنى، وإعادة تشكيل عميقة لقوى الإنتاج ولعلاقات الإنتاج المباشرة التي تنشأ عنها.

يجادل البعض بأن عملية إعادة الهيكلة هذه تحدث دائما في ظل الرأسمالية، وأن المسألة تتعلق فقط بمدى تشجيع الحكومات لها في اتجاه دون آخر. ويمثل هذا الرأي جوهر الحجة التي استخدمها كليف هاميلتون في دفاعه عن مدخل رأسمالية السوق في تقرير ستيرن خلال مساجلته مع جورج مونبيوت:

 "إن ستيرن واثق أن السوق سوف تجد وسيلة إلى تنفيذ عملية إعادة هيكلة اقتصاد الطاقة بمجرد إرسال إشارة قوية إليها. وهناك من الأسباب ما يبرر الاعتقاد بأن ستيرن على صواب. خلال خمسين عاما سوف يكون العالم مختلفا تماما: فإذا أرسلت تلك الإشارة القوية الآن سيكون لدينا أساس للتفاؤل. وبينما نملك حاليا التكنولوجيا اللازمة لتخفيض انبعاثات العالم تخفيضا كبيرا خلال عشرة أعوام أو عشرين عاما، فبحلول عام 2050 سوف تقدم لنا السوق، إذا وجهت توجيها ملائما، عددا من الإمكانيات لا يمكن أن نتنبأ بها."(12)  

ما تتجاهله هذه الأفكار أن الحكومات حتى لو طورت بعض آليات التسعير الفعالة كإشارة تشجع الاستثمار والإنتاج على أن يتجه وجهة معينة دون أخرى، فإن إشارتها يجب أن تنافس إشارات أخرى – أي تلك التي تأتي من ضغوط الحفاظ على الربحية من الاستثمارات الكثيفة القائمة في الطاقة الكربونية.

فقد تبدأ إحدى شركات النفط في إقامة فروع تهدف إلى إنتاج طاقة خالية من الكربون أو ينخفض فيها المحتوى الكربوني. لكنها أيضا ستسعى لأن تجد استخداما مربحا لاستثماراتها الكثيفة القائمة في وسائل إنتاج الطاقة كثيفة الكربون (مثل خطوط الأنابيب، ومصافي النفط، ومعدات التكسير والحفر). نفس الشيء ينطبق على شركات الصناعة التحويلية والنقل والمواصلات. فسوف تتمسك في النهاية بمبانيها ومعداتها الحالية كثيفة استهلاك الطاقة حتى تحصل منها على عائد يتجاوز تكلفة استثمارها فيها – وسوف تستثمر أكثر في مشروعات مماثلة، إلا إذا كانت الإشارات العكسية التي تقدمها الحكومات إشارات بالغة القوة.

إن سلوك المستهلكين كذلك لا يمكن تغييره بمجرد التلويح بعصا الأسعار. والإشارات السعرية وحدها لن تعالج مشكلة نسبة العشرة بالمئة من ثاني أكسيد الكربون التي تنتج عن الانتقال بالسيارات، أو نسبة الثمانية عشرة بالمئة الناتجة عن تدفئة وإضاءة المباني(13) – ربما إلا إذا ارتفعت درجات الحرارة كثيرا فوق مستوى الدرجتين. فالناس يتمسكون بمنازلهم الحالية المنعزلة بصورة سيئة وبأنماط السكن والعمل التي تجعلهم يعتمدون على الانتقال بالسيارة، إلا إذا قدمت الحكومات أكثر من "الإشارات".

لهذه الحجة المتعلقة بقدرة الرأسمالية على إعادة تشكيل نفسها طبعة أكثر قوة من تلك التي طرحها هاميلتون. ومضمونها أن إعادة هيكلة الصناعة كاملة لمواجهة مشكلة تغير المناخ ستكون مفيدة للرأسمالية لأنها ستخلق "فرصا للاستثمار". غير أن المشكلة الاقتصادية عند رأسمالية القرن الحادي والعشرين ليست نقصا في المجالات المتاحة للاستثمار.  وإنما أن هذه الفرص الاستثمارية ليست مربحة بما يكفي.

إن النظام حاليا، كما رأينا في فصول سابقة من هذا الكتاب، تهيمن عليه شركات عملاقة، تتخذ مقراتها في دول معينة ولكنها تعمل في العديد من الدول وأحيانا في النظام ككل. كل شركة من هذه الشركات محاصرة بين حاجتها إلى القيام باستثمارات كبيرة وعالية التكلفة حتى تحافظ على قدرتها التنافسية وبين شكوك بشأن ربحية هذه الاستثمارات. إن الاستثمار في أشكال جديدة من الطاقة أو في منتجات ومعدات أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة لن يتغلب على هذا التناقض. بل إن ذلك قد يزيد من حدته بالنسبة لكثير من الشركات وربما لأغلبها. ويمكن أن نطمئن إلى أنها سوف تمارس ضغوطا على الدول – وتهدد بنقل مقارها عند الضرورة للحد من الإشارات السعرية التي تصطدم  مع ربحيتها. والحكومات نفسها، لارتباطها بالتراكم القائم على مستوى قومي، سوف تقاوم أي شيء يؤثر على تنافسيتها القومية وتسير بقدر كبير في نفس الاتجاه مع المطالب التي تريدها الشركات. وهذا هو السبب في كون "الإشارات" ضعيفة جدا، وهو أيضا ما يفسر لماذا ينتهي الأمر بمن يعتمدون على التأثير على الحكومات مثل ستيرن إلى تخفيف الأرقام المستهدفة حتى يجعلوها تبدو "واقعية".

وكما يقول جورج مونبيوت "إن السير نيكولاس ستيرن يشرح النتائج الفظيعة لارتفاع مستوى الحرارة درجتين شرحا تفصيليا" لكنه "يوصي بعد ذلك برقم مستهدف لتركيز غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي يبلغ 550 جزءا بالمليون" الذي سوف يترتب عليه "احتمال بنسبة 77 بالمئة على الأقل – ربما يزيد إلى 99 بالمئة وفقا لنموذج قياس المناخ المستخدم – أن يرتفع متوسط درجة حرارة الكوكب بما يتجاوز درجتين مئويتين" و "احتمال بنسبة 24 بالمئة أن يرتفع بما يتجاوز 4 درجات مئوية."(14)  

لم يكن ستيرن راغبا في أن ينصح بتخفيض الانبعاثات على نفس المستوى الذي تتطلبه حساباته ذاتها لأن "السبل التي تتطلب خفضا سريعا جدا للانبعاثات" من "غير المحتمل أن تكون ممكنة من الناحية الاقتصادية" كما هو الحال مع أي رقم مستهدف يقل عن 550 جزءا بالمليون.(15)

قدمت حملة أوباما الانتخابية في عام 2008 وعودا كثيرة بشأن مواجهة مشكلة تغير المناخ. وكثير من الاقتصاديين من التيار السائد زعموا أن ركود الاقتصاد نفسه يتيح فرصة للقيام بذلك باستخدام برامج التحفيز المالي. ولكن عندما أعلنت هذه البرامج، كانت الصورة مختلفة:

"احتفت الحكومات وروجت لما طرحته من برامج تخفيض الضرائب والائتمان الضريبي وزيادة الإنفاق  على أساس مزاياها من الناحية البيئية، غير أن نظرة أكثر تمحيصا تكشف أن حجم الإنفاق البيئي لا يشكل إلا جزءا صغيرا من هذه المبادرات الأكبر. في الواقع، يعتقد الخبراء إن جزءا كبيرا من هذا الإنفاق سوف يتجه إلى مشروعات تؤدي إلى زيادة الانبعاثات، مثل إنشاء طرق جديدة ومحطات كهرباء تستخدم الوقود الحفري، بينما الأموال التي سوف تخصص للمشروعات منخفضة الكربون أقل كثيرا من أن تصنع فرقا حقيقيا. فمثلا، يريد رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما تخصيص 27 مليار دولار (تعادل 21 مليار يورو، أو 19 مليار جنيه استرليني) للإنفاق على إنشاء طرق جديدة، ما سيؤدي إلى زيادة الانبعاثات من حركة المرور. ورغم أن أموالا سوف تنفق على إنتاج سيارات منخفضة في انبعاث الكربون مثل السيارات الكهربائية والهيدروجينية، فإن الفائدة التي ستعود منها سوف تتجاوزها كمية الانبعاثات التي ستنتج عن زيادة السيارات التي تتحرك بالبنزين."(16)

تود ستيرن، مفوض الرئيس الأمريكي الجديد في محادثات المناخ، زعم أن الولايات المتحدة "لا يمكنها" أن تستهدف تخفيض (الانبعاثات) بنسبة تتراوح بين 25 بالمئة إلى 40 بالمئة بحلول عام 2020، رغم حسابات اللجنة الحكومية حول التغير المناخي (IPCC) بأن "الدول المتقدمة ينبغي أن تستهدف تخفيضا بنسبة بين 25 إلى 40 بالمئة بحلول ذلك التاريخ حتى نتجنب تغيرا خطيرا في المناخ."(17)

وفي بريطانيا، كانت "الشركات الخضراء" في "تراجع، مع موجة من الاستغناء عن العاملين وتخفيض الإنتاج" و "كانت شركات سيمنز وكليبر ويندباور بل حتى بريتش بتروليم من بين الأسماء الكبرى ... تقوم بذلك كرد فعل أمام تباطؤ قطاع الطاقة النظيفة." وكانت "أزمة الائتمان" "تحرم مشروعات طاقة الرياح والطاقة الشمسية من سيولة نقدية تحتاجها بشدة" وكان الموقف "يزداد تفاقما مع انهيار الأسعار في سوق تداول الكربون إلى مستويات انخفاض قياسية."(18)

        لاشيء مما ذكرنا يعني أن "إشارات" الحكومات لا تأثير لها على الإطلاق. بل إنها تشجع مجالات جديدة للاستثمار في أمور مثل طاقة الرياح والطاقة الفوتوكهربية (لكنها تشجع كذلك الاستثمار في الطاقة المستهلكة للوقود الحيوي). فرؤوس أموال جديدة – أو رؤوس أموال قديمة مبتكرة – تظهر باستمرار وتتنافس على مزيد من المساحات والموارد من أجل منتجاتها. ويحتمل أن تقل وتيرة الزيادة في الانبعاثات الكربونية عما كان سيحدث لولاها، رغم أنها قد لا تنخفض في المدى القصير. غير أن المراوغة سوف تستمر مع إعلان الحكومات والشركات الصناعية عن التزامها بمقاومة التغير المناخي تارة، وإصرارها على استخراج أقصى قدر من النفط والفحم من الأرض تارة أخرى.

 

ما يحتاجه رأس المال وما تحتاجه رؤوس الأموال:

إن توسع رؤوس الأموال في سياق المنافسة مع بعضها البعض – أو كما يقول ماركس، التوسع الذاتي لرأس المال – يدفعها إلى النهم والعربدة في استهلاك الطاقة الكربونية رغم إدراكها بأن ذلك يعد تدميرا للذات.

إن ظاهرة إضرار الرأسمالية نفسها بأساسها البيئي ليست ظاهرة جديدة تماما، حتى لو لم يكن إضرارها قبل ذلك على نفس خطورة ما يحدث اليوم. ففي أوائل القرن التاسع عشر، أدى التراكم التنافسي في بريطانيا إلى عدم الالتفاف إلى الصحة البدنية، أو حتى البقاء المادي، للعمال الذين يعملون لديها. وهو تجاهل كان من شأنه حتما أن يلحق الضرر بالرأسمالية الصناعية اليافعة آنذاك وكذلك بالطبقة العاملة، ذلك أنه بلغ حد التهديد باستنزاف المعروض من قوة العمل المناسبة والصالحة للاستغلال.

وقد أجمل ماركس ما كان يحدث آنئذ قائلا:

"إن نمط الإنتاج الرأسمالي (من حيث جوهره كإنتاج للقيمة الزائدة، أو الاستحواذ على العمل الزائد) لذلك، وعبر إطالة يوم العمل، لا يؤدي إلى تدهور قوة العمل البشرية بسبب حرمانها من الظروف الطبيعية لتطورها وأدائها من الناحيتين المعنوية والجسدية فحسب، بل إنه  كذلك يؤدي إلى استنزاف قوة العمل ذاتها وموتها قبل الأوان. فهو يطيل الزمن الذي يمضيه العامل في الإنتاج خلال فترة محددة عبر تقصير مدة حياته الفعلية."

غير أن الرأسمالية، وهي تفعل ذلك، تقلص "عمر قوة العمل" عند العامل الفرد، ما ينشأ عنه ضرورة استبدالها بوتيرة أسرع، وهكذا:

"يصبح إجمالي النفقات الضرورية لإعادة إنتاج قوة العمل أكبر؛ كما هو الأمر في الآلة، يصبح الجزء الذي يتطلب إعادة إنتاجه من قيمتها يوميا أكبر كلما زادت سرعة إهلاك الآلة. ولذلك يبدو أن مصلحة رأس المال نفسه تشير في اتجاه يوم العمل الطبيعي"(19)  

هل معنى ذلك أن الرأسماليين سارعوا إلى الانخراط في حملة من أجل تخفيض ساعات العمل وتوفير ظروف أكثر إنسانية في المصانع وفي أحياء الطبقة العاملة؟ قليل منهم، ممن يمتلكون بعد نظر حول حاجات رأس المال ككل في الأجل الطويل، فعلوا ذلك. غير أن معظمهم انخرط في حملات ضد فرض أي ضوابط على ساعات العمل، حتى بالنسبة للأطفال الذي سوف يصبحون ذات يوم قوة عمل بالغة وأكثر إنتاجية.

مرة أخرى، أجمل ماركس المنطق الرأسمالي في واقعه العملي:

"في كل لعبة من ألعاب المضاربة، يعرف الجميع أن الكارثة آتية لا محالة، ولكن كلا منهم يأمل أن تقع على رأس جاره بعد أن يكون هو قد جمع الذهب وأخفاه في حرز أمين، إن شعار كل رأسمالي وكل أمة رأسمالية ’أنا ومن بعدي الطوفان‘ . ولهذا فرأس المال لا يعبأ بصحة العامل أو طول حياته إن لم يرغم على ذلك من قبل المجتمع. فإذا ارتفع الصوت منذرا شاكيا من الانهيار الجثماني والعقلي والموت المبكر والعذاب الناشئ عن الإرهاق في العمل، كان الرد: أينبغي أن نهتم بذلك ما دامت تزيد أرباحنا؟"(20)

لقد احتاج الأمر إلى ضغوط على رأس المال من خارجه، عبر تشريعات تسنها الدولة – وتأتي جزئيا كاستجابة لثورة العمال – من أجل حماية عملية إعادة إنتاج قوة العمل من التخريب الذي يلحقه بها أولئك الذين يستغلونها. ومر نحو ثمانون عاما قبل أن يطبق ما يقترب من الحماية الملائمة لتلك العملية – وكما رأينا في الفصل الخامس، احتاج الأمر إلى مواجهة صعوبات في التجنيد للخدمة العسكرية حتى تشعر الدولة بالضرر الذي ألحقه رأس المال بذخيرة مدافعها بسبب عدم التفاته إلى موارد قوة العمل.

إن نفس المنطق الذي وصفه ماركس تماما نجده في موقف رأس المال من ضخ وإفراز غازات التغير المناخي في وقتنا الحاضر. يلقي السياسيون الرأسماليون كلمات وتصريحات جميلة حول ضرورة أن نفعل شيئا، ويشكلون اللجان وينظمون اللقاءات بين الحكومات، ويعدون بتغيير سلوكياتهم، وبعد ذلك يرضخون وينحنون أمام المصالح التي تقول إن تكلفة هذا الإجراء أو ذاك في معالجة تغير المناخ سوف تبلغ من الارتفاع ما لا يتحمله الاقتصاد.

غير أن فرقا كبيرا هنا بين الميل إلى تدمير مصدر قوة العمل في القرن التاسع عشر وبين إفساد وتخريب مناخ الكرة الأرضية اليوم. كان تدمير قوة العمل يحدث داخل المناطق الصناعية لبلد واحد، وكان بالإمكان معالجته عبر استيراد العمال من المناطق الريفية ومن إيرلندا. كما استطاعت الدولة القومية في النهاية أن تتدخل من أجل ضبط سلوك فرادى الرأسماليين لأجل مصلحة رأس المال ككل.

ليس لدينا دولة عالمية تملك القدرة على فرض إرادتها على كل الشركات الرأسمالية والدول القومية التي يتكون منها النظام حاليا. وكل منها تخشى إذا اتخذت الإجراءات الحاسمة في تأثيرها والضرورية لتخفيض انبعاثات الغاز تخفيضا كبيرا أن تنتهز شركات ودول أخرى هذه الفرصة فتغزو أسواقها. وهكذا تصبح مشكلة تغير المناخ مرتبطة ارتباطا لا ينفصم بالصراعات الأخرى داخل النظام العالمي – أي الصراعات بين مختلف المصالح الرأسمالية القائمة على المستوى القومي، وبين الدول القومية، وبين الطبقات.

سوف تبذل محاولات أكثر للوصول إلى اتفاقيات دولية مستقبلا، وربما بصرامة أكثر قليلا مما سبق. فمن الصعب أن يحدث خلاف ذلك بينما عدد متزايد من رؤوس الأموال التي تكون النظام يبدأ في تجربة آلام تغير المناخ. لكن هذه الاتفاقيات سوف يتخللها دائما ثغرات ونقاط ضعف لأن مختلف الدول سوف تدخلها ولديها مصالح في المدى القصير والمتوسط تتباين تباينا ملحوظا.

إن البنى الوطنية التي يحدث فيها التراكم تعتمد على الطاقة الكربونية بدرجات تختلف اختلافا شديدا. فقد كانت الولايات المتحدة تتمتع بالاكتفاء الذاتي من النفط حتى أوائل سبعينيات القرن الماضي، ولذلك أصبحت بنية التراكم والاستهلاك لديها تعتمد اعتمادا كبيرا على النفط، وترتب على ذلك أن معدل الانبعاثات الكربونية عندها اليوم بلغ  20.2 طن للفرد؛ أما دول غرب أوروبا الرئيسية فقد كانت تفتقد إلى الموارد النفطية محليا، ولذا طورت بنية للتراكم والاستهلاك مختلفة نوعا ما (فمثلا تبلغ تكلفة البنزين بها نحو ثلاثة أضعاف تكلفته في الولايات المتحدة)، ولذلك يبلغ معدل الانبعاثات الكربونية عندها 8.8 طن فقط للفرد؛ ويعتمد التصنيع والنمو الحضري السريع في الصين على استهلاك كميات هائلة من الفحم، كما يقترب إجمالي الانبعاثات عندها من أرقامه عند الولايات المتحدة، وذلك رغم أن معدل الانبعاثات بالنسبة للفرد عندها كان في عام 2004 يزيد قليلا فقط عن سدس معدل الولايات المتحدة ويبلغ نحو 40 بالمئة من أرقام غرب أوروبا.(21)  

وتعني هذه التباينات الكبيرة أن أي إجراءات من شأنها تخفيض الانبعاثات تخفيضا جديا سوف يختلف تأثيرها كثيرا على الشركات التي تعمل في بلدان مختلفة. وهذا ما يفسر لماذا كان الاتحاد الأوروبي يبدو أكثر تمسكا من الولايات المتحدة باتخاذ إجراء ضد التغير المناخي في بداية العقد الأول من الألفية الجديدة: فقد كان ينتظر أن تحقق الدول القومية المكونة له مكاسب من أي إجراءات، كانت ستؤثر سلبا على الصناعات القائمة بالولايات المتحدة أكثر نسبيا مما ستؤثر على صناعات دول الاتحاد. إن رقم الانبعاثات في الولايات المتحدة يحظى بأهمية كبيرة. ولا يمكن "لمؤسسات دولية" تشكل للسيطرة على النظام العالمي أن تكون فعالة إلا بقدر ما تتوافق برامجها مع مصالح رؤوس الأموال القائمة بالولايات المتحدة، بما لديها من قوة عسكرية هائلة ونفوذ مالي كبير. ربما تمتلك قوى إقليمية مثل روسيا والصين والهند أو أوروبا الغربية أحيانا القدرة على منع تمرير قواعد تكون في مصلحة الولايات المتحدة، ولكنها لا تستطيع استبدالها بقواعد أخرى تخدم مصالحها هي. وهذا الأمر ينطبق على تنظيم انبعاثات الكربون بقدر ما ينطبق كذلك على تنظيم التمويل عبر صندوق النقد الدولي أو تنظيم التجارة عبر منظمة التجارة العالمية. إن اعتراف أولئك الذين يديرون مختلف مكونات النظام العالمي بأخطار تغير المناخ سوف يترجم عمليا إلى مفاوضات دولية حامية تخضع فيها كل دولة كبيرة عملية مواجهة تغير المناخ للمصالح التنافسية لرؤوس الأموال التي تعمل داخلها. ولذلك سوف يستمر تنظيم انبعاثات الغاز بطيئا وبلا فاعلية وقاصرا عن وقف ما ينتج عن غازات الكربون من اضطرابات، ليس فقط في المناخ، وإنما كذلك في النظام.  

إن بعض الآثار المباشرة قصيرة الأجل لعملية التغير المناخي قد ظهرت حولنا فعلا. أكثرها وضوحا للعيان تلك التي تنشأ مباشرة عن ارتفاع درجات الحرارة: مثال ذلك الدلائل على تقلص أحجام الكتل الجليدية، أو أن عددا كبيرا من أنواع الطيور في بريطانيا أصبحت تضع بيضها مبكرا بنحو أسبوع عما كانت في خمسينيات القرن العشرين.(22) بعض النتائج الأكثر أهمية لن تظهر ظهورا مباشرا على هذا النحو، حيث تشير النماذج التي أعدت لمراقبة التغير المناخي إلى أن ارتفاع درجة حرارة الكوكب ينتج عنه تحولات في تيارات مياه المحيطات، وفي كمية بخار الماء في الغلاف الجوي، وفي الضغط الجوي، ما يؤدي بدوره إلى تغيرات غير متوقعة في أنماط الطقس يصاحبها، مثلا، زيادة العواصف عددا وقوة من ناحية، وزيادة ظواهر الجفاف من ناحية أخرى. وبينما لا نستطيع أن نستنبط من ذلك أن كل تغير قصير الأجل في حالة الطقس ناتج مباشرة عن عملية التغير المناخي، تتراكم الدلائل على أن الأعاصير وموجات الجفاف تزداد وتيرتها. ولو بدأت آليات الارتداد الخاصة بارتفاع حرارة الكوكب وانطلقت، فإن هذه الكوارث محلية الطابع سوف تصبح أكثر تكرارا. ومعها مزيد من فساد المحاصيل، وغرق دلتا الأنهار والأراضي المنخفضة بالفيضانات ومزيد من فيضانات الأنهار، مع تصحر الأراضي التي كانت تمتاز بالخصوبة وتحولات في أنماط الزراعة.

 

الذروة النفطية 

إن واحدا من القيود الإيكولوجية التي تواجه الرأسمالية أن خام البترول ، وهو للمفارقة المصدر الرئيسي للغازات الكربونية في وقتنا الحاضر، ربما يتجه إلى النفاد. إن مفهوم "الذروة النفطية" أصبح الآن يؤخذ بمزيد من الجدية – بمعنى أننا ربما أوشكنا على بلوغ نقطة لا يمكن عندها زيادة إنتاج النفط حتى يواكب زيادة الطلب.

احتلت هذه المشكلة مكانا بارزا منذ عام 1998، عندما ظهر مقال على صفحات مجلة "ساينتيفيك أميركان" توقع أن يبلغ إنتاج النفط ذروته خلال عشرة أعوام. منذ ذلك التاريخ انطلقت موجات التفنيد والتفنيد المضاد، مع مختلف الاقتصاديين والجيولوجيين الذين يطرحون سيناريوهات متباينة لما يحدث بالنسبة لاحتياطيات النفط والإنتاج المحتمل منه.(23) وتعكس هذه الأفكار إلى حد كبير تأثير المصالح المختلفة. فشركات النفط العملاقة تميل إلى المبالغة في أحجام معروض النفط في الأجل الطويل لأن أسعار أسهمها تعتمد على ذلك. ثم تتعرض أرقامها للمساءلة والشك من قبل أولئك الذين يساورهم القلق حول الاحتياجات المستقبلية للطاقة في الأجل الطويل عند الرأسماليات الوطنية وكذلك من قبل نقاد النظام الذين يميلون إلى الإثارة بوجه عام. وهناك صعوبات كبيرة في التوصل إلى استنتاج دقيق بشأن حقيقة الوضع لأن الدول الأكثر إنتاجا للنفط تخفي الحجم الحقيقي لاحتياطياتها عند المفاوضات فيما بينها داخل منظمة أوبك ومع شركات البترول. وكما يوضح أحد التقارير النقدية:

"إن واحدا من ا|لأسئلة الكبيرة التي لا تزال تنتظر إجابة هو وضع إنتاج النفط في المملكة العربية السعودية. والأغلب أن هذه المسألة هي التي ستحدد توقيت الذروة النفطية للعالم … بسبب السرية التي تحيط بعملية إنتاج النفط في المملكة."(24)

غير أننا يمكن أن نستخلص نتيجتين مؤكدتين من خلال هذا الجدل. إن الذروة النفطية قد تحدث خلال 25 عاما قادمة، وقد نبلغها خلال أعوام لا عقود، ما يضطر العالم إلى الاعتماد على مصادر أخرى للطاقة. فالوكالة الدولية للطاقة، وهي المنظمة المسئولة عن الطاقة لدى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وظلت لفترة طويلة تقاوم فكرة الذروة النفطية، أصبحت الآن تقبل توقع حدوث "أزمة نفطية وشيكة خلال أعوام قليلة."(25) كما توصلت إدارة معلومات الطاقة، التابعة لوزارة الطاقة بالولايات المتحدة، في يوليو من عام 2000 إلى نتيجة مفادها: "أن إنتاج العالم من النفط التقليدي قد يزيد على مدى عقدين أو أكثر قبل أن يبدأ في الانخفاض." لكن جون بيلامي فوستر يوضح أن :"هذا التحليل نفسه ... يشير رغم ذلك إلى أننا ربما نبلغ ذورة العالم النفطية قريبا بحلول عام 2021."(26)

وبصرف النظر عن مجموعة الأرقام التي توافق عليها، فمن الناحية الفعلية يقترب هذا التوسع الأعمى لرأس المال من استنزاف إمدادات أهم مادة خام بالنسبة له، وهي مادة تقوم عليها تقريبا كل عمليات الإنتاج والاستهلاك لديه. ورغم ذلك، ليست الذروة النفطية علامة على اختفاء النفط فورا: بل سوف يستمر النفظ متاحا على مدى عقود كثيرة، لكن تكلفة الحصول عليه سوف ترتفع، كما أن الصراعات التي تدور حول الحصول عليه من عدمه سوف تشتد احتداما.

وبصرف النظر عن موعد بلوغ الذروة النفطية، فإن الدول يساورها القلق حاليا بشأن مستقبل "أمن الطاقة". ولذلك ظهرت تقارير متتالية في الولايات المتحدة تعبر عن هذه المخاوف، وتعود مباشرة إلى تقرير سيئ السمعة بعنوان السياسة القومية للطاقة صدر في مايو من عام 2001، وأعدته مجموعة عمل كان يرأسها ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي آنذاك. لم يذكر التقرير مصطلح الذروة النفطية، لكنه شدد على القلق بشأن ضمان إمدادات النفط للولايات المتحدة وحث على : "وضع مسألة أمن الطاقة موضع الأولوية في سياستنا التجارية والخارجية."(27) كما أن تقريرا صدر في فبراير من عام 2007 عن جهاز المحاسبة الحكومي قال إن جميع الدراسات تقريبا كشفت عن احتمال بلوغ الذروة النفطية قبل عام 2040 وأن الهيئات الفيدرالية بالولايات المتحدة لم تبدأ حتى الآن معالجة مسألة الاستعداد الوطني الضروري لمواجهة هذه الأزمة الوشيكة."(28)  

إن مصطلح "أمن الطاقة"، مثل مصطلح "الدفاع"، يتضمن معنى مزدوجا عندما تستخدمه الحكومات. فقد يعني حماية مدخلات الطاقة اللازمة للاستخدام المنزلي والاستخدام الصناعي. لكنه قد يعني كذلك تفعيل سياسات تسمح بزيادة ممارسة الضغوط على الدول الأخرى. لذلك، مثلا، فإن السيطرة على تدفقات النفط من الشرق الأوسط، والتي كانت واحدة من أهداف غزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003، تتعلق بمساعي السيطرة على إمدادات النفط التي تعتمد عليها دول إقليمية يحتمل أن تتحدى هيمنة الولايات المتحدة أكثر مما تتعلق بتأمين إمداداتها الخاصة. إن الولايات المتحدة لا تعتمد في توفير احتياجاتها من النفط على منطقة الشرق الأوسط إلا بمقدار ثمن تلك الاحتياجات (ذلك مقابل ثلاثة أثمان الاحتياجات النفطية تحصل عليها من كندا والمكسيك وفنزويلا). وليست مصادفة أن الولايات المتحدة تحرص على امتلاك قواعد لها أو وجود حلفاء تستطيع الاعتماد عليهم عند كل نقطة رئيسية على مسارات وخطوط أنابيب النفط العالمية – ومن هنا، مثلا، يأتي ردها العنيف إزاء ترسخ النفوذ الروسي خلال الحرب بين جورجيا وأوسيتيا الجنوبية في أغسطس 2008. إن عالما يقترب من "الذروة النفطية" هو بالضرورة عالم يشتد فيه الصدام بين الدول وداخلها، تماما مثل عالم التغير المناخي.  

إن تفاعلا وتأثيرا متبادلا يحدث حتما بين هذين الخطرين. قد يبدو للبعض أن الذروة النفطية، وما ينجم عنها من ارتفاع أسعار النفط، سوف تكون عاملا في مواجهة تغير المناخ. وقد يكون ثمة ضغط هبوطي محدود في استهلاك النفط – كما حدث مثلا في حالة استهلاك البنزين عندما قفزت أسعار النفط في منتصف عام 2008.(29) غير أن الاتجاهين لا يلغيان أثر بعضهما الآخر تلقائيا. حيث تواكب خطر "الذروة النفطية" مع مستوى من استهلاك النفط بنفس قدر الاستهلاك الحالي على مدى سنوات عديدة، مع تراكم غازات الكربون بمعدل مماثل. وفي نفس الوقت، تؤدي المخاوف المتعلقة بأمن الطاقة إلى تكثيف عمليات البحث عن المزيد من النفط، وإلى التوسع في استخدام المصدر الآخر لغاز الكربون، وهو الفحم، واستخدام الذرة أو الزيوت النباتية في إنتاج الإيثانول والوقود الحيوي لتوفير الوقود لعمليات النقل والتي يمكن أن تزيد من انبعاثات غاز الكربون عالميا.(30)

 

الغذاء والرأسمالية

لفتت الأعوام بين 2006 و2008 إلى أن الرأسمالية تبني عائقا إيكولوجيا آخرا في طريقها – هو عدم قدرتها على إنتاج ما يكفي من غذاء لإطعام من يعيشون في ظلها. وقد أثار ارتفاع أسعار الغذاء أسئلة حول ما إذا كانت الرأسمالية قد بدأت في استنزاف قدرتها على مواصلة زيادة الإنتاج، بينما كان معلقون يشيرون إلى التدهور السريع في معدل نمو الإنتاج العالمي من الغذاء.(31)

لم تكن تلك هي المرة الأولى التي أثيرت فيها هذه المخاوف. ففي السنوات الأولى لنشأة الرأسمالية الصناعية، كان مالتوس يرى أن رفع مستوى معيشة جمهرة السكان أمر عبثي لأن ذلك سوف يدفعهم إلى إنجاب الأطفال بوتيرة أسرع من معدل زيادة إنتاج الغذاء لإطعامهم. وقد رفض ماركس وإنجلز ذلك الرأي القائل بوجود عائق طبيعي أمام تحقيق رفاهية البشر باعتباره تبريرا لعملية الاستغلال من قبل أحد المدافعين عن النظام. لكنهما، كما رأينا في الفصل الثالث، كانا يعتقدان أن الرأسمالية نفسها تصنع العراقيل أمام توفير الغذاء بمجرد تطورها وراء نقطة معينة. وذلك بسبب أن الزراعة الرأسمالية تفقد التربة العناصر الغذائية الضرورية لخصوبة الأرض بمعدل أسرع من معدل استبدالها بأخرى.(32)

لم يضع ماركس وإنجلز هذه المسألة في مركز تحليلهما للرأسمالية لسبب بسيط، هو أنهما أدركا أن النظام استطاع بحلول ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر تعويض استنزاف وتدمير الزراعة في الأراضي القديمة عبر إنتاج المواد الغذائية في أمريكا الشمالية مع فتح المجال أمام زراعة البراري. وأصبحت المسألة ذات أهمية هامشية عند معظم الماركسيين بعد موتهما بسبب استخدام الأسمدة المعدنية التي استطاعت تعويض فقدان التربة العناصر الغذائية الطبيعية. واستمر معدل إنتاج الغذاء عالميا أعلى من معدل نمو السكان حتى نهاية القرن العشرين. وقد حدثت مجاعات فظيعة مع معاناة مئات الملايين من البشر من سوء التغذية المزمن، لكن هذه المجاعات وتلك المعاناة لم تكن نتيجة نقص في الإنتاج وإنما نتيجة البؤس المرتبط بالنظام الطبقي. وتغلبت "الثورة الخضراء" على بوادر نقص شديد في الغذاء كان وشيكا في جنوب وشرق آسيا في ستينيات القرن العشرين عبر إنتاج أنواع جديدة من الحبوب تعتمد على استخدام كميات كبيرة من الأسمدة وزيادة معدلات الري. وتواكبت هذه التقنيات بطبيعة الحال مع انتشار مختلف أشكال الزراعة الرأسمالية لتحل مكان الفلاح الصغير الذي ينتج ما يكفي سد الاحتياجات.

كانت الزيادة في إنتاجية المحاصيل الغذائية حقيقة واقعة – ومن غباء بعض النقاد "العضويين" لأساليب الزراعة الحديثة أن يدعوا خلاف ذلك – مع نمو إنتاجية محصول القمح بمعدل تراوح بين 3 و 4 بالمئة سنويا خلال الفترة من منتصف ستينيات القرن العشرين حتى منتصف الثمانينيات، كما ارتفعت إنتاجية محصول الأرز بنسبة تراوحت بين 2 و 3 بالمئة. لكن معدلات الزيادة انخفضت على مدار العقدين الأخيرين حتى أصبحت بالكاد أعلى من معدل نمو السكان الذي يسير باتجاه الهبوط: "إن الإنتاج الذي تدره الثورة الخضراء بلغ مرحلة الثبات."(33) وأصبح استخدام كميات من الأسمدة تتزايد باستمرار ضروريا من أجل زيادة الإنتاج، كما أن توفير ما يكفي من المياه بات مشكلة متفاقمة، ويؤدي التركيز على عدد قليل من أنواع المحاصيل إلى زيادة المخاطر الناجمة عن أمراض النبات، بينما لا تزيد مساحة الأرض الزراعية المخصصة لإنتاج الغذاء عالميا. وكما أقر أحد تقارير التنمية الصادر عن البنك الدولي:

"إن كثيرا من البلدان التي تعتمد على الزراعة مازالت تحقق نموا زراعيا ضعيفا بالنسبة للفرد مع درجة ضئيلة من التحول الهيكلي...نفس الأوضاع تنطبق على مساحات شاسعة في كافة أنواع هذه البلدان. فالنمو السريع للسكان، وتقزم مساحة المزرعة، وتدهور خصوبة التربة والفرص الضائعة لتنويع مصادر الدخل والهجرة، تسبب المعاناة نتيجة استمرار ضعف القوى الزراعية اللازمة لتحقيق التنمية."(34)

ليست القضية أن بعد 200 عام تأكدت رؤية مالتوس بصورة ما، فالوسائل متوفرة لزيادة إنتاج الغذاء حتى يواكب عدد سكان العالم الذي ينتظر أن ينمو بنسبة 50 بالمئة أخرى قبل أن يبدأ في التراجع البطيء. بل إن المشكلة هي "بنية التراكم الزراعي" القائمة.(35) فمنذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، قامت حفنة من الشركات الزراعية الكبيرة، معظمها تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها، بهيكلة متزايدة للزراعة العالمية، وهي شركات تسيطر على الابتكار في القطاع الزراعي، وتقدم مدخلات الإنتاج (أنواع البذور المختلفة، والأسمدة والمبيدات والميكنة الزراعية) لكبار وصغار الفلاحين على مستوى العالم. ومن مصلحة هذه الشركات أن تحافظ على معايير واحدة لهذه المدخلات (حتى تحافظ على انخفاض تكاليف الإنتاج لديها) مع اهتمام طفيف بظروف الزراعة المحلية المحددة قدر الإمكان. وتتركز أبحاثها على "الابتكار الذي يؤدي إلى خفض التكاليف لا الابتكار الذي يؤدي إلى زيادة المحصول."(36) ومن نتائج ذلك أن وجهة الابتكار نادرا ما تكون إلى ما يلائم احتياجات صغار الفلاحين في العالم الذين يبلغ تعدادهم 400 مليون فلاح – إلا فيما يتعلق بالترويج للمحاصيل المعدلة وراثيا كحل سحري بصرف النظر عن آثارها الجانبية المحتملة على ظروف البيئة المحلية وعدم ملائمة ما جرى تطويره منها حتى الآن لظروف مناطق شاسعة في العالم. وفي نفس الوقت، قامت بعض البلدان النامية بتخفيض استثماراتها في الزراعة إلى نحو 4 بالمئة من إجمالي الناتج القومي مقارنة بحوالي 10 بالمئة خلال ثمانينيات القرن العشرين.(37) غير أنه، كما يقول رونالد تروستل من وحدة البحوث الاقتصادية بوزارة الزراعة الأمريكية: "كانت الأبحاث التي تمول بأموال عامة هي الأكثر ميلا إلى التركيز على الابتكارات التي قد تؤدي إلى زيادة المحاصيل والإنتاج، وتحديدا في تلك المناطق من العالم حيث لا يملك الفلاحون القدرة على دفع إتاوات وتكاليف الحصول على أنواع جديدة من البذور."(38)

ظهرت المخاطر التي تحيط بمعروض الغذاء العالمي ظهورا حادا في عام 2007-2008 عندما ارتفعت أسعار الحبوب عالميا لتهدد بتجويع مئات الملايين من البشر. وكثير من صغار الفلاحين الذين يشترون ويبيعون الغذاء لم يسلموا من أضرار ارتفاع أسعاره. وفجأة انضمت مخاطر "الأمن الغذائي" مع مخاطر "أمن الطاقة" إلى قائمة هموم الحكومات.  على المدى القصير، أدت قدرة الفلاحين في أوروبا وأمريكا الشمالية على زراعة أراض كانت غير مستغلة تحت برامج "التجنيب" إلى زيادة إمكانية سد الفجوة في معروض الغذاء العالمي، وقد انخفضت أسعار بعض الحبوب انخفاضا محدودا مع بداية عام 2009 – رغم أنها لم تتراجع إلى مستوى ما كانت عليه قبل عامين.

كانت هذه الأزمة نذيرا بخطر مستقبلي، بأن مئات الملايين من البشر سوف يتعرضون لمعاناة هائلة، أكثر منها كارثة عالمية تحققت في التو واللحظة.(39) فقد أشارت إحدى الدراسات إلى أن "الخطر الحقيقي" مازال قائما "وأن أزمة غذاء قد تحدث في أي وقت مستقبلا، سيكون تأثيرها عنيفا بشكل خاص على البلدان التي تعتمد على استيراده وعلى الفقراء في كل أنحاء العالم."(40) فهناك دلائل تشير إلى أن ارتفاع أسعار الغذاء في الأعوام 2006 حتى 2008 لم تكن مجرد نتيجة للمضاربة التي شهدتها المرحلة الأخيرة من رخاء منتصف العقد الأول من الألفية. وفي أوائل عام 2009، أوضح أحد التقارير كيف أن "أسعار الغذاء مؤهلة لأن ترتفع مرة أخرى" لأن "الاتجاهات نحو ندرة الموارد في الأجل الطويل، وخاصة التغير المناخي، ومخاطر أمن الطاقة وتراجع وفرة المياه" سوف تمارس ضغوطها على الأسعار والإنتاج.(41)

كشفت أزمة الغذاء في عام 2008 كيف يمكن لمختلف عناصر الأزمة الكامنة في الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين أن تتفاعل مع بعضها الآخر. فأزمة نقص الغذاء لم تنتج فقط عن نضوب مكاسب "الثورة الخضراء" باستهلاكها، بل كانت كذلك نتيجة للآثار المحتملة لتغير المناخ مع تدهور المحاصيل في استراليا نتيجة الجفاف وفي أوروبا نتيجة الفيضان؛ كما نتجت أيضا عن طريقة الرأسمالية المنحرفة إجمالا في مواجهة مشكلة تغير المناخ وأزمة أمن الطاقة عبر تخصيص ثلث محصول الذرة بالولايات المتحدة ونصف محاصيل إنتاج البذور الزيتية في أوروبا لإنتاج الوقود الحيوي؛(42) وعن ارتفاع أسعار النفط، الذي أدى إلى زيادة تكاليف الوقود والأسمدة التي تعتمد عليها الزراعة في القرن الحادي والعشرين؛ وعن حدة مرحلة الرخاء في الدورة الراسمالية في أوائل ومنتصف العقد الأول من الألفية التي أدت إلى زيادة هائلة في استهلاك الطبقة المتوسطة من اللحوم، وخاصة في الصين.

إن هذا النوع من تفاعل العوامل الاقتصادية والبيئية والسياسية هو ما ينبغي أن نتوقع تكراره مرة تلو أخرى في القرن الحادي والعشرين، بما ينتج عنه من أزمات سياسية واجتماعية متكررة وشديدة العمق تضع إطارا للخيار بين كارثة عالمية أو تغيير ثوري.