الخميس، 10 سبتمبر 2009

مؤسسة الفساد: "كل ناسها بياعين"

أغلب الصحف حاليا تتحدث عن الفساد المستشري في البلاد. وأكثر المقالات تنتقد هذا الفساد كأنه ظاهرة يمكن القضاء عليها من خلال مصطلحات مثل "الشفافية" أو "إصلاح المؤسسات" أو "الديمقراطية". يحتج رموز السلطة الحاكمة في مصر على ذلك أحيانا بزعم أن هذا الفساد محدود وظواهر فردية لا يشكل مؤسسة أو نظاما داخل النظام. بعضهم يعترف بأن الفساد منتشر بصورة مرعبة ولكنه يؤكد أنه ظاهرة عالمية وأن الدولة تتدخل لمحاربة الفساد ولا تتسامح مع الفاسدين.

وحقيقة الأمر أن حجة مسئولي السلطة في مصر بأن الفساد ظاهرة عالمية تبدو قوية وتستند إلى الكثير من الوقائع، فنحن نسمع عن انتشار الفساد في مختلف أقطار العالم، ولا نستطيع أن نجد دولة واحدة لم يتورط كبارها في فضيحة من فضائح الفساد إذا تابعنا ودققنا ولم نعتمد على الفضائح الكبرى أو ما يكشف عنه إعلاميا فقط. لكن حجتهم لا تقوم عندما يزعمون أن الدولة تحارب الفساد ولا تتسامح مع الفاسدين، لأن الدولة تتسامح مع الفاسدين وتتستر على الفساد ليس في مصر وحدها ولكن في أغلب أنحاء المعمورة أيضا. أما قولهم بأن الفساد ظاهرة محدودة أو فردية فلا يمكن التعويل عليه لأن ما يكشف عادة من فضائح الفساد ليس سوى قمة جبل الجليد، وما خفي يكون أعظم.

هذه الحجة مع ذلك تفتقد إلى مقدمة أساسية تكشف عن الخلل الكامن فيها والذي لا تعترف به السلطة، هي أن نظاما سياسيا واقتصاديا معينا في عصرنا الحديث هو الذي يسمح بشيوع الفساد، وهو النظام الرأسمالي الذي يسمح لأقلية من الناس بامتلاك أغلب ثروة المجتمع وقواه الإنتاجية، والذي يحول كل شيء في هذا المجتمع، بما في ذلك أهم الحاجات الإنسانية والعلاقات بين الناس، إلى سلع تباع وتشترى ويسيطر عليها المال، والذي يجعل المال هو القيمة الأساسية والمصدر الأساسي للقوة والأمان في حياة المجتمع.

ولهذا السبب، عندما يعلق رموز السلطة بطريقة استنكارية على قضية الفساد، فإن تعليقهم هذا يكون منافقا ومخادعا لسببين: الأول أنهم يمثلون النظام الذي يعد الفساد أحد خصائصه الملازمة له – فلا يمكن أن تجد نظاما رأسماليا في العالم خاليا من الفساد، ففي هذا النظام تتمتع الثروة بمكانة مرموقة ومزايا لا حدود لها إلا حدود الثروة نفسها. إنه مجتمع العلاقات السلعية حيث كل شيء من الطعام والشراب والدواء والأجهزة المنزلية والثقافة والضمير والأخلاق وحتى الإنسان مطروح في الأسواق لأعلى سعر وفقا لآلية العرض والطلب. السبب الثاني طبعا هو أن رموز السلطة هم غالبا، ولابد أن يكونوا هم وليس غيرهم، كبار الفاسدين، لأن السلطة نفسها هي السلعة الأساسية في سوق الفساد – فرجل الأعمال لا يرشو موظفا إلا إذا كان الموظف يملك سلطة يستطيع أن يستفيد منها أو قد تعرقل مصالحه، وبهذا المعنى يعد الفساد شكلا من أشكال توزيع الثروة وفقا لمراكز القوة والنفوذ. حتى وإن كان مسئولا أو موظفا كبيرا يرفض الفساد شخصيا، فإنه لا يستطيع أن يوقفه من حوله أو من تحت أنفه.

بالتأكيد تكون النظم الديمقراطية أفضل بكثير من النظم الديكتاتورية في مواجهة الفساد، لكن الديمقراطية في المجتمع الرأسمالي – المجتمع الذي يرعى شروط الفساد وسوقه الواسعة – لا يمكن لها القضاء على الفساد لأنه جزء من تكوينها، فالديمقراطية نفسها لا يمكن أن تفلت من تأثير الفساد فيها. لذلك نجد أغلب أعضاء الكونجرس الأمريكي، ومجلس العموم البريطاني ومجلس الشعب المصري يعيدون إنتاج الفساد من خلال الدفاع عن الشروط التي تسمح بانتعاش وازدهار سوق الفساد. كان ذلك واضحا في مجلس العموم البريطاني أثناء أزمة انتشار "جنون البقر" في التسعنينيات، ومؤخرا أزمة "صفقة اليمامة" التي قدمت فيها شركة بريطانية رشاوى لوزير الدفاع في المملكة العربية السعودية، وفي الكونجرس الأمريكي بمجلسيه الذي يعتمد أعضاؤهما على الشركات ومنظمات الأعمال في تمويل حملاتهم الانتخابية – وهم لا يمولونها طبعا لوجه الله والوطن! ولا نحتاج في مصر لسرد قضايا الفساد وتفاصيلها لأن ذلك يحتاج إلى مجلدات لا زاوية صغيرة في جريدة.

بعض رجال الأعمال طبعا ينتقدون الفساد وانتشاره، ويعتبرونه معوقا للاستثمار، ولكن انتقاداتهم لا تخلو من نفاق، لأنهم ينتقدون الفساد عندما لا يستفيدون منه هم لصالح آخرين، أو الفساد الذي يؤدي إلى تضييق الخناق عليهم لصالح مجموعة أخرى. إنهم يطالبون بالعدل في توزيع فوائد الفساد عليهم، وهذا مستحيل، لأن الفساد له عدالته الخاصة القائمة على الأنصبة المختلفة لمختلف مراكز القوة والنفوذ والثروة.

المشكلة إذن في النظام ومؤسساته وليست في الأخلاق ولا القانون، لأن الأخلاق والقانون أيضا سلع قابلة للبيع والشراء في نظام السوق. ولذلك فالقضاء على الفساد لا يتحقق إلا إذا امتلك ضحاياه والمتضررون منه قوة لا يستطيع أحد شراءها لأنها ترمي إلى إنهاء نظام السوق وإحلاله بنظام آخر حيث لا سلع ولا بائعين ولا مشترين.

الخميس، 3 سبتمبر 2009

الطائفية بين رجال الدين ورجال الأمن

المسألة الطائفية مازالت مشتعلة، وأحسب أن لهيبها لن يهدأ حتى يخرج المجتمع المصري من أزمته الشاملة التي يعاني تحت وطأتها الغالبية العظمى من أبنائه من مسلمين ومسحيين وبهائيين، وبدو ونوبيين، عمال وفلاحين وصغار الموظفين وفقراء المدن، نساء ورجال. لأن التمييز على أساس العرق أو الدين أو الأصل القومي أو الجنس أو اللون يجد تربة خصبة وحاضنة عندما تشتد أزمة المجتمع سياسيا واقتصاديا وأيديولوجيا، وعندما تتخبط الطبقة الحاكمة فلا تجد مخرجا إلا استدعاء هذه الأشباح الخبيثة لتبث الفرقة بين المحكومين والمضطهدين وتبدو السلطة وكأنها حكما مستقلا بين هؤلاء وأولئك، كما تستطيع أن تجذب إليها تأييد هذا الفريق أو ذاك وكأنها حامية له من الآخرين.

هذه اللعبة القديمة مازالت فعالة وناجعة حتى الآن، يتعلمها المستبدون من تاريخ الاضطهاد الطويل، فالأزمة ينبغي أن يكون لها كبش فداء يظهر السلطة وكأنها بريئة منها ويوجه الغضب الشعبي الهائل نحو تلك الأقلية وكأنها المسئولة عن أزمات المجتمع ولم يكن من بينها ضحايا لتلك الأزمات، فينقسم المضطهدون والمستغلون على أنفسهم ويتجه انتقامهم في الاتجاه الخطأ، وقد فعلها هتلر في ألمانيا النازية فكان من نتائجها محرقة اليهود، والأهم بالنسبة للطبقة الحاكمة كان نهاية الثورة واحتفاظها بثرواتها ومكاسبها التي انتزعتها من عرق الفقراء ودمائهم. وكان من نتائجها أيضا أن استطاعت الحركة الصهيونية جذب ملايين المؤيدين من اليهود لصفوفها بعد أن كانت أقلية تافهة بين اليهود تؤمن بها، وهي الحركة التي وضعت نفسها في خدمة الطبقات الحاكمة في أوروبا وفي خدمة الاستعمار العالمي، يحميها وترعى مصالحه الاستعمارية في منطقة الشرق الأوسط على حساب ضحايا آخرين لم يشاركوا في اضطهاد اليهود أو محرقتهم.

هكذا نجد الكنيسة المصرية تجر الأقباط وراءها إلى دعم السلطة وكأن هذه السلطة هي التي تحميهم من فقراء المسلمين، أو الغوغاء حسب وصف النخبة لهم، ناسية في ذلك أو متناسية أن تلك السلطة نفسها هي التي زرعت أو حافظت على بذور الاضطهاد حتى يمكن تأجيج الفتنة في الوقت وبالقدر المناسب. رجال الدين يستفيدون من وراء ذلك أيضا لأنه يعزز تبعية الأقباط لهم والتصاقهم بهم باعتبارهم تجسيد للهوية المهددة فيتمسك المضطهدون بزعامتهم كنوع من المقاومة الرمزية للذوبان أو الانسحاق تحت وطأة الاضطهاد. لم تشهد مصر الحديثة منذ محمد على وحتى قبل عام 1952 قوة ممتازة لرجال الدين وتأثيرا واسع النطاق لهم كما تشهده في عصرنا الحالي سواء في ذلك بالنسبة للدين الإسلامي أو الدين المسيحي.

إن الاضطهاد والتمييز يدفع الأقلية إلى الانغلاق على نفسها والالتصاق برموزها والابتعاد عن المشاركة الفعالة في قضايا المجتمع الواسع لصالح قضايا طائفية لا حل لها في الواقع دون خلاص المجتمع من أزمته الشاملة. لا يعني ذلك طبعا تجاهل قضايا الأقلية المضطهدة أو عدم مواجهة التمييز، وهي قضايا قابلة للحل إذا استطاع المسلمون والمسيحيون أن يناضلوا معا من أجل حل قضاياهم المشتركة ومن أجل تقرير مصيرهم المشترك.

لكن البابا شنودة الثالث، وهو رأس رجال الدين المسيحي في مصر، لا يرى حلا ولا يرى دورا إلا لرجال الأمن في قضايا الاضطهاد والتمييز الديني وقد أشار إلى ذلك في تصريحات عديدة كما أكد البابا على تأييده انتقال السلطة إلى جمال مبارك بعد والده واستمرار الحزب الحاكم في السلطة رغم أن الأزمات الطائفية لم تستعر إلا في ظله!

هناك بالتأكيد مثقفون من الأقباط أكثر وعيا وقدرة على تقييم الأمور وأشد حرصا على حل المشكلة القبطية في إطار التعاون والترابط القائم على أساس المصالح المشتركة بين غالبية المصريين من مسلمين وأقباط مثل النائب جمال أسعد والاستاذ كمال زاخر وقد انتقدا تصريحات البابا وطالبا بضرورة فصل الدين عن السياسة.

المهم في ذلك أن ندرك أن رجال الدين، سواء مسلمون أو مسيحيون، لا يملكون حلا للمشكلة الطائفية وليس في مصلحتهم حل هذه المشكلة، وهم تماما مثل رجال الأمن الذين تتعاظم أهميتهم ويتأكد تميزهم وتزداد مكاسبهم كلما استمر هذا النوع من المخاطر والجرائم في المجتمع لأن هذه المخاطر وتلك الجرائم تعطي السلطة ذريعة جاهزة لفرض الطوارئ وإحكام سيطرتها على المضطهدين وخنق الجميع وتمنح رجال الدين مكانة قوية ووضعا ممتازا يكرس سيطرتها على أرواح وألباب التابعين.