من يملك إرادة الفعل وقوة التأثير لا تعوزه دقة الرأي وبيان التعبير، لكن المشكلة فيما يدور من لغط وشطط على صفحات الجرائد حول الخلافة على مقعد الرئاسة والخلاف على قضية التوريث، وخصوصا فيما يطرحه المعارضون و"النخبة"، أن الأقوال والأفكار تطرح تسجيلا للمواقف بديلا عن تحريكها. وتسعى وراء ذلك سعيا حثيثا ماكينة الصحافة التي تنتعش دائما كلما يعلو الضجيج، خاصة إذا كان ضجيجا بلا طحن منخفض التكاليف.
زوبعة الفنجان الأخيرة أثارها صحفي لامع له تاريخ ثري منذ أن كان كاتب السلطة المعتمد، فقد كان الأستاذ هيكل شديد القرب من دائرة النفوذ واتخاذ القرار في العهد الناصري وأوائل عهد السادات قبل أن يختلف الرجلان. ورغم أنه لم يعد كذلك، فقد أثار حواره الأخير في جريدة "المصري اليوم" سحابة جديدة من الطنين الصاخب والبريق الكاذب حول مسألة الإصلاح الدستوري والسياسي في البلاد بعد أن وضع الأمر بيد من لا مصلحة له، ولا يريد إصلاحا من هذا النوع، ولا يشعر بأزمة تضطره إلى الاستجابة لمطالب من يفترض أنه يعارضه.
وحديث الأستاذ هيكل ليس به جديد، وربما أقل قيمة مما طرحه الدكتور حسن نافعة في سلسلة من مقالات الرأي على نفس الجريدة التي حاورت هيكل، ومن أطروحات الدكتور أسامة الغزالي حرب من حيث كونهما أكثر وضوحا حول ميول السلطة الحاكمة والحاجة إلى مبادرات من خارجها. وحديث المستشار طارق البشري في حواره مع جريدة الشروق يوم الخميس الماضي أكثر قيمة من هذا وذاك، فقد أكد الرجل بوضوح أن مواجهة التوريث والصراع على منصب الرئاسة هدف أكبرمن قدرة المعارضة على تحقيقه وأن الاستبداد لا يتنازل عن موقعه إلا إذا تعرض لضغوط قوية، مرجعا الأمر إلى "موازين القوى" في المجتمع.
أوضح البشري أن المعارضة أخطأت عندما رفعت شعار تعديل الدستور في 2005 وهي لا تملك القدرة على التأثير، وأن شعارها استخدم لتنفيذ ما يكممها وما يجعل البلاد تتراجع دستوريا وتتراجع ديمقراطيا، بإلغاء الرقابة القضائية على الانتخابات، وتفصيل مادة الترشح للرئاسة على شخص واحد، وزيادة صلاحيات الرئيس، وتقنين حالة الطوارئ والمحاكم العسكرية مبينا أن "النظام المستبد المطلق أصبح دستوريا بهذه الحركة التي بدأتها المعارضة."
طرح البشري مجموعة أخرى من "المطالب الموضوعية" يرى أن المعارضة ينبغي أن تتبناها، هي إنهاء حالة الطوارئ والإفراج عن المعتقلين وإطلاق الحريات وإعادة الإشراف القضائي الكامل على العملية الانتخابية قائلا: "ولا يهمنا بعد ذلك من يأتي". الحوار غني جدا بأفكار يطرحها مؤرخ ومفكر سياسي ثاقب النظر تعلمنا الكثير من كتاباته وتأريخه للحركة الوطنية المصرية، وقد ركز على ضرورة أن يتحمل الشعب تضحيات متعلقة "بالتحريك والتنظيم" حتى يصبح قوة تعادل قوة السلطة، كما انتقد الإخوان قائلا إن مساهمتهم في العمل السياسي أقل ما تحتاجه مصر وما يقدرون عليه.
أتفق تماما مع البشري في أن واجب المعارضة أن تسعى لبناء مراكز للقوة في المجتمع وأن تطرح أهدافا قابلة للتحقيق وألا تتوقع هدايا من السلطة، خاصة إذا كانت هذه الهدايا ضد مصالح السلطة وأهدافها، وأن محاولة إقناعها بتقديم تلك الهدايا ليست تعبيرا عن الإفلاس والعجز فحسب وإنما هروب من الواجب أيضا. غير أن ما يؤخذ على كلام البشري هي تلك الثقة الكبيرة التي يوليها "لجهاز إدارة الدولة" – أي الوزارات والهيئات والإدارات المختلفة – والتي يحرص على أن يفرق بينها وبين "جهاز الدولة" – أي الرئاسة والحكومة. وهذه الثقة مردها إلى أن جهاز إدارة الدولة لا يزال موجودا وبه العديد من الخبرات التي يمكن "أن تتجمع وتؤدي إلى تغيير فعلي في سياسات الحكم والأطقم القائمة."
تنطوي هذه الفكرة على تناقض فج في رؤية المستشار البشري عندما يراهن على بيروقراطية الجهاز الإداري للدولة في دفع الأهداف الديمقراطية، خاصة أن أقوى قطاعات هذه البيروقراطية – أي المؤسسة العسكرية والأمنية – لا يمكن أن ترتبط من قريب أو بعيد بمشاريع ديمقراطية. أضف إلى ذلك أن جانبا أساسيا من انتقادات البشري للسلطة القائمة يتركز على سياساتها التي أدت إلى تفكيك جهاز الدولة بحيث "تحولت العلاقة بين الرئيس والمرؤوس إلى علاقة تابع ومتبوع وتحول جهاز إدارة الدولة إلى التبعية." ألا يعتقد المستشار البشري أن تكون سياسات التفكيك قد أدت إلى إضعاف الجهاز الإداري أمام السلطة؟ ولماذا يفترض أن كبار الموظفين في الجهاز البيروقراطي يطمحون لأكثر من الحفاظ على وظائفهم، وهو طريق توفره لهم السلطة عبر استرضاء الحاكم؟ الجهة الوحيدة القادرة على الفعل في الجهاز الإداري للدولة هو المؤسسة الأمنية، وهي مؤسسة تدين بامتيازاتها جميعا للاستبداد والحكم المطلق، ولا يمكن أن نتصور أن لديها الإرادة أو المصلحة في تحقيق الديمقراطية.
يردنا ذلك إلى المشكلة الرئيسية فيما يدور من ضجيج الأقوال على صفحات الجرائد وتراخي الأفعال على أرض الواقع. وأخشى أن صخب النخبة في الحديث حول الأهداف الكبرى محاولة لتسجيل المواقف بهدف ستر العوار وليس حديثا جادا لاكتشاف المسار. لأن وضع الأهداف الخطأ تبرير للتقاعس والفشل، وطلب المستحيل شيمة من أدمن الكسل.
زوبعة الفنجان الأخيرة أثارها صحفي لامع له تاريخ ثري منذ أن كان كاتب السلطة المعتمد، فقد كان الأستاذ هيكل شديد القرب من دائرة النفوذ واتخاذ القرار في العهد الناصري وأوائل عهد السادات قبل أن يختلف الرجلان. ورغم أنه لم يعد كذلك، فقد أثار حواره الأخير في جريدة "المصري اليوم" سحابة جديدة من الطنين الصاخب والبريق الكاذب حول مسألة الإصلاح الدستوري والسياسي في البلاد بعد أن وضع الأمر بيد من لا مصلحة له، ولا يريد إصلاحا من هذا النوع، ولا يشعر بأزمة تضطره إلى الاستجابة لمطالب من يفترض أنه يعارضه.
وحديث الأستاذ هيكل ليس به جديد، وربما أقل قيمة مما طرحه الدكتور حسن نافعة في سلسلة من مقالات الرأي على نفس الجريدة التي حاورت هيكل، ومن أطروحات الدكتور أسامة الغزالي حرب من حيث كونهما أكثر وضوحا حول ميول السلطة الحاكمة والحاجة إلى مبادرات من خارجها. وحديث المستشار طارق البشري في حواره مع جريدة الشروق يوم الخميس الماضي أكثر قيمة من هذا وذاك، فقد أكد الرجل بوضوح أن مواجهة التوريث والصراع على منصب الرئاسة هدف أكبرمن قدرة المعارضة على تحقيقه وأن الاستبداد لا يتنازل عن موقعه إلا إذا تعرض لضغوط قوية، مرجعا الأمر إلى "موازين القوى" في المجتمع.
أوضح البشري أن المعارضة أخطأت عندما رفعت شعار تعديل الدستور في 2005 وهي لا تملك القدرة على التأثير، وأن شعارها استخدم لتنفيذ ما يكممها وما يجعل البلاد تتراجع دستوريا وتتراجع ديمقراطيا، بإلغاء الرقابة القضائية على الانتخابات، وتفصيل مادة الترشح للرئاسة على شخص واحد، وزيادة صلاحيات الرئيس، وتقنين حالة الطوارئ والمحاكم العسكرية مبينا أن "النظام المستبد المطلق أصبح دستوريا بهذه الحركة التي بدأتها المعارضة."
طرح البشري مجموعة أخرى من "المطالب الموضوعية" يرى أن المعارضة ينبغي أن تتبناها، هي إنهاء حالة الطوارئ والإفراج عن المعتقلين وإطلاق الحريات وإعادة الإشراف القضائي الكامل على العملية الانتخابية قائلا: "ولا يهمنا بعد ذلك من يأتي". الحوار غني جدا بأفكار يطرحها مؤرخ ومفكر سياسي ثاقب النظر تعلمنا الكثير من كتاباته وتأريخه للحركة الوطنية المصرية، وقد ركز على ضرورة أن يتحمل الشعب تضحيات متعلقة "بالتحريك والتنظيم" حتى يصبح قوة تعادل قوة السلطة، كما انتقد الإخوان قائلا إن مساهمتهم في العمل السياسي أقل ما تحتاجه مصر وما يقدرون عليه.
أتفق تماما مع البشري في أن واجب المعارضة أن تسعى لبناء مراكز للقوة في المجتمع وأن تطرح أهدافا قابلة للتحقيق وألا تتوقع هدايا من السلطة، خاصة إذا كانت هذه الهدايا ضد مصالح السلطة وأهدافها، وأن محاولة إقناعها بتقديم تلك الهدايا ليست تعبيرا عن الإفلاس والعجز فحسب وإنما هروب من الواجب أيضا. غير أن ما يؤخذ على كلام البشري هي تلك الثقة الكبيرة التي يوليها "لجهاز إدارة الدولة" – أي الوزارات والهيئات والإدارات المختلفة – والتي يحرص على أن يفرق بينها وبين "جهاز الدولة" – أي الرئاسة والحكومة. وهذه الثقة مردها إلى أن جهاز إدارة الدولة لا يزال موجودا وبه العديد من الخبرات التي يمكن "أن تتجمع وتؤدي إلى تغيير فعلي في سياسات الحكم والأطقم القائمة."
تنطوي هذه الفكرة على تناقض فج في رؤية المستشار البشري عندما يراهن على بيروقراطية الجهاز الإداري للدولة في دفع الأهداف الديمقراطية، خاصة أن أقوى قطاعات هذه البيروقراطية – أي المؤسسة العسكرية والأمنية – لا يمكن أن ترتبط من قريب أو بعيد بمشاريع ديمقراطية. أضف إلى ذلك أن جانبا أساسيا من انتقادات البشري للسلطة القائمة يتركز على سياساتها التي أدت إلى تفكيك جهاز الدولة بحيث "تحولت العلاقة بين الرئيس والمرؤوس إلى علاقة تابع ومتبوع وتحول جهاز إدارة الدولة إلى التبعية." ألا يعتقد المستشار البشري أن تكون سياسات التفكيك قد أدت إلى إضعاف الجهاز الإداري أمام السلطة؟ ولماذا يفترض أن كبار الموظفين في الجهاز البيروقراطي يطمحون لأكثر من الحفاظ على وظائفهم، وهو طريق توفره لهم السلطة عبر استرضاء الحاكم؟ الجهة الوحيدة القادرة على الفعل في الجهاز الإداري للدولة هو المؤسسة الأمنية، وهي مؤسسة تدين بامتيازاتها جميعا للاستبداد والحكم المطلق، ولا يمكن أن نتصور أن لديها الإرادة أو المصلحة في تحقيق الديمقراطية.
يردنا ذلك إلى المشكلة الرئيسية فيما يدور من ضجيج الأقوال على صفحات الجرائد وتراخي الأفعال على أرض الواقع. وأخشى أن صخب النخبة في الحديث حول الأهداف الكبرى محاولة لتسجيل المواقف بهدف ستر العوار وليس حديثا جادا لاكتشاف المسار. لأن وضع الأهداف الخطأ تبرير للتقاعس والفشل، وطلب المستحيل شيمة من أدمن الكسل.