الخميس، 6 مارس 2014

ثورة أوكرانيا – مستقبل غامض ولكن لا عودة للوراء (2)

الطبقة الحاكمة تضحي بوحدة واستقلال أوكرانيا في صراعها على السلطة والثروة 


على مدى الأيام القليلة الماضية تطورت الأزمة في أوكرانيا على نحو خطير، وانتقل الصراع على السلطة بين جناحين فاشلين وفاسدين للطبقة الحاكمة إلى تهديد وشيك بالحرب وتقسيم البلاد التي تتوافر فيها كل عناصر الانقسام من الناحية الموضوعية.

هرب الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش بعد فشل كل محاولاته في قمع أو احتواء ثورة الميدان تاركا البلاد تعارك مخاطر الحرب الأهلية، فقد فشلت جهوده في احتواء المعارضة بإقالة الحكومة ودعوتها للمشاركة في حكومة جديدة، كما فشلت محاولته قمع الاحتجاجات بإصداره قانونا يقيد الحق في التظاهر والاحتجاج والمعارضة مما تسبب في زيادة حجم المظاهرات والاحتجاجات واتساع رقعتها وعنفها ولم يفلح معها قتل الشرطة عشرات المتظاهرين في أيام قليلة.


بعد هروبه بقليل ظهر يانوكوفيتش مجددا في مؤتمر صحفي عقده في روسيا وأعلن أنه الرئيس الشرعي للبلاد مطالبا موسكو بالتدخل عسكريا في أوكرانيا لضرب معارضيه تحت دعوى مكافحة الفوضى، بينما تطالب الحكومة المؤقتة التي شكلت سريعا في كييف، والموالية للولايات المتحدة وأوروبا، برأسه تحت اتهامات بالفساد المالي وقتل المتظاهرين.
دعوة يانوكوفيتش إلى تدخل روسيا عسكريا في بلاده تكشف عن انحطاط الجناح الذي يمثله من الطبقة الحاكمة في أوكرانيا الذي لا يخفي استعداده للتضحية بوحدة البلاد واستقلالها حماية لمصالحه الأنانية الضيقة في السلطة والثروة. ولكنه في ذلك لا يختلف عن الجناح الآخر الذي سيطر على السلطة الآن في كييف ويحظى بتأييد من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، رغم أن طرفي الصراع لا يترددان في التلاعب بعبارات فارغة حول المحافظة على سلامة واستقلال الوطن ووحدة الشعب الأوكراني!
يتمتع يانوكوفيتش وحزب الأقاليم الذي يرأسه بتأييد واسع من أباطرة رجال الأعمال في الأقاليم الشرقية والجنوبية في أوكرانيا التي تتحدث اللغة الروسية كما تعيش فيها أقلية روسية كبيرة نسبيا تشكل حوالي ربع سكان أوكرانيا ويتركز معظمها في شبه جزيرة القرم التي يمثل فيها السكان من أصل روسي أغلبية ساحقة.
الصناعات الثقيلة من صناعة الصلب إلى الآلات والسيارات حتى مناجم الحديد والفحم تتركز في شرق أوكرانيا وجنوبها، وقد انتقلت ملكية هذه المصانع من الدولة إلى حفنة قليلة من أباطرة رجال الأعمال عبر صفقات الخصخصة الفاسدة بعد انفصال أوكرانيا عن روسيا السوفيتية أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وترتبط هذه الشركات والمصانع ارتباطا وثيقا بروسيا حتى الآن كمصدر وحيد تقريبا لاحتياجاتها من الطاقة وكسوق رئيسية لمنتجاتها، حيث أن ربع صادرات أوكرانيا ككل تعتمد على السوق الروسية.
الأراضي الزراعية في شرق أوكرانيا من أجود الأراضي وأعلاها خصوبة في العالم، وهي سلة غذاء أساسية لروسيا، مما يكشف عن اتساع المصالح الروسية في هذه المنطقة علاوة على شبه جزيرة القرم التي تتمتع بحكم ذاتي ويمثل السكان من أصل روسي فيها حوالي 75% من إجمالي سكانها والنسبة الباقية تتوزع بين التتار والأوكرانيين. وتحتل هذه الجزيرة مركزا استراتيجيا هاما بالنسبة للنظام الحاكم في موسكو، وهي تقع على البحر الأسود وتوجد بها قاعدة للأسطول الروسي.
وقد تحركت روسيا سريعا بعد عزل يانوكوفيتش وقامت بإبرار 16 ألف جندي روسي على شبه جزيرة القرم، في تهديد واضح بالحرب لم يستبعده فلاديمير بوتين في مؤتمر صحفي عقده الثلاثاء الماضي عندما وصف عزل الرئيس الأوكراني بالانقلاب على الدستور.
ومن الطبيعي في هذا السياق أن ترفض الغالبية العظمى من سكان شرق وجنوب أوكرانيا دعاوى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فرجال الأعمال الذين يسيطرون على شركات صناعية كبرى في هذه المناطق، وعلى رأسهم امبراطور الصلب والإعلام رينات أخميتوف، يتمتعون بوضع احتكاري ونفوذ واسع على دوائر السلطة وصنع القرار يضمن لهم أرباحا هائلة ويخشون من منافسة الشركات الأوروبية التي تطمع في فتح أوكرانيا وأسواقها لصالحها ما يهدد بتقويض المركز الاحتكاري والنفوذ السياسي لأباطرة الأعمال في أوكرانيا، وبالتالي الأرباح الطائلة التي يجنونها نتيجة لذلك، كما أنهم يخشون من تهديد روسيا برفع أسعار الطاقة، وهو ما حدث فعلا في وقت سابق، أو حرمانهم من أسواقهم التقليدية فيها. وقد هددت روسيا بفرض عقوبات على أوكرانيا إذا تم توقيع اتفاق مع الاتحاد الأوروبي كما علقت برنامجا للمساعدات المالية بقيمة 15 مليار دولار بعد هروب يانوكوفيتش وعزله من منصب الرئاسة بقرار من البرلمان في كييف.
كذلك يرفض عمال المصانع الكبرى التي تتركز في شرق وجنوب أوكرانيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي خشية من الفقر وفقدان وظائفهم نتيجة برامج التقشف وتحرير الأسواق التي تنطوي عليها اتفاقية الانضمام، علاوة على مخاوف سياسية جوهرية بسبب سيطرة حركات يمينية وقومية على المظاهرات والاحتجاجات المؤيدة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي بل وحركات فاشية صريحة مثل حركة "القطاع اليميني" أو The Right Sector التي تقدمت الصفوف في احتلال المباني الحكومية والبرلمان خلال تصعيد الاحتجاج في مواجهة يانوكوفيتش واستخدمت الأسلحة وقنابل المولوتوف في مواجهة الشرطة وسيطرت على مجموعة حراس الميدان، وهي حركة لها علاقة قوية بالأحزاب الفاشية في بريطانيا وفرنسا. وقد أجبرت هذه الحركات الفاشية والأحزاب اليمينية والقومية البرلمان الأوكراني مؤخرا على إلغاء نص دستوري يعترف بالروسية لغة ثانية للبلاد بعد الأوكرانية، بما يمثل تهديدا صريحا لحقوق الأقلية الروسية والأوكران المتحدثين بالروسية في مناطق شرق البلاد وجنوبها. وربما تكشف هذه الأحداث عن جانب من طبيعة الجناح الآخر من الطبقة الحاكمة في أوكرانيا الذي يتركز نفوذه السياسي في غرب البلاد ويتصدر قيادة الاحتجاجات والمظاهرات التي اندلعت في نوفمبر الماضي عقب رفض يانوكوفيتش توقيع اتفاق الانضمام للاتحاد الأوروبي.
يانوكوفيتش وحزب المناطق الذي يرأسه، والذي يمثل نظام ما قبل الثورة البرتقالية في 2004، لم يكن رافضا من حيث المبدأ انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، بل إن برنامج يانوكوفيتش الذي فاز على أساسه في انتخابات الرئاسة في 2010 يتضمن توقيع هذا الاتفاق، وظل يدافع عن الاتفاق حتى تحول للمناورة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا سعيا للحصول على أكبر قدر ممكن من المعونات الاقتصادية بعد أن دخلت أوكرانيا أزمة اقتصادية عنيفة وأوشكت على الإفلاس بسبب تفاقم الديون وارتفاع أسعار الطاقة وانهيار معدلات النمو وانخفاض إيرادات الحكومة من الضرائب وتفاقم عجز الموازنة نتيجة التهرب الضريبي والفساد. وبينما تقدم الاتحاد الأوروبي بعرض أقل من مليار دولار من المساعدات مقابل حزمة من السياسات التقشفية يصعب تمريرها سياسيا، تقدمت روسيا بعرض مساعدات مالية سخية بلغت 15 مليار دولار علاوة على ضمان إمدادات الغاز بأسعار تفضيلية مما دفع يانوكوفيتش إلى رفض الاتفاق مع أوروبا مفضلا الانضمام إلى الاتحاد الجمركي الذي تتزعمه روسيا.
بعد هذا القرار، عمدت المعارضة التي يتركز نفوذها في غرب أوكرانيا وتمثل جناحا آخر من الطبقة الحاكمة من رجال الأعمال الفاسدين في البلاد، بل وربما تتلقى دعما من نفس أباطرة الأعمال ممن يساندون الحزب الحاكم والمعارضة في نفس الوقت حماية لمصالحهم ونفوذهم السياسي، إلى استغلال رفض يانوكوفيتش توقيع اتفاق الانضمام للاتحاد الأوروبي في تصعيد وتأجيج المواجهات مع النظام. وانضمت إلى المظاهرات جماهير غفيرة لأسباب مختلفة في أغلب الأحوال عن مجرد الرغبة في الانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي. كانت للجماهير دوافع أكثر جوهرية للاحتجاج أهمها وحشية جهاز الشرطة والقمع البوليسي للمعارضين وشيوع الفساد والفقر والبطالة والظلم الاجتماعي وتدهور الخدمات العامة مما دفع ملايين الأوكرانيين إلى السفر إلى الخارج بحثا عن الرزق والحياة الكريمة. إجمالي سكان أوكرانيا يزيد قليلا عن 45 مليون نسمة، ويبلغ عدد العاملين في الخارج منهم أكثر من 4 ملايين عامل.
وتتلاعب أحزاب المعارضة في غرب أوكرانيا بأحلام فقراء الطبقة الوسطى والمهمشين بالسفر إلى أوروبا والحصول على فرصة عمل بأجور مرتفعة للخروج من دائرة الفقر في بلد يعيش أكثر من ربع سكانه تحت خط الفقر، كما أنها تستخدم الدعاية القومية المعادية لروسيا التي تلقى قبولا واسعا في مناطق أوكرانيا الغربية التي يتحدث سكانها اللغة الأوكرانية بسبب الإرث التاريخي للقمع والفساد للنظم الموالية لروسيا في أوكرانيا.
وتعتبر المناطق الغربية مكانا خصبا للخطاب القومي والدعاية المؤيدة للانضمام للاتحاد الأوروبي أيضا بسبب انتشار الصناعات الصغيرة وسكان المناطق الريفية فيها والمزارع الصغيرة بنسبة أعلى من المناطق الشرقية، كما أن ارتباطها اقتصاديا بروسيا أضعف كثيرا مقارنة بشرق البلاد، بل هي أكثر ارتباطا بأوروبا من الناحية الاقتصادية، ولهذا السبب وباستثناء كييف العاصمة، فإنها أقاليم فقيرة نسبيا من حيث نصيبها من إجمالي الناتج المحلي عند مقارنتها بالمناطق الشرقية، وتأمل أن يؤدي انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي إلى جذب استثمارات جديدة إليها وتوفير فرص العمل لمواجهة البطالة المتفاقمة والتهميش الاقتصادي لقطاع كبير من السكان. وكان رفض يانوكوفيتش توقيع الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي شرارة كافية لإشعال حريق لم تخمد نيرانه بعد في هذه المناطق.
لكن أحزاب وحركات المعارضة التي تقود الاحتجاجات والتي قامت بتشكيل الحكومة والاستيلاء على الرئاسة بعد هروب يانوكوفيتش لا تمثل بديلا حقيقيا للنظام الحاكم في أوكرانيا، ورغم حديثها عن ضرورة وحدة البلاد نجدها مستعدة إلى دفع أوكرانيا إلى أتون حرب عنيفة بل وتقسيمها سعيا إلى تحقيق مصالحها الأنانية في السلطة وحماية ثروات وأرباح داعميها من أباطرة رجال الأعمال الفاسدين الذين يسيطرون على موارد البلاد وخيراتها.
بعد هروب يانوكوفيتش مباشرة، انعقد البرلمان الأوكراني في كييف، والذي سيطر عليه حفنة من رجال الأعمال والأحزاب القومية واليمينية بعد تفكك التحالف الحاكم بزعامة حزب الأقاليم، باتخاذ قرار بعزل الرئيس، وتعيين رئيس البرلمان أولكساندر تورشينوف رئيسا مؤقتا للبلاد، وهو أحد قيادات حزب الوطن The Fatherland الذي تتزعمه يوليا تيموشينكو، التي تولت رئاسة الوزراء بعد الثورة البرتقالية المدعومة من الولايات المتحدة وأوروبا في عام 2004، وهي إحدى سيدات الأعمال الأثرياء التي حكم عليها بالسجن بعد تركها الوزارة في فضيحة فساد تتعلق بالتربح من صفقات الغاز، وقد خرجت من السجن إلى الميدان مباشرة بعد اندلاع الاحتجاجات ضد يانوكوفيتش واستقبلها المتظاهرون استقبالا فاترا، بعد تجربتها الفاشلة في الحكم اثناء عهد الرئيس فيكتور يوشيشنكو – الذي سنعود إليه فيما بعد. وتدافع تيموشينكو وحزبها بقوة عن انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي بما يعنيه ذلك من برامج تقشف قاسية واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، لكنها فشلت فشلا ذريعا أثناء توليها رئاسة الوزراء نتيجة الصراعات بين أجنحة الطبقة الحاكمة المختلفة علاوة على صراعها مع البرلمان ورئيس البلاد آنذاك يوشيشنكو، ما دفع الأخير إلى إقالتها وتعيين يانوكوفيتش نفسه رئيسا للوزراء في 2006.
ويتولى رئاسة الوزراء في الحكومة المؤقتة حاليا رجل الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي في أوكرانيا هو أرسيني ياتسينيوك، والذي قال عنه سفير أوكرانيا لدى الولايات المتحدة في حديث تليفوني تم تسريبه مع فيكتوريا نولاند، مساعدة وزير الخارجية للشئون الأوروبية، إن ياتسينيوك من التكنوقراطيين الذين تحتاجهم الحكومة عندما تريد تطبيق برامج تقشفية صعبة دون اعتبار لموقف الناخبين وهو على أتم استعداد للاتفاق مع صندوق النقد الدولي. وبالتالي فرغم تدهور العملة الأوكرانية الهريفنيا بنسبة 16% خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، فإن ياتسينيوك على استعداد لتطبيق برامج الصندوق التي تتضمن زيادة في الضرائب وأسعار الفائدة وتخفيضا كبيرا للعملة الأوكرانية أمام الدولار، بما يعنيه ذلك من ركود اقتصادي وزيادة كبيرة في الأسعار واتساع رقعة الفقر في بلد يعاني معاناة قاسية من ضعف النمو والفقر والبطالة.
ويسيطر على الحكومة الجديدة والمناصب الهامة حاليا، ومنها وزارة الداخلية، شخصيات تنتمي إلى حزب الوطن Fatherland الذي تقوده يوليا تيموشينكو بالإضافة إلى شخصيات تنتمي إلى حزب سفوبودا اليميني المتطرف الذي استحوذ على منصب القائم بأعمال النائب العام.
وهكذا، لا يجد طموح الشعب الأوكراني في التحرر والازدهار بدائل سياسية تعبر عنه، بينما تتلاعب طبقة حاكمة فاسدة ومترهلة بأحلامه، وتتناوب السلطة أحزاب وحركات معادية لتطلعات الجماهير بما يشبه كثيرا حال الثورة المصرية رغم تباين الظروف الموضوعية والديمغرافية بين البلدين.
في الحلقة القادمة نناقش تجربة هذه الأحزاب السابقة عقب الثورة البرتقالية – التي دعمتها الولايات المتحدة وأوروبا، وما آلت إليه من إعادة ترسيخ النظام القديم برموزه نفسها على يد فيكتور يانوكوفيتش.