الخميس، 24 فبراير 2011

النظام‮ ‬يناور لضرب الحركة الجماهيرية

رمضان متولي

سقط الديكتاتور ولم يسقط نظامه.. فتحت انتفاضة 25 يناير أبوابا واسعة لتحقيق ثورة سياسية واجتماعية شاملة..  وكان طبيعيا في بداية الانتفاضة ان يتركز شعارها الرئيسي علي رحيل الديكتاتور، وكانت الميزة الرئيسية لهذا الشعار أنه استطاع ان يوحد مختلف الأطياف السياسية من الإخوان المسلمين وحتي اليسار الراديكالي، مرورا بالليبراليين والقوميين علي مختلف تشكيلاتهم تحت مظلة واحدة، كما استطاع ان يؤلف بين فئات وشرائح اجتماعية متباينة في مصالحها ومواقفها، من المهمشين والعاطلين في احياء المدن الفقيرة إلي العمال والموظفين في القطاعين الرسمي وغير الرسمي، وشرائح مختلفة من الطبقة الوسطي الحديثة.
لكن اسوأ ما يحدث في النظم الديكتاتورية هو الإمكانية الواسعة لاستفادة الطبقة الحاكمة من التضحية برمز النظام مع الحفاظ علي النظام نفسه في مواجهة حركة جماهيرية جارفة أي تحويل نقطة الضعف الرئيسية في النظام الحاكم -سيطرة الحاكم المستبد- إلي فرصة للمناورة والالتفاف علي مطالب الحركة الجماهيرية وتفتيت قواها.
ما يحدث في مصر منذ 25 يناير حتي الآن سلسلة من المناورات التي تدور حول هذه الاستراتيجية -اي احتواء حركة الجماهير وتفتيتها وتأليب قطاعات منها علي الاخري لاضعافها وتفريغها من مضمونها الثوري من اجل الحفاظ علي النظام الحاكم.
جاءت المناورة الاولي من الديكتاتور نفسه عندما قام بتعيين واحد من اخلص اعوانه -عمر سليمان- نائبا لرئيس الجمهورية وذلك بعد المعركة الدامية التي شنها جهازه القمعي بقيادة حبيب العادلي يوم جمعة الغضب في 28 يناير الماضي.
أكد الرئيس المخلوع ان اجهزة القمع كانت تتصرف مع الانتفاضة وفقا لتعليماته، وقدم بعض التنازلات الشكلية محاولا التشبث بما تبقي له من سلطة علي رقابنا، وقام بتعيين نائب لرئيس الجمهورية وتكليف لجنة لتعديل بعض مواد الدستور المهترئ.
فشلت المناورة بعد ان كشف عمر سليمان عن نفسه فرأت الجماهير الثائرة في حديثه المغرور وتضليله العمدي استمرارا لأسلوب استاذه وولي نعمته.
فكانت مناورة اخري بتغيير الحكومة والتضحية ببعض الوزراء الذين ارتبطوا بعصابة جمال مبارك وموجة استقالات من قيادات الحزب الوطني.
لكن الانتفاضة كانت تتسع وتتعاظم قوتها ويزداد زخمها في كل ثانية تمر دون تحقيق شعارها الجامع برحيل الديكتاتور الآن وفورا، وكانت كل مواجهة تنطوي علي مسحة من غرور أركان النظام تقابل بتصعيد المطالب والاصرار علي التحدي، خاصة بعد هزيمة خط الدفاع الاول عن النظام متمثلا في اجهزة القمع الداخلية من امن مركزي وشرطة امام بطولة الجماهير الثائرة.
وامام هذه البطولات الخارقة للعادة وذلك الاصرار والزخم الثوري الهائل اضطرت اركان النظام الي استخدام الورقة الاخيرة وهي التضحية بالديكتاتور والتخلي عن كل الادعاءات الفارغة حول اخلاق المصريين وعن محاولة التلاعب بعواطفهم والتي كان يتخللها بين الحين والاخر محاولة استعداء فئات اخري من السكان علي المتظاهرين ومحاولات عديدة للقمع بالتواطؤ مع فلول جهاز الشرطة والبلطجية وتغاضي قيادات الجيش عن مؤامراتهم.
وبمجرد رحيل الديكتاتور، عمت الفرحة الميادين في القاهرة والاسكندرية والسويس والمنصورة ومحافظات الصعيد، وكل شوارع مصر، وفي غمرة البهجة وزهو الانتصار بدأت تتردد شعارات من قبيل »الشعب خلاص أسقط النظام«.
وجاء بيان المجلس العسكري، الذي تولي السلطة بتفويض من الرئيس المخلوع نفسه، ليعترف للجماهير بحقها في الانتصار وبشرف الانتفاضة المجيدة ويقدم تحية واجبة لشهدائها، لكنه طالب بفض الاعتصام والعودة الي الحياة الطبيعية.
لم تكن تلك اخر الاوراق التي يقدمها النظام من اجل احتواء الحركة الجماهيرية، لكنها نجحت الي حد كبير في تقسيم الجبهة العريضة والفضفاضة التي خرجت تحت شعار »الشعب يريد اسقاط النظام«، خاصة بعد ان اتجه المجلس العسكري الي التعامل مع الفترة الراهنة باعتبارها فترة انتقالية وبدأ في استدعاء بعض القوي وعلي رأسهم جماعة الاخوان المسلمين للتفاوض حول ترتيبات الاوضاع الجديدة، وبعد ان بدأت الشرائح العليا من الطبقة المتوسطة تخشي من الابعاد الهائلة للحركة الجماهيرية التي لم تكن دوافعها مجرد تحقيق بعض الاصلاحات السياسية علي النظام القائم.
وجاء اتساع حركة الاضرابات العمالية واحتجاجات صغار الموظفين والعمالة المؤقتة وغيرها ليكشف عن الفرص الحقيقية للتغيير الجذري للنظام الحاكم بعيدا عن الاصلاحات الشكلية في بنية المؤسسة السياسية، فالجماهير تعني حقا وتريد فعلا اسقاط النظام.
هنا بدأت الحركة بالفعل تدخل معتركًا جديدًا، لأن الجيش لا يريد إسقاط النظام بل الحفاظ عليه، حتي وإن بدأ في التضحية ببعض رموز الفساد في هذا النظام من أجل احتواء الحركة الجماهيرية. وهنا أيضا بدأت القطاعات المختلفة التي شاركت في الحركة تنقسم وفق انحيازاتها الاجتماعية، ومصالحها القطاعية والطبقية، لكن تباطؤ المجلس العسكري في الاستجابة لمطالب الإصلاح السياسي والمؤسسي ما زال عاملا مهمًا في عدم وضوح هذه الانقسامات حتي الآن.
إن موجة الإدانة للمطالب الاجتماعية للعمال والموظفين التي بدأت تنتشر في مختلف وسائل الإعلام، والتي لا تخلو من التحريض المكشوف ضدها، تؤكد حدة هذا الانقسام كما تشير إلي المناورة الأخيرة التي تهدف إلي قمع الثورة واختزالها إلي انتفاضة سياسية لا تحقق إلا مصالح قطاع من النخبة التي عانت من العزلة والتهميش تحت حكم الديكتاتور المخلوع.
غير أن هذه الاحتجاجات والإضرابات العمالية تمثل الضمانة الحقيقية وربما الوحيدة لتحقيق تغيير جذري في النظام الذي ما زال حاكما، حتي وإن اهتزت الأرض تحت أقدامه بسبب الزلزال الذي أحدثته الانتفاضة الجماهيرية الباسلة.
إذا استطاعت هذه الإضرابات والاحتجاجات تنظيم صفوفها عبر انتخابات قاعدية بين العمال والموظفين وتكوين تشكيلات ديمقراطية ومجالس وهيئات نقابية علي مستوي المصنع والمؤسسة والقطاعات والأحياء والمدن، سوف تتطور قدراتها الفعلية علي إنشاء مؤسسات جديدة لنظام جديد يحقق الشعار الحقيقي الذي خرجت الجماهير في 25 يناير لتحقيقه »حرية، كرامة، عدالة اجتماعية«، وسوف تغير هذه المؤسسات موازين القوي علي الأرض وتتمكن من مواجهة بقايا النظام الحاكم والفاسدين في كل مؤسسة وفي كل مصنع وفي كل حي علي امتداد البلاد شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.
أما الاعتراف بمشروعية مطالب الجماهير مع الدعوة لتأجيلها إلي ما بعد المرحلة الانتقالية واستعادة النشاط الاقتصادي وخلافه، فهي دعوة منافقة في أقل تقدير لها، لأنها تتجاهل أن الجهاز الوحيد الذي حصل علي مطالب مالية، نتيجة مظاهرات من هذا النوع هو جهاز الشرطة الذي تمت زيادة حوافز ضباطه وأفراده بنسبة %100 فورا، مما يكشف عن طبيعة ما يعد للجماهير في هذه المرحلة الانتقالية من إعادة بناء أجهزة القمع.
أكثر الادعاءات تطرفا في مواجهة الإضرابات والاحتجاجات العمالية تمثل في الأكاذيب الفاشية التي تزعم أن محركها الآن هو الحزب الوطني وجهاز مباحث أمن الدولة لإحداث ثورة مضادة! ويتجاهل مروجو هذه الأكاذيب أن احتجاجات المواطنين وإضرابات العمال لم تتوقف منذ عدة أعوام قبل انتفاضة 25 يناير وكانت تواجه بشراسة من أجهزة القمع التي قتلت منهم عددا قبل ذلك كما قتلت العديد من شهداء 25 يناير، كما يتجاهلون أيضا أن هذه الإضرابات والاحتجاجات كانت تطالب بمواجهة الفساد ومقاومة الحزب الوطني ورموزه حتي إن إضراب المحلة في عام 2008 كان يطالب بإسقاط حسني مبارك.
وكل ما حدث في هذه الاحتجاجات والإضرابات أن ازدادات زخما وانتشارًا وثقة في القدرة علي تحقيق أهدافها بعد انتصار الانتفاضة ونجاحها في خلع الديكتاتور السابق، وهو أمر طبيعي جدا ويحدث في كل الثورات وليس استثناء. إن الثورة المضادة- إذا صحت التسمية- تجهز حاليا من خلال محاولة اختزال حركة الجماهير في بعض الإصلاحات السياسية الشكلية والتضحية ببعض رموز الفساد التي ارتبطت بعهد حسني مبارك دون المساس بجوهر النظام القائم علي الاستغلال والظلم الاجتماعي في مواجهة مطالب الحركة الجماهيرية بتحقيق العدالة الاجتماعية.

ليست هناك تعليقات: