الثلاثاء، 18 سبتمبر 2018

رأسمالية الزومبي – كريس هارمان – الفصل العاشر: رأس المال العالمي في العصر الجديد – ترجمة رمضان متولي


 الفصل العاشر

رأس المال العالمي في العصر الجديد
التدفق عبر الحدود
إن عقود الوهم الكبير كانت عقودا تدفق فيها رأس المال خارج الحدود القومية في التجارة والاستثمار والإنتاج. وبحلول عام 2007، كان تدفق التجارة الدولية أكبر من حجم التجارة الدولية في عام 1950 بثلاثين مرة، بينما كان حجم الناتج أكبر من نظيره بثمان مرات فقط.(1) وحلقت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر: فزادت من 37 مليار دولار في عام 1982 إلى 1200 مليار دولار في عام 2006(2)؛ وارتفع المخزون التراكمي من الاستثمار الأجنبي المباشر من 4 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي في عام 1950 (أي ما يقل عن نصف أرقام عام 1913) إلى 36 بالمئة في عام 2007.(3) كما انطلقت كذلك عملية التنظيم المباشر للإنتاج عبر الحدود الوطنية بصورة يندر أن نجد مثلها في الماضي، وأصبحت الشركات متعددة الجنسية النموذج المقبول عامة للمؤسسة الرأسمالية الكبيرة.(4)
أما حركة التمويل عبر الحدود القومية، التي انخفضت انخفاضا حادا منذ أزمة ثلاثينيات القرن العشرين، فقد حققت الآن نموا صاروخيا، مع تخلي الحكومات عن ضوابط أسعار الصرف كجزء من عملية أوسع لإزالة القيود. ومع منتصف ثمانينيات القرن العشرين كان الاتجاه بين "المصرفيين هو تصميم استراتيجيات جديدة، وصلت بالنسبة لمعظمهم" إلى "تأسيس تواجد كبير في المراكز المالية الرئيسية مثل لندن ونيويورك وطوكيو، وبعض المراكز الثانوية كذلك."(5) فكان تكاثر وانتشار عمليات الاندماج بين البنوك. وقامت مؤسسة هونج كونج وشنغهاي المصرفية القديمة الراسخة بالاستحواذ على واحد من "الخمسة الكبار" في البنوك البريطانية، ونقلت مقرها الرئيسي إلى لندن وانطلقت من هناك للاستحواذ على بنوك في عدد من البلدان. واستحوذ البنكان الإسبانيان الكبيران، بنك بيلباو فيزكايا وبنك سانتاندير، على حصة كبيرة جدا من النظام المصرفي في كثير من بلدان أمريكا اللاتينية، حتى أنهما وحدهما يملكان ما يقرب من ثلث الأصول في أكبر 20 بنكا(6) ثم تفرعت أعمالهما إلى أنماط أخرى من النشاط، مثل أنشطة "بنوك الاستثمار والتأمين، وتحديدا المشاركة في إدارة صناديق المعاشات"، بالاستحواذ على "حصة الأقلية في بعض المؤسسات غير المالية، وبشكل أساسي في قطاعات ينشط فيها كثيرا مستثمرون آخرون من إسبانيا (مثل قطاعي الاتصالات والطاقة)"(7).
عملية التركز (Concentration) في الأنشطة الصناعية عبر الحدود الوطنية كانت تسير على التوازي. فالشركات الضخمة التي برزت في البلدان الصناعية القديمة خلال الفترة السابقة، غالبا تحت رعاية الدولة، أصبحت الآن قادرة لا على السيطرة على أسواقها الوطنية فحسب وإنما أيضا على اقتناص أجزاء واسعة من السوق العالمية. ولا تستطيع الشركات المنافسة لها أن تستمر إلا إذا توجهت نحو تعبئة الموارد على نطاق عالمي، أي إذا أصبحت هي أيضا متعددة الجنسية، لا فقط فيما يتعلق بالتجارة وإنما كذلك فيما يتعلق بالإنتاج. وقد أصبحت أكثر الشركات نجاحا في كثير من الصناعات الرئيسية هي تلك التي لديها استراتيجيات عالمية في التطوير والإنتاج والتسويق، تقوم على الاستحواذ على شركات في بلاد أخرى  أو الاندماج أو تأسيس تحالفات استراتيجية معها.
في صناعة السيارات، أقامت شركات السيارات اليابانية مراكز إنتاج لها في الولايات المتحدة، تنتج عددا من السيارات يتجاوز إنتاج ثالثة أكبر الشركات الأمريكية، أي شركة كرايسلر؛ وبدأت شركة رينو الفرنسية المؤممة سلسلة من عمليات الاستحواذ في الولايات المتحدة بادئة بشركة أميركان موتورز الصغيرة ورابعة الشركات الأمريكية في القطاع؛ واستحوذت شركة فولفو على إنتاج سيارات النقل الثقيل من شركة جنرال موتورز في الولايات المتحدة؛ وقامت شركتا فورد وفولكس فاجن بدمج مصنعيهما في البرازيل لإنتاج السيارات؛ وشيدت شركة نيسان مصنعا للتجميع في شمال شرق انجلترا لتنتج مئات الآلاف من السيارات سنويا، بينما قامت هوندا بشراء حصة بنسبة 20 بالمئة في شركة روفر. وفي صناعة الإطارات، جعلت الشركة الفرنسية ميشيلان من نفسها أكبر شركة لإنتاج الإطارات في العالم عبر الاستحواذ على شركة يونيرويال جودريتش في الولايات المتحدة عام 1988. واستمرت هذه العملية خلال تسعينيات القرن العشرين وبداية العقد الأول من الألفية الجديدة. فاستحوذت شركة مرسيدس بنز على شركة كرايسلر (قبل أن تبيعها مرة أخرى في عام 2007)؛ وشكلت شركة رينو "تحالفا" مع شركة نيسان (بأن اشترت 44.5 بالمئة منها، بينما اشترت نيسان 15 بالمئة من رينو) وأصبح للتحالف رئيس تنفيذي مشترك؛ واشترت شركة جنرال موتورز شركة ساب، وحصلت على حصص بنسبة 20 بالمئة في شركة سوزوكي، وشركة سوبارو وشركة فيات، واستحوذت على 42 بالمئة من شركة دايو؛ واستحوذت مجموعة تاتا الهندية على شركة كورس للصلب الأنجلو-هولندية (والتي تشكلت عبر استحواذ سابق على شركة بريتيش ستيل بعد خصخصتها)؛ وكانت نصف صادرات الصين التي تنمو سريعا تنتجها شركات تملك الشركات الغربية متعددة الجنسية على الأقل جزءا منها؛ شركة AVIC 1 الصينية كانت تورد دفة التوجيه لطائرة الأحلام 787 التي تنتجها شركة بوينج وتقدم عروضا لشراء ستة مصانع تابعة لشركة إيرباص ومطروحة في المزاد في أوروبا؛ وشركة إيروفلوت الروسية قدمت عرضا لشراء شركة الطيران الإيطالية أليتاليا. وهذه مجرد عينة عشوائية من موجة عمليات الاستحواذ واتفاقيات التعاون العالمية التي كانت تنشر عنها جريدة الفايننشال تايمز يوميا.
إذا كانت الشركة الرأسمالية النموذجية في عقود أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن العشرين هي تلك التي تلعب دورا مسيطرا في اقتصاد قومي محدد، ففي بداية القرن الحادي والعشرين أصبحت هذه الشركة النموذجية هي تلك التي تعمل في عدد أو أكثر من البلدان – ولا تقوم بمجرد بيع منتجاتها خارج بلدها الأم وإنما كذلك الإنتاج في الخارج. وكانت أكبرها تستخدم موارد اقتصادية أكثر كثيرا من دول عديدة. "إن 29 من أكبر 100 كيان اقتصادي في العالم شركات عابرة للقومية"،(8) حسب تقرير صدر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية- الأونكتاد. ولم تكن عملية تفرع الشركات الوطنية إلى الخارج وتمددها في بقية العالم قاصرة على البلدان الصناعية المتقدمة. بل تأثرت بها بلدان العالم الثالث والبلدان حديثة التصنيع التي سبق أن اتجهت عملية دولنة الصناعة فيها (تحول الصناعة إلى ملكية وسيطرة الدولة – المترجم) لأن تتجاوز عملية الدولنة في الغرب، كما رأينا في الفصل السابع. وقد زادت عملية التفرع والامتداد للخارج في حدتها مع كل إعادة هيكلة للصناعة تحدث في كل أزمة وقعت في تلك السنوات عندما قامت الشركات بتخفيض إنتاجها، وإغلاق المصانع والاندماج مع شركات أخرى.
أساطير وحقائق
بحلول تسعينيات القرن العشرين عمدت هذه العملية برمتها تحت اسم "العولمة". وقد وضعت في حزمة واحدة مع الليبرالية الجديدة كتمثيل لمرحلة كاملة جديدة للرأسمالية – كانت بالنسبة للمتحمسين لها مرحلة تختلف تمام الاختلاف عن أي مرحلة سابقة. فكانوا لا يعتقدون فقط أن العالم ينبغي أن ينظم بما يلائم حرية تدفق رأس المال دون أي تدخل من الحكومات، وإنما أن ذلك قد تحقق فعلا.
نحن نعيش، كما يقولون، في عصر رأس المال متعدد الجنسية (أو أحيانا عابر القومية)، عصر تنقل فيه الشركات إنتاجها إن شاءت إلى أي مكان يمكن الإنتاج فيه بأرخص التكاليف. إنه عالم الإنتاج "عديم الوزن"، كما تردد بإصرار بعض الأصوات النافذة، حيث تزيد أهمية برمجيات الكمبيوتر والإنترنت على "صناعات طرق المعادن على النمط القديم"، وحيث الحركية المطلقة لرأس المال باعدت تماما بينه وبين الاعتماد على الدول. كان هذا جزءا لا يتجزأ من النموذج الاقتصادي الجديد الذي يفترض أنه أطلق دينامية جديدة في أعقاب فشل الكينزية، وتوجيه الدولة، و"الاشتراكية" على النمط السوفييتي. وأعلن كينيث كلارك، أحد وزراء بريطانيا عن حزب المحافظين، أن "جنسية الشركات تصبح غير ذات شأن على نحو متزايد".(10) كما أعلنت مجلة بيزنيس ويك أن هذا عصر "الشركات التي بلا دولة".(11)
كثيرون ممن رفضوا نظرية العولمة السائدة تقبلوا رغم ذلك كثيرا من افتراضاتها. هكذا كتبت فيفيان فورستر عن "العالم الجديد تماما الذي تسيطر عليه السيبرنطيقا والأتمتة والتكنولوجيات الثورية بدون أي صلات حقيقية مع ’عالم العمل’"(12)؛ وتحدثت ناعومي كلاين عن "نظام من المصانع المتنقلة التي تستخدم عمالا رحلا"(13)؛ وتحدث جون هولواي عن رأس مال يمتلك القدرة على "أن ينتقل من جهة من العالم إلى الجهة الأخرى خلال ثوان"(14).
إن صورة النظام العالمي الذي لم تعد تلعب فيه الدولة دورا مركزيا كان لها نتيجة طبيعية تلازمها، هي فكرة أن الحروب التي سادت معظم سنوات القرن العشرين أصبحت شأنا من شئون الماضي. وقد أعلن جورج بوش الأب بعد انهيار الكتلة الشرقية وانتصار الولايات المتحدة في الحرب الأولى ضد العراق، أن العالم على مشارف "نظام عالمي جديد".(15) وأعطى فرانسيس فوكوياما هذا الكلام مسحة أكاديمية براقة بإعلانه عن "نهاية التاريخ".
بل أن مفكرين ارتبطوا طويلا باليسار وصلوا إلى استنتاج بأن رأس المال في المرحلة الجديدة لم يعد بحاجة إلى الدولة، وقد أدار ظهره للحرب نتيجة ذلك. وكتب نايجل هاريس عن "ضعف الاندفاع نحو الحرب" لأنه "مع فك الارتباط قليلا بين الدول ورأس المال، تضعف الضغوط نحو الحرب العالمية قليلا."(16) وقد ذهب كل من لاش ويوري أبعد كثيرا من ذلك ولم يتضمن كلامهما ذكرا للإنفاق العسكري عند تحليلهما لعالم "ما بعد الحديث لرأسمالية لا تخضع لتنظيم".(17)
غاب عن كل هذه الأفكار القطعية المختلفة عن العولمة أي إدراك حقيقي لكيف كانت العلاقات بين رؤوس الأموال والدول تتطور من الناحية الفعلية. لأن رؤوس الأموال لم تكن أكثر رغبة أو قدرة على قطع علاقاتها بالدول مما كانت عليه في زمن الحرب العالمية الأولى. ربما أصبحت هذه العلاقات أكثر تعقيدا، ولكنها احتفظت بأهميتها الحاسمة.  
ينبغي أن يكون ذلك أكثر وضوحا في حالة رأس المال الإنتاجي. فهو لا يستطيع ببساطة أن يكون على نفس الدرجة من القدرة على الانتقال والحركة كما تزعم نظرية العولمة. وما زالت المصانع والآلات، والمناجم والموانئ والمكاتب وغيرها تستغرق أعواما في بنائها، تماما كما كانت في المرحلة السابقة من الرأسمالية، ولا يمكن التقاطها ونقلها ببساطة إلى مكان آخر. تستطيع الشركات أحيانا أن تنقل الآلات والمعدات. لكن هذه العملية عادة عملية مرهقة، وقبل أن تستطيع العمل في مكان آخر، تضطر الشركة إلى توظيف أو تدريب ما يكفي من القوى العاملة الماهرة. وفي سياق ذلك، لا تضطر فقط إلى شطب قيمة الاستثمار في المباني القديمة، وإنما كذلك لا تحصل على عائد على الاستثمار في الآلات. كما أن عددا قليلا جدا من العمليات الإنتاجية تتسم بالاكتفاء ذاتيا والاستقلال الكامل. فعمليات الإنتاج، كما رأينا في الفصل الرابع، تمتد جذورها في مجمعات للإنتاج وتعتمد على مدخلات من خارجها وحلقات اتصال بشبكات التوزيع. فإذا أقدمت شركة على تأسيس مصنع للسيارات، عليها أن تتأكد من وجود مصادر آمنة للصواميل والمسامير، والصلب بالجودة المناسبة، وقوة عمل بالمستوى المناسب من التدريب، وإمدادات كافية من الكهرباء والماء، ونظام مالي جدير بالثقة، ومصرفيين متعاونين، وشبكة من الطرق والسكك الحديدية قادرة على نقل منتجاتها النهائية. وعليها أن تقنع أشخاصا آخرين، أو شركات أخرى أو حكومات بتوفير هذه الأشياء، ويمكن أن تستغرق عملية جمعهم شهورا أو حتى سنوات من التفاوض، بما تتضمنه من المحاولة والخطأ علاوة على التخطيط المستقبلي. ولذلك تفضل الشركات عادة عند إعادة الهيكلة طريقة "التدرج" – بالانتقال قطعة قطعة من المصنع القديم إلى مصنع جديد، والاحتفاظ بشبكات التوزيع والإمداد القديمة دون مساس، والتقليل إلى الحد الأدنى من أثر الانتقال على "المجمع" الذي يحيط بها. ولذلك استغرقت فورد عامين تقريبا في تنفيذ قرارها في عام 2000 بإغلاق مصنع تجميع لها في داجنهام ونقل الإنتاج إلى مكان آخر في أوروبا. وعندما أعلنت شركة كادبوري شويبس "ترشيد" نشاطها العالمي بما في ذلك إغلاق بعضه في يونيو 2007، قالت إنها تتوقع أن يستغرق ذلك ثلاث سنوات للتنفيذ.
وحتى مع رأس المال في صورته النقدية، لا توجد حرية حركة خالصة. فكما تلاحظ سوزان دو برونهوف:
"رغم أن تدفقات مالية ضخمة من رأس المال الجوال تطوف يوميا حول العالم، لا توجد سوق واحدة عالمية لرأس المال. فلا يوجد سعر عالمي واحد للفائدة، كما لا توجد أسعار عالمية واحدة للبضائع المنتجة…والأصول المالية مقومة بعملات مختلفة، وهي عملات لا تمثل "بدائل محكمة" لبعضها والأخرى.(18)
ديك برايان طرح فكرة شبيهة:
"إن قطاع التمويل الدولي يقدم صورة واضحة عن مركزية الجنسية في التراكم العالمي. فقد وفر الجمع بين تكنولوجيا الأقمار الصناعية والكمبيوتر… وجميع الشروط التقنية المسبقة "لسوق تنافسية كاملة" ونيوكلاسيكية للتدفقات المالية حتى تحقق التعادل في معدلات العائد، متجاوزة للحدود الوطنية. ومع ذلك … يحتفظ قطاع التمويل بخصائص وطنية. فلا ينتقل بصورة منتظمة من مكان لآخر بما يؤدي إلى التعادل بين الادخار والاستثمار.  إن نظاما ماليا عالميا يتكون من عملات تحدد وطنيا يشير إلى أن العولمة لا يمكن أن تكون خالية من البعد القومي."(19)
في كل عام تنشر منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (اليونكتاد) قائمة بأكبر مئة شركة متعددة الجنسية و"مؤشر عبور القومية" الخاص بها – أي نسبة مبيعاتها وأصولها واستثماراتها التي تقع خارج "بلدها الأم". وأحيانا ما يدعى أن هذه الأرقام تكشف عن مدى ضآلة اعتماد الشركات متعددة الجنسية على قاعدة قومية. وفي الحقيقة، يمكن النظر في هذه الأرقام بطريقة أخرى. ففي عام 2003، كانت أكبر خمسين شركة متعددة الجنسية ماتزال تعتمد على قاعدتها الوطنية فيما يزيد على نصف أعمالها. كما أن أعلى عشرين شركة في نسب مبيعاتها بالخارج كانت معظمها تنتمي إلى اقتصاد صغير مفتوح، مثل كندا واستراليا وسويسرا، أو أعضاء في الاتحاد الأوروبي، مثل فنلندا وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا والسويد، التي توجه مبيعاتها إلى الدول المجاورة القريبة. ولم تظهر أي من الشركات الأمريكية متعددة الجنسية في قائمة أكثر الشركات العالمية تعولما.(20)
متوسط عبور القومية عند كبرى الشركات العابرة للقومية في العالم في 2003:
أكبر مئة شركة عابرة للقومية            55.8%
أكبر خمسين شركة عابرة للقومية        47.8%
شركات قاعدتها في:
الولايات المتحدة                        45.8%                                                
المملكة المتحدة                         69.2%
اليابان                                  42.8%
فرنسا                                  59.5%
ألمانيا                                   49.0%
بلدان أوروبية صغيرة                   72.2%
إن انتشار عمليات الاندماج عابرة الحدود لم يعن أنها تمثل الشكل الوحيد أو حتى السائد في إعادة الهيكلة. بل إن هذه العمليات لا تمثل إلا ربع إجمالي عمليات الاندماج (21) – وكثير منها لم تكن ناجحة.(22) كما أن نسبة صغيرة فقط من الاستثمار العالمي كانت عابرة للحدود القومية. ويكشف تيم كوشلين أن مخزون الاستثمارات الأجنبية المباشرة الأمريكي يمثل "حصة صغيرة نسبيا من إجمالي الاستثمار في الولايات المتحدة"، رغم أنه حقق "نموا كبيرا" من "32 مليار دولار في عام 1960 إلى 2063 مليار دولار في عام 2004"، حيث بلغ معدل تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر للخارج إلى إجمالي الاستثمار 7.3 بالمئة فقط.(23) كان هذا المعدل أعلى في مجال الصناعة التحويلية وقد بلغ 20.7 بالمئة – "لكنه كان منخفضا عن النسبة التي سجلت في عام 1994 وبلغت 35.4 بالمئة".(24) ويخلص من ذلك إلى: " أن عملية الاستثمار رغم أنها أصبحت عالمية على نحو متزايد… مازال تراكم رأس المال ظاهرة وطنية في جوهرها."(25) وأكثر من ذلك أن أرقام الاستثمار الأجنبي المباشر أعطت انطباعا مبالغا فيه حول إمكانية نقل القدرات الإنتاجية فضلا عن نقل ملكيتها. وقد أثبتت أرقام منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (اليونكتاد) ملاحظة أشار إليها ريكاردو بيلوفيور في نهاية تسعينيات القرن العشرين. فقد تضمن الاستثمار الأجنبي في معظمه شراء مؤسسات قائمة، لا إنشاء مؤسسات جديدة، بحيث أن:
"تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في الصناعة يهيمن عليها عمليات الاندماج والاستحواذ... بدلا من إنشاء قدرات إنتاجية جديدة: كما أن قسما كبيرا من الاستثمار الأجنبي المباشر استثمار غير إنتاجي، في مجالات التمويل والمضاربات."(26)
ركزت معظم الشركات متعددة الجنسية استثماراتها في بلد صناعي متقدم محدد وفي البلدان المجاورة له، ثم اعتمدت على حجم الاستثمار نفسه، وعلى الأبحاث والتطوير والإنتاج هناك، حتى تحصل على ميزة على جميع منافسيها. والاستثمار الأجنبي الذي حدث فعلا لم يكن بالضرورة "عالميا" في طابعه. "فكان 66 بالمئة من إنتاج الفروع الخارجية للشركات الأمريكية" يباع "محليا"، بمعنى أنه يباع داخل حدود البلد المحدد الذي يوجد به مقر أحد الفروع."(27)
كان ذلك اتجاها يقطع مع الأساس الوطني الغالب في الإنتاج دون أن يتحول، رغم ذلك، إلى الصورة النمطية عن الإنتاج المعولم. فقد تسعى شركة متعددة الجنسية إلى التغلب على عقبات التصدير إلى بلد معين عبر إقامة مصانع لها داخل حدودها – على نهج يسميه كل من رويجروك وفان لولدر عملية العولمة الموقعية glocalization .(28) وحتى إذا انطلقت "بمصانع المفكات"المخصصة فقط لتجميع المكونات المستوردة من البلد الأم للشركة المتعددة الجنسية، فإنها تنتهي إلى التوجه نحو الشركات المحلية للحصول على المكونات. وتحقق الشركة المتعددة الجنسية ربحا بسبب أن الشركات المحلية تتحول فعليا إلى أطراف تابعة لها، تمدها بالموارد وتقاتل من أجل مصالحها ضد المنافسين المحليين والإقليميين. بل إنها قد ترحب بإجراءات حمائية تتخذها الدولة التي تعمل بداخلها لأن ذلك سوف يحمي مبيعاتها من المنافسين العالميين.
أخفق منظرو العولمة في إدراك هذه التطورات. ومع ذلك فإنهم حاولوا في الأغلب تدعيم حجتهم عبر الإشارة إلى استثمارات مثل استثمارات شركات السيارات اليابانية في الولايات المتحدة وبريطانيا، والتي كانت تحديدا تتوافق مع هذه المسارات. وبنفس الطريقة، شددوا على "الإنتاج المرن" الذي يتميز به، مثلا، جزء من صناعة االملابس الإيطالية، وأساليب الإنتاج "الفوري" التي تصدرت في اليابان كنموذج للعولمة، رغم أنهما، كما يلاحظ مايكل مان بحق، يتعلقان بإنتاج محلي أو إقليمي لا بإنتاج معولم.(29)
إن عملية "التعهيد" عبر البحار التي تقوم بها شركات البلدان المتقدمة في أجزاء معينة من عمليات الإنتاج لديها أصبحت ظاهرة هامة، لكنها مازالت أضعف بكثير من الاعتقاد الشائع عنها. ففي بداية العقد الأول من الألفية، بلغت نسبة "المدخلات الأولية" (شاملة المواد الخام) 17.3 بالمئة من إجمالي الناتج بالولايات المتحدة.(30) وقدر كوشلين أن "التعهيد" بلغت نسبته "أقل من 4.8 بالمئة تقريبا من إجمالي المشتروات المحلية بالولايات المتحدة وأقل من 9 بالمئة تقريبا من الاستهلاك الواضح من السلع الصناعية."(31) وكشفت دراسة أخرى أن الانخفاض في "جداول أجور التوظيف بالصناعة" في بداية العقد الأول من الألفية لم "يتسبب فيه تدفق للواردات سواء من السلع أو الخدمات" وإنما كانت:
"بالأساس نتيجة لعدم كفاية النمو في الطلب المحلي مع وجود نمو قوي في الإنتاجية…وبقدر ما تسببت التجارة في تخفيض الوظائف في الصناعة، كان ضعف صادرات الولايات المتحدة بعد عام 2000، وليس الواردات، هو المسئول عن ذلك."(32)  
البنى المختلفة لرأس المال العالمي
إن النظريات الرائجة عن العولمة لم تبالغ في تقديرها لمدى قابلية رأس المال للحركة فحسب، وإنما أيضا قدمت صورة بها الكثير من التشوه لما تتضمنه هذه القابلية للحركة. وقد أوضح ألان روجمان أن من بين الشركات متعددة الجنسية الكبيرة:
"قليل جدا من الشركات "عالمية"، لديها استراتيجية "عالمية"، تعرف بالقدرة على بيع نفس المنتجات أو الخدمات في أنحاء العالم. بل إن جميع الشركات الخمسمائة الكبرى تقريبا تقوم على أساس إقليمي داخل أقاليمها الوطنية في "الثلاثي" أمريكا الشمالية، الاتحاد الأوروبي أو آسيا."(33)
إن نصف أكثر الشركات عولمة  في بداية العقد الأول من الألفية كانت لا تزال تعمل في أسواقها الإقليمية الوطنية – ومن بينها شركات فيفيندي، وبيرنو ريكار، ومؤسسة تومبسون، وستورا إنسو وأكزو نوبل، وفولفو، وشركة ABB، وفيليبس. وست شركات فقط من الشركات متعددة الجنسية تعمل بطريقة تشبه التوازن عبر ثلاث قارات على الأقل – وهي نستلة وهولسيم وروش ويونيليفر ودياجيو وشركة التبغ البريطانية الأمريكية.(34) ومعظم الشركات المملوكة لأجانب وتعمل في بلدان الاتحاد الأوروبي تنتمي إلى بلدان أخرى في الاتحاد الأوروبي، حيث كان الشكل المهيمن للملكية متعددة الجنسية "إقليميا"، وليس عالميا، مع "مسئولية الشركات التي تسيطر عليها الولايات المتحدة عن 4.5 بالمئة فقط من إجمالي القيمة المضافة في أوروبا."(35)
وقد خلص تشورتارياس وبلاجيديس في 2004 إلى أن:
"معظم الزيادة في تدفقات التجارة الدولية تنحصر فيما بين الكتل التجارية الثلاث المتطورة من الاقتصاد العالمي (الولايات المتحدة الأمريكية  والاتحاد الأوروبي و آسيا-اليابان). ويستمر جزء كبير من العالم مستبعدا من الازدهار التجاري. إن الواقع الناشئ هو عملية من الاندماج الإقليمي (أي أقلمة) لمجموعات أو كتل محددة من البلدان أكثر منها زيادة عالمية في تدفق التجارة العابرة للحدود وتداخل العملية الإنتاجية."(36)
 ورأى الاثنان أن "التجارة لم تبلغ بعد حد الانتشار على نطاق أوسع من البلاد، حتى بالمقارنة مع الماضي. ويكفي أن نتذكر أن واردات البلاد المتقدمة من البلاد النامية مازالت تبلغ نحو 2 بالمئة فقط من مجموع إجمالي الناتج المحلي في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)."(37) وكان الاستثناء الوحيد هو شرق آسيا، التي ستصبح أكثر أهمية بعد إجرائهما الدراسة مع نهاية القرن – فبحلول عام 2005 كانت صادرات الصين قد توسعت حتى بلغت أكثر من 7 بالمئة من إجمالي التجارة العالمية.
كان تدفق الاستثمارات كذلك يتركز داخل "الثلاثي" أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان. فخلال الفترة من عام 2002 وعام 2004 بلغ متوسط تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الاتحاد الأوربي نحو 300 مليار دولار سنويا. وبلغ إجمالي التدفقات في بقية العالم – أي "البلدان النامية" – 180 مليارا فقط، حصلت الصين (بما فيها هونج كونج) منها على الخمسين، وحصلت البرازيل والمكسيك على الخمس. كما أن نحو 89 بالمئة من المخزون التراكمي لتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر عالميا في عام 2004 كان في اقتصاد البلدان المتقدمة (نفس النسبة تقريبا في عام 1990)، وكان ثلثا هذه النسبة في أوروبا.(38)
لم يكن النمط السائد نمطا لتدفق سلس لرأس المال على امتداد عالمي متناغم. بل كان نمطا "متعرجا وعرا" يتركز في بعض البلدان والأقاليم، بطريقة لم تكن تدركها النظرة الفجة عن العولمة تماما، ولا التفسيرات التي أكدت على التكتلات الإقليمية، ولا تلك التي مازالت تتحدث فقط من منظور الاقتصادات القومية. إن المادة الإمبريقية يمكن النظر إليها بطرق مختلفة – تماما كما يمكن النظر إلى زجاجة باعتبارها نصف ممتلئة أو نصف فارغة. لكن واقع الرأسمالية يكمن في أنها لا يمكن اختزالها إلى وجه واحد من هذه الأوجه.
إن الشركات المختلفة تعمل على مستويات مختلفة. فبعض الشركات، وهي الغالبية من الناحية العددية البسيطة، مازالت تعمل داخل اقتصادات وطنية وتمد من داخلها أذرعا لها لترى ما يمكن أن تربحه من خلال البيع والشراء مع جيرانها. وشركات أخرى، عددها أقل ولكنها أقوى كثيرا، عملت على أساس إقليمي على نحو متزايد وتمددت خارجيا حتى تقتنص ما تستطيع في مناطق أخرى من العالم. وأقلية صغيرة من الشركات رأت أن مستقبلها في ظروف عولمية حقيقية. وحيث أن رؤوس الأموال في كل مستوى من هذه المستويات الثلاث كانت تبيع وتشتري، وتتحرك من أجل توسيع أسواقها، وتبحث عن مدخلات أرخص للإنتاج ومناطق أكثر ربحا للاستثمار، فقد أثر كل منها في الآخر وكذلك ارتطم كل منها بالآخر. لم تكن حصيلة ذلك نموذجا جديدا من نوع ما، وإنما كانت نموذجا سريع التغير والتحول باستمرار، يختل ويفسد كلما بدا على وشك تحقيق بعض الثبات. "فكل ما هو صلب" قد "ذاب في الهواء" كما قال ماركس – ولكن ليس بالطريقة التي تتبناها النظرية الفجة في العولمة. لأن رفيقة رأس المال القديمة، أي الدولة، كانت تتدخل في هذه العملية عند كل نقطة فاصلة.
الدول ورؤوس الأموال في عصر "العولمة"
إن جميع الدول الرأسمالية المتقدمة مازالت تحافظ على مستويات تاريخية عالية جدا من إنفاق الدولة، لم يجر تجاوزها تاريخيا إلا في زمن الحرب الشاملة. ورغم أن قطاع الشركات يشكو كثيرا من حجم الضرائب، فإنه لا يطرح العودة جديا إلى مستوى الإنفاق منذ قرن مضى. وسبب ذلك أن رؤوس الأموال اليوم، أبعد من أنها لا تحتاج إلى الدول، بل تحتاجها بنفس درجة احتياجها لها من قبل إن لم يكن أكثر.
فأولا تحتاجها لأن استمرار تركز رؤوس الأموال في مواقع جغرافية معينة يتطلب مرافق لا تتوفر تلقائيا من خلال نشاط السوق: مثل الشرطة، والنظام القضائي، وإطار يحد من غش بعض رؤوس الأموال من قبل أخرى، وتنظيم يضمن الحد الأدنى على الأقل لنظام الائتمان، وتوفير عملة تتسم بالاستقرار بهذا القدر أو ذاك. وبالإضافة إلى ذلك، تحتاج رؤوس الأموال أيضا بعض الوظائف التي تقوم بها الدولة خلال فترة الاقتصاد الموجه من الدولة: مثل تنظيم سوق العمل، وضمان إعادة إنتاج الجيل التالي من قوة العمل، وتوفير البنية الأساسية للنقل والاتصالات والمياه والكهرباء، وطرح العقود العسكرية. حتى الشركات متعددة الجنسية الكبيرة، التي يقع نصف إنتاجها ومبيعاتها أو أكثر في الخارج، مازالت تعتمد على نشاطها في مقرها الوطني في تحقيق أرباحها الأساسية، وبالتالي تعتمد على ما تستطيع الدولة أن تقدمه لها.  
علاوة على هذه الوظائف، تستمر أي دولة بتقديم دعم هائل لعملية التراكم المحلي لرؤوس أموالها – كان ذلك صحيحا منذ زمن طويل قبل التوجه الأخير نحو الكينزية. وبالتالي لعب البنتاجون دورا رئيسيا في إحياء صناعة الرقائق الإلكترونية الأمريكية في أواخر ثمانينيات القرن العشرين عبر ممارسة الضغوط على الشركات للاندماج فيما بينها وللاستثمار والابتكار(39) – وتلقى في ذلك تأييدا قويا من القطاع الصناعي:
أوضح هاك وورث من شركة سيركاس لوجيك: "أن وجود نوع من الرؤية المركزية ضروري في الاقتصاد العالمي اليوم." ووافقه كوريجان من شركة إل إس أي لوجيك قائلا: "من الضروري أن يكون لدى أحدهم استراتيجية صناعية لهذا البلد."(40)
كانت نتيجة تلك الاستراتيجية أن أكبر شركة لصناعة أشباه الموصلات في العالم بحلول نهاية تسعينيات القرن العشرين لم تكن شركة إن إي سي (اليابانية) وإنما شركة إنتل (الأمريكية)، مع حلول شركتي موتورولا وتكساس إنسترامنتس (وهما أمريكيتان) في المركزين الثالث والخامس. كما نجحت الدولة في الولايات المتحدة في تحقيق ترشيد مماثل لصناعة الطيران الأمريكية، والذي  توج باندماج شركتي بوينج وماكدونل دوجلاس في شركة واحدة سيطرت على 60 بالمئة من مبيعات الطائرات المدنية عالميا، وضخت إنتاجا من الطائرات العسكرية بلغ في ضخامته ضعف إنتاج صناعة الطيران الأوروبية كلها. وكما قالت جريدة نيويورك تايمز "إن إدارة الرئيس كلينتون نجحت بقدر كبير في تحويل العقود العسكرية الأمريكية إلى أدوات تجعل الاقتصاد أكثر تنافسية عالميا."(41)
إن تدويل نشاط الشركات يؤدي إلى زيادة اعتمادها على دعم الدولة، وليس العكس، من ناحية شديدة الأهمية. فالشركات تحتاج إلى حماية لمصالحها العالمية. وتصبح مجموعة كبيرة من الأمور أكثر أهمية بالنسبة لها مما كانت في العقود الأولى التي أعقبت الحرب: مثل إجراء المفاوضات التجارية لدخول أسواق جديدة، وأسعار الصرف بين العملات، وتخصيص العقود من قبل الحكومات الأجنبية، والحماية ضد مصادرة الأصول الأجنبية، والدفاع عن حقوق الملكية الفكرية، والإلزام بسداد الديون الخارجية. ولا توجد دولة عالمية تتولى القيام بهذه المهام. ولذلك أصبحت قدرة أي دولة قومية على إجبار الدول الأخرى على احترام مصالح رؤوس الأموال المنتمية إليها أكثر أهمية، وليست أقل.
إن تعويم أسعار الصرف بين العملات الرئيسية يعني أن قدرة أي حكومة على التأثير على قيمة عملتها الخاصة قد يكون لها تأثير هائل على القدرة التنافسية عالميا للشركات التي تعمل داخل حدودها. وقد اتضح ذلك، على سبيل المثال، في "اتفاق بلازا" لعام 1985، عندما أقنعت الولايات المتحدة حكومات أوروبا واليابان بالتعاون معها في زيادة قيمة الين أمام الدولار. وفي أعقاب ذلك حققت مبيعات الشركات الأمريكية عالميا "أسرع معدلات نمو لها خلال فترة ما بعد الحرب، لتنطلق محلقة بمعدل سنوي بلغ 10.6 بالمئة بين عامي 1985 و 1990."(42) كما اتضح مرة أخرى عندما أعطى القرار السياسي للحكومة التي وصلت إلى السلطة في أعقاب الانتفاضة الأرجنتينية في ديسمبر 2001 بتخفيض العملة بنسبة 75 بالمئة دفعة هائلة لرؤوس الأموال الزراعية والصناعية التي تعمل داخل البلاد.(43)
إن تغيرا في أسعار الصرف يغير كمية القيمة العالمية التي تحصل عليها شركة تعمل داخل اقتصاد وطني ما مقابل العمل الذي استخدمته في إنتاج السلع. وكما يشرح ديك برايان:
"إن سعر الصرف أحد المحددات الهامة في توزيع فائض القيمة بين رؤوس الأموال… ولأن الدول القومية تضطلع بمسئولية التناسب العالمي لعملاتها، فإن العولمة … لا تتعلق بتقويض البعد القومي لعملية التراكم. في الواقع، إن العولمة لا تعني حتى أن البعد القومي يظل "عالقا" في عملية من التحلل البطئ. فالتراكم على المستوى العالمي يعيد فعليا إنتاج البعد القومي، وإن كل يفعل ذلك بطرق مختلفة عن العهود السابقة."(44)
ومرة أخرى، تتضح نفس الأهمية المركزية للدول في مفاوضات التجارة الدولية التي تجرى من خلال منظمة التجارة العالمية. حيث تجتمع الدولة كممثلة لرؤوس الأموال التي تتجمع داخل حدودها. ولإن الشركات المختلفة لديها مصالح مختلفة، سوف تتطلع إلى الدول التي تملك تأثيرا عليها لتحقيق هذه المصالح. ينطبق ذلك تماما على الشركات التي تسعى إلى تحقيق هيمنة عالمية عبر التجارة الحرة مثلما ينطبق على تلك الشركات التي تميل نحو الحمائية. فكلها تعتمد على دولتـ"ـها" في إقناع دول أخرى حتى تتركها تحقق مآربها. لذلك فإن دولة الولايات المتحدة سلاح جوهري لشركات مثل مايكروسوفت وجلاكسوسميث كلاين أو مونسانتو في الحصول على مدفوعات الإتاوة الضخمة التي تأتيها من اعتراف العالم بحقوق الملكية الفكرية لصالحها. وبنفس الطريقة فإن السلطة المالية التي تمارسها من خلال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تضمن القروض الخارجية التي تقدمها البنوك الأمريكية – كما تساعد الشركات الصناعية التي تتخذ مقرها في الولايات المتحدة على التربح من الأزمات التي تواجه دولا أصغر، كما حدث عندما سيطرت كل من شركة فورد وشركة جنرال موتورز على اثنتين من شركات السيارات الكورية في فترة الأزمة الآسيوية.(45)
كما أن الاندماجات الدولية لا تبرهن على تدهور أهمية الدول. فأحد جوانب جدوى هذه الاندماجات أن تصبح الشركة متعددة الجنسية قادرة على مد نفوذها من دولتها الأم إلى دول أخرى. وتقوم الشركات الأمريكية واليابانية بالاستثمار في بلدان أوروبا الغربية حتى تكون قادرة على "اجتياز" الحدود الوطنية وبالتالي التأثير على سياسات هذه الدول والمجموعة الأوربية من الداخل؛ ومن هنا يأتي مشهد الشركات الأمريكية متعددة الجنسية في أوائل تسعينيات القرن الماضي، مثل شركتا فورد وجنرال موتورز، وهي تمارس ضغوطا على الحكومات الأوروبية لتتخذ إجراءات تحد من استيراد السيارات اليابانية؛ ومن هنا يأتي كذلك مشهد الشركات اليابانية وهي تتفاوض مع الدولة البريطانية للحصول على دعم لإقامة مصانع لتجميع السيارات. إن الشركة العملاقة لا تقطع علاقتها مع الدولة، بل إنها تكثر من عدد الدول – وشبكات الرأسمالية الوطنية – التي ترتبط بعلاقات معها.
يتضح استمرار أهمية تلك العلاقات أكثر ما يتضح أثناء الأزمات الاقتصادية والمالية. لأن الدول وحدها هي من تستطيع تعبئة الموارد اللازمة لمنع إفلاس بنك أو شركة عملاقة – ومنعها أن تجر معها نحو الانهيار مجمعات مالية أو صناعية كاملة. إن تاريخ هذه الأزمات منذ أوائل سبعينيات القرن العشرين هو تاريخ قيام الدول بإنقاذ الشركات المأزومة أو ممارسة ضغوط على بعض الشركات للقيام "بعمليات للإنقاذ" حتى تحافظ على تعويم الشركات الأخرى. ولأن مرحلة العولمة هي مرحلة من اندلاع أزمات أكبر كثيرا من أزمات عقود ما بعد الحرب، فإن اعتماد الشركات على الحكومات في "عمليات الإنقاذ" تلك يزيد كثيرا عما سبق. وكما سنرى في الفصل القادم، كشفت عملية تحويل أزمة الائتمان لعام 2007 إلى الأزمة المصرفية الكبرى في عام 2008 إلى أي مدى أصبح هذا الاعتماد كبيرا.  
إن الخلاصة العامة يجب أن تكون أن الشركات، سواء متعددة الجنسية أو شركات أخرى، لا تعتبر وجود دولة تدافع عن مصالحها فكرة تجاوزها الزمن تقوم على الحنين إلى الماضي، بل ضرورة عاجلة تنبع من موقفها التنافسي القائم حاليا.
لم يكن النظام الذي أعقب رأسمالية الدولة التي سادت في منتصف القرن العشرين نوعا من رأسمالية بلا دولة، بل كان نظاما تعتمد فيه رؤوس الأموال على دولـ"ـتها" قدر اعتمادها من قبل، ولكنها تسعى إلى الانتشار خارجها لإقامة علاقات مع رؤوس أموال ترتبط بدول أخرى. وفي سياق هذه العملية، أصبح النظام ككل أكثر فوضوية. فليس الوضع كما لو أن شركات منفردة لديها مطالب بسيطة تطرحها ببساطة على دول منفردة. لأن شركة تعمل على نطاق دولي، فإن أحد أقسامها قد يقيم علاقات مع دولة بعينها ومجموعات رأس المال المرتبطة بها، بينما أقسام أخرى لنفس الشركة ربما تقوم بإقامة علاقات أخرى مع دول أخرى ومجموعات رأس المال بها. كما أن أجهزة دولة معينة ربما تفقد كثيرا من تناغمها عندما تحاول أجزاء منها أن تلبي مطالب رؤوس أموال مختلفة تتنافس فيما بينها. إن الخطط العالمية والإقليمية والوطنية، وكذلك الخطط المحلية في حالة الدول الكبيرة (لتجمعات جغرافية معينة لرؤوس الأموال المحلية)، تصطدم مع بعضها الأخرى، فينتج عن ذلك احتكاك – وفي بعض الأحيان شروخ عميقة – داخل البنية السياسية-الاقتصادية الوطنية. وهذا ما حدث خلال الأزمة طويلة الأمد داخل الحزب التقليدي للطبقة الحاكمة في بريطانيا، أي حزب المحافظين، على مدى تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من الألفية: فكانت نزاعاته تعكس صداما بين من اعتبروا أن مستقبل الرأسمالية البريطانية مرتبط بالولايات المتحدة ومن رأوا أن مستقبلها يعتمد على الاندماج في أوروبا (وهو الصدام نفسه الذي يعكس وضع الرأسمالية البريطانية في أن غالبية تجارتها مع أوروبا بينما نصف استثماراتها الخارجية في الولايات المتحدة).
إن أولئك الذين يعتبرون الدول القومية أثرا من آثار الماضي غالبا يتحدثون عن ظهور "طبقة رأسمالية عالمية" سيكون لها كأمر مرتبط بها "دولة رأسمالية عالمية"(46). وهؤلاء يعجزون عن الإدراك الحقيقي لفكرة ماركس القائلة بأنه عندما "لا تعود المسألة مسألة مشاركة في الأرباح، وإنما اقتسام الخسائر … تتحول الأخوة العملية للطبقة الرأسمالية إلى معركة بين أخوة أعداء"، نتيجتها "تحسمها القوة والخداع."(47) وعندما يتعلق الأمر باستخدام القوة، فإن الدولة القومية أداة جاهزة للاستخدام. إن الصراع بين الدول، بدرجة تزيد أو تقل، نتيجة حتمية عندما تصبح المنافسة الاقتصادية مسألة حياة أو موت بالنسبة للشركات العملاقة. وهذه حقيقة قائمة في الحاضر كما كانت قائمة في عصر لينين وبوخارين، حتى وإن كان وضع الارتباط الداخلي بين دوائر التراكم الرأسمالي قوميا وإقليميا وعالميا يؤثر على كيفية استخدام هذه الأداة.
ومازالت هذه الممارسة للضغوط بواسطة دول على دول أخرى تتطلب تعبئة "لهيئات كبيرة من الرجال المسلحين"، يدعمها إنفاق هائل على المعدات العسكرية – بالتوازي مع تلك الوسائل "غير العنيفة" مثل المساعدة الاقتصادية، والحظر التجاري، وعرض علاقات تجارية مميزة، والرشوة الفجة. في كثير من الأحيان قد يكون هذا الدور خاملا لا نشطا. فالقوة التي تحافظ على درجة معينة من التأثير والنفوذ قد لا تنشأ الحاجة لاستخدامها طالما أن أحدا لا يجرؤ على تحديها – كما هو الحال بالنسبة لخطر التدمير المتبادل والمؤكد بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الذي منع تقدم أي منهما في مناطق نفوذ الأخرى في أوروبا أثناء الحرب الباردة. مرة أخرى، قد تلعب القوة دورا غير مباشر بدلا من الدور المباشر مثل تهديد الولايات المتحدة الضمني لقوى أوروبا الغربية واليابان بعدم مساعدتها عسكريا أثناء سنوات الحرب الباردة إلا إذا امتثلت للأهداف الأمريكية. غير أن عنف الدولة ظل عاملا ضروريا في خلفية المشهد في تلك الحالات. وفي ذلك تكمن استمرارية الإمبريالية التي حللها كل من لينين وبوخارين. وحتى في الوقت الراهن، فإن حكام روسيا والصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية – وفي هذا الشأن أيضا حكام بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة – يعتبرون أن امتلاك الأسلحة النووية هو خط الدفاع الأخير النهائي ضد أعدائهم.
ليس التفاعل بين القوى العظمى ذلك التوافق السلمي بين الأمم الذي يحلم به بعض حواريي الليبرالية الجديدة وحرية التجارة. فهناك مصالح متناقضة، مع وجود القوة العسكرية لتتعامل معها كسلاح وملاذ أخير. غير أن فرقا يظل قائما بين الوضع الحالي والعقود الأربعة الأولى من القرن العشرين. فالأوضاع خلال تلك العقود انتهت إلى حروب ألحقت الدمار بعقر ديار القوى العظمى. وقد أدت التوترات منذ عام 1945 ألى تراكم أكوام هائلة من الأسلحة التي من الممكن إطلاقها ضد مراكز القوى العظمى. لكن الحروب الساخنة كانت تخاض خارجها، وعادة في مناطق العالم الثالث.
أحد أسباب ذلك كان أثر "الردع"، أي الخوف من أن شن الحرب على أي قوة نووية سوف يؤدي إلى تدمير الاقتصاد المحلي بأكمله وكذلك معظم الشعب. سبب آخر كان التداخل ذاته فيما بين الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة الذي يمثل ضغطا على الدول لاستخدام القوة خارج حدودها الخاصة. فقليل جدا من الرأسماليين يريدون من دولتهم الوطنية أن تدمر أجزاء ضخمة من ممتلكاتهم في دول أخرى – ومعظم هذه الممتلكات تكون في بلدان رأسمالية متقدمة أخرى.
لا يستبعد ذلك اندلاع الحرب استبعادا كاملا. فقد كان الاقتصاد الرأسمالي على درجة عالية من التدويل في عام 1914، لكن ذلك لم يمنع من اندلاع حرب شاملة. ومرة أخرى في عام 1941، لم يمنع وجود مصانع فورد ومنافذ كوكاكولا في ألمانيا إعلان الولايات المتحدة الحرب بعد واقعة ميناء بيرل هاربور. غير أن ذلك يجعل لدى الدول حافزا على تجنب هذه الصراعات إذا استطاعت – وأن تسوي الخلافات بينها في مناطق أخرى من العالم أقل تصنيعا. ومن هنا، كانت السنوات منذ عام 1945 تتسم باندلاع حرب بعد أخرى، ولكن بعيدا عن أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية واليابان. وكانت الحروب في أغلب الحالات "حروبا بالوكالة" بين أنظمة محلية تدين بهذا القدر أو ذاك بولاء لقوى عظمى معينة، وإن كانت غير تابعة لها تبعية كاملة.
كان ذلك هو المنطق الذي دفع الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن العشرين إلى تقديم دعم ضمني للعراق في حربه الطويلة ضد إيران وإلى إمداد المجاهدين الذين يحاربون الاحتلال الروسي لأفغانستان بالأسلحة الحديثة. وقد تحقق منطق شبيه في البلقان في تسعينيات القرن العشرين عندما أدت محاولة النمسا الحصول على مكاسب من استقلال سلوفينيا عن يوغسلافيا إلى تشجيع ألمانيا استقلال الكروات ثم تشجيع الولايات المتحدة استقلال البوسنيين، حتى وإن كانت نتيجة ذلك حتما اندلاع صراع عرقي مرير.
كانت أشد المعاناة سوءا  نتيجة حروب الوكالة ربما في أفريقيا. فخلال العقد ونصف العقد الأخير من الحرب الباردة دعمت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي أطرافا متصارعة في الحروب والحروب الأهلية كجزء من مساعيهما للفوز بمزايا استراتيجية على بعضهما الآخر. وفي تسعينيات القرن الماضي تنافست الولايات المتحدة وفرنسا على النفوذ في إفريقيا الوسطى. فقد دعمتا أطرافا متصارعة في الحرب ومعها الحرب الأهلية التي اندلعت في المناطق الحدودية من تنزانيا ورواندا وبوروندي والكونغو زائير. وقد ساعدتا في إطلاق كارثة نتج عنها إجمالا ثلاثة أو أربعة ملايين قتيل. في هذه المواقع برزت جيوش تعمل لحسابها الخاص وكان قوادها يقلدون القوى الإمبريالية الكبرى على مستوى صغير وذلك بشن الحروب من أجل تحقيق الثراء لأنفسهم. وكانت الامبريالية تعني تشجيع الحكام المحليين للانخراط في أشد الحروب والحروب الأهلية دموية – ثم في بعض الأحوال إرسال قوات غربية حتى تفرض " السلام" عندما تبلغ الفوضى درجة تهدد بالإضرار بالمصالح الغربية. إن التناقضات التي تنشأ عن العداءات الإمبريالية البينية عند الدول الرأسمالية المتقدمة بهذه الطريقة تأتي بأعنف صور الدمار في المناطق الأفقر من العالم.
من حقبة الأزمة الجديدة إلى الإمبريالية الجديدة
كان نمط الإمبريالية القديم يتمثل في تحالفات من دول ذات مستويات متقاربة من القدرات العسكرية أو الاقتصادية تدخل في مواجهة مع بعضها الأخرى. أما اليوم فهناك تفاوت كبير حتى بين الدول الأكبر عندما يتعلق الأمر بقدرتها على دفع مصالح رؤوس الأموال المحلية القائمة داخلها. في قمة هذه التراتبية هي الدولة التي تمتلك القدرة الأعظم على تحقيق مأربها، أي الولايات المتحدة. وفي أدناها الدول شديدة الضعف، التي تأمل في أن تستطيع أن تحصل على مزايا من الدول التي تعلوها. أما الدول التي تقع في الوسط فإنها تتنقل بين التشاحن مع بعضها البعض حول موقعها في النظام التراتبي العالمي أو تشكيل أحلاف مؤقتة أملا في فرض تنازلات على الدول التي تعلوها في هذه التراتبية.
إن هذه التراتبية لا يمكن أن تكون مستقرة. فالتفاوت في معدلات النمو الاقتصادي (أو الانكماش أحيانا) في حقبة من الأزمات المتكررة يعني أن ميزان القوى بين مختلف الدول يتغير دائما، ما يؤدي إلى التنافس على إظهار القوة بين تلك الدول التي تريد أن تتقدم إلى مكانة أعلى في هذه التراتبية وتلك التي تريد أن تبقي عليها في مواضعها. تتورط الدول الضعيفة في صراعات مع جيرانها، ما يجر إليها الدول القوية التي تتحالف معها، بينما الدول القوية تجد في التدخل الرمزي في الدول الضعيفة "المارقة" سبيلا للحصول على ميزة على دول قوية أخرى.
ويأتي أكبر مصدر لعدم الاستقرار من مساعي الولايات المتحدة إلى تعزيز موقعها في صدارة النظام التراتبي العالمي بصورة دائمة. وقد بدا هذا الموقع حصينا ومنيعا في نهاية الحرب العالمية الثانية. غير أن الولايات المتحدة في العقود التالية خشيت من تحديات متعاقبة من دول أخرى كانت تنمو بوتيرة أسرع كثيرا من نموها. فكان ينظر إلى روسيا كتهديد اقتصادي (وكذلك عسكري) في خمسينيات القرن الماضي، وإن بدا ذلك حاليا ضربا من العبث، وكانت اليابان هي التهديد في ثمانينيات القرن العشرين، ومؤخرا أصبحت الصين مصدر الخطر. إن إصرار الولايات المتحدة على عدم خسارة موقعها يفسر هذا المستوى الهائل في إنفاقها على السلاح والحروب التي أشعلتها في الجنوب العالمي.
وقد بدأ حجم المشكلات التي واجهتها يضربها في الداخل أولا في أواخر ستينيات القرن العشرين عندما اكتشفت الطبقة الحاكمة الأمريكية أنها لا تستطيع أن تتحمل التكلفة المتصاعدة لمحاولة تحقيق نصر شامل في فييتنام. أصبح تاريخ الرأسمالية الأمريكية مذاك وإلى حد كبير تاريخا لمحاولات استعادة موقعها القديم، في خضم عالم يتسم بتكرار الأزمات الاقتصادية وتدهور عام في معدلات التراكم. وتضمنت هذه المحاولات مراحل متبادلة من تخفيض الإنفاق على السلاح كنسبة من إجمالي الناتج في محاولة لتخفيف الصعوبات الاقتصادية (من أواخر ستينيات القرن العشرين حتى أواخر السبعينيات، ومن أواخر الثمانينيات وحتى عام 2000)، إلى زيادة الإنفاق العسكري اعتقادا بأن ذلك قد يعزز القوة العالمية للولايات المتحدة وكذلك أداء شركات أمريكية بعينها (في أوائل ومنتصف ثمانينيات القرن العشرين، ومن عام 2000 حتى عام 2008). وفي جميع هذه المراحل حققت دولة الولايات المتحدة بعض المكاسب لصالح رؤوس الأموال التي تعمل داخلها. لكن هذه المكاسب لم تكن كافية في أي مرحلة من المراحل لتعويض تدهورها النسبي على المدى الطويل تعويضا كاملا.  
ربما كان ينتظر من نهاية التحدي العسكري من الاتحاد السوفييتي والتحدي الاقتصادي من اليابان أن يستعيد ثقة الطبقة الحاكمة للولايات المتحدة في قوتها العالمية في تسعينيات القرن العشرين. لكن القلق كان يساور استراتيجييها بشأن المستقبل. كان منطقهم أن غياب الخوف من الاتحاد السوفييتي الذي يجعل القوى الأوروبية تلتزم الصف، يرجح أن تقاوم هذه القوى مطالب الولايات المتحدة أكثر مما في الماضي – كما تبين من خلال المفاوضات شديدة الصعوبة في جلسات منظمة التجارة العالمية. وفي الشرق كان نمو الاقتصاد الصيني يحتل مكان التحدي السابق من قبل اليابان. وقد عبر هنري كيسنجر كتابة عام 1994 عما يساوره من قلق، قائلا:
"إن موقف الولايات المتحدة من الناحية الفعلية ليس أفضل من موقفها في بداية الحرب الباردة من حيث قدرتها على أن تقوم منفردة بإملاء الأجندة العالمية… سوف تواجه الولايات المتحدة منافسة اقتصادية من نوع لم تشهده أبدا خلال الحرب الباردة… فالصين في سبيلها لأن تبلغ مكانة القوة العظمى… وسوف يقترب إجمالي الناتج القومي للصين من مستوى الناتج القومي للولايات المتحدة بحلول نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وقبل ذلك بفترة طويلة سوف تلقي الصين بظلها على آسيا."(48)
وأكثر من ذلك أن خمسة وعشرين عاما من زيادة تدويل عمليات التمويل والاستثمار والتجارة والإنتاج جعلت الولايات المتحدة عرضة لتأثير أحداث تقع وراء حدودها. وتحتاج شركاتها الكبرى متعددة الجنسية إلى نوع من السياسة تمكن قوة الدولة الأمريكية من السيطرة على هذه الأحداث. وبالفعل، مع اقتراب انتهاء إدارة كلينتون كانت هناك تحركات باتجاه سياسة خارجية أكثر شراسة أعدت لتحقيق ذلك، مع الاندفاع في توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) داخل أوروبا الشرقية، غير أن ذلك لم يكن كافيا بالنسبة لمجموعة من السياسيين الجمهوريين ورجال الأعمال والأكاديميين – في مشروع المحافظين الجدد سيء السمعة، "مشروع القرن الأمريكي الجديد"، الذي تشكل في أواخر تسعينيات القرن الماضي.  وكانت نقطة انطلاقهم هي الإصرار على أن السبيل إلى وقف "تدهور القوة الأمريكية" هو العودة إلى سياسة "ريجانية" تقوم على زيادة كبيرة في الإنفاق العسكري، وبناء نظام دفاع صاروخي، وتحرك للتعامل مع "التهديدات" الآتية من "الديكتاتوريات" في الصين وصربيا والعراق وإيران وكوريا الشمالية.(49) "بعد أن قادت الغرب إلى الانتصار في الحرب الباردة، تواجه أمريكا فرصة وتحديا. ونحن الآن أمام خطر تبديد هذه الفرصة والإخفاق في مواجهة التحدي."(50)
انتصار الجمهوريين في انتخابات عام 2000، ثم حالة الذعر القومي التي تسبب فيها تدمير برجي مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر منحا المحافظين فرصة لتطبيق سياستهم.         
وقد بلغت هذه السياسة في الممارسة حد زيادة بناء القوة العسكرية للولايات المتحدة – ثم استخدامها لتأكيد وتدعيم هيمنتها العالمية ضد جميع القادمين الجدد. وكان الهدف من زيادة الإنفاق على السلاح وتخفيض الضرائب تخفيضا هائلا لصالح الأغنياء إخراج الولايات المتحدة من الركود الاقتصادي، تماما كما فعلت سياسة "الكينزية العسكرية" لريجان قبل ذلك بعشرين عاما. فزيادة الإنفاق على السلاح سوف تؤدي إلى الانتعاش من الركود، وتعزيز المنح العسكرية لتمويل التقدم التقني في شركات الكمبيوتر والبرمجيات والطيران، وإلى زيادة القدرة على إملاء السياسات على طبقات حاكمة أخرى – وكل ذلك تسدده زيادة أكبر في تدفقات الاستثمار إلى الولايات المتحدة إذ تقوم باستعراض قوتها الفائقة. كان الهدف أن تحقق الولايات المتحدة ما هو أكثر من التعويض عن خسارتها ريادتها السابقة في المنافسة في السوق عبر استخدام الأداة الوحيدة التي تملكها ولا تملكها القوى الأخرى – أي القوة العسكرية الكاسحة. وكان ذلك بمثابة نسخة محدثة من منطق الإمبريالية الذي وصفه بوخارين في أوائل عشرينيات القرن الماضي، مع فارق أن الدول الرأسمالية المنافسة لن يتم إجبارها على الرضوخ عن طريق شن حروب مباشرة ضدها، وإنما عن طريق الكشف عن قدرة الولايات المتحدة على ممارسة السلطة العالمية من خلال حروب تشنها هي والدول التابعة لها في جنوب العالم.
ومن هنا يأتي الهجوم على أفغانستان ثم، بعد ثمانية عشر شهرا، على العراق. كان "المحافظون الجدد" يعتقدون أن لديهم فرصة محكمة لاستعراض مدى القوة العسكرية الخالصة للولايات المتحدة ولزيادة سيطرتها على المادة الأولية رقم واحد في العالم، وهي النفط. وهذا ما سيضعف القدرة التفاوضية لدى دول أوروبا الغربية واليابان والصين، لأنها ستكون على الأقل جزئيا معتمدة على الولايات المتحدة في إمداداتها النفطية. وقام ذلك على افتراض أنها ستكسب الحرب عبر قليل من زيادة استعراض القوة الجوية الأمريكية بتكلفة قليلة جدا. وبدا أن ذلك سبيلا ناجعا إلى تحقيق الأهداف المشتركة عند من يديرون الشركات الأمريكية، وصوت الديمقراطيون في الكونجرس تأييدا للحرب.
وقد كانت مقامرة، أصبح واضحا بحلول ربيع 2004 أنها تسير إلى الفشل على نحو خطير. حققت الولايات المتحدة السيطرة على كابول وبغداد بسهولة ويسر. لكن قواتها على الأرض لم تكن قادرة على منع تصاعد المقاومة في العراق – وتنامي النفوذ الإيراني هناك. وخلال عامين آخرين، واجهت كذلك مقاومة كبيرة من حركة طالبان التي استعادت نشاطها في أفغانستان.
في بداية الأمر، بدا أن التحول نحو الكينزية العسكرية ناجح من الناحية الاقتصادية. وبصورة غير متوقعة، حدث انتعاش سريع من ركود عامي 2001-2002: "بلغ متوسط الإنفاق العسكري رسميا من عام 2001-2005 نسبة 42 بالمئة من إجمالي الاستثمار الخاص في غير أغراض السكن" و "الأرقام الرسمية… تستبعد الكثير مما ينبغي ضمه إلى الإنفاق العسكري."(51) كل ذلك وفر أسواقا، في المدى القصير، لقطاعات من الصناعة الأمريكية. غير أن المستوى المرتفع للإنفاق العسكري سرعان ما كشف عن نفس الآثار السلبية التي كشف عنها قبل ذلك أثناء حرب فييتنام وأثناء إدارة ريجان. فقد أدى إلى زيادة الطلب في الاقتصاد دون زيادة القدرة التنافسية العالمية إجمالا وهكذا تسبب في تضخم العجز التجاري وكذلك عجز الموازنة. وبحلول عام 2006، كان التزامن بين الارتفاع الكبير في التكاليف العسكرية ومخاطر الهزيمة في العراق يثير قلق قطاعات هامة من الطبقة الحاكمة. وأعرب تقرير صدر عام 2006 عن مجموعة دراسة العراق، التي ترأسها كل من جيمس بيكر القيادي الكبير في الحزب الجمهوري ولي هاميلتون وهو كذلك قيادي كبير في الحزب الديمقراطي، عن شديد الأسى لنزيف "الدم والثروة" مع تقدير للتكاليف التي تكبدتها رأسمالية الولايات المتحدة في مغامرة العراق بلغ في ضخامته نحو 1000 مليار جنيه استرليني (تعادل ناتج سبعة أشهر من الاقتصاد البريطاني).(52)
في نفس الوقت كانت دول أخرى – ورؤوس الأموال التي تنتمي إليها – قادرة على انتهاز فرصة الضعف الملحوظ للولايات المتحدة لتعزيز مواقعها الخاصة. فرفضت أهم دول غرب أوروبا وهما فرنسا وألمانيا تأييد حرب العراق في عام 2003 على خلاف موقفهما في حرب العراق في عام 1991. وقد رأت الدولة الفرنسية بخاصة في إضعاف نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط فرصة لدفع مصالح رأس المال الفرنسي في مناطق تصطدم فيها مصالحه مع مصالح رأس المال الأمريكي. وكانت الصين قادرة على الاستفادة من تورط الولايات المتحدة في العراق وفي أفغانستان في توسيع نفوذها الخاص، خاصة في إفريقيا وفي أمريكا اللاتينية. جرى ذلك بالتزامن مع نمو العلاقات التجارية حيث تطلعت إلى واردات المعادن من أفريقيا والواردات الزراعية من البرازيل والأرجنتين وتشيلي. وسرعان ما شرعت روسيا كذلك في تحريك عضلاتها التي ضعفت نوعا ما، بعد أن سمحت لها الزيادة في إيرادات النفط بأن تنتعش من الانهيار الاقتصادي في العقود السابقة وأن تمارس ضغوطا على بعض الجمهوريات السوفيتية السابقة الأخرى؛ وانتهزت إيران فرصة الانتكاسات الأمريكية لتعزيز قدراتها في العراق ولبنان؛ وشكلت مجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) تحالفا مؤقتا لدفع مصالحها التجارية المشتركة في مواجهة كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ما أدى إلى شلل جولة الدوحة للمفاوضات التجارية والتي كانت الشركات الأمريكية تأمل منها في الحصول على فرص أسهل للدخول في الأسواق الخارجية. واكتشفت الولايات المتحدة عندما شنت ثلاث من الدول التابعة لها حروبا من أجل أهداف تدعمها – إسرائيل في لبنان 2006، إثيوبيا في الصومال 2007، وجورجيا ضد أوسيتيا في 2008 – أنها لم تكن في وضع يجعلها قادرة على حماية هذه الدول من مواجهة الهزيمة.
المحللون الذين كانوا منذ فترة طويلة سابقة يصرون على أن انهيار الاتحاد السوفييتي خلف "عالما أحادي القطب" فيه قوة عظمى واحدة، بدأوا يتحدثون عن "تعدد الأقطاب"، فيه الولايات المتحدة لا تستطيع بلوغ مآربها إلا عبر تقديم تنازلات لقوى أخرى. بعضهم اعتقد أن ذلك يعني عالما أكثر سلمية. غير أن تعددية الأقطاب تعني عالما من الدول ورؤوس الأموال المرتبطة بها لديها مصالح مختلفة ومستعدة لفرضها على الأخرى عندما تحين لها الفرصة. إنها التعددية القطبية التي تتعزز فيها العوامل الضاغطة في الإمبريالية القديمة في نفس اللحظة التي يصبح فيها نجاحها أكثر صعوبة. وباختصار، إنه عالم محاصر بالعديد من الضغوط المتناقضة ومضطر، لذلك، على أن يشهد أزمة سياسية عنيفة بعد أخرى. وقد أصبح ذلك واضحا عندما مهد الوهم الاقتصادي العظيم الطريق أمام أزمة إقتصادية عظيمة.