الأحد، 31 يوليو 2016

رأسمالية الزومبي – الفصل الثاني: ماركس ونقاده – تأليف كريس هارمان

ترجمة: رمضان متولي

الفصل الثاني
ماركس ونقاده
نقد الكلاسيكيين الجدد لنظريته في القيمة:
تعرضت نظرية ماركس في القيمة لهجوم مستمر منذ أول نشر لكتاب رأس المال. وأكثر الأشكال التي يتخذها هذا الهجوم شيوعا هو الادعاء بأن رأس المال مثل العمل يخلق القيمة. فعلى أي حال، كما يقولون، أي عامل يستخدم آلة ينتج أكثر كثيرا من عامل لا يستخدم الآلة، كما أن العمال دائما يجري استبدالهم بالآلات التي تقوم بنفس العمل. بل يمكن أن نتصور اقتصادا تقوم فيه الآلات بكل الأعمال. وهكذا يجادل الاقتصاديون النيوكلاسيك بأن رأس المال أيضا وليس العمل وحده يشارك في إنتاج أشياء تلبي حاجة الإنسان. وكما يحصل العمل على أجر لقاء ما ساهم به في إنتاج الثروة، كذلك يحصل رأس المال. وكل "عنصر من عناصر الانتاج" يحصل على "عائد" يساوي "إنتاجيته الحدية".
تنطوي هذه الفكرة الموجهة ضد ماركس على مغالطة محورية، بأنها تقوم على صورة استاتيكية سطحية عن الاقتصاد يوجد فيها رأس المال والعمل أحدهما إلى جانب الآخر. وتتجاهل حقيقة واضحة وملموسة مفادها أن الخامات ووسائل الإنتاج نفسها يتم إنتاجها. فليست الآلات ومباني المصنع أشياء وجدت من تلقاء نفسها، وإنما منتجات لعمل إنساني سابق. وعربة اليد التي تساعد العامل في عمله هي نفسها نتاج لكد عامل التعدين. لهذا السبب أطلق ماركس على وسائل الانتاج مصطلح "العمل الميت" (في مقابل العمل الحالي الذي أطلق عليه "العمل الحي"). فهي منتجات لعمل وقع سابقا – وعند الضرورة يمكن تكرار إنتاجها باستخدام العمل اليوم. وتتحدد قيمتها الحالية بكمية العمل الضروري اجتماعيا المطلوب لإعادة إنتاجها.
إن إغفال النظرية النيوكلاسيكية أن تضع في اعتبارها إنتاج العمل لوسائل الإنتاج ليس خطأ عارضا. بل قام مؤسسو هذه النظرية في أواخر القرن التاسع عشر – وبينهم منجر و بوم-بافرك من النمسا، جيفونز ومارشال في بريطانيا، والفرنسي ولراس، والإيطالي باريتو، والأمريكي كلارك – بدمج فرضية النظام الاستاتيكي في نظريتهم. ونظروا إلى الاقتصاد بكامله كما لو كان سوقا في شارع حيث يقوم المشترون بحساب مجموعة السلع التي تحقق لهم أفضل قيمة مقابل الأموال التي يمتلكونها في جيوبهم، فيما يقوم البائعون بحساب أفضل سعر يمكنهم أن يحصلوا عليه لكل سلعة يبيعونها. والتفاوض المتبادل بين البائع والمشتري حول السعر الذي يقبله كل منهما للمنتج يؤدي إلى بيع جميع السلع، ولأن كل بائع هو بدوره مشتر من شخص ما اشترى من شخص آخر، فإن شبكة كاملة من الأسعار تتكون بما يضمن أن ما يجري إنتاجه هو بالضبط ما يريده الناس. وقد حاول والراس أن يوضح كيف يحدث ذلك في اقتصاد قومي في مئات الصفحات من المعادلات والرسوم البيانية.
هذا المدخل ككل ينطوي على نظرة غير حقيقية تماما عن الرأسمالية. فأيا ما كانت الرأسمالية، تظل دائما نظاما غير استاتيكي. وفي السوق الحقيقية، لا يحدث أن يتفق الناس فورا على أسعار بيع وشراء السلع. أما النظرية النيوكلاسيكية فتفترض أن الناس يستطيعون الاتفاق الفوري على أسعار المنتجات عبر توسط مزاد مركزي. وفي الحياة الحقيقية، تستغرق عملية التفاوض والمساومة غالبا وقتا طويلا، ويحدث الوصول إلى أسعار تشمل السوق كلها عبر عمليات تعديل متتابعة. وما أن نضع في اعتبارنا هذه الحقيقة حتى تظهر التباينات بين الأسعار الفعلية للسلع والأسعار التي تفترضها النظرية مسبقا.  فالإنتاج الفعلي للبضائع التي سوف تطرح بعد ذلك للبيع دائما عملية تستغرق وقتا. و"مؤشرات الأسعار" لا تبين لك ما سوف يريده الناس عندما ينتهي الإنتاج، ولكن ما كانوا يريدونه قبل أن يبدأ. التزامن الكامن في هذه النظرية مجرد خرافة، والمعادلات المتزامنة التي وضعت على أساس افتراضاتها لا علاقة بينها وبين الرأسمالية الموجودة فعلا.
كيف كان إذن رد فعل مؤسسي النظرية الاقتصادية النيوكلاسيكية عند مواجهة حقيقة أن الانتاج يستغرق وقتا؟ لم يسمحوا لهذه الحقيقة أن تؤثر على نظريتهم قيد أنملة. فقد أقر والراس، على سبيل المثال، بأن "عملية الانتاج تتطلب فترة معينة من الزمن"، لكنه كتب بعدها أنه سوف يتعامل مع "هذه الصعوبة ببساطة وتجرد بتجاهل عامل الزمن عند هذه النقطة"؛ وعندما عاد إلى هذه المسألة كان رده هو افتراض "بقاء البيانات ثابتة خلال فترة معينة من الزمن" – كما لو أن تغير كامل الجهاز الانتاجي مع النمو الاقتصادي لن يترتب عليه تغير مستمر في هيكل العرض والطلب. أما مارشال فقد ذهب إلى أبعد من ذلك بأن أقر بأن "الزمن هو مصدر كثير من الصعوبات الكبرى التي تواجه علم الاقتصاد،" لأن "التغيرات التي تطرأ على حجم وطرق وتكاليف الانتاج تتأثر ببعضها البعض بشكل متواصل." لكن ذلك لم يدفعه إلى التوقف عن تدريس هذه النظرية ويعتبرها جيل كامل من الاقتصاديين من التيار السائد برهانا على كفاءة وفعالية رأسمالية السوق. وفي أوائل خمسينيات القرن الماضي، أنتج كينيث أرو وجيرارد دبرو طبعة محدثة من نموذج والراس الرياضي حاولت أن تأخذ عامل الزمن في حسابها، لكن أرو نفسه اعترف بأن هذا النموذج لا يعمل "إلا إذا افترضت انعدام أي تقدم تكنولوجي، وأي نمو في عدد السكان، وكثير من الأمور الأخرى."
إن رفض المدرسة النيوكلاسيكية إدراك هذه النقطة الأساسية بأن الرأسمالية كنظام يمر بتحولات مستمرة تؤدي إلى اختلال هيكل الأسعار القديم وتمنع تحقيق أي توازن مستقر يعني أن هذه المدرسة على أفضل تقدير تقدم وصفا تبريريا عن الأوضاع كما هي في نقطة معينة من الزمن، ولا تقدم تحليلا للتطورات الاقتصادية ودينامياتها.  
إن نظرية القيمة التي تتبناها المدرسة النيوكلاسيكية، وتستخدمها في معارضة نظريات سميث وريكاردو وماركس، تتعلق بالمنفعة التي توفرها السلعة – أي الكيفية التي يقيم بها الأفراد هذه السلعة مقارنة بالسلع الأخرى. لكن هذه النظرية تترك تماما مسألة تحديد الأساس الذي تقاس عليه المنفعة بالنسبة لأحد الأشخاص مقارنة مع آخر. فكيف تقيس "منفعة" كوب من الماء بالنسبة لشخص في الصحراء مقارنة "بمنفعة" تاج مرصع بالماس بالنسبة لأميرة؟ أقصى ما يمكن أن تفعل هو أن تعد قائمة بتفضيلات الأفراد. ولكن حتى تبين سبب أن تفضيلات بعض الأفراد تحظى باهتمام أكبر من تفضيلات آخرين عليك أن تبين سبب أن بعض الأفراد أكثر ثراءا من غيرهم – وهذا يعتمد على عوامل تختص بتركيب ودينامية المجتمع الرأسمالي، الأمر الذي تتجاهله نظرية "المنفعة".
الاقتصادي الإيطالي باريتو استبدل مصطلح "المنفعة - Utility" بمصطلح "الإشباع الاقتصادي – ophelimity"، ويرجع الاقتصادي الأمريكي المعاصر له إيرفينج فيشر سبب ذلك إلى أن "الجمهور الكبير الساذج وغير المتعلم ... يجد صعوبة في استيعاب القول بأن معطفا ما لم يعد حقا أكثر فائدة من قلادة للعنق، أو حجر الجلخ من عجلة الروليت." بعض منظري المدرسة النيوكلاسيكية المتأخرين أسقطوا من اعتبارهم أي نظرية حول القيمة من الأساس – وذلك رغم أن نظرية "المنفعة الحدية" مازالت تدرس في كتب المدارس والجامعات حتى اليوم باعتبارها الرد "الحديث" على نظرية العمل في القيمة.
لم ينجح الاقتصاديون النيوكلاسيك في بناء أساس موضوعي لنظريتهم في القيمة، رغم جهود أكثر من قرن من الزمان. ومع أن أي شخص طبعا في نهاية المطاف لابد أنه يريد استعمال الشئ إذا كان سيدفع ثمنه (أو على الأقل أن يستطيع بيعه إلى شخص آخر سوف يستعمله)، لكن ما يحدد سعر هذا الشئ ليس قيمته الاستعمالية. ولا نظرية "الإنتاجية الحدية" كما تعرفها المدرسة النيوكلاسيكية تستطيع أن تقدم لنا إجابة شافية.  يرى اقتصاديو هذه المدرسة أن الانتاجية الحدية تقاس بقيمة رأس المال الذي استهلك في إنتاجها، ولكن عندما يحددون قيمة رأس المال ذاك فإنهم يفعلون ذلك وفق الانتاجية الحدية. ومن الناحية الفعلية، ينتهون إلى القول بأن "القيمة الحدية لرأس المال تساوي القيمة الحدية لرأس المال" أو أن "الأرباح تساوي الأرباح."  ولا يمكن لهذا النوع من العبارات أن يفسر شيئا، وكل ما تقدمه هو أن تقرر أنه إذا كان شيء ما موجودا، فإنه موجود!
في واقع الأمر، لا يفعل علم الاقتصاد الأرثوذكسي أكثر من تقرير أن أشياء معينة تشترى وأشياء معينة تباع في الوقت الحاضر، ودون تفسير لماذا تنتج هذه الأشياء ولا تنتج أخرى، لماذا بعض الناس أغنياء وبعضهم فقراء، ولماذا بعض السلع تتراكم ولا تباع بينما لا يحصل عليها الناس الذين في أمس الحاجة إليها، ولا لماذا تحدث موجات الرخاء أحيانا والأزمات أحيانا أخرى.
وقد أثيرت هذه الانتقادات ضد المدرسة الحدية منذ أكثر من ثمانين عاما من قبل الماركسي النمساوي رودلف هيلفردينج والثوري الروسي نيكولاي بوخارين. ثم طرحها مؤخرا في شكل شديد الصرامة والدقة المنطقية عدد من الاقتصاديين الأكاديميين المنشقين المعروفين باسم "مدرسة كامبريدج". ولكن قدرة الاقتصاديين المنشقين على توضيح حماقات النظرية النيوكلاسيكية لم تضعف من قبضتها على علم الاقتصاد الأكاديمي.  بل إنها أدت ببساطة إلى استخدام مزيد من النماذج الرياضية البلهاء حتى تطرح نفسها في مظهر الصرامة العلمية. وكما أوضحت جوان روبنسون منذا خمسين عاما:
"إن فكرة المنفعة الكمية تبخرت منذ زمن بعيد، ولكن مازال شائعا صياغة نموذج تظهر فيه كميات من "رأس المال" دون أي إشارة إلى ما يفترض أنها كمية له. وتماما كما كان يجري تفادي مشكلة تحديد معنى عملياتي للمنفعة عبر وضعها في رسم بياني، كذلك فإن مشكلة تحديد معنى لكمية "رأس المال" يجري تفاديها عبر وضعها في معادلة جبرية."
أولئك الذين كانوا سيقبلون النسق النيوكلاسيكي لولا إقرارهم بالصعوبات التي تواجه نظريتهم اضطروا إلى محاولة تعزيزها في بعض المناسبات بعناصر من نظرية العمل في القيمة. هكذا اقترح مارشال بأن استخدام نظرية العمل في القيمة ربما يكون مفيدا في بعض الأحيان: "من الأفضل قياس القيمة الحقيقية للنقود لبعض الأغراض على أساس العمل بدلا من قياسها على أساس السلع"، رغم أنه سارع وأضاف: "إن هذه الصعوبة لن تؤثر على عملنا في هذا الجزء...." كما أن جون ماينارد كينز أدرك جزئيا حدود النسق النيوكلاسيكي ذاته الذي كان يسلم بفرضياته. فعند نقطة معينة في كتابه الأشهر، النظرية العامة في التوظف والنقود والفائدة، أقر بأنه لا يمكن ببساطة أن تضم مجموعات مختلفة من السلع المادية في نقطة محددة من الزمن وتقارنها بمجموعة مختلفة عنها في نقطة تالية. القيام بهذه المقارنات يتضمن "إجراء تعديلات سرا على القيمة". وحتى يتعامل مع هذه المشكلة، أسقط كينز من اعتباره الفرضيات المعتادة للنظرية النيوكلاسيكية وتحول جزئيا إلى نظرية العمل في القيمة، عندما قال بأنه يمكن قياس الناتج حسب "كمية التوظيف المصاحبة لكمية محددة من المعدات الرأسمالية." وأوضح لاحقا:
"إنني أميل إلى النظرية قبل-الكلاسيكية (كذا) في قولها بأن كل شيء ناتج عن العمل مدعوما بما كان يسمى فنا ويسمى حاليا تكنيك، وبالموارد الطبيعية .... وكذلك بمنتجات العمل الماضي التي تتجسد في الأصول..."
لم يكن مارشال ولا كينز مستعدين إلى الذهاب أبعد من ذلك ونبذ النسق النيوكلاسيكي بأكمله. لكنهما لو كانا قد تناولا ملاحظاتهما نفسها حول هذه النقاط بجدية ربما كان سيضطران إلى ذلك.
تقدم مواطن الخلل في النسق النيوكلاسيكي على الأقل برهانا سلبيا جزئيا على صحة مقاربة ماركس، لأن نظريته في القيمة تتلافى هذا النهج الستاتيكي الذاتي. نظرية ماركس موضوعية لأنها لا تعتمد على القييمات الفردية لأي سلعة، وإنما تستند إلى الكمية الضرورية من العمل المطلوبة لإنتاجها في ضوء مستوى التكنولوجيا القائمة في النظام ككل في نقطة محددة من الزمن – أي العمل الحي المباشر الذي يؤديه العامل وكذلك "العمل الميت" المتجسد في المعدات وخامات الانتاج التي استهلكت في عملية الانتاج. وبالنسبة لماركس، المهم هو الضغط الذي تمارسه رؤوس الأموال المختلفة على بعضها البعض لا تقديرات الأفراد، لأن أي رأسمالي يضع سعرا لسلعة ما عند مستوى أعلى من كمية العمل الضرورية اجتماعيا المطلوبة لإنتاجها سوف يدفع خارج النشاط قريبا. ولذلك فإن قانون القيمة قوة خارجية تمارس تأثيرها على كل رأسمالي عبر التفاعل بين كل الرأسماليين بمجرد وجود الانتاج المعمم للسلع من أجل التبادل عبر وسيط النقود. وقد كتب ماركس: لأن "الرأسماليين الأفراد يواجهون بعضهم الآخر باعتبارهم مجرد مالكين للسلع، فإن القانون الداخلي يفرض نفسه فقط عبر المنافسة، أي الضغوط المتبادلة التي يمارسها بعضهم على الآخر التي يجري بواسطتها إلغاء متبادل للتباينات."
لا يمكن فهم العلاقة بين رؤوس الأموال كشيء ثابت لا يطرأ عليه تغيير. إنها عملية ديناميكية تقوم على التفاعل عبر الزمن بين مختلف رؤوس الأموال، بحيث يكون متوسط "العمل الضروري اجتماعيا" في أي لحظة نتيجة لعمليات الانتاج الفردية التي يجري تنظيمها بصورة مستقلة عن بعضها الآخر بكميات مختلفة وغالبا متغيرة من العمل المادي الملموس. إن أول رأسمالي يقوم بإدخال تقنية جديدة في أي قطاع صناعي سوف يكون قادرا على إنتاج سلع باستخدام كميات من العمل أقل من الكمية السائدة في النظام ككل، وسوف يكون قادرا على اقتناص أسواق من الآخرين. ولكنه يخسر هذه الميزة بمجرد أن يقوم الرأسماليون الآخرون بتطبيق هذه التقنية. وحده الرأسمالي الذي يسيطر على جزء كبير جدا من سوق سلع معينة، أو الذي يستطيع ممارسة ضغط سياسي لمنع الآخرين من الدخول إلى أسواقه، سيكون قادرا على الإفلات لفترات تطول أو تقصر بأن يفرض أسعارا تعكس كميات من العمل أعلى من تلك الضرورية اجتماعيا. إن قانون القيمة لا يعمل إلا كمحصلة للضغوط التي تمارسها مختلف رؤوس الأموال على بعضها البعض عبر الزمن.  وأي صورة تلتقط ثابتة من هذا الشريط المتحرك للتطور الرأسمالي سوف تعكس دائما تباينات – أحيانا تكون كبيرة – عن قانون القيمة. ولكن الشريط نفسه سوف يكشف اختفاء هذه التباينات في النهاية تحت ضغوط المنافسة بين الرأسماليين حتى بينما تبدأ تباينات أخرى في الظهور.

القيمة والأسعار
إن هذا الجانب الديناميكي في نظرية ماركس هو ما يجعلها قادرة على التعامل مع مشكلة انتابت المحاولات التي بذلها سميث وريكاردو في تأسيس القيمة على العمل. هذه المشكلة هي أن معدل العمل إلى الاستثمار تختلف من صناعة إلى أخرى. غير أن معدل الربح (أي معدل فائض القيمة إلى الاستثمار) لا يختلف بنفس الطريقة، حتى عندما تكون الأجور في نفس المستوى بهذا القدر أو ذاك ويلزم أن يكون معدل الاستغلال تقريبا في نفس المستوى. ويبدو أن أسعار السلع لا تعتمد على كمية العمل الضروري اجتماعيا المطلوبة لإنتاجها وإنما على إضافة سعرية على تكلفة الاستثمار الرأسمالي. كما يبدو إنه كلما زاد رأس المال المستثمر كلما زادت الإضافة السعرية. فأي رأسمالي يبيع منتجا قام شخص واحد بإنتاجه بالعمل على آلة مرتفعة الثمن سوف يتوقع إضافة سعرية أعلى من الإضافة على منتج قام شخص واحد بإنتاجه بالعمل على آلة رخيصة الثمن. إن حقيقة أن بعض الصناعات تكون "كثيفة رأس المال" أكثر من الأخرى تتضمن أن الأسعار يجب أن تتباين عن القيم من حيث العمل حتى لا تكون الربحية أقل كثيرا في بعض الحالات عن الأخرى.   
هذا ما دفع آدم سميث إلى تخفيف نظرية القيمة في العمل لديه بمدخل آخر متناقض. إن بيع السلع يدر مالا مدفوعا يجري تقسيمه إلى "إيرادات" مختلفة – أي أجور للعمال، وأرباح للصناعي، وفائدة للمصرفي الذي قام بإقراض النقود للصناعي، وريع لمالك الأرض. ويناقض سميث نظريته الأولى عن القيمة القائمة على العمل بالادعاء بأن كلا من هذه الموارد تضيف إلى القيمة. وكان ديفيد ريكاردو أكثر اتساقا من سميث وحاول أن يلتزم بنظرية العمل نقية. ولكن ذلك ترك ثغرة في نظريته لم يستطع الاقتصاديون الذين جاءوا بعده حلها – وهي ثغرة فتحت الطريق في النهاية إلى تخلي النيوكلاسيكيين عن نظرية العمل في القيمة.
غير أن ماركس استطاع أن يعالج هذه المشكلة – التي يطلق عليها عادة "مشكلة التحول" – تحديدا بسبب أن نظريته ديناميكية تتحرك خلال الزمن. ويعتمد حل ماركس على النظر إلى كيفية رد فعل الشركات تجاه ظهور معدلات ربح مختلفة. الشركات التي تحقق معدلات ربح منخفضة سوف تبدأ في نقل رؤوس أموالها إلى مجال آخر. وسوف يؤدي ذلك إلى نقص محتمل في المجال الذي كانوا يعملون فيه، مما يؤدي إلى ارتفاع في الأسعار فوق مستوى قيمتها من حيث العمل. وسوف تضطر الشركات الأخرى التي تستخدم تلك المنتجات كمدخلات في عملية إنتاجها (سواء بصورة مباشرة أو عبر دفع أجور لعمالها لشراء تلك المنتجات لإعادة إنتاج قوة عملهم) إلى دفع الأسعار الأعلى، أي فعليا تقديم جزء من فائض القيمة الذي بحوزتهم عبر هذه العملية. إن تعادل معدل الربح يحدث من خلال إعادة توزيع فائض القيمة داخل الطبقة الرأسمالية. وهذا لا يغير بأي درجة من واقع أن فائض القيمة يأتي من استغلال العمال في المقام الأول، وأن كل تغير في وقت العمل الضروري اجتماعيا لإنتاج سلعة ما له تأثير على سعرها. إن تدفق فائض القيمة الذي أنتج فعليا من رأسمالي إلى آخر عبر الزمن هو ما يساوي بين معدلات الربح – وهذا ما يفسر أيضا إمكان وجود تباينات كبيرة بين معدلات الربح في أجزاء مختلفة من النظام عندما توجد عوائق أمام تدفق القيمة خلال النظام (على سبيل المثال، عندما تكون لدى الشركات كميات كبيرة جدا من الاستثمار مقيدة بلا حراك في أنواع معينة من رأس المال الثابت أو عندما تمنع الدول الاستثمار من الخروج من الصناعات التي تعتبرها ذات أولوية).  
تعرضت معالجة ماركس للمشكلة في نظرية سميث وريكاردو للهجوم خلال عامين فقط من ظهورها في الجزء الثالث من كتابه رأس المال من قبل بوم بافرك، الاقتصادي الذي ينتمي إلى المدرسة الحدية. ونفس الحجج التي استخدمها يتكرر توظيفها باستمرار منذ ذلك التاريخ. وغالبا ما تدفع الماركسيين إلى موقف دفاعي، وكثير منهم يتقبل جوهر نقده ويتراجع عن محاولة فهم ديناميات الرأسمالية باستخدام مفاهيم ماركس. وقد حدث ذلك على سبيل المثال فورا بعد انتعاش الاهتمام بالماركسية عقب أحداث 1968. وتبنت شخصيات يسارية مثل إيان ستيدمان و جيوف هودجسون أفكارا كانت في جوهرها نفس الأفكار التي استخدمها ضد ماركس بوم بافرك (وذلك رغم أنهما لم يتبنيا النظرية الحدية في القيمة) وخلفاؤه مثل صموئيلسون. وفي أغلب الأوقات، تراجعت المدرسية الماركسية، التي كانت في موقف دفاعي فعلا داخل كليات الاقتصاد في الجامعات لأسباب سياسية، إلى مجرد مساجلات أكاديمية حول النصوص أو إلى مجرد معادلات رياضية بلهاء بعيدة عن العالم الحقيقي بنفس درجة حسابات زملائهم ممن ينتمون للتيار السائد. وكانت النتيجة العامة، كما أوضح بن فاين، "ماركسية مغرقة في الأكاديمية بصورة حصرية" و "اشتباك محدود بعالم رأس المال مقارنة بالاشتباك مع كتاب رأس المال."
ويتركز نقد مقاربة ماركس حول الحجة القائلة بأن مجرد النظر إلى انتقال القيمة بين رؤوس الأموال بعد وقوع الانتاج لا يمكن أن يفسر الأسعار النهائية، لأنه لا يقدم تفسيرا لأسعار مدخلات الإنتاج (أي وسائل الإنتاج وقوة العمل)، لأن مدخلات الإنتاج نفسها سلع تختلف أسعارها عن قيمها. ويزعمون لذلك أن منهج ماركس يفسر الأسعار من حيث الأسعار لا من حيث قيمة العمل.
في عام 1907، حاول الاقتصادي الريكاردي فون بوركيفيتش أن يحل مشكلة استنباط الأسعار من قيمة العمل رياضيا باستخدام معادلات متزامنة. وقد استخدم نموذجا لا تتغير فيه كمية رأس المال المستثمر في دورة إنتاج عن التي تليها (ما يطلق عليه إعادة الإنتاج البسيطة). ويفترض أن معادلاته كشفت أن أي محاولة لتقديم طريقة يمكن تعميم تطبيقها في تحويل قيم العمل إلى أسعار تؤدي إلى خطأ في واحدة من "المعادلات" التي سلم بها ماركس. إما أن إجمالي الأسعار لا يساوي القيمة الإجمالية، أو أن إجمالي الأرباح لا يساوي إجمالي فائض القيمة.
كل محاولة لاستنباط الأسعار من القيم على مدى معظم القرن العشرين واجهت نفس المشكلة. وكان رد الماركسيين على ذلك إما بالتخلي عن الطابع المركزي لنظرية العمل في القيمة أو بالقول، مثل بول سويزي في عام 1942، بأن "المنهج الماركسي في التحويل ليس وافيا من الناحية المنطقية" غير أن "أنماط التطور" الخاصة بالقيمة والسعر "سوف تختلف فقط في تفاصيل طفيفة". – وقد توصل إلى نتيجة شبيهة بهذه إلى حد ما كل من ميجيل أنجيل جارسيا و أنور الشيخ بالإضافة إلى آخرين في أواخر عقد السبعينيات باستخدام نماذج رياضية أقل تعقيدا وأكثر سهولة في متابعتها من نماذج بوركييفتش.  أوضح أنور الشيخ أن الأسعار الإجمالية يمكن أن تساوي القيمة الإجمالية لكن إجمالي الأرباح لن يكون دائما مساويا لإجمالي فائض القيمة. أما جارسيا فقد زعم أن التساوي يمكن أن يتحقق في كل من الجانبين، ولكنه لم يتمكن من إثبات ذلك إلا عن طريق السماح بتغيير معدل الاستغلال من دورة إنتاج إلى التي تليها، لأن التغير في الأسعار نتيجة تحرك القيم بين القطاعات تسبب في تغيير الأسعار النسبية للأجور والسلع الرأسمالية.
 غير أن عددا من الماركسيين منذ ذلك الحين كانوا قادرين تماما على إنقاذ رؤية ماركس عبر نقد افتراض أساسي تبناه كل من فون بوركييفتش، وسويزي وأنور الشيخ وكثيرون غيرهم – وهو اعتمادهم على التزامن. إن طريقة المعادلات المتزامنة تفترض أن أسعار مدخلات الإنتاج لابد أن تساوي أسعار المخرجات. ولكن ذلك لا يحدث. فالمخرجات تنتج بعد أن تكون المدخلات دخلت في عملية الإنتاج. أو بصياغة أخرى، إن قيمة المدخلات في العملية (أ) سوف تختلف عن قيمة نفس المدخلات في عملية لاحقة (ب) – حتى وإن كانت هذه المدخلات متطابقة من حيث تكوينها المادي كقيم استعمالية. وقيمة طن من الحديد الصلب المستخدم في صناعة آلة معينة الآن لن تكون نفس قيمة طن الصلب المستخدم في صناعة آلة مماثلة بعد أسبوع.
ويجادل نقاد ماركس بأن ذلك يترك مدخلات الإنتاج مقومة بأسعارها لا بقيمها، وحتى تختزل هذه الأسعار إلى قيم العمل فإن ذلك يتضمن ارتدادا لانهائيا إلى الوراء. فالمتطلبات الاستثمارية لإنتاج المدخلات سوف تحتاج إلى تحليلها إلى قيم عمل، ولكن ذلك غير ممكن بدون إجراء تحليل للاستثمار المطلوب لإنتاجه بدوره وهكذا إلى مالانهاية.
الرد البسيط على من يطرحون مشكلة من هذا النوع هو: لماذا؟ لماذا يجب إجراء تحليل للاستثمارات المطلوبة لإنتاج المدخلات من حيث قيمة العمل إذا كانت نفسها قد جرى إنتاجها؟
إن نقطة البداية في دراسة أي دورة إنتاجية هي الأسعار النقدية للمدخلات الضرورية للقيام بها. استخدام العمل الإنساني بعد ذلك في عملية الانتاج يضيف كمية معينة من القيمة الجديدة تشكل الأساس للسلعة الجديدة، والتي يتحدد سعرها بدوره عبر انتقال فائض القيمة من رأسماليين كانوا سيحصلون على ربح أعلى من متوسط معدل الربح لو لم تنتج هذه السلعة إلى رأسماليين كانوا سيحصلون على ربح أقل.
لا حاجة بنا إلى العودة إلى الوراء في التاريخ لتفكيك أسعار السلع إلى قيمتها من حيث العمل، وقد سددت أثمانها في بداية دورة الانتاج، حتى ندرك تأثير إنتاج قيم جديدة وفائض قيمة جديد على ديناميات النظام.  هذه العودة ليست ضرورية أكثر ما هي كذلك في الديناميكا الفيزيائية من أجل تحليل كمية الحركة في جسم اصطدم بجسم آخر إلى جميع القوى التي أثرت عليه في السابق لإنتاج كمية الحركة فنعود بالزمن مباشرة إلى نشأة الكون عبر الانفجار الكبير؛ أو أكثر ماهي ضرورية في علم الأحياء لمعرفة كامل تاريخ التطور لأحد الكائنات العضوية فنعود مباشرة إلى أول تكوين لأشكال الحياة العضوية حتى نرى ما سيكون عليه تأثير أي تغير جيني في الوقت الحاضر.
وكما أوضح جوجليلمو كارشيدي: "إذا كان هذا الانتقاد سليما، فإنه لا يعني إفلاس منهج التحويل لدى ماركس فحسب، وإنما أيضا إفلاس العلم الاجتماعي في جميع صوره،" بما فيها نسخ هؤلاء الذين ينتقدون ماركس:
"في الواقع، سوف يجب تطبيق هذا الانتقاد على أي ظاهرة اجتماعية بقدر ما تتحدد هذه الظاهرة بظواهر أخرى سواء في الحاضر أو في الماضي. ومن ثم تصبح كل العلوم الاجتماعية عبارة عن سعي لا نهاية له إلى نقطة انطلاق البحث."
ولن يكون بالإمكان أبدا تحليل كيفية ارتباط بعض الأحداث الراهنة بالنتائج التراكمية لأحداث مضت.

العمل الماهر وغير الماهر:
نفس الطبيعة الديناميكية لنموذج ماركس تزيل أيضا ما طرحه بوم بافرك ويطرح حتى الآن باعتباره مشكلة أخرى في نظرية العمل في القيمة. وتتعلق هذه المشكلة بكيفية قياس مساهمة العمل الماهر في إنتاج القيمة. ويبدو أن ماركس يرى لهذه المشكلة حلا سهلا. فقد كتب:
"إن العمل الماهر يحسب فقط كعمل بسيط مكثف، أو عمل بسيط مضاعف، إن كمية معينة من العمل الماهر تعتبر مساوية لكمية أكبر من العمل البسيط...إن النسب المختلفة التي يجري بها اختزال مختلف أنواع العمل إلى عمل غير ماهر كمعيار لها تترسخ عبر عملية اجتماعية تأخذ مجراها من وراء ظهر المنتجين، وبالتالي تبدو محددة بحكم العادة."
هذا التفسير يكفي تماما عندما يقوم عامل ماهر وعامل غير ماهر بنفس العمل، ونجد العامل الماهر ينجز ذلك العمل أسرع كثيرا من غير الماهر. إن ساعة العمل التي يبذلها العامل الماهر سوف تساوي أكثر من متوسط ساعة واحدة من العمل "الضرورية اجتماعيا" في النظام ككل، بينما تساوي ساعة العمل غير الماهر أقل من هذا المتوسط.
ومع ذلك تظهر مشكلة عندما يتعلق الأمر بعمل ماهر لا يمكن أن تحل محله كمية أكبر من العمل غير الماهر. فمهما بلغ عدد العمال غير المهرة الذين يستخدمهم رأسمالي، لن يستطيعوا أبدا أن يقوموا بنفس المهمة التي يقوم بها صانع أدوات ماهر أو محلل نظم. كيف إذن يمكن قياس القيمة التي تنتجها المجموعة الثانية من العمال (المهرة) على أساس ساعات العمل للمجموعة الأولى (غير المهرة)؟ إن أي محاولة للقيام بذلك يبدو أنها تتضمن بالضرورة قدرا من التعسف يقوض النظرية الأساسية.  ويرى بوم بافرك إن ماركس عندما يكتب أن "عملية اجتماعية" تفسر ذلك القياس، فإنه يسلم بداهة بما يحاول تفسيره. وحسب بافرك فإن هذا يثبت أن أسعار السلع لا تتحدد بكمية العمل المتضمنة فيها، وإنما تتحدد بالطريقة التي يقدرها الناس لها في علاقتها بالسلع الأخرى (أي بمنفعتها) وأن ذلك يوجه ضربة قاضية إلى نظرية العمل في القيمة.
غير أن هذه المشكلة تتبخر من النظرية بمجرد النظر إلى قانون القيمة كعملية تجري خلال الزمن. إن التطور التكنولوجي يؤدي مرة تلو أخرى إلى ظهور أعمال لا يمكن أن يقوم بها إلا أصحاب مهارات خاصة. وفي البداية لا يوجد معيار موضوعي لكمية وقت العمل الضروري اجتماعيا المطلوبة لإنتاجها، ويمكن أن يحصل من يمتلكون هذه المهارات أو السلع التي ينتجونها على مقابل مالي لا يرتبط ارتباطا واضحا بوقت العمل.  ما يعني من الناحية الفعلية تدفقا للقيمة إلى من يمارسون احتكارا لهذه المهارات من بقية النظام. ولكن هذه المرحلة ليست إلا مرحلة انتقالية، حتى وإن كانت تطول أحيانا، لأن الرأسماليين الآخرين في النظام سوف يبذلون ما وسعهم من جهد حتى يحوزوا جانبا من مزايا المهارات الجديدة لأنفسهم.
ويمكنهم أن يفعلوا ذلك بطريقتين: يستطيعون أن يدربوا مجموعات جديدة من العمال على اكتساب هذه المهارات. ويرقى ذلك، من الناحية الفعلية، إلى استخدام نوع من العمل من أجل انتاج قوة عمل جديدة قادرة على القيام بالعمل الماهر، وبذلك يصبح العمل النهائي في الواقع عملا مركبا، يتكون من العمل الحي للعمال المباشرين وأحد أشكال العمل الميت المتجسد في قوة عملهم في صورة مهارات. ويمكن للرأسماليين أن يحصلوا على هذا العنصر الإضافي في قوة العمل مباشرة عبر تدريب العمال أثناء العمل (تماما مثل نظم الصبية في الصناعة)، أو أن يتركوا توفير التدريب للعمال أنفسهم (عندما يلتحق العمال بدورات تدريبية يدفعون ثمنها للحصول على مؤهلات ومهارات)، أو يمكنهم الاعتماد جزئيا على الدولة في تقديم هذه الدورات التدريبية. لكن العمل الميت في جميع الأحوال يتجسد في قوة العمل المحسنة ثم ينتقل إلى منتجات عملية العمل، مثلما يحدث للعمل الميت المتجسد في وسائل الانتاج والمواد الخام. (30)
لكن ذلك يترك سؤالا آخرا دون إجابة: من يدرب المدربين؟ فلا يستطيع المدربون المهرة أن يحصلوا على مهاراتهم من عمال غير مهرة. لو أن مهاراتهم مهارات احتكارية وأنهم ينتجون سلعا لا يستطيع العمال غير المهرة إنتاجها، مهما كثر عدد من يعملون معا، فإن من يملكون هذه السلع سوف يستطيعون فرض أسعار احتكارية لا تعكس قيمة العمل وإنما فقط الأسعار التي يبدي الناس استعدادا لأدائها.
عند أي نقطة محددة في الزمن، يظل ذلك صحيحا بالنسبة لمهارات ولسلع بعينها. لكن مع مرور الزمن، سوف يختزل هذا العمل (الماهر) كذلك إلى معدل موضوعي ما بالنسبة لأشكال العمل الأخرى.  فالرأسماليون في زوايا أخرى في النظام سوف ينشطون في البحث عن تكنولوجيا جديدة تؤدي إلى تقويض هذا الاحتكار للمهارات عبر توفير إمكانية القيام بهذه الأعمال باستخدام عمل أقل كثيرا من حيث المهارة. وبهذه الطريقة، يصبح اختزال العمل الماهر إلى عمل غير ماهر بمرور الزمن أحد الخصائص الملازمة لعملية التراكم الرأسمالي. فإذا حدث تدريب لكمية كافية من العمل غير الماهر إلى مستوى العمل الماهر المطلوب لإنتاج سلع معينة، لن تصبح هذه السلع نادرة بعد ذلك وسوف تنخفض قيمتها إلى المستوى الذي يعكس مركبا من العمل المطلوب لإعادة إنتاج قوة العمل المتوسطة والتكلفة الإضافية للتدريب. وكما يوضح كارشيدي:
"نتيجة لتطبيق تكنولوجيا جديدة في عملية العمل ينخفض مستوى المهارة المطلوب توافره لدى العامل. وبالتالي تنخفض قيمة قوة عمله أو عملها. نستطيع الإشارة إلى هذه العملية كتخفيض قيمة (قوة العمل) عبر نزع التأهيل (المهاري). وهذه هي العملية التي تختزل العمل الماهر إلى عمل غير ماهر، وبالتالي تغير علاقات التبادل بين السلع (على الأقل بقدر ما يتعلق بقيمة قوة العمل) التي تكون هذه الأنواع المختلفة من قوة العمل من مدخلات إنتاجها.  إنها العملية الحقيقية التي تبرر نظريا فكرة اختزال العمل الماهر إلى عمل غير ماهر، أو تفسير الأول باعتباره مضاعفا للأخير...
إن عملية تخفيض القيمة (devaluation) عبر نزع التأهيل (dequalifaction) اتجاه ثابت في عملية الانتاج الرأسمالي بسبب حاجة الرأسماليين المستمرة إلى تخفيض مستوى الأجور. ومن ناحية أخرى، هذه التقنيات نفسها ينشأ عنها وظائف جديدة ذات تأهيل خاص (الاتجاه المضاد) والتي بدورها تتعرض فورا إلى عملية نزع التأهيل....وفي كل لحظة من الزمن نستطيع ملاحظة كلا من الاتجاه (أي نزع التأهيل عن وظائف معينة وبالتالي تخفيض قيمة قوة عمل العامل) والاتجاه المضاد (أي ظهور وظائف جديدة بتأهيل خاص تحتاج إلى القيام بها عمالا بقوة عمل مرتفعة القيمة)."
لا يمكن اختزال العمل إلى وقت العمل الضروري اجتماعيا بشكل فوري. وإنما يجري اختزاله بهذه الطريقة مع مرور الوقت من خلال التفاعل الأعمى بين مختلف رؤوس الأموال وبعضها. ومرة أخرى ينبغي أن يفهم قانون القيمة باعتباره قانونا يضغط على مختلف المكونات المنفردة للحركة بطريقة معينة، لا معادلة ترسخ علاقات ثابتة سريعة التبلر فيما بينها.

إن المفاهيم الأساسية لماركس تثبت أمام جميع الانتقادات بمجرد ألا يتم تفسيرها من خلال أطر استاتيكية تتجاهل عملية التغير عبر الزمن والتي تميز النهج النيوكلاسيكي. 

الاثنين، 18 يوليو 2016

رأسمالية الزومبي – الفصل الأول: مفاهيم ماركس

الجزء الأول
فهــم ودراســــــــة النظــــام:
ماركس وما بعد ماركس
الفصل الأول
مفاهيم ماركس
عالم من السلع

إن أبرز ملامح النظام الاقتصادي الذي نحيا في ظله أنه يتمركز حول شراء وبيع السلع من مختلف الأنواع. علينا أن ندفع لنحصل على الطعام، والمأوى، والملبس والطاقة لإضاءة وتدفئة منازلنا، وندفع حتى ننتقل من مكان لآخر، وحتى نحصل على ما نحتاجه للحفاظ على حياتنا وحياة عائلاتنا.
وحتى نستطيع شراء هذه الأشياء، علينا أن نبيع، حتى لو كان كل ما نملك بيعه هو قدرتنا على العمل لدى آخرين. إن حياتنا نفسها تعتمد على حركة السلع. ومن هنا جاءت نقطة انطلاق ماركس في كتابه رأس المال: إن ثروة المجتمعات التي يهيمن فيها نمط الانتاج الرأسمالي تقدم نفسها كتراكم هائل للسلع. وكان ماركس يكتب في حقبة زمنية لم تكن خلالها علاقات السوق قد اخترقت بعد مناطق شاسعة من العالم. وكانت فيها آنذاك مجتمعات قائمة يتجه فيها كامل الانتاج إلى تلبية الحاجات المباشرة للناس، سواء مجتمعات "شيوعية بدائية" تقوم على الصيد وقطف الثمار، أو مجتمعات "زراعية بسيطة" يتفق الناس فيها على ما ينتجونه وكيف، أو مجتمعات فلاحية حيث يقوم سيد أو حاكم محلي بتوجيه الناس من أعلى. حتى في معظم المجتمعات التي كانت توجد بها أسواق، كانت غالبية السكان من الفلاحين الذين يعيشون على ما تنتجه أراضيهم، وينتجون معظم ما يحتاجون إليه للحفاظ على حياة عائلاتهم بالإضافة إلى نسبة صغيرة من الانتاج للشراء أو البيع.  
نستطيع اليوم أن نعدل من كلمات ماركس لتصبح "إن ثروة العالم بأكمله، مع استثناءات قليلة، تقدم نفسها ككومة من السلع." كما أن هذه الاستثناءات – مثل توفير رعاية صحية وتعليم بالمجان في عدد من البلدان المتقدمة – تخضع لضغوط مستمرة من قوى تسعى إلى تسليعها. هذا الانتاج السلعي الذي يقرب من الشمول يسم مجتمعنا الحالي ويميزه عن أي حدث آخر في تاريخه. وحتى نفهم ما يحدث في هذا العالم، علينا أن نبدأ من فهم آليات الإنتاج السلعي. ولم يكن ماركس هو أول من حاول دراسة هذه الآليات. فقد سبقه إلى ذلك علماء الاقتصاد السياسي الكلاسيكي – وهم الداعمون الأوائل للرأسمالية الذين حاولوا تفسير دينامياتها الأساسية عندما كانت تكافح للانطلاق في أوروبا حين كانت تخضع لسيطرة طبقة ملاك الأرض. عالمان من هؤلاء كانت لهما أهمية خاصة: الأول هو آدم سميث الذي دون أفكاره في سبعينيات القرن الثامن عشر في وقت افتتاح أول مصنع حديث، وكان مصنعا للنسيج، في مدينة كرومفورد بدربيشاير، والثاني هو ديفيد ريكاردو الذي دافع عن مصالح الصناعيين الأوائل ضد كبار ملاك الأرض بعد أربعين عاما عقب الحروب النابليونية.
القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية:
يعتبر آدم سميث غالبا القديس الراعي بالنسبة للرأسمالية المعاصرة ومنظري المدرسة النيوكلاسيكية في الاقتصاد. غير أنه أشار إلى نقطة هامة، قام ريكاردو بعده بتطويرها، ويتجاهلها تماما جميع الاقتصاديين تقريبا ممن ينتمون إلى التيار السائد، والذين يزعمون أنهم يسيرون على دربه. فقد لاحظ أن كل سلعة يمكن النظر إليها من وجهتي نظر مختلفتين تماما بمجرد أن يتحول المجتمع إلى الاعتماد على الانتاج من أجل السوق.
"إن لكلمة القيمة …معنيين مختلفين عن بعضهما، فهي أحيانا تعبر عن قابلية شيء محدد للاستخدام، وأحيانا تعبر عن قدرة على شراء سلع أخرى يمتلكها حائز هذا الشيء. القيمة الأولى يمكن تسميتها "قيمة عند الاستعمال"، والثانية "قيمة عند التبادل". الأشياء التي تنطوي على قيمة عظمى عند الاستعمال عادة لا يكون لها قيمة عند التبادل؛ وعلى العكس، نجد الأشياء التي تنطوي على قيمة عظمى عند التبادل عادة لا يكون لها قيمة عند الاستعمال. لا يوجد ما هو أكثر فائدة في استعماله من الماء: ولكن الماء لن يشتري تقريبا أي شيء، فتقريبا لن نستطيع أن نبادل الماء بأي شيء. وعلى النقيض، لا قيمة تقريبا للماس عند الاستعمال؛ ومع ذلك عادة يمكن مبادلة الماس بكمية كبيرة من السلع الأخرى."
  كتاب رأس المال لماركس تبنى هذه الفكرة وطورها، موضحا جوانب غموض معينة في كتاب آدم سيمث:
"إن إمكانية استخدام شيء ما تجعل له قيمة استعمالية. ولكون هذه القيمة محدودة بالخصائص المادية للسلعة، فلا وجود لها مستقلة عن تلك السلعة. وبالتالي، فإن أي سلعة مثل الحديد، أو الذرة أو الماس، وبقدر ما هي شيء مادي، هي قيمة استعمالية، شيء مفيد. وهذه الخاصية في أي سلعة مستقلة عن كمية العمل الضروري للحصول على خصائصها النافعة. "
ولكن السلع أيضا:
"مستودعات مادية للقيمة الاستعمالية (التي) تطرح نفسها كعلاقة كمية، كتسبة يجري بمقتضاها تبادل قيم استعمالية من نوع محدد بقيم استعمالية من نوع آخر، وهي علاقة تتغير باستمرار مع تغير الزمان والمكان."
هذا التمييز لا يقوم به اقتصاديو المدرسة النيوكلاسيكية المعاصرون. فلا يرون نوعا من القيمة إلا "المنفعة الحدية" التي تقوم على تقدير ذاتي للأفراد للقيم الاستعمالية. ولا يقوم بهذا التمييز كذلك بعض الاقتصاديين المنشقين الذين يزعمون انتماءهم لتراث ريكاردو (أي من يطلق عليهم السرافيون) – نسبة إلى العالم الاقتصادي الإيطالي بييرو سرافة (المترجم) – وتعتمد رؤيتهم على حساب المدخلات والمخرجات من الأشياء المادية، أي على القيم الاستعمالية بمعنى آخر. وأخيرا، هناك بعض الماركسيين المعاصرين ممن يرون أن هذا التمييز لا أهمية له، لأن الفكرة الهامة التي كان ماركس يوضحها كانت تتعلق بالاستغلال، لا القيمة.
في استبعادها لهذا التمييز الذي وضعه سميث وريكاردو وماركس، تفتقد كل هذه النظريات لأمر جوهري في نظام يقوم على الانتاج السلعي: هو أن كل شيء يجري في هذا النظام يخضع لمجموعة مختلفة من القوانين العلمية. 
فمن ناحية نجد قوانين العالم الفيزيائي – قوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والجيولوجيا وهكذا، وهي القوانين التي تحدد الطرق الضرورية في التركيب والجمع بين الأشياء المختلفة من أجل انتاج السلع (أي مختلف مكونات الآلة، أو التكوين المادي للمصنع، أو التقنيات المستخدمة في العمليات الجراحية الخ)، وكذلك تحدد فائدة تلك السلع للمستهلك النهائي (القيمة الغذائية للأطعمة، والدفء الذي يوفره الوقود والكهرباء، عدد الأطفال الذين يمكن رعايتهم في مدرسة، أو عدد المرضى لمستشفى، الخ).
وفي الناحية الأخرى هناك الطريقة التي تقابل بها الأشياء أشياء أخرى كقيم تبادلية. وهي غالبا ما تواجه بعضها بعضا بصورة مختلفة تماما عن القيم الاستعمالية. فالقيمة التبادلية لشيء ما يمكن أن تنخفض بينما تظل قيمته الاستعمالية دون تغيير. وقد حدث ذلك بالنسبة لأسعار الكمبيوتر خلال الأعوام الأخيرة – فقد كان سعر الكمبيوتر الذي استخدمته في كتابة آخر كتبي ضعف سعر الكمبيوتر الأقوى كثيرا الذي استخدمه الآن. وعلاوة على ذلك، يمكن تقسيم القيم التبادلية إلا مالانهاية، ولا ينطبق ذلك عادة على القيم الاستعمالية: فيمكن أن نقول إن الدراجة تساوي 1/20 من السيارة، لكن إذا قمنا بتفكيك السيارة إلى 20 جزءا لن تكون لها أي قيمة استعمالية لأحد. وهذه مسألة بالغة الضرورة عندما يتعلق الأمر بأشياء هامة بالنسبة للرأسمالية الحديثة مثل المصانع، وآبار البترول، الطائرات، والمدارس والمستشفيات.  فالسوق تتعامل مع هذه الأشياء كقيم تبادلية يمكن تجزئتها إلى أجزاء لانهائية (تساوي عددا كبيرا من الجنيهات والبنسات الخ)؛ ولكن لهذه الأشياء وجود مادي لا يمكن عادة تجزئته بهذه الطريقة.
القيم التبادلية للسلع تتسم أيضا بسيولة لانهائية، بحيث يمكنها الانتقال من جزء من الاقتصاد إلى جزء آخر في شكل نقود، كما يمكنها الانتقال من جزء من العالم إلى آخر، أو انفاقها على سلعة محددة أو أي سلعة أخرى بنفس السعر. لكن سيولة القيم الاستعمالية مثل قابليتها للتجزئة محدودة بتكوينها الفيزيائي. نستطيع أن ننقل 100 مليون جنيه استرليني نقدا من بريطانيا إلى الهند بين ليلة وضحاها، ولكننا لا نستطيع نقل مصنع يساوي 100 مليون جنيه استرليني بسرعة تقترب بأي شكل من سرعة نقل النقود. إن القيم الاستعمالية والقيم التبادلية غالبا تتبع منطقين مختلفين، وغالبا متناقضين، في حركتها، ويؤدي عدم إدراكنا لذلك إلى عدم القدرة على فهم أبسط الأمور الأساسية عن اقتصاد يقوم على انتاج السلع. فهذا الاقتصاد لا يعمل بسلاسة عبر مجرد تدفق القيم التبادلية، بل إنه عرضة دائما للعراقيل وحالات التوقف والبداية، بسبب تجسيد القيم التبادلية في قيم استعمالية لها خصائص مادية تحد من سيولتها.
العمل والنقود
لم يكتف كل من سميث وريكاردو بمجرد إدراك الطبيعة المزدوجة للسلع، بل أضافا إلى ذلك رأيهما بأن الأشياء التي تتباين في خصائصها الفيزيائية تماما لا يمكن أن تكتسب قيما تبادلية إلا لاحتوائها على شيء واحد مشترك – أنها جميعا منتجات للعمل الإنساني.
كتب آدم سميث:
"إن السعر الحقيقي لكل شيء، أي الكلفة الحقيقية لكل شيء بالنسبة لشخص يريد امتلاكه، هو الكد والعناء اللازم للحصول عليه. والقيمة الحقيقية لكل شيء بالنسبة لشخص يمتلكه ويرغب في التصرف فيه أو مبادلته بشيء آخر تساوي مقدار الكد والعناء الذي يوفره على نفسه، والذي يمكنه أن يفرض على الآخرين بذله في المقابل. إن ما نشتريه بالنقود أو السلع إنما نشتريه بواسطة العمل، وبنفس مقدار ما نحصل عليه بواسطة الجهد الذي نبذله بأنفسنا... هذه السلع تحتوي على قيمة كمية محددة من العمل التي نبادلها بشيء نفترض في حينه أنه يحتوي على قيمة كمية مساوية من العمل.   
كان العمل هو السعر الأول، هو نقود الشراء الأصلية التي ندفعها مقابل كل الأشياء. إن كل ثروة العالم لم تكن تُشترى في الأصل بواسطة الذهب أو الفضة، وإنما بواسطة العمل؛ وكانت قيمتها بالنسبة لمن يمتلكونها وبالنسبة لمن يرغبون في مبادلتها بمنتجات أخرى جديدة مساوية تماما لكمية العمل التي تمنحهم القدرة على شرائها أو امتلاكها."
وقد ضمن ماركس هذا التفسير في تحليله الخاص قائلا:
"إن القيم التبادلية للسلع يجب أن تشتمل على إمكانية التعبير عنها عبر عنصر مشترك فيها جميعا، تمثل الأشياء جميعها كمية منه تزيد أو تقل. ولا يمكن أن يكون هذا "العنصر" المشترك خاصية هندسية أو كيميائية ولا أي خاصية طبيعية في هذه السلع. ... ولو قمنا حينئذ باستبعاد القيمة الاستعمالية للسلع من اعتبارنا، تبقى خاصية واحدة فقط مشتركة فيما بينها، أنها جميعا منتجات للعمل."  
لكن ماركس قام بتطوير تحليلات سميث وريكاردو في ناحية شديدة الأهمية. فالقيمة التبادلية لا يحددها بذل العمل الحقيقي المعين في ذاته، لأن مختلف الناس باختلاف مهاراتهم يستغرقون كميات مختلفة من الوقت ويبذلون مقادير مختلفة من الجهد في إنتاج سلع محددة:
" لو كانت قيمة أي سلعة تتحدد بكمية العمل المبذول فيها، بعض الناس قد يتصور أن قيمة السلعة سوف تزداد كلما كان العامل كسولا وضعيف المهارة لأن ذلك سوف يتطلب وقتا أطول في إنتاجها."  
بمعنى أدق، إن القيمة التبادلية لأي سلعة تعتمد على "وقت العمل الضروري اجتماعيا":
"الضروري لإنتاج سلعة في ظروف الانتاج الطبيعية وبدرجة متوسطة من المهارة وشدة العمل السائدتين في ذلك العصر."   
إن العمل الاجتماعي هو ما أجرى تحويلا على الطبيعة لإنتاج الوسائل التي يعتمد عليها البشر في العيش. لذا فإن كمية العمل الاجتماعي المتجسدة في هذه الوسائل هي ما تشكل أساس القيمة في أي سلعة. يتحول العمل الحقيقي الملموس الذي يبذله الأفراد من خلال التبادل في مجتمع قائم على إنتاج السلع إلى جزء نسبي من عمل "اجتماعي" "متجانس" – أو من "عمل مجرد". ويطلق ماركس على العمل المجرد عبارة "جوهر القيمة" الذي يجد تعبيرا عنه في القيمة التبادلية ويحدد المستوى الذي يتذبذب حوله سعر السلعة في الأسواق:
"يعرف كل طفل أن أي أمة تتوقف عن العمل لو لأسابيع قليلة، ولا نقول عاما كاملا، سوف تنقرض. كما أن كل طفل يعرف أن كمية المنتجات التي تقابل كمية مختلفة من الاحتياجات تتطلب مقدارا مختلفا ومحددا كميا من العمل الإجمالي للمجتمع… والشكل الذي يؤكد نفسه من خلاله هذا التوزيع النسبي للعمل، في حالة مجمتمع يعبر ترابط العمل الاجتماعي فيه عن نفسه باعتباره تبادلا خاصا لمنتجات العمل الفردي، هو تحديدا القيمة التبادلية لهذه المنتجات.  كل الأشكال المختلفة نوعيا من العمل الخاص، التي يقوم بها الأفراد مستقلين عن بعضهم البعض … يجري اختزالها باستمرار إلى العلاقات الكمية النسبية بالمقادير التي يحتاجها المجتمع.(12) 
حاول الاقتصاديون النيوكلاسيك تطوير مفهوم للقيمة نابع من التقدير الذاتي للأفراد، بل إن بعضهم حاول أن يشمل العمل باعتباره "بلا منفعة" Disutility. وعلى النقيض، كان ماركس يرى القيمة شيئا موضوعيا، يشير إلى نسبة من إجمالي العمل الاجتماعي "متضمنة" فيه (13). ولكن لا تظهر ماهية هذه القيمة تحت الضوء إلا كنتيجة لتفاعل عشوائي متواصل بين السلع في الأسواق.(14) ويجبر النظام بمجمله تكويناته المنفردة على الاهتمام بكيفية ارتباط العمل الفردي الذي يستخدمه إحداها مع العمل المستخدم في أماكن أخرى.(15) ويطلق ماركس على هذه العملية حركة "قانون القيمة".
غير أن القيم لا تظل ثابتة دون تغيير. بل يجري تطبيق تقنيات جديدة باستمرار أو إدخال طرق جديدة في بعض أجزاء النظام، ما ينتج عنه تغيير في كمية العمل الضرورية اجتماعيا لإنتاج سلع بعينها – مما يؤدي إلى تغيير في قيمتها التبادلية. وتبقى القيمة الاستعمالية للسلع ثابتة حتى تلفها أو فسادها بفعل العمليات الطبيعية. لكن القيم الاستعمالية للأشياء – وهي القيم ذات الأهمية بالنسبة للنظام ككل – تتدهور كلما أدى التطور التقني في بعض أجزاء النظام إلى تخفيض كمية العمل الضروري لإنتاجها. وهذا ما يدفع ماركس إلى استنتاج مضاد بداهة تميز رؤيته للنظام – وهو استنتاج حتى بعض الماركسيين يواجهون صعوبة في استيعابه. زيادة الانتاجية تؤدي إلى انخفاض قيمة البضائع عند التبادل. ويبدو هذا الاستنتاج ساذجا في ظاهره. غير أن أمثلة عديدة تثبت أن زيادة الانتاجية تتسبب في تخفيض أسعار بعض السلع مقارنة بسلع أخرى.  وقد ذكر ماركس واحدا من هذه الأمثلة في عصره:
"إن استخدام الأنوال الآلية في انجلترا ربما أدى إلى تخفيض كمية العمل الضرورية لتحويل كمية من الخيوط إلى قماش بمقدار النصف. النساجون الذين يستخدمون الأنوال اليدوية في الواقع كانوا يحتاجون إلى نفس وقت العمل السابق على ذلك؛ ونتيجة لكل ذلك كان إنتاجهم خلال ساعة من العمل يمثل بعد استخدام الأنوال الآلية نصف ساعة فقط من العمل الاجتماعي، وعليه انخفض إلى نصف قيمته السابقة."
يمكننا أن نضرب آلاف الأمثلة على ذلك اليوم، لأننا نعيش في عصر يشهد تقدما تقنيا أسرع كثيرا من عصر ماركس في بعض الصناعات مقارنة بغيرها (خاصة تلك الصناعات المتعلقة بإنتاج المشغلات الدقيقة microprocessors)، وكذلك فإن أسعار سلع مثل اسطوانات الفيديو، والتلفيزيونات، وأجهزة الكمبيوتر التي تنتجها صناعات تستخدم أكثر المعدات التكنولوجية تقدما تتجه نحو الانخفاض بينما أسعار سلع أخرى في صناعات تستخدم تقينات قديمة تظل ثابتة أو ترتفع. لهذه المسألة أهمية مركزية كما سنرى فيما بعد عندما نناقش ديناميات رأسمالية القرن الحادي والعشرين.
ومع تعميم الانتاج السلعي في مجتمع من المجتمعات يبدأ استخدام سلعة واحدة محددة حتى تعبر عن قيمة جميع السلع الأخرى، وهي النقود (ويسميها ماركس المعادل العام للقيمة). وكانت هذه السلعة في عصر ماركس عادة تتخذ من الذهب (أو أحيانا الفضة)، وكانت كمية معينة من الذهب (مثلا أوقية واحدة) تستخدم في إنتاجها كمية معينة من متوسط وقت العمل الاجتماعي يمكن أن تلعب دور المعيار لقيمة جميع السلع الأخرى التي تشترى وتباع. ومع تطور الرأسمالية كنظام، اكتشفت البنوك والحكومات أنها يمكن أن تستخدم الأوراق النقدية محل الذهب في كثير من المعاملات حتى تتخلى في النهاية عن الاعتماد عليه بالكلية طالما اعتقد الناس أن الآخرين يقبلون هذه الأوراق مقابل السلع (وتسمى تقنيا بـ "النقود الورقية"). كما أن الائتمان الذي  تقدمه البنوك يمكن أن يؤدي نفس المهمة بالطريقة ذاتها طالما استمرت ثقة الناس في البنوك.
وكان لتطور الانتاج السلعي أثر هام في أنه أدى إلى تشويه منظم لإدراك الناس للواقع عبر ما أطلق عليه ماركس "الصنمية السلعية": "العلاقة بين المنتجين ومجمل عملهم تطرح أمامهم كعلاقة اجتماعية، لا تقوم فيما بينهم كمنتجين، وإنما بين منتجات عملهم... علاقة اجتماعية محددة بين الناس تتخذ، في نظرهم، شكلا خياليا لعلاقة بين الأشياء. وحتى نعثر على شبيه بذلك، يجب علينا اللجوء إلى المناطق التي يكسوها الغموض والضبابية في عالم الدين. ففي ذلك العالم، تبدو منتجات العقل البشري ككائنات مستقلة تتمتع بالحياة وتدخل في علاقات فيما بينها وكذلك  بينها وبين العنصر البشري.  كذلك الحال في عالم السلع مع ما ينتجه الانسان بيديه."
يتحدث الناس عن "قوة النقود" كما لو أن قوتها لم تنتج عن العمل الإنساني الذي تعتبر النقود تعبيرا عنه؛ أو يتحدثون عن "متطلبات السوق"، كما لو أن السوق تمثل شيئا أكثر من مجموعة الترتيبات للربط بين المنتجات الملموسة لعمل مجموعات مختلفة من البشر. هذه الأفكار التي يلفها الغموض تدفع الناس إلى إرجاع الأمراض الاجتماعية لأسباب تتجاوز سيطرة البشر – وهي العملية التي أطلق عليها ماركس الشاب مصطلح "الاغتراب" والتي أطلق عليها بعض الماركسيين بعد ماركس مصطلح "التشيؤ". لكن مجرد فهم الحقيقة وراء هذه الضبابية في حد ذاته لا يعالج الأمراض الاجتماعية.  
ويلاحظ ماركس أن مجرد الوصول إلى تفسير علمي لطبيعة المجتمع القائم لا يؤثر عليه تماما كما "استمر الغلاف الجوي نفسه بلا تغيير بعد اكتشاف الغازات التي يتكون منها الهواء." ولكن بدون النظر فيما وراء هذه الصوفية، لا يمكن القيام بتحرك واع لتغيير المجتمع. ومن هنا تنبع أهمية إدراك التمايز بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية وفهم القيمة على أساس العمل الضروري اجتماعيا.
الاستغلال وفائض القيمة:
إننا لا نعيش فقط في عالم يقوم على الانتاج السلعي. وإنما نعيش في عالم تتركز فيه السيطرة على معظم هذا الانتاج في أيادي قليلة نسبيا. ففي عام 2008، كانت مبيعات أكبر 2000 شركة في العالم تعادل حوالي نصف إجمالي الناتج العالمي. وإذا افترضنا أن مجلس إدارة كل شركة من الشركات متعددة الجنسية يضم عشرة أفراد، نجد أن مجرد 20 ألف شخص، من بين ما يزيد على ستة بلايين إنسان هم إجمالي سكان العالم، يمارسون سيطرة حاسمة على إنتاج الثروة؛ في الواقع، سيكون هذا الرقم أقل من ذلك بكثير لأن معظم هؤلاء الأشخاص أعضاء في مجلس إدارة أكثر من شركة واحدة.
وطبعا لا تقوم الشركات متعددة الجنسية وحدها بالإنتاج. فإلى جانبها يوجد عدد كبير من الشركات القومية متوسطة الحجم لم تبلغ بعد منزلة الشركات متعددة الجنسية، وبجانبها أيضا عدد أكبر من الشركات الصغيرة التي يزيد حجمها قليلا عن الشركات العائلية وتوظف لديها ربما اثنين من العمال. حتى مع أخذ كل ذلك في اعتبارنا، نجد أن نسبة صغيرة فقط من بين سكان العالم يسيطرون على وسائل الانتاج المستخدمة في إنتاج جزء كبير من ثروة العالم.
أما من لا يملكون ولا يسيطرون على وسائل الانتاج هذه، فلا خيار أمامهم، إذا أرادوا أن يتكسبوا عيشهم بما يتجاوز الحدود الدنيا التي تمنحها برامج الرعاية الاجتماعية، إلا أن يحاولوا بيع قدرتهم على العمل إلى من يسيطرون عليها. ويحصلون مقابل ذلك على أجر، بينما ينتجون سلعا تصبح ملكا خالصا لهؤلاء الذين يسيطرون على وسائل الانتاج. جانب من قيمة هذه السلع يستخدم لتغطية تكاليف أجور العمال، ويستخدم جانب آخر لتغطية تكاليف المواد الخام المستخدمة في الإنتاج، وجانب ثالث يستخدم في تغطية تكاليف استهلاك وسائل الانتاج. لكن جزءا آخر يمثل فائضا وهو أساس الأرباح التي يحصل عليها الملاك – والذي أطلق عليه ماركس "فائض القيمة"، ويطلق عليه بعض الاقتصاديين غير الماركسين مصطلح "الفائض".
وقد أوضح آدم سميث فعلا من أين يأتي هذا الفائض (لكنه لم يبق متماسكا على هذا الموقف) قائلا:
"في الحالة الأصلية، التي تسبق امتلاك الأرض ومراكمة المخزون، كان العامل يملك كل ما ينتجه عمله... ولكن بمجرد أن تصبح الأرض ملكية خاصة، يطالب مالك الأرض بحصة من الانتاج… ويخضع ناتج كل أشكال العمل الأخرى تقريبا لاستخلاص مماثل للربح. وفي جميع الصناعات والحرف، يقف الجانب الأكبر من العمال في حاجة إلى سيد يقدم لهم المواد الخام اللازمة للقيام بعملهم، وكذلك أجورهم ووسائل عيشهم حتى يكتمل العمل. ويحصل على حصة من منتجات العمل، أو في القيمة التي يضيفها عملهم إلى المواد الأولية التي قاموا باستخدامها؛ وفي هذه الحصة تتمثل أرباحه."
ينتج الربح إذن عندما تصبح الأراضي والأدوات والمواد اللازمة للإنتاج ملكية خاصة لقطاع من قطاعات المجتمع. ويكون هذا القطاع عندذاك قادرا على السيطرة على عمل الآخرين.
تبنى ريكاردو أفكار سميث وعمل على تطويرها. وفي سياق ذلك أشار إلى نقطة غموض محورية في كتابات سميث نفسه. فسميث يخلط فكرة أن العمل وحده هو ما ينتج القيمة بفكرة أخرى ترى أن الأرباح والريع وكذلك العمل تساهم في القيمة النهائية للسلعة. ولكن هذه الفكرة الأخيرة أصبحت بعد موته في عشرينيات القرن التاسع عشر العقيدة السائدة بين الاقتصاديين الداعمين للرأسمالية. فقد كان ذلك أيسر كثيرا في قبوله لدى المدافعين عن النظام القائم مقارنة بتبني فكرة أن الأرباح تتطفل على العمل.
غير أن ماركس كان يرى أن تطوير ريكاردو لآراء سميث هو وحده الذي يوفر الأساس لأي دراسة علمية لطريقة عمل الراسمالية. وقد أدرك مثل ريكاردو أن الزعم بأن الأرباح تنتج قيمة بشكل أو آخر قول سخيف في ضوء كون هذه الأرباح نفسها جزءا من القيمة التي جرى إنتاجها فعليا. ولكنه ذهب أبعد من ريكاردو كثيرا في توضيح وشرح المسألة وفي صياغة مضامين هذه النظرية. وكان أول تطوير قام به ماركس هو التفرقة بوضوح بين معان مختلفة طرحها سميث لمفهوم "قيمة العمل". فمن ناحية، يعني هذا المفهوم كمية العمل المطلوبة للحفاظ على العامل خلال الفترة التي يقوم فيها بعمله. يقول آدم سميث: "هناك مستوى محدد يبدو مستحيلا أن تنخفض عنه لفترة معتبرة الأجور العادية حتى لأدنى أنواع العمل. فضروري أن يعيش الإنسان من عمله، وضروري أن يكون أجره على الأقل كافيا لإبقائه حيا. بل إن أجره في معظم الأحوال يجب أن يكون أكثر من ذلك نوعا ما، وإلا سيكون مستحيلا عليه أن يعول أسرة، وسيستحيل أن يستمر جنس هؤلاء العمال أكثر من الجيل الأول."  
ومن هذا المنطلق، فإن "قيمة العمل" هي قيمة الأجر الذي يحصل عليه العامل. لكن سميث يستخدم أيضا مصطلح "العمل" للإشارة إلى كمية العمل التي يؤديها العامل فعلا. وقد شدد ماركس على أن كميتي العمل هنا لا تتطابقان بأي وسيلة كانت. وأوضح أن العمل مثله مثل جميع السلع الأخرى من حيث أنه سلعة تشترى وتباع. ولكنه يختلف عنها جميعا لأن به خاصية مميزة عند استخدامه بأنه يؤدي عملا أكثر من الكمية الضرورية لإنتاجه. وفي الخمسينيات من القرن التاسع عشر، وضع ماركس مصطلحا جديدا صمم لتوضيح الفارق بين طريقتي استخدام مفهوم العمل عند سميث وريكاردو (وفي كتاباته الأولى) وضوحا تاما. وقال إن ما يدفع الرأسمالي ثمنه عندما يستخدم شخصا ما هو "قوة العمل" وليس العمل ذاته – أي أنه يدفع ثمن قدرة هذا الشخص على العمل لفترة معينة من الزمن. وتعتمد قيمة قوة العمل، مثل أي سلعة أخرى، على كمية العمل الضرورية لإنتاجها. ولا يستطيع العمال تقديم قوة عملهم إلا إذا حصلوا على طعام كاف، وكساء وسكن ووقت محدد للراحة إلخ الخ. وهي احتياجاتهم حتى يكونوا قادرين ومستعدين للعمل. وأجورهم يجب أن تغطي تكاليف هذه الاحتياجات – أي تكون مطابقة لكمية العمل الضرورية اجتماعيا لإنتاجها. وهذا ما يحدد قيمة قوة العمل.
وينبغي هنا ملاحظة أن ماركس لا يرى أن حد الكفاف وحده هو ما يحدد قيمة قوة العمل. وإنما كذلك ضرورة توفير حد أدنى من أجل تربية أطفال العمال لأنهم يمثلون الجيل الثاني من قوة العمل.  وهناك أيضا عنصر "تاريخي ومعنوي" يعتمد على "العادات ومستوى الراحة" الذي اعتاد عليه العمال، وبدونه لن يستخدم العمال كل طاقاتهم ومهاراتهم في تنفيذ العمل وربما أيضا يتمردون ضد ذلك. وبهذه الطريقة يمكن للأثر التراكمي لنضالات العمال أن يؤثر على قيمة قوة العمل. فلم يكن ماركس، كما يزعم البعض أحيانا، مؤمنا بفكرة "القانون الحديدي للأجور"، الذي بمقتضاه لا يمكن أن يحصل العمال إلا على حصة محددة من الناتج القومي.
وأيا ما كان الأمر، فإن ما يستطيع العمال إنتاجه يزيد على كمية العمل الضرورية لتوفير الحد الأدنى لمعاشهم على الأقل – أي لإعادة إنتاج قوة العمل. وربما على سبيل المثال، نحتاج في المتوسط إلى أربع ساعات عمل يوميا لتوفير مستوى الاستهلاك الضروري لشخص ما حتى يكون قادرا على العمل ليوم كامل. ولكنه سوف يكون قادرا على العمل يوما من ثمان أو تسع أو حتى عشر ساعات. ويحصل صاحب العمل على كمية العمل الإضافية حتى تكون قيمة البضائع التي أنتجت في مصنعه دائما أكبر من استثماراته. وهذا ما يجعله قادرا باستمرار على تحصيل فائض القيمة، الذي يستطيع أن يحتفظ به لنفسه أو يمرره إلى أعضاء آخرين في الطبقة الرأسمالية في صورة فائدة أو ريع.
تتخذ العلاقة بين العامل وصاحب العمل مظهر العلاقة بين اثنين على قدم المساواة. فصاحب العمل يوافق على دفع الأجر، والعامل أو العاملة يقدم عمله في المقابل دون قسر أو إجبار. هذا الموقف في ظاهره مختلف تماما عن الوضع بين مالك العبيد والعبد، أو بين السيد الإقطاعي والقن. بل يتوافق مع نظام قانوني يقوم على "حقوق الإنسان"، وعلى مساواة جميع المواطنين أمام القانون. حتى ولو كانت المجتمعات البرجوازية القائمة فعلا تتباطأ في ترسيخ هذا النظام القانوني، فيبدو أنه محفور في بنيتها. ورغم ذلك، يخفي هذا المظهر السطحي من المساواة حقيقة من عدم المساواة أكثر عمقا.  فصاحب العمل يستحوذ على المتطلبات الأولى لاشتراك العمال في عملية الانتاج الاجتماعي وحصولهم على وسائل المعيشة. والعمال "أحرار" بمعنى أنهم لا يضطرون إلى العمل لدى شركة بعينها أو رأسمالي فرد بعينه. ولكنهم لا يستطيعون الإفلات من اضطرارهم لمحاولة العمل لدى شخص ما. وكما يقول ماركس:
"يستطيع العامل أن يترك رأسمالي فرد قام بتأجير نفسه له في أي وقت يشاء....لكن هذا العامل، الذي يعد بيع العمل مصدره الوحيد لكسب معاشه، لا يستطيع أن يترك طبقة المشترين بأكملها، وهي الطبقة الرأسمالية، دون أن يتخلى عن وجوده. إنه لا يخص هذا أو ذاك من البراجوازيين الفرادى، وإنما يخص الطبقة البرجوازية."
إن مصدر فائق القيمة هو الفرق بين قيمة قوة عمل العامل والقيمة التي أنتجها العمل المبذول. وما أن يحصل صاحب العمل على هذا الفائض، حتى يمكنه الاحتفاظ به مباشرة كأرباح، أو يستخدمه في سداد الفائدة على أموال اقترضها لبناء المصنع، أو يدفع بها ريعا لمالك الأرض التي يقوم عليها المصنع. وسواء جرى تقسيم فائض القيمة إلى أرباح أو فائدة أو ريع فإن مصدره يظل العمل الإضافي الذي قام به العمال – أي استغلال أولئك الذين يملكون وسائل الانتاج لأولئك الذين لا يملكون. وما أن يحصل المالك على الأرباح، فإنه يستطيع استخدامه في بناء وسائل إنتاج جديدة، مما يزيد من قدرته أكثر على ابتزاز العمال ليعملوا لصالحه وبشروطه حتى يحصلوا على وسائل معاشهم. وهذه هي العملية التي تجعل صاحب العمل رأسماليا، كما أنها تمنح معنى خاصا لكلمة "رأس المال". فهذه الكلمة يستخدمها اقتصاديو التيار الرسمي السائد كما تستخدم في الحياة اليومية فقط بمعنى الاستثمار طويل الأجل في مقابل الاستهلاك الفوري. ولكن عندما تكون وسائل الإنتاج تحت سيطرة مجموعة واحدة في المجتمع تجبر المجموعات الأخرى التي تريد كسب معاشها على العمل لصالحها يكون له معنى أعمق. فقد أصبح رأس المال ناتجا عن العمل السابق وقادرا على التوسع عبر استغلال العمل الحالي. إنه كما يقول ماركس ليس شيئا، وإنما علاقة:
"إن العامل لا يملك عملية خلق القيمة وقوة تعزيز القيمة، وإنما يملكها الرأسمالي…فكل تطور للقوى الإنتاجية للعمل هو تطور لقوى إنتاج رأس المال. وعبر احتواء هذه القوة في ذاته، يصبح رأس المال حيا ويبدأ في العمل، كما لو أن الحب امتلك كيانه. ويصبح العمل الحي مجرد وسيلة للحفاظ على العمل المتجسد وزيادته." 
الصوفية السلعية أصبحت الآن تتخذ شكلا يجعل الإبداع يبدو كامنا في منتجات عمل البشر وليس في الكائن البشري الحي نفسه، وهكذا يتحدث الناس عن أن رأس المال يخلق الثروة، وأن أصحاب العمل "يوفرون للناس فرص العمل"، بينما العمل في الواقع هو الذي يضيف إلى قيمة رأس المال والعامل هو الذي يقدم عملا إلى صاحب العمل.
فائض القيمة المطلق وفائض القيمة النسبي:
يميز ماركس بين طريقتين تستطيع من خلالها الشركات زيادة معدل فائض القيمة بالنسبة للأجور. إحداهما هي الطريقة الفجة بإطالة يوم العمل. وأطلق عليها مصطلح "فائق القيمة المطلق". وكانت هذه الطريقة في زيادة الأرباح واسعة الانتشار في السنوات الأولى للرأسمالية الصناعية، وقام ماركس بسرد أمثلة عديدة لها في كتابه رأس المال. لكن ماركس أيضا لاحظ في نفس الكتاب أن إطالة يوم العمل كثيرا ربما يأتي بنتيجة عكسية بالنسبة للرأسمالي:
"لابد حتما من الوصول إلى نقطة تبلغ فيها عمليتا إطالة يوم العمل وزيادة شدة العمل حد استبعاد إحديهما الأخرى، بطريقة تصبح عندها إطالة يوم العمل لا تتوافق إلا مع تخفيض شدة العمل. "
وهكذا، بعد أن مارست المصالح الرأسمالية الكبرى معارضة هائلة للمساعي المتتالية من أجل إقرار حد قانوني ليوم العمل بالنسبة للأطفال، استجابت هذه المصالح لضغوط الطبقة العاملة، واكتشفت أحيانا زيادة فعلية في الانتاج مع انخفاض ساعات العمل.  وخلال معظم القرن العشرين، بدا أسلوب إطالة يوم العمل أسلوبا ينتمي إلى الماضي. وفي البلدان المتقدمة على الأقل أجبرت مقاومة العمال الرأسماليين على قبول تخفيض أسبوع العمل مع إجازات مدفوعة الأجر. وتراجع أسبوع العمل من 72 ساعة في العهد الفيكتوري إلى 48 ساعة ثم إلى 44 ساعة أسبوعيا.
غير أن عددا آخر من الطرق توافر لزيادة كمية فائض القيمة التي تؤخذ من كل عامل والتي أطلق عليها ماركس "فائض القيمة النسبي". وقد اعتمدت على تخفيض نسبة وقت العمل التي تستهلك في تغطية تكلفة إعادة انتاج قدرة العامل على العمل، أي إعادة إنتاج قوة العمل. وتتخذ هذه الطرق ثلاثة أشكال. الأول إدخال آلات جديدة في موقع العمل من أجل زيادة الإنتاجية وتخفيض كمية الوقت التي يستغرقها العمال في إنتاج السلع التي تستخدم حصيلة بيعها في تغطية أجورهم. ويترتب على ذلك أن تغطي ساعتان من العمل تكلفة قوة العمل بدلا من أربع ساعات مثلا، مما يعني إضافة ساعتي عمل إلى الوقت الخاص بإنتاج فائض القيمة. وقد اعتبر ماركس ذلك طريقة لزيادة الاستغلال لجأ إليها الرأسماليون عند مواجهة صعوبات إطالة أسبوع العمل في منتصف القرن التاسع عشر.  وأصبحت إنتاجية العمال في الساعة ذات أهمية محورية بدلا من زيادة عدد ساعات العمل. غير أنها كانت مجرد وسيلة قصيرة الأجل بالنسبة للرأسماليين. فأول الرأسماليين الذين يدخلون الآلات الجديدة يكون قادرا على إنتاج نفس القدر من القيمة بعدد أقل من ساعات العمل. ومع قيام الرأسماليين الآخرين كذلك باستخدام آلات جديدة، ينخفض وقت العمل الضروري اجتماعيا للإنتاج ومع قيمة السلع التي يبيعها والزيادة في فائض القيمة التي يحصل عليها.
الشكل الثاني لزيادة فائض القيمة هو زيادة الإنتاجية في الصناعات والزراعة المنتجة للسلع الاستهلاكية. وفيه تنخفض كمية وقت العمل الضرورية لإنتاج هذه السلع وتنخفض الأسعار التي يضطر العمال لدفعها في شراء وسائل المعيشة. ومعنى ذلك أن التكلفة التي يتحملها الرأسماليون في أي مجال لتوفير مستوى المعيشة المعتاد للعمال (أي دفع ثمن قوة العمل) قد انخفضت، ويمكن زيادة كمية فائض القيمة التي يحصلون عليها دون تخفيض الأجور الحقيقية أو إطالة يوم العمل.
الطريقة الثالثة، هي تكثيف الضغوط على العمال لزيادة شدة العمل. وكما يوضح ماركس، فإن الطريقة الوحيدة "لتغيير الحجم النسبي" في وقت العمل الذي يحصل عليه الرأسمالي على حساب العمال دون تخفيض الأجور الحقيقية هي "إما تغيير إنتاجية العمل أو شدته". وكان هناك اندفاع لأن يفرضوا على العامل زيادة ما يبذله من عمل في وقت محدد وتعزيز توتر قوة العمل وأن يملأوا الثغرات في يوم العمل"، أو – مرة أخرى – "ما فقده الرأسماليون جراء تخفيض المدة يستردونه عبر زيادة توتر قوة العمل."
أصبح الاندفاع إلى زيادة الإنتاجية هوسا بالنسبة للشركات الكبيرة كما اتضح في حركة "الإدارة العلمية" التي أسسها الأمريكي ف.و. تايلور في تسعينيات القرن التاسع عشر.  كان تايلور يرى إن كل مهمة في الصناعة يمكن تجزئتها وتقسيمها إلى مهام أصغر وتأقيتها من أجل تحديد أقصى ما يمكن للعمال إنجازه. وبهذه الطريقة يمكن القضاء على أي فراغات في إيقاع العمل، مع زعم تايلور بأنه يستطيع زيادة كمية العمل خلال يوم واحد بنسبة تصل إلى 200 بالمئة.
وجدت "التايلورية" التعبير الوافي عنها مع إدخال نظام خط التجميع في مصانع سيارات هنري فورد. فقد أصبحت سرعة العمال في القيام بعملهم تعتمد الآن على سرعة حركة خط التجميع بدلا من الاعتماد على دوافعهم الفردية. وفي صناعات أخرى تحقق تطبيق نفس الضغوط على الناس للعمل بأقصى سرعة عبر زيادة الرقابة من قبل المشرفين، على سبيل المثال، مع تركيب عدادات ميكانيكية على الآلات تؤشر إلى حجم العمل الذي تم انجازه. واليوم توجد محاولات لتطبيق نفس المنهج في عدد من وظائف العمال ذوي الياقات البيضاء مع زيادة استخدام الحساب والتقييم، ومحاولات ربط الأجر بالنتائج، واستخدام عدادات ضربات المفاتيح على أجهزة الكمبيوتر، وهكذا.
التراكم والمنافسة:
إن عالم الانتاج السلعي هو عالم المنافسة بين المنتجين. إن عنصر المنافسة هذا هو ما يميز مجتمعا قائما على الانتاج السلعي والقيمة التبادلية عن مجتمع يقرر فيه الأفراد أو الجماعات ما هي القيم الاستعمالية الواجب إنتاجها لتلبية استهلاكهم الخاص.  فعبر التبادل، ترتبط الجهود التي يبذلها من يعملون في وحدة إنتاجية ما بجهود ملايين أو أفراد آخرين يعملون في وحدات أخرى، لكن هذا الارتباط لا يتم إلا عبر المنافسة بين من يتخذون القرارات المتعلقة بالإنتاج في كل وحدة منفصلة. وبعبارة إنجلز يوجد "إنتاج اجتماعي ولكن بملكية رأسمالية". ولذلك، فإن الشركة الرأسمالية التي تستغل العامل تنخرط بالضرورة في المنافسة مع شركات رأسمالية أخرى. وإذا لم تستطع التفوق عليها في المنافسة فسوف تجبر على الخروج من السوق. ومعنى أن تتفوق في المنافسة أن تحتل الصدارة في تطوير مزيد من التقنيات الإنتاجية الجديدة – وبهذه الطريقة فقط يمكنها أن تتأكد أنها لن تدفع خارج النشاط من قبل منافسين ينتجون ويبيعون سلعا أرخص مما تستطيع. وهي لا تستطيع أن تضمن القدرة على تحمل تكلفة المعدات الجديدة التي تستخدم هذه التقنيات إلا إذا بلغت أرباحها أعلى مستوى ممكن. ولكنها لو رفعت أرباحها حتى تصبح قادرة على إعادة استثمارها، فإن منافسوها مضطرون لذلك أيضا.  
إن حقيقة أن كل شركة تنغمس في استغلال العمل المأجور تعني أن أيا منها لا تجرؤ على أن تركن إلى الراحة رضا بما تم إنجازه. فمهما بلغ نجاح الشركة في الماضي، فإنها تعيش في ذعر من قيام شركة منافسة في استثمار أرباحها في بناء مصانع جديدة وآلات أحدث. فلا يجرؤ أي رأسمالي على التوقف لفترة من الزمن لأن معنى ذلك أنه سيتخلف وراء منافسيه. والتخلف عن المنافسين سوف ينتهي به إلى الإفلاس. وهذا هو ما يفسر دينامية الرأسمالية. الضغوط التي يتعرض لها كل رأسمالي حتى يظل متقدما على الآخرين تؤدي إلى التحديث المستمر للمصانع والآلات. وهكذا، لا تصبح الرأسمالية مجرد نظام لاستغلال عمال مأجورين "أحرار"، وإنما أيضا نظام التراكم الإجباري.
يوضح البيان الشيوعي الذي كتبه ماركس وإنجلز في أوائل عام 1848 أن: "البرجوازية خلال سيطرتها التي لم تتجاوز المائة عام خلقت قوى إنتاجية تفوق في ضخامتها وعددها ما أوجدته كل الأجيال السابقة مجتمعة." وقد شدد البيان على التحول المتواصل في الصناعة في ظل الرأسمالية: "إن البرجوازية لا تستطيع البقاء دون تثوير مستمر لوسائل الإنتاج ... إن التثوير المستمر للإنتاج يميز عصر البرجوازية عن كل العصور السابقة."
وفي رأس المال، يكشف ماركس أن هذا الاندفاع المستمر نحو بناء صناعة أكبر فأكبر هو الطابع المميز للرأسمالية: "إن الرأسمالي، منهمكا في هوس بجعل القيمة تتوسع ذاتيا، يدفع الجنس البشري بوحشية إلى الانتاج من أجل الانتاج ... إلى التراكم من أجل التراكم، والانتاج من أجل الانتاج." ويبدأ المجلد الأول من رأس المال بتحليل الانتاج من أجل السوق (أي الانتاج السلعي)، ثم يبحث فيما يحدث عندما يظهر العمل المأجور وتصبح قوة العمل سلعة، وينتهي أخيرا إلى بيان كيف ينشأ عن الانتاج باستخدام العمل المأجور عملية تراكم إجباري تتجاهل احتياجات الإنسان والرغبات الفردية.
رأس المال إذن لا يعرف فقط بالاستغلال (الذي حدث في كثير من المجتمعات السابقة على الرأسمالية)، وإنما أيضا باندفاعه الضروري نحو التوسع الذاتي. إن هذا الاندفاع نحو الانتاج والتبادل يؤدي إلى زيادة حجم القيمة التي تمتلكها الشركة الرأسمالية – وهي عملية استخدم بعض الماركسيين في وصفها مصطلحا جديدا هو "Valorization" (أو خلق القيمة – وهو في رأيي مصطلح ملتبس).
ولذلك فإن النظام ليس مجرد نظام للإنتاج السلعي، وإنما أيضا نظام للتراكم التنافسي. وهذا ما يضع حدودا ليس فقط لما يمكن أن يفعله العمال وإنما أيضا لما يمكن أن يفعله الرأسماليون. لأنهم إذا لم يحاولوا باستمرار استغلال عمالهم بأقصى ما يمكن عمليا، لن يستطيعوا امتلاك فائض القيمة الضروري وإنفاقه لتحقيق تراكم بنفس السرعة لدى منافسيهم. يستطيع الرأسماليون الاختيار بين طريقة أو أخرى في استغلال عمالهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يقرروا عدم استغلال عمالهم إطلاقا، أو حتى أن يستغلوهم بدرجة أقل مما يفعله رأسماليون آخرون – إلا إذا أرادوا الإفلاس. فهم أنفسهم يخضعون لنظام يمضي في مساره العنيد مهما كانت مشاعر فرادى البشر.
فائض القيمة، التراكم، ومعدل الربح
إن الآلات والمواد الأولية نفسها لا تنتج القيمة. واستخدام العمل البشري فقط هو ما يضيف إلى الثروة الطبيعية التي كانت موجودة في حالتها الطبيعية، واستمرار العمل البشري فقط هو ما يستطيع زيادة هذه الثروة أكثر فأكثر. فاستخدام العمل البشري في الماضي هو ما أوجد الآلات والمواد الأولية ولا يمكن لهذه الآلات والمواد أن تحل محله في إنتاج قيمة جديدة. ولكنها ضرورية حتى يتمكن العمل البشري من تحقيق متوسط مستوى الإنتاجية السائد في مجتمع محدد وفي زمن محدد. ويجب أن تتضمن القيمة النهائية للسلع المنتجة جزءا يغطي تكلفة الآلات والمواد المستخدمة في إنتاجها. وعندما تنتج إحدى الشركات قماشا باستخدام عمال للعمل على الأنوال الكهربائية التي تنسج الصوف، يجب أن يغطي سعر المنتج النهائي ليس فقط تكلفة قوة عمل العمال (أي أجورهم) ولا فقط أرباح الشركة، وإنما أيضا تكلفة الصوف وتكلفة إهلاك الأنوال الكهربائية. فإذا أمكن أن تستمر هذه الأنوال في العمل لمدة عشرة أعوام، فلابد أن تغطي المبيعات السنوية للقماش عشر تكلفتها  كل عام – وهذا ما يطلق عليه المحاسبون تكلفة إهلاك رأس المال. أو، بتعبير آخر، إن العمل الذي يتجسد في قيمة هذا القماش لا يشمل فقط العمل الضروري اجتماعيا الذي بذله العمال مجددا، وإنما أيضا يشمل "العمل الميت" الذي استخدم في إنتاج الصوف وعشر قيمة الأنوال الكهربائية.
لهذه الأسباب، يرى ماركس إن الاستثمار الذي قام به الرأسمالي يمكن تقسيمه إلى جزئين، أحدهما يمثل الإنفاق على سداد أجور العمال، وهو ما أطلق عليه "رأس المال المتغير" – لأنه رأس المال الذي زاد قيمته باستخدام قوة العمل في العمل لخلق فائض القيمة خلال عملية الانتاج. والجزء الثاني يمثل الإنفاق على وسائل الإنتاج، وقد أطلق عليه ماركس "رأس المال الثابت" لأن قيمته الحالية انتقلت إلى قيمة السلع التي أنتجت دون زيادة – أي أن قيمته انتقلت فقط إلى المنتج النهائي. وفي حالة رأس المال الثابت المتجسد في أصول ثابتة (مباني المصنع والآلات الخ) يحدث انتقال القيمة على مدى عدة دورات للإنتاج، أما في حالة رأس المال الثابت المتجسد في أصول متداولة (مواد خام، وطاقة ومكونات) تنتقل القيمة في دورة إنتاج واحدة. يستخدم الماركسيون عادة حرف (م) للإشارة إلى رأس المال المتغير (رصيد الأجور المخصص لشراء قوة عمل العمال) وحرف (ث) للإشارة إلى رأس المال الثابت (المصنع، والمعدات والمواد الخام) وحرف (ف) للإشارة إلى فائض القيمة.
نسبة فائض القيمة إلى رأس المال المتغير (أي الأجور) هي النسبة بين الوقت الذي يعطيه العمال من يوم العمل لرأس المال مقارنة بالوقت الذي يعملون فيه لتغطية أجورهم – وهي تسمى أحيانا معدل الاستغلال. ويمكن تمثيل هذه النسبة بالمعادلة ف/م (فائض القيمة / رأس المال المتغير). ولكن بالنسبة للرأسمالي، فإنه لا يهتم فقط بنسبة فائض القيمة إلى الأجور، لأن استثماره ببساطة أكبر من مجرد الأموال التي ينفقها على الأجور. وهو يهتم بزيادة رأس المال ككل، وليس فقط رأس المال الذي  ينفق على الأجور. ولذلك فإن ما يعنيه هو نسبة فائض القيمة إلى إجمالي الاستثمار – أي جملة الإنفاق على الآلات وخامات الإنتاج وعلى الأجور أيضا. وهذه النسبة هي "معدل الربح" التي وضع لها ماركس المعادلة "ف/(ث + م)" – فائض القيمة/(رأس المال الثابت + رأس المال المتغير). ومعدل الربح لا يتأثر فقط بنسبة فائض القيمة إلى الأجور، وإنما أيضا بنسبة الإنفاق على الآلات وخامات الإنتاج (رأس المال الثابت) إلى الأجور (رأس المال المتغير). وقد أطلق ماركس على هذه النسبة الأخيرة (ث/م) مصطلح "التركيب العضوي لرأس المال". ويختلف هذه التركيب من صناعة إلى صناعة ومن فترة إلى أخرى. فعمليات الإنتاج المختلفة يمكن أن تستخدم نفس كمية العمل ولكن تستخدم كميات مختلفة من المعدات والمصانع، تكلفة المعدات في مصنع يستخدم ألف عامل لصناعة الملابس من القماش تقل عن تكلفة المعدات لمصنع يستخدم نفس عدد العمال لصهر خام الحديد وتحويله إلى صلب. ولهذه الحقيقة آثار هامة على دينامية الرأسمالية. فما يدفع عجلتها لا يقتصر على الاهتمام بنسبة فائض القيمة إلى الأجور، وإنما أيضا الاندفاع نحو زيادة والحفاظ على نسبة فائض القيمة إلى إجمالي الاستثمار بمختلف مستوياته. وهذه النقطة سوف نحتاج إلى الرجوع إليها مرارا.
التراكم البدائي
نحن نتعامل حاليا مع واقع شراء وبيع قوة العمل كأمر بديهي، يبدو "طبيعيا" مثل شروق الشمس وغروبها. لكن ذلك لم يكن في أي مكان في العالم أكثر من ملمح هامشي ضئيل في أي مجتمع قبل بضعة قرون.  هكذا كان لدى معظم الناس في أوروبا أواخر العصور الوسطى، أو في إفريقيا وآسيا في عهد الاستعمار الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، على الأقل فرصة الحصول على وسائل كسب معاشهم – حتى وإن كانوا يضطرون إلى تقديم حصة من إنتاجهم إلى ملاك الأراضي الطفيليين. كان بإمكان الفلاحين زراعة الغذاء على أراضيهم الخاصة وبإمكان الحرفيين صناعة المنتجات في ورشهم الصغيرة الخاصة. هذه الأوضاع غيرها وفقا لماركس عملية نهب وسلب ابتدائية -  أي استخدام القوة في نزع جماهير الناس عن أي سيطرة على وسائل الإنتاج. جرى ذلك في أغلب الأحوال بقوة الدولة وبتوجيه من بعض أكثر الجماعات تميزا في المجتمع. في انجلترا وفي ويلز مثلا تواكب صعود الرأسمالية مع عملية "التسييج" – أي طرد الفلاحين بالقوة من الأراضي المشاعية التي كانوا يزرعونها منذ قرون. ثم أجبرت القوانين ضد "التشرد" الفلاحين الذين نزعت حيازاتهم على البحث عن عمل بأي أجر يمكنهم الحصول عليه. وفي اسكتلندا كان لعمليات "التطهير" نفس الأثر، حيث قام كبار ملاك الأراضي بطرد صغار الفلاحين من الأرض حتى يستبدلوهم أولا بقطعان الأغنام ثم بالغزلان. ومع انتزاع الحكام البريطانيين إمبراطورية لأنفسهم تمتد في مختلف أرجاء العالم، اتخذوا اجراءات لإحداث نفس الانفصال بين جمهرة الناس وبين السيطرة على وسائل كسب معاشهم. ومثال ذلك، أنهم في الهند منحوا ملكية كاملة للأرض لطبقة الزامندار (جباة الضرائب) التي كانت تحظى فعلا بامتيازات عالية. وفي شرق وجنوب أفريقيا، قام البريطانيون عادة بإجبار كل عائلة على دفع مبلغ محدد من المال، ضريبة رأس، والتي لم تكن العائلات تستطيع سدادها إلا عبر إرسال بعض أفرادها للبحث عن عمل لدى الأوروبيين من كبار أصحاب المزارع أو رجال الأعمال.
أطلق ماركس على هذه العملية من تهيئة الظروف لنمو الانتاج الرأسمالي "عملية التراكم البدائي لرأس المال". ويشرح لنا ماركس كيف:
"أن اكتشاف الذهب والفضة في أمريكا، واستعباد وإبادة السكان الأصليين ودفنهم في المناجم، وبداية غزو ونهب الهند الشرقية، وتحويل إفريقيا إلي ساحة لاصطياد أصحاب البشرة السوداء والاتجار بهم، كل ذلك ميز الفجر الوردي لعصر الانتاج الرأسمالي.... "
لكن هذه الأعمال في ذاتها لا يمكن أن تؤدي إلى نظام الانتاج الرأسمالي. فعلى أي حال، كان النهب والسلب بطريقة أو بأخرى موجودا على مدار تاريخ المجتمع الطبقي، ممتدا في الزمن حتى العصور البابلية، دون أن يؤدي إلى التراكم السريع الذي يميز الرأسمالية. وكان ضروريا فصل جماهير الناس بالقوة عن أي سيطرة على وسائل الانتاج – وبالتالي عن أي إمكانية لكسب معاشهم دون بيع قوة عملهم: "إن حرمان المنتج الزراعي، الفلاح، من حيازة الأرض هو أساس هذه العملية برمتها." ولهذا السبب، يمكن أن تكون الإشارة إلى أي استيلاء على الثروة بالقوة من قبل الرأسماليين "كتراكم بدائي" إشارة مضللة.
فلهذه العملية في كتابات ماركس بعدان: فهي من ناحية تمثل "تحريرا" لجمهرة السكان من أي استحواذ مباشر على وسائل إنتاج معاشهم؛ ومن ناحية أخرى مراكمة الثروة من قبل طبقة معينة يمكنها أن تستخدم الضرورة الاقتصادية حتى تجعل هؤلاء "العمال الأحرار" يكدحون لصالحها.
ومع ترسيخ الرأسمالية لأقدامها، دفعت آلياتها الاقتصادية الخاصة عملية فصل الناس عن السيطرة على وسائل الإنتاج أكثر فأكثر، دون الحاجة إلى تدخل الدولة أو استخدام القوة لتحقيق هذا الانفصال. هكذا، كان في بريطانيا أواخر القرن الثامن عشر مئات الآلاف من النساجين الذين يستخدمون الأنوال اليدوية ويعملون لحسابهم الخاص في نسج الأقمشة وبيعها. وقد أخرجت الشركات الرأسمالية التي تستخدم الأنوال الآلية  كل هؤلاء من النشاط في غضون خمسين عاما. وفي أيرلندا في أربعينيات القرن التاسع عشر، حدثت مجاعة فظيعة بسبب إلزام الفلاحين الجوعي بدفع ريع إلى ملاك الأرض (وأغلبهم بريطانيون)، وأدت إلى موت مليون إنسان جوعا فيما أجبرت مليونا آخر إلى التخلي عن حيازاتهم والبحث عن عمل في بريطانيا وفي الولايات المتحدة. وتمكنت آليات السوق من تحقيق هذه الفظائع دون مساعدة مباشرة من الدولة (فيما عدا طبعا قيامها بحماية ملكية الاقطاعيين). وأصبحت الرأسمالية نظاما يقوم ويتوسع ذاتيا وقدرها أن تبتلع العالم كله داخل آلياتها.  

رأسمالية الزومبي - تأليف: كريس هارمان

ترجمة: رمضان متولي
مقدمة
عالم مضطرب
نحن نعيش في عالم مضطرب يعاني من عدم استقرار سوف يزيد، عالم يعاني فيه مليار إنسان من الجوع معاناة يومية، والجوع سوف يتفاقم. عالم يدمر البيئة التي تحتويه، والدمار سوف يشتد. عالم يتسم بالعنف، والعنف سوف يحتدم. عالم ينحسر فيه شعور الناس بالسعادة عن ذي قبل، حتى في بلدانه المتقدمة صناعيا، والتعاسة سوف تزداد وطأتها.
حتى الأكثر خسة وجبنا من بين مبرري الرأسمالية يواجهون صعوبة في مواصلة إنكار هذا الواقع مع استمرار تفاقم أعنف الأزمات الاقتصادية في تاريخ الرأسمالية منذ الحرب العالمية الثانية. وبينما أكتب هذه السطور، لم تفلت أشهر البنوك العالمية من الإفلاس إلا عبر تدخل حكومي هائل لإنقاذها. وتغلق آلاف المصانع والمحال والمكاتب أبوابها في مختلف أنحاء أوروبا وأميركا الشمالية. وترتفع نسبة البطالة بسرعة القذيفة. وقد أُبلغ عشرون مليونا من العمال في الصين بأن عليهم أن يعودوا إلى قراهم، فلا وظائف لهم في المدن.
وتحذر مؤسسة بحثية تابعة لأصحاب الأعمال في الهند من أن عشرة ملايين من العاملين لديهم يواجهون الطرد من الخدمة. ولازال الجوع يهدد مائة مليون من سكان العالم في نصف الكرة الجنوبي بسبب مضاعفة أسعار الحبوب في العام الماضي، بينما نُزعت ملكية الوحدات السكنية من ثلاث ملايين أسرة في الولايات المتحدة، أغنى بلدان العالم، خلال ثمانية عشر شهرا.
ومع ذلك، كان الخطاب مختلفا تماما منذ عامين فقط عندما بدأت في وضع هذا الكتاب، فقد ورد في تقرير لبنك التسويات الدولية أن الاقتصاديين "يجمعون" على أن: "معدلات النمو الاقتصادي التي ارتفعت مؤخرا سوف تستمر، وتظل  نسبة التضخم تحت السيطرة تماما، وتتحسن تدريجيا حالة الاختلال في ميزان المعاملات الجارية على مستوى دول العالم. ويوافقه في ذلك جميع السياسيين، ورجال الصناعة والتمويل والمعلقين، الذين شربوا الأنخاب احتفاءا بعجائب السوق الحرة، وطربوا لأن "عبقرية ريادة الأعمال" قد جرى تحريرها من الرقابة وقيود التنظيم. قالوا لنا إنه أمر رائع أن يزداد الأثرياء ثراءً لأن الحوافز التي تجعل النظام أكثر وفرة وسخاءً تنشأ عن ذلك. وأن التجارة سوف تخفف حدة الجوع في إفريقيا، وأن النمو الاقتصادي يجفف مستنقعات الفقر الشاسعة في آسيا، وأن أزمات السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وبداية الألفية الثالثة أصبحت ذكريات لنا أن نرميها وراء ظهورنا. وقد يعاني العالم من فظائع، مثل الحروب في الشرق الأوسط، والحروب الأهلية في إفريقيا، لكن هذه الفظائع ترجع إلى قصور في الرؤية لدى سياسيين في واشنطن وفي لندن، شرفاء في جوهرهم، وربما ارتكبوا أخطاء، لكن تدخلهم الإنساني مازال ضروريا لمواجهة مجانين ذوي نفوس معتلة. أما آراء المختلفين الذين ينظرون إلى الأمور بشكل مغاير فجرى تجاهلها، بينما تقوم وسائل الإعلام ببث هالات تحبيذ منمقة حول ثقافة متابعة المشاهير، وأنماط الاحتفاء بالذات لدى شرائح الطبقة الوسطى العليا، والانتشاء القوموي الفارغ في المسابقات الرياضية.
وفي منتصف أغسطس عام 2007، وقع حدث ما بدأ في إزاحة هالات الزيف الإعلامي ليرى الناس لمحة من الواقع المطموس. فقد اكتشفت بعض البنوك فجأة أنها لا تستطيع موازنة مراكزها المالية وتوقفت عن إقراض بعضها الآخر. وبدأ النظام المالي العالمي يسير بطيئا نحو التوقف الكامل بأزمة في الائتمان تحولت إلى أزمة شاملة للنظام في أكتوبر عام 2008. تحول الرضا عن الذات والغرور الرأسمالي إلى فزع رأسمالي، وتحولت الغبطة والنشوى إلى إحباط وقنوط. من كانوا بالأمس أبطالا تحولوا اليوم إلى محتالين. ومن هؤلاء الذين كانوا يؤكدون لنا روائع النظام خرجت رسالة واحدة مفادها: "نحن لا نعرف الخطأ الذي وقع، ولا نعرف ماذا نفعل إزاءه." والرجل الذي كان يعتبر منذ فترة قصيرة عبقرية فذة تشرف على النظام الاقتصادي للولايات المتحدة، وهو رئيس الاحتياطي الفيدرالي ألان جرينسبان، أقر أمام الكونجرس الأمريكي بأنه مازال "لا يفهم تمام الفهم ماذا حدث وسبب مشكلة فيما يعتقد أنها أسواق ذاتية التنظيم." وتقوم الحكومات بضخ مئات المليارات إلى من يديرون البنوك – وعشرات المليارات إلى من يديرون شركات السيارات متعددة الجنسية – أملا في إن يساعد ذلك في وقف الأزمة بطريقة ما. غير أنهم لا يتفقون فيما بينهم حول كيفية ذلك، بل وفيما إذا كانت جهودهم سوف تنجح أم لا.
لكن شيئا واحدا يمكن تأكيده، أنهم سوف ينسون مئات الملايين من البشر الذين دُمرت حياتهم بسبب الأزمة في تلك اللحظة التي يبدأ عندها الاستقرار في أي جزء من الاقتصاد العالمي. وبعد شهور قليلة من توقف الانهيار في البنوك ووقف تدهور الأرباح إلى الحضيض، سوف يعود المبررون إلى بث دعاياتهم الزائفة من جديد. وما أن يبدو مستقبلهم أفضل حتى يقومون بتعميم الصورة على مستوى العالم أجمع بتجديد الحديث عن روائع الرأسمالية ومناقبها واستحالة بدائلها – حتى تضرب الأزمة من جديد وترمي بهم مرة أخرى في متاهة الذعر.
غير أن الأزمات ليست ملمحا جديدا على النظام، وإنما تقع على فترات تطول أو تقصر منذ أرست الثورة الصناعية قواعد الرأسمالية الحديثة في بريطانيا كاملة في بداية القرن التاسع عشر.  

بؤس علم الاقتصاد:
برهن علم الاقتصاد السائد، الذي يجري تدريسه في المدارس والجامعات، على عدم قدرته على استيعاب هذه القضايا. بنك التسويات الدولية اعترف بأن "أحدا لم يتمكن فعليا من التنبؤ بوقوع الكساد الكبير في عقد الثلاثينيات أو الأزمات التي تعرضت لها اليابان ومنطقة جنوب شرق آسيا على التوالي في أوائل التسعينيات.  وكانت كل أزمة من الناحية الواقعية تسبقها فترة من النمو الاقتصادي غير التضخمي مرتفع بما يكفي ليدفع الكثير من المعلقين إلى الزعم بأن "عصرا جديدا" قد بدأ". إن عجز من يدافعون عن الرأسمالية عن تفسير أهم الأحداث الاقتصادية وأبرزها في القرن العشرين، وهو أزمة الكساد الكبير في الثلاثينيات، لا يعدله شيء آخر في تأطير وتلخيص ما يعانونه من عدم إدراك وفهم. وقد أقر الرئيس الحالي للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، بن برنانكي، وهو واحد من أبرز خبراء علم الاقتصاد السائد المتخصصين في الأزمات الاقتصادية، بأن "الغاية الأسمى التي يسعى لها علم الاقتصاد الكلي هي فهم وتفسير الكساد الكبير." بمعنى آخر، إنه لا يستطيع أن يجد تفسيرا لهذا الحدث. أما إدوارد فرسكورت، الحائز على جائزة نوبل، فقد وصف الكساد الكبير بأنه: "نوبة مرضية تتحدى التفسير وفق قواعد علم الاقتصاد." وروبرت لوكاش،  أحد الحائزين على نوبل أيضا، يقول: "إن الاعتراف بأنك لا تعرف ماذا يحدث في بعض الأمور يحتاج إلى إرادة وبذل مجهود حقيقي."
غير أن هذه الإخفاقات ليست فشلا عارضا. بل إنها بنيوية في تركيبة الافتراضات الخاصة بالمدرسة النيوكلاسيكية أو المدرسة الحدية التي هيمنت على علم الاقتصاد السائد على مدى قرن وربع القرن. فقد حمل مؤسسو هذه المدرسة على عاتقهم مهمة البرهنة على "وضوح" السوق – أي إثبات أن كل البضائع التي تطرح في السوق سوف تجد من يشتريها. لكن ذلك يفترض بداية استحالة وقوع الأزمات. وأدت لاعقلانية النموذج النيوكلاسيكي في مواجهة بعض خصائص الرأسمالية الأشد وضوحا إلى محاولة تلو الأخرى من قبل التيار السائد من أجل حشر عناصر إضافية فيه كلما تطلب ذلك. لكن أيا من هذه الإضافات والعناصر لم يغير عقيدتهم الأساسية بأن النظام سوف يعود إلى التوازن – بشرط استجابة الأسعار، وخاصة الأجور، لضغوط السوق دون عراقيل.  حتى جون ماينارد كينز، الذي تجاوز جميع الاقتصاديين الآخرين من التيار السائد في وضع فكرة التوازن موضع التساؤل والشك، افترض أن درجة من التدخل الحكومي يمكن أن تنجح في تحقيق التوازن.   
هذا التغاضي والتواطؤ كان يتعرض دائما للمواجهة. تهكم الاقتصادي النمساوي شومبيتر على فكرة تحقيق التعادل معتبرا إياها لا تتسق مع ما يراه الفضيلة الإيجابية الأعظم للرأسمالية، أي ديناميتها. وبعض تلاميذ كينز ذهبوا أبعد مما ذهب هو في القطع مع العقيدة النيوكلاسيكية. وقام اقتصاديو مدرسة كامبريدج بتفنيد الأساس النظري للمدرسة النيوكلاسيكية. ومع ذلك، بقيت هذه العقيدة راسخة بقوة داخل الجامعات والمدارس كما كانت دائما، تضخ في رؤوس الأجيال الجديدة جيلا بعد آخر صورة عن النظام الاقتصادي لا علاقة لها بالواقع. وأدى الضغط على الطلاب لدراسة الكتب التي تروج هذه الأفكار كما لو كانت نصوصا علمية إلى بيع ملايين النسخ من كتابي "علم الاقتصاد" لصموئيلسن و"مقدمة في علم الاقتصاد الوضعي" لليبساي.
ولا يثير الدهشة أن حرفة علم الاقتصاد تواجه صعوبة في استيعاب تلك الجوانب في النظام الرأسمالي ذات الأثر الأكبر على حياة البشر الذين يعيشون في ظله. إن النظريات البليدة التي تملأ نصوص الكتب الاقتصادية والدوريات الأكاديمية مع حساباتها الرياضية المتلاحقة وأشكالها الهندسية تفترض الاستقرار والتوازن، وهكذا ليس لديها ما تقدمه لبشر يشعرون بقلق نتيجة ميل النظام داخليا نحو الأزمة. وقد لاحظ مارشال، وهو أحد مؤسسي المدرسة النيوكلاسيكية، منذ ما يقرب من مائة عام أن النظرية الاقتصادية التي كان يتبناها لا فائدة لها في الممارسة العملية وأن "أي شخص قد يكون اقتصاديا أفضل إذا اعتمد على بديهته وغرائزه العملية."
ومع ذلك، فإن الأمر لا يتعلق فقد بالمدرسية الأكاديمية المجردة. فهذه العقيدة نتاج أيديولوجي بمعنى أنها تنطلق من موقف من يحققون أرباحا من نظام السوق. وتقدم تربحهم ذلك على أنه الطريقة المثلى للمساهمة في المصلحة العامة، فيما تعفيهم من المسئولية عن أي خطأ يحدث.  كما أنها تستبعد أي نقد جوهري للنظام القائم بطريقة تناسب من يحتلون المواقع القيادية في هياكل النظام التعليمي والمرتبطة كما هو الحال بجميع هياكل النظام الرأسمالي الأخرى. وتلخص عالمة الاقتصاد الكينزية الراديكالية جوان روبنسن الموقف كالتالي:
"لدى الراديكاليون أسهل الطرق لتأسيس قضيتهم. فما عليهم سوى أن يشيروا إلى التناقضات بين طريقة عمل الاقتصاد الحديث وبين الأفكار المفترض الحكم عليه بمقتضاها. بينما يتكبد المحافظون عناء القيام بمهمة مستحيلة تقريبا وهي البرهنة على أن هذا العالم هو أفضل ما يمكن تحقيقه. غير أنه لنفس السبب يجري تعويض المحافظين عن هذا العناء بوضعهم في مواقع السلطة التي يمكنهم استغلالها للسيطرة على الانتقادات … فلا يشعر المحافظون بالاضطرار إلى الرد على انتقادات الراديكاليين في مواضع قوتها، ولا تخاض المعركة أبدا على أساس عادل."
ولكن حتى معظم "الراديكاليين" عادة يتعاملون مع النظام القائم كبديهية معطاة. فكانت أفكار الكينزيين الراديكاليين مثل جوان روبنسن تتعلق دائما بإدخال تعديلات على النظام عبر زيادة التدخل الحكومي عما كان يتصوره اقتصاديو التيار السائد. وهم لا يرون النظام نفسه مدفوعا بدينامية داخلية لا تقتصر آثارها التدميرية على الظواهر الاقتصادية فقط. وهذا النظام، في القرن الحادي والعشرين، ينتج الحروب والمجاعات ويسبب التغيير المناخي بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية، ويحدث ذلك كله بوسائل تهدد أساس الحياة البشرية نفسها. تحول الرأسمالية المجتمع بأكمله بينما تمتص بلايين الناس في دائرة الكد لصالحها. إنها تغير نمط حياة البشر بالكامل، وتعيد تشكيل الطبيعة البشرية نفسها. وتضفي طابعا جديدا على أشكال الاضطهاد القديمة كما تتقيأ علينا أشكالا جديدة.
الرأسمالية تنشئ الدوافع لشن الحروب وتدمير البيئة. وتبدو كما لو كانت تؤدي دور إحدى قوى الطبيعة، متسببة في فوضى ودمار يتجاوز في حجمه دمار الزلزال والإعصار والتسونامي. لكن هذا النظام ليس ناتجا عن قوى الطبيعة، وإنما عن نشاط بشري. نشاط بشري أفلت بطريقة ما من سيطرة البشر واتخذ لنفسه حياة مستقلة عنهم.  يكتب الاقتصاديون "إن السوق تفعل هذا" أو "إنها تتطلب ذاك". غير أن السوق ليست سوى تجميعا لمنتجات حركات متباينة وكثيرة لنشاط الانسان الخلاق، ألا وهو العمل. ما يخفيه كلام هؤلاء الاقتصاديين أن هذه العمليات بطريقة ما تحولت إلى آلة تسيطر على البشر الذين يقومون بهذا النشاط، وتدفع بذلك العالم في اتجاه لا يبتغيه قلة من البشر يحتفظون بسلامة عقولهم. في مواجهة الأزمة المالية التي اندلعت في عام 2007، بدأ عدد من المعلقين الاقتصاديين فعليا في الحديث عن "بنوك زومبي" – أي مؤسسات مالية أصبحت في "حالة اللاموتى" عاجزة عن القيام بأي وظيفة إيجابية ولكنها تشكل خطرا على كل شيء آخر. وما يتغافلون عن إقراره هو أن رأسمالية القرن الحادي والعشرين بأكملها أصبحت نظاما زومبيا، نظاما ميتا فيما يبدو عندما يتعلق الأمر بتحقيق أهداف البشرية والاستجابة لمشاعر البشر، ولكنه قادر على الاندفاع في نشاط فجائي يسبب الفوضى في كل اتجاه.

عالم تحول ضدنا
تراث التحليل الذي ترجع أصوله إلى كتابات كارل ماركس ورفيق عمره فريدريك إنجلز كان فريدا في رصانته لدى محاولة تفسير طبيعة النظام في هذا المضمار. أصبح ماركس يافعا في أوائل الأربعينيات من القرن التاسع عشر، في وقت بدأت فيه الرأسمالية الصناعية إحداث أول أثر محدود لها على جنوب ألمانيا، حيث مسقط رأسه. أما إنجلز فقد أرسله والده لإدارة مصنع له في مانشستر، حيث كان النظام الجديد مزدهرا فعلا. وكانت لديهما الرغبة مثل جيل كامل تقريبا من شباب المثقفين الألمان في إطاحة النظام الإقطاعي البروسي القمعي المتمثل في حكم طبقة يرأسها ملك يتمتع بسلطات استبدادية. ولكنهما بدءا بسرعة في إدراك أن الرأسمالية الصناعية التي كانت تحل مكان النظام الإقطاعي تحتوي خصائص قمعية خاصة بها، أهمها أنها تمتاز بإخضاع أغلبية الناس للعمل الذي يؤدونه بصورة غير إنسانية.  ما بدأ ماركس في اكتشافه عن طريقة عمل النظام الذي كان جديدا آنذاك دفعه إلى القيام بقراءة نقدية لأبرز أنصاره وهما عالما الاقتصاد السياسي آدم سميث وديفيد ريكاردو. واستنتج من ذلك أن النظام يحرم أغلبية البشر من عوائد الثروة رغم أنه يعظم كثيرا من حجم الثروة التي يمكنهم إنتاجها:
 "كلما أنتج العامل أكثر، كلما اضطر لاستهلاك أقل؛ وكلما خلق قيما أكثر، كلما تراجعت قيمته وأصبح بلا قيمة … (النظام) يستبدل العمل بالآلات، ولكنه يدفع قطاعا من العمال إلى أنماط بدائية من العمل، كما يحول قطاعا آخر إلى آلة … إنه ينتج الذكاء – ولكنه ينتج الغباء بالنسبة للعمال … وصحيح أن العمل ينتج أشياء رائعة للأغنياء – ولكنه ينتج الحرمان للعمال. إنه يبني القصور -  ولكنه يترك الأكواخ القذرة للعمال. وهو ينتج الجمال – ولكنه يشوه العمال …  لا يشعر العامل بنفسه إلا خارج العمل، وفي العمل يشعر بغربته عن نفسه. ويشعر بوجوده عندما لا يعمل,وعندما يكون في العمل لا يشعر بوجوده."
            وقد وصف ماركس ما يحدث في كتاباته الأولى بكلمة "الاغتراب"، مستخدما في ذلك مصطلحا فلسفيا وضعه الفيلسوف الألماني هيجل. وقد استخدم فيورباخ الذي عاصر ماركس نفس المصطلح لوصف الدين عندما قال إن الدين منتج بشري سمح له الناس بأن يسيطر على حياتهم. وقد أصبح ماركس الآن ينظر إلى الرأسمالية بنفس الطريقة. فالعمل البشري هو الذي ينتج الثروة الجديدة، ولكن هذه الثروة تحولت إلى وحش يسيطر على العمال في ظل الرأسمالية ويطلب المزيد والمزيد من العمل ليلتهمه. الشيء الذي ينتجه العمل يقف في مواجهته كشيء غريب عنه، كقوة مستقلة عمن أنتجها. وكلما بذل العامل نفسه في عمله، كلما ازداد الشيء الغريب قوة، وكلما تحول ضده عالم الأشياء الذي يجلبه إلى الوجود، وكلما أصبح هو وعالمه الخاص بائسا، وكلما أصبحت هذه الأشياء لا تخصه …  يبذل العامل حياته في إنتاج الأشياء، ولكنها لا تعود ملكا له، بل تصبح ملكا لشيء.
            وكما يشرح ماركس في مذكرات خاصة بكتابه رأس المال في أوائل الستينيات من القرن التاسع عشر:
            "إن سلطة رأس المال على العامل هي سلطة الأشياء على البشر، سلطة العمل الميت على العمل الحي، سلطة الشيء المنتج على من أنتجه، لأن السلع التي تتحول إلى وسائل للسيطرة على العامل في حقيقتها مجرد منتجات لعملية الانتاج … إنها عملية اغتراب عمله الاجتماعي الخاص."
            ولكن ماركس لم يكن يقتصر على تسجيل تلك الأوضاع القائمة. فقد قام آخرون بهذه المهمة قبله، وواصل كثيرون أداءها لفترة طويلة بعد وفاته. بل شرع أيضا، عبر ربع قرن من العمل الذهني الكثيف، في محاولة دراسة الكيفية التي نشأ بها النظام وقواه التي أطلقها وتتعارض معه. فلم تكن أعماله مجرد كتابات في علم الاقتصاد وإنما "نقد للاقتصاد السياسي"، أي للنظام الذي تعاملت معه المدراس الفكرية الأخرى كمسلمة معطاة. وكانت نقطة الانطلاق عنده هي أن الرأسمالية نتاج تاريخي، ليتوصل إلى اكتشافه بأنها نتيجة لدينامية تدفعها باستمرار إلى الأمام في عملية تغير لا نهائي عبر "تثوير متواصل لعملية الانتاج، واضطراب دائم لكل الأوضاع الاجتماعية، وإثارة وقلق أبدي." وكانت دراسات ماركس الاقتصادية في مرحلة نضجه تهدف إلى إدراك طبيعة هذه الدينامية، علاوة على اتجاهات تطور النظام. وهذه الدراسات تمثل نقطة انطلاق لا غنى عنها لمن يريد محاولة إدراك الاتجاه الذي يسير فيه العالم حاليا.  
واعتمد منهجه على تحليل النظام عند مستويات مختلفة من التجريد. ففي الجزء الأول من كتاب رأس المال، شرع ماركس في تحديد أكثر الملامح الأساسية عمومية في عملية الانتاج الرأسمالي. أما الجزء الثاني فيتناول الطريقة التي يتم بها تداول رأس المال والسلع والنقود داخل هذا النظام، ويدمج الجزء الثالث عملية الانتاج وعملية التداول ليقدم تحليلا ملموسا أكثر لقضايا مثل معدلات الأرباح، والأزمة الاقتصادية، والنظام الائتماني والريع. وكان ماركس ينوي كتابة أجزاء أخرى تتناول بين أمور أخرى مسائل الدولة، والتجارة الخارجية والأسواق العالمية. ولم يتمكن من استكمالها، رغم أن بعض ما كتبه لإصدارها ورد في العديد من المذكرات التي تركها.
ولذلك فإن كتاب "رأس المال" عمل لم يكتمل في بعض جوانبه، ولكنه رغم عدم اكتماله حقق هدفا يتعلق بالكشف عن العمليات الأساسية في حركة النظام، متضمنا في تناوله ذات القضايا التي تتجاهلها نظرية التوازن الستاتيكية لدى التيار السائد في المدرسة النيوكلاسيكية: التقدم التقني، والتراكم، والأزمات المتعاقبة، وتزايد الفقر بالتوازي مع زيادة الثروة. 
الاستفادة من ماركس اليوم
لهذه الأسباب، يجب أن يبدأ أي تفسير للنظام العالمي اليوم بالمفاهيم الأساسية التي وضعها ماركس، وقد سعيت إلى تلخيص هذه المفاهيم في الفصول الثلاثة الأولى من هذا الكتاب، وربما يعتبر بعض القراء ممن لديهم خلفية ماركسية ذلك التلخيص زائدا عن الحاجة. لكن هذه المفاهيم غالبا ما يُساء فهمها داخل المعسكر الماركسي كما يُساء فهمها من خارجه، فيجري النظر إليها كمفاهيم تنافس المفاهيم النيوكلاسيكية في تقديم نظرية للتوازن في هياكل الأسعار وبالتالي يتبين خطؤها بسبب إخفاقها في ذلك. 
ويتمثل أحد ردود الفعل على ذلك في استبعاد عناصر أساسية في نظرية ماركس، بما يجعلها مجرد تحليل لعملية الاستغلال وفوضى المنافسة الرأسمالية. رد فعل آخر، يبدو مناقضا للأول، يتمثل في اتخاذ نهج مدرسي تقريبا تتنافس فيه مختلف التفسيرات على دراسة نصوص ماركس وهيجل. وعلى الأغلب، يبدو كما لو أن النظرية الماركسية وقعت في فخ أعده معارضوها وتراجعت لتصبح مستودعا نظريا خاصا، ينفصل عن الواقع الحقيقي مثل نظريات معارضيها. ولهذا السبب شعرت بضرورة توضيح المفاهيم الأساسية بطريقة آمل أن تكون سهلة، مبينا كيف تصف هذه المفاهيم تفاعلات القوى الأساسية التي تحدد اتجاه التطور الرأسمالي. وتركت المناقشة التفصيلية للتفسيرات الأخرى في هوامش الكتاب. غير أنني رأيت ضرورة معالجة أكثر الاعتراضات شيوعا على نظرية ماركس من جانب التيار السائد من علماء الاقتصاد في الفصل الثاني، لأن كل من يدرس علم الاقتصاد في المدرسة أو الجامعة سوف يكون عرضة لتأثير أفكارهم. أما القراء الذين حالفهم الحظ بما يكفي لاجتناب هذا المصير، فلهم أن يتجاوزوا عن قراءة هذا الفصل.
            عدم اكتمال تحليل ماركس يظهر تأثيره حقا عند محاولة معالجة التغيرات التي طرأت على الرأسمالية بعد وفاته. وهي قضايا يشير إليها بشكل عابر فقط في رأس المال – مثل نمو الاحتكارات، تدخل الدولة في الانتاج الرأسمالي والأسواق، تقديم خدمات الرفاه الاجتماعي، الحرب كسلاح اقتصادي – وقد أصبح لها أهمية هائلة. واضطرت الظروف الماركسيين خلال العقود الأولى من القرن العشرين لمناقشة بعض هذه القضايا، وترتب على ذلك دفعة جديدة من التفكير الخلاق خلال الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين. وأسعى إلى أن أستمد من هذه المناقشات مجموعة المفاهيم الضرورية لتجاوز كتاب رأس المال وملئ الفجوات في تحليل ماركس للنظام في الفصلين الرابع والخامس.
            بقية الكتاب بعد ذلك يحاول التعامل مع تطور الرأسمالية على مدى الأعوام الثمانين الأخيرة، منذ أزمة الكساد الكبير في سنوات ما بين الحربين وحتى الأزمة التي تسبب اضطرابا في مختلف أنحاء العالم الآن. لن يقتصر التناول على مجرد تحليل للعمليات الاقتصادية، وإنما في كل مرحلة سيمتد إلى تحليل كيف أن التفاعل بين رؤوس الأموال والدول على مستوى العالم يؤدي إلى حروب وحروب أهلية ومجاعات وكوارث بيئية مثلما يؤدي إلى أزمات وموجات من الرخاء. إن الأسلحة النووية وانبعاثات الغازات المسببة لثقب الأوزون نتاج للعمل المغترب على نفس المستوى مع مصانع السيارات ومناجم الفحم.   
ملحوظة حول الكتاب:
كان لعدم استقرار الاقتصاد الرأسمالي أثره على كتابة هذا الكتاب. فقد بدأت في وضع مسودته عندما بلغ ما أسميه "الوهم الكبير" – وهو الاعتقاد بأن الرأسمالية اكتشفت طريقا جديدة للتوسع بدون أزمات – ذروته في أواخر عام 2006. وكنت أرى أن وقوع أزمة جديدة مسألة حتمية، بنفس الطريقة التي يعرف بها شخص يعيش في مدينة بنيت على خط شرخ سيزمي أنها سوف تتعرض إلى زلزال في لحظة ما. ولكنني لم أتظاهر بالقدرة على التنبؤ بموعد وقوع تلك الأزمة، أو إلى مدى ستكون مدمرة. بل إن هدفي من هذا الكتاب هو تحديث كتابي "تفسير الأزمة" الذي وضع منذ 25 عاما، واضعا في الاعتبار التغيرات التي شهدها النظام خلال هذه الفترة، مع إعادة التأكيد على الاستنتاج الأساسي ومؤداه أن الهروب الأعمى للأمام سيكون له عواقب مدمرة على حياة البشر خلال ما تبقى من سنوات القرن الحالي، عبر اندلاع أزمات سياسية واجتماعية هائلة تنطوي على إمكانات ثورية. لكن واحدة من هذه الاندفاعات العمياء أصابنا تأثيرها بينما كنت أنتهي من مسودة الكتاب. فأزمة الائتمان التي وقعت في أغسطس 2007 تحولت إلى أزمة كبرى في سبتمبر-أكتوبر 2008، لتدفع واحدا من أنصار النظام هو ويليام بويتر لأن يكتب عن "نهاية الرأسمالية كما عرفناها." وهكذا، تفاصيل كثيرة كنت أتناولها كجزء من الحاضر تحولت فجأة إلى جزء من الماضي، وانتشرت المطالبة الملحة لتفسير أسباب هذه الأزمة في كل مكان. ولم يكن أمامي خيار إلا أن أعمل على تحديث وإعادة هيكلة ما كتبته، ليتحول التركيز في بعض الفصول الأخيرة من الكتاب من مناقشة ما سوف يحدث عبر العقود المقبلة، إلى معالجة ما يحدث فعلا هنا والآن. وخلال هذه العملية قمت باختصار ما يقرب من ثلث عدد كلمات المسودة التي بلغت 150 ألف كلمة، وحذف جانب كبير من التفاصيل في محاولة لأن أجعل الكتاب ككل سهلا في فهمه. أما القراء الذين يهتمون بالتفاصيل الكثيرة فيمكنهم الاطلاع عليها في حوالي 15 مقالا في مجال الاقتصاد كتبتها لفصلية الانترناشونال سوشاليزم على مدى عشرين عاما، بينما يجدون معالحة بعض المسائل النظرية بتركيز أكبر في كتابي "تفسير الأزمة".   
ملحوظة حول الأرقام والمصطلحات
أي شخص يحاول تفسير التغيرات الاقتصادية لا خيار أمامه إلا استخدام المعلومات الإحصائية التي تقدمها الحكومات ومنظمات الأعمال، ومؤسسات دولية مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، ومنظمة التجارة العالمية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. وهذا الكتاب ليس استثناء من ذلك، ولكن ينبغي تحذير القراء من أن بعض الأرقام شائعة الاستخدام قد تكون مضللة في عدد من الجوانب الهامة. فأرقام النمو الاقتصادي خاصة ليست قاطعة وواضحة كما تبدو أحيانا. حيث يتعلق قياس النمو عادة بأرقام المنتجات المطروحة في الأسواق. غير أن كثيرا من العمل الإنساني الذي يمثل إضافة لرفاهة البشر لا يطرح في السوق، وينطبق ذلك على عمل المرأة المنزلي وبدرجة أقل كثيرا على عمل الرجل. كما أنه ينطبق تاريخيا على الكثير من عمل العائلة الفلاحية في أرضها. ويترتب على هذا الخلل تكوين انطباع زائف عن زيادة الثروة عندما تبدأ الأسر في شراء سلع كانت تقوم بانتاجها خارج إطار السوق – مثلا عندما تخرج زوجة إلى سوق العمل وتحصل على وظيفة وتبدأ في شراء وجبات جاهزة للطهو، أو أن تستأجر عائلة فلاحية شخصا آخر لبناء كوخ على أرضها وقد كانت تقوم هي نفسها ببنائه قبل ذلك.  
هذه التغيرات تجعل الأرقام المعلنة عادة تعطي صورة مشوهة باستمرار مع زيادة اتساع السوق ودخول المزيد من النساء إلى سوق العمل المأجور عبر العقود الماضية. كما أن الأرقام المعلنة رسميا تبالغ في أرقام معدل النمو الحقيقي في السلع التي تلبي احتياجات الناس، عبر حساب أشياء مثل الخدمات المالية ضمن إجمالي الناتج، وكل ما تعنيه هو مجرد انتقال الثروة من جيب إلى آخر – وهي كذلك ظاهرة خاصة تميز العقود الماضية. وأخيرا، لا يمكن مساواة أرقام نصيب الفرد من الناتج المحلي، كما يحدث في كثير من الأحيان، بمستوى رفاهة البشر، حيث يوزع هذا الناتج دائما بصورة غير متساوية بين الطبقات. ومع ذلك، وبسبب غياب أي وسيلة أخرى أفضل، اضطررت إلى استخدام هذه الأرقام.
تفسير مختصر للمصطلحات التي استخدمها:
بشكل عام، استخدم مصطلح "الغرب" و "الشرق" بالمعنى الذي كان مستخدما خلال سنوات الحرب الباردة من القرن الماضي، مع ضم اليابان إلى "الغرب". أما "العالم الثالث" و "جنوب العالم" فيشيران إلى الأجزاء الفقيرة من العالم التي عانت من ضعف مستوى التصنيع فيها على مدى معظم القرن العشرين، وكذلك مصلطحات مثل "الدول النامية" أو "الدول المتخلفة" التي استخدمها في بعض الإحصاءات. "الدول الشيوعية" تعود إلى الأنظمة الشبيهة بالاتحاد السوفييتي قبل عام 1991. أما "رأس المال الإنتاجي" فهي رأس المال الذي يجري توظيفه في الصناعة أو الزراعة مقابل ما يتم توظيفه في قطاعي التمويل والتجارة. وأخيرا، فإن الرأسماليين يفترض أنهم من الذكور، لأن 99.99% منهم كانوا كذلك حتى عشرين عاما مضت، بينما يفترض في العمال الذين يُستغلون من جانبهم أنهم من الجنسين. وفي هذا الكتاب قائمة بالمصطلحات في محاولة لجعل مادته أسهل بالنسبة لكل من حالفهم الحظ لدراسة علم الاقتصاد السائد وأولئك الذين لم يتعرفوا بعد على الكتب الماركسية.