السبت، 2 أكتوبر 2021

رأسمالية الزومبي – كريس هارمان – الفصل الثالث عشر: النظام المنفلت ومستقبل البشرية – ترجمة رمضان متولي

 الفصل الثالث عشر:

النظام المنفلت ومستقبل البشرية

في عام 1999 نشر أنتوني جيدنز كتابا يحمل عنوانا غريبا، وكانت الأوهام حول العولمة وحول "النموذج الاقتصادي الجديد" في ذروتها. كان جيدنز، ولا زال، أشهر المدافعين الأكاديميين في بريطانيا عن فكر "الطريق الثالث" الذي ينبذ محاولات الاشتراكية الديمقراطية القديمة لترويض الرأسمالية، واستحق وصف "سوسيولوجي بلاط توني بلير".(1) غير أن عنوان كتابه كان "العالم المنفلت". ويقدم صورة للعالم كحصان مندفع، لا تستطيع الحكومات ولا الحركات الاجتماعية ولا الأفراد إيقافه، بل إن عليهم التوازن في وضع مختل وغير آمن. وأقصى ما يستطيعون هو محاولة التأثير على الاتجاه الذي يأخذهم فيه، عبر تحفيزه بالاستثمار في رأس المال الاجتماعي من ناحية، وكبح جماحه بتخفيض الإنفاق على الرعاية الاجتماعية من ناحية أخرى. ومع ذلك، فإن تتابع الأزمات والحروب التي تخللت العقود الأربعة الأخيرة تكشف عن عبثية هذه الجهود.

واقع الأمر أن العالم المنفلت هو النظام الاقتصادي الذي وصفه ماركس، إنه وحش فرانكنشتاين الذي أفلت من سيطرة البشر، مصاص الدماء الذي يستنزف دم الحياة من الأبدان التي يتغذى عليها. وقد قاده التوسع الذاتي فعلا إلى أن يحيط بالعالم كله، ويجر البشرية كلها داخل دوائره التي تحكمها المنافسة من أجل التراكم، والتراكم من أجل المنافسة.  

هذا التوسع الذاتي، في القرن الحادي والعشرين كما في منتصف القرن التاسع عشر عندما كان ماركس يجري أبحاثه لكتاب رأس المال، يتسم بالتوقف السريع والانطلاق من جديد، بالاندفاع للأمام في جنون تقطعه أزمات عميقة ومفاجئة. إن مرور النظام في دورات التوسع والركود هو طابعه الآخر الذي أشار إليه ماركس: إن ضغوط انخفاض ربحية رأس المال تدفع الرأسماليين إلى محاولة تخفيض الأجور والمزايا الاجتماعية في نفس الوقت الذي يضغطون فيه على الناس أن يعملوا أكثر، رغم أنهم بذلك يضعفون الطلب في أسواق السلع الاستهلاكية التي ينتجها رأسماليون آخرون. وقد رأينا كيف تضافرت هذه العوامل حتى تسببت في الكساد الكبير خلال سنوات ما بين الحربين، والأزمات الجديدة التي وقعت في أواخر سبعينيات القرن العشرين، والأزمة اليابانية الطويلة والممتدة خلال تسعينيات القرن الماضي. وقد رأينا كذلك كيف تسببت في فقاعة اقتصاد الديون التي توجت بالأزمة الكبرى في أعوام 2007-2009. وسوف نرى ذلك يتكرر بصورة أو بأخرى في العقود القادمة.

بل إن النظام، من بعض جوانبه، أكثر فوضوية مما وصف ماركس في تحليله. إن مجرد حجم الوحدات الكبيرة التي يتكون منها يعني أنه فقد بعض مرونته القديمة. فتدمير بعض رؤوس الأموال عبر الأزمات الدورية، الذي كان يوما يمنح الحياة لما تبقى منها، أصبح الآن يهدد بجر رؤوس الأموال الأخرى نحو الدمار. ربما تكون عمليات الإنقاذ التي تقوم بها الدولة قادرة على حماية النظام من الانهيار الكامل، لكنها لا تستطيع أن ترد إليه حيويته على المدى الطويل. ففي أفضل الأحوال، يمكنها أن تحقق فترة قصيرة من الانتعاش المحموم قبل وقوع أزمة أخرى. وعاجلا أو آجلا، تتسبب تكلفة توفير برامج الإنقاذ في ضغوط شديدة على موارد الدولة لتقترب من نقطة قاصمة.  

إن الدول الحديثة مؤسسات من صنع النظام الرأسمالي، تتغير وتتطور ببطء لتخدم احتياجات تجمعات رؤوس الأموال في المنطقة الجغرافية التي تشكلها. وبقدر ما يزيد اعتماد هذه التجمعات على علاقاتها بالنظام العالمي، بقدر ما تزيد حاجتها إلى سلطة الدول من أجل حماية مصالحها داخل حدودها. غير أن كل دولة لا تستطيع تحقيق هذه الأهداف إلا عبر ممارسة ضغوط على دول أخرى، وفي سياق هذه العملية تؤدي إلى زيادة حالة عدم استقرار النظام ككل. فالاجراءات التي تتخذها الدول لمساعدة رؤوس الأموال التي تعمل داخلها في أوقات الأزمات تتعدى بالضرورة على مصالح رؤوس أموال تعمل داخل دول أخرى، ما يؤدي إلى تأجيج حالة عدم الاستقرار. ولا يقتصر حجم تأثيرها على أزمة اقتصادية معينة، بل تقدم ملمحا عما ستؤول إليه صورة القرن الحادي والعشرين.

إن الرأسمالية نظام مضطرب لا يهدأ، سواء في فترات الازدهار أو الأزمة، في السلم أو في الحرب، في مدينة كبيرة أو قرية نائية بالريف. وعملية التراكم التنافسي تعيد تشكيل كل شيئ تلامسه، ثم وبعد أن تفرغ من ذلك، تعيد تشكيل كل شيئ مرة أخرى. إن سرعة التغيير ذاتها تكتسي أهمية هائلة. ذلك أنها تعني أن الأوزان الاقتصادية النسبية لمختلف الدول التي تعمل فيها وحدات رأس المال في تغير مستمر، تماما كما أن الدول مضطرة إلى محاولة التدخل لحماية رأسمالييها من التغيرات والتوترات المتلاحقة في النظام العالمي.

وهذه مشكلة حادة بالنسبة للولايات المتحدة في قمة التراتبية العالمية. فقد اعتمدت مكانتها في النظام على كونها "رجل شرطة" النظام بأكمله، تقدم حماية عامة على طريقة المافيا للطبقات الحاكمة الأخرى بينما تستخدم مكانتها تلك في ضمان مركز متميز لرؤوس الأموال التي تعمل داخلها. وفي أوقات الأزمات، تشتد حاجة رؤوس الأموال تلك إلى ذلك الموقع المتميز أكثر من أي وقت آخر. لكن إخفاقات "الحرب على الإرهاب" أدت إلى أن دولا أخرى كانت تشعر فعلا في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة بأنها في وضع قوي يسمح لها بأن تتحدى تلك الامتيازات، كما اتضح من زيادة نفوذ الصين في إفريقيا، ونفوذ روسيا في بعض مناطق الاتحاد السوفييتي السابق، وتأثير دول مجموعة البريكس في مفاوضات التجارة العالمية. ثم جاءت الأزمة التي بدأت عام 2007 مع انتشار توقعات بأنها سوف تضعف الهيمنة العالمية للولايات المتحدة أكثر في وقت تتطلع كثير من شركاتها الكبرى إلى تلك الهمينة لتساعدها في الخروج من الأزمة.

ربما أن الامبريالية الأمريكية قد شذبت مؤقتا مع إدراكها كيف أن بعض مغامراتها الأخيرة قد انتهت إلى غير صالحها – تماما كما فعلت حرب فييتنام. لكنها لا تستطيع أن تتخلى عن مكانتها العالمية، حتى وإن كان الدفاع عن تلك المكانة يؤدي إلى محاولات أخرى لتأكيد تفوقها العسكري في بلاد أخرى فقيرة بما يترتب عليها من دمار وخراب. فكان نشر مزيد من القوات العسكرية بقصد ضمان ألا يتحول انسحابها من العراق إلى هزيمة منكرة في أفغانستان. من الضروري ملاحظة أن موازنة باراك أوباما الأولى تضمنت زيادة الإنفاق العسكري لا تخفيضه. وكذلك موازنة كل من الصين وروسيا اللتان أعلنتا خلال نفس الشهر. إن الطريق الدامية التي انطلقت من كوريا إلى فييتنام ومن فييتنام إلى العراق لم تبلغ نهايتها بعد.

ليس هذا كل شيئ. إن الحدود البيئية "الجديدة" لرأس المال سوف يرتد تأثيرها على حدوده الاقتصادية. فتغير المناخ، والذروة النفطية، ونقص الغذاء عالميا سوف تعزز حالة عدم الاستقرار الاقتصادي في النظام التي تعبر عنها دورة الرخاء-الأزمة، والضغوط نحو انخفاض معدل الربح وتدفق رأس المال من صناعة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر.  وقد رأينا لمحة من ذلك في النصف الأول من عام 2008. فارتفاع أسعار الغذاء والطاقة أدى إلى موجة تضخمية ترتب عليها زيادة الصعوبات التي تواجه الحكومة في التعامل مع أزمة الائتمان في نفس وقت تسببها في احتجاجات وأحداث شغب وإضرابات في عدد من البلدان. ويمكننا أن نتوقع مزيدا من الصدامات داخل الدول وفيما بينها مع ما ستؤدي إليه مشكلات الأمن الغذائي وأمن الطاقة من تحويل للقيمة الزائدة من بعض قطاعات رأس المال إلى أخرى وإثارة الغضب الشعبي. وطوال الوقت، يمكن أن تؤثر نقاط الترجيح في تغير المناخ تأثيرا مفاجئا على حياة مئات الملايين من البشر، بطريقة تشبه كثيرا تأثير الأزمات الاقتصادية والحروب غير أنها أكثر تدميرا.

جاء أوضح اعتراف بالنتائج المحتملة من وزارة الدفاع الأمريكية، البنتاجون، في توقيت كان الموقف الرسمي لحكومة الولايات المتحدة مازال رافضا الاعتراف بحقيقة تغير المناخ. وحذرت الوزارة من مخاطر "نقص الغذاء نتيجة انخفاض صافي الإنتاج الزراعي عالميا"، "ونتيجة تدهور كمية ونوعية المياه العذبة في مناطق رئيسية بسبب تحول أنماط الإمطار، وزيادة وتيرة الفيضانات وموجات الجفاف"، "واضطراب فرص الحصول على إمدادات الطاقة نتيجة اتساع رقعة الجليد بالبحار وزيادة العواصف."

ومحصلة ذلك، كما يراها البنتاجون، هي زيادة اندلاع الحروب على الموارد والحروب الأهلية:

"مع انخفاض القدرة الاستيعابية محليا وعالميا، يمكن أن تتصاعد التوترات في مختلف أنحاء العالم، وينشأ عن ذلك استراتيجيتين أساسيتين: استراتيجية دفاعية وأخرى هجومية. فقد تقوم الأمم التي تستطيع ذلك ببناء حصون حقيقية حول بلادها لتحتفظ لنفسها بالموارد، أما الأمم الأقل حظا، وخاصة تلك التي لديها عداوات قديمة مع جيرانها، فقد تشرع في صراعات بهدف الحصول على الغذاء والمياه النظيفة أوالطاقة. ومن غير المحتمل أن تتشكل أحلاف مع تغير الأولويات الدفاعية وتحول الأهداف إلى الموارد اللازمة للبقاء بدلا من الدين أو الأيديولوجية أو الكرامة الوطنية..."

سوف يكون "عالما يزداد اضطرابا وربما أكثر ميلا إلى العنف".(2)

هذه الفوضى تنتظر في عالم تمتلك فيه ثمانية من أكبر الدول أسلحة نووية موجهة نحو دول أخرى، وعدد كبير من الدول تملك "أسلحة تقليدية" أكثر تدميرا وفظاعة من الأسلحة التي استخدمت في الحرب العالمية الثانية، كما أن الانتشار الواسع لمحطات الطاقة النووية المستخدمة للأغراض السلمية ربما يقدم أهدافا مدمرة وقاتلة للأسلحة التقليدية. إن النظام المنفلت يهدد بما هو أكثر من الأزمات الاقتصادية الدورية والحروب الفظيعة. ويجعل مجرد إمكانية الحفاظ على الحياة البشرية على الأرض محل شكوك وتساؤل. إن نظام العمل المغترب يقترب من أعلى نقطة في طبيعته التدميرية. والقضية الآن هي ما إذا كان من يقدمون هذا العمل لديهم القدرة على الاستيلاء على ثروته وإخضاعها للسيطرة الواعية أم لا.       

ليست هناك تعليقات: