الأحد، 19 فبراير 2017

رأسمالية الزومبي - الفصل الرابع: الاحتكار والحرب والدولة - ترجمة رمضان متولي

الفصل الرابع
ما بعد ماركس: الاحتكار والحرب والدولة
ترجمة رمضان متولي 

تطورات جديدة
رسم ماركس صورة لنظام ديناميكي جدا، لكنه موبوء كذلك في ما يبدو بتناقضات لا فكاك منها. فدينامية رأس المال ذاتها تدفعه باستمرار إلى محاولة التوسع بمعدل يزيد على ما يمكن أن تؤازره قوة العمل الحي التي يعتمد عليها في النهاية. وقد كتب ماركس إن العقبة التي تواجه الانتاج الرأسمالي تكمن في رأس المال نفسه. ومضمون ذلك أن الرأسمالية بينما تجتاح العالم كله تمسي عرضة لأزمات أعمق أثرا وأطول زمنا، تتخللها فترات رخاء أشد ضحالة وأقصر عمرا. وفي نفس الوقت، يؤدي تركيز وتمركز رأس المال إلى تعظيم مستمر للاستقطاب بين طبقة رأسمالية يتناقص عددها وطبقة عاملة تبتلع داخلها بقية المجتمع.   
كان النموذج وفقا للتصميم نموذجا مجردا. ففي سياق محاولته لإدراك الاتجاهات الأساسية الكامنة في بنية نمط الإنتاج في ذاتها، أي "قوانينه العامة"، تجاهل ماركس بوعي منه كثيرا من حركة الأسواق اليومية ومن ملامح مجتمعات رأسمالية معينة. وتكشف الطريقة التي عالج بها كل جزء من أجزاء "رأس المال" الثلاثة موضوعه عند مستوى مختلف من التجريد أن الجزء الثالث، الذي يدمج بين الانتاج والتداول، أقرب إلى تناول التفاصيل الفعلية لحركة أي مجتمع رأسمالي حقيقي قائم مقارنة بالجزء الأول، حتى وإن اعتمد التحليل فيه على المفاهيم الأساسية التي جرى تطويرها في الجزء الأول. فلم يعالج الجزء الثالث فقط قضايا تعادل معدلات الربح، وانحراف الأسعار عن القيم، والأزمات، وميل معدل الربح نحو الانخفاض، وإنما أيضا قضايا الائتمان والنظام المصرفي، والأرباح التجارية، ومدفوعات الفائدة لمن يقرضون النقود، والريع لملاك العقارات. غير أن الجزء الثالث أيضا تعمد عدم الالتفات إلى كثير من الأمور الهامة: مثل التجارة الخارجية، أو أثر ابتلاع النظام الرأسمالي لمناطق هائلة من العالم ما قبل الرأسمالي، أو دور الدولة. في خطته الأصلية للكتاب التي وضعها في مخطوطات رأس المال الأولى، كان ماركس ينوي كتابة أجزاء أخرى تعالج هذه القضايا. لكن وقته لم يسمح بذلك أبدا بسبب انشغاله الشديد في النشاط السياسي الثوري اليومي واضطراره لأن يكسب عيشه عبر كتابة المقالات الصحفية، وفي السنوات الأخيرة من حياته أصيب بالمرض، وذلك رغم أن الأجزاء الثلاثة التي أتمها كليا أو جزئيا هي بحد ذاتها إنجاز يدعو إلى الإعجاب.  
تركت الفجوة بين النموذج والواقع كثيرا من الأسئلة حول المسار الذي سوف تتخذه الرأسمالية بلا إجابة. لم تبد هذه الأسئلة بالضرورة على هذه الدرجة من الأهمية سواء بالنسبة لماركس وإنجلز أو بالنسبة للناشطين في الحركات العمالية الجديدة خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر. فقد شهدت هذه الأعوام حقبة طويلة من الأزمات عرفت باسم الكساد الكبير. وقد عبر أحد أقطاب صناعة الصلب في الولايات المتحدة أندرو كارنجي عن الحالة المعنوية السائدة حتى في أوساط الدوائر الرأسمالية في عام 1889:
"الصناعيون … يرون مدخرات أعوام كثيرة … تتآكل مرة تلو أخرى، دون أمل في أي تغيير في الأوضاع. وفي تربة تهيأت على هذا النحو يستقبل بفرط السرور أي شيء يشي بتخفيف الأزمة. فالصناعيون على هذه الحال كالمرضى الذين جربوا دون جدوى كل أطباء المدرسة السائدة على مدى سنوات، وهم الآن عرضة لأن يصبحوا ضحايا أي هزة تطرأ …"(1)
ونتج عن ربع قرن من انخفاض معدلات الربح(2) مستنقعات شاسعة من الفقر في لندن ومدن أخرى وبطالة هائلة في منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر.(3) ولم يكن غريبا أن يشعر فريدريك إنجلز أن المنطق الكامن في نموذج ماركس كان يحقق نفسه تماما أمام عينيه في انجلترا عندما بدا "أن الدورة العشرية من الركود والرخاء، وفائض الإنتاج والأزمة" تفسح الطريق أمام "كساد دائم ومزمن."(4)
لكن مسار الرأسمالية برهن سريعا على أنه أكثر تعقيدا مما توحي تجربة ثمانينيات القرن التاسع عشر. فقد انتعشت معدلات الأرباح في بريطانيا في عقد التسعينيات، واندفعت الولايات المتحدة وألمانيا في موجة من التوسع الاقتصادي.(5) وبدت إصلاحات إيجابية محددة لصالح العمال أنها تناقض الصورة التي وضعها ماركس: فقد منح بسمارك معاشات لعمال ألمانيا في عام 1889، ووضعت حكومة ليبرالية بريطانية برنامجا مماثلا في بريطانيا بعدها بعشرين عاما، علاوة على وجبات مجانية لتلاميذ المدارس؛ فارتفعت الأجور الحقيقية خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر حتى وإن مالت إلى الركود بعد ذلك؛(6) واتجهت ساعات العمل في كل مكان إلى الانخفاض من 12 أو 14 ساعة يوميا إلى ثمان ساعات، واتجه أسبوع العمل للانخفاض من ستة أيام إلى خمسة أيام ونصف.(7)
أدى التفنيد الظاهر للتبنؤات المستنبطة من نموذج ماركس إلى أزمة في صفوف الماركسيين، عرفت بالصراع التحريفي، ونتج عنها اتجاهان مختلفان تماما في تحليل الرأسمالية سوف يواجه بعضهما الآخر مرة تلو مرة على مدى القرن التالي.
كتب إدوارد برنشتاين، الذي كان مقربا من إنجلز قبل سنوات قليلة فقط، نقدا شاملا لمنهجية ماركس واستنتاجاته في الأصول والفروع، قائلا: "لم تتأكد دلائل على وقوع أزمة اقتصادية شاملة تتسم بعنف غير مسبوق." "ولا يعني فائض الإنتاج في صناعات منفردة اندلاع أزمات عامة."(8) واستنتج أن "العمال لم يتعرضوا للإفقار الشامل على غرار ما كتب في البيان الشيوعي."(9) وقال إن هذه التغيرات حدثت بسبب "الاتساع الهائل في السوق العالمية" وتنظيم الانتاج مع ظهور التكتلات الصناعية" حتى أصبحت "الأزمات التجارية العامة احتمالا غير وارد."
"مراجعة" برنشتاين لأفكار ماركس رفضها مقرب آخر من إنجلز هو كارل كاوتسكي، لكن ذلك لم يمنع كثيرا من المناضلين الاشتراكيين في الممارسة من قبول فكرة أن الرأسمالية عالجت نفسها واستقرت لفترة غير محدودة في المستقبل. كانت مواجهة هذه الأفكار تتطلب الذهاب أبعد من كاوتسكي والإضافة إلى تحليل ماركس. وهذا ما حاول كل من رودلف هيلفردينج، وفلاديمير لينين، ونيكولاي بوخارين، وروزا لوكسمبرج الاضطلاع به، كل بطريقته الخاصة.    
وسرعان ما ظهر أن آلية عمل النظام الاقتصادية الخالصة لم تكن وحدها ما يتطلب أكثر من التحليل الأساسي الذي قدمه ماركس، بل أيضا مرحلة جديدة من التوترات السياسية الهائلة عندما مهدت 44 عاما من السلام في أوروبا الغربية الطريق أمام أشد الحروب التي عرفتها الإنسانية فظاعة حتى الآن.    
هيلفردينج: الرأسمالية المالية والإمبريالية
كان أول اقتصادي ماركسي ينشر تحليلا مفصلا لهذه التغيرات هو النمساوي رودلف هيلفردينج في كتابه "رأس المال المالي" في عام 1911. وقد رأى، مستندا إلى التطورات التي جرت في ألمانيا، أن رأس المال المصرفي ورأس المال الصناعي يندمجان ويكونان مركبا من الاثنين أطلق عليه مصطلح "رأس المال المالي". وعلى هذا الأساس تظهر المجموعات والتكتلات الاحتكارية (trusts and cartels) التي تستطيع أن تهيمن على قطاعات صناعية كاملة:
  "اتجاه مستمر نحو توسيع نطاق الاحتكارات، وتغدو الصناعات المنفردة معتمدة على نحو متزايد على الصناعات الاحتكارية حتى تلحقها الأخيرة بها في النهاية. وسوف تكون النتيجة النهائية لهذه العملية تكوين تكتل احتكاري عام، وعندها يخضع كامل الانتاج الرأسمالي  بوعي للتنظيم من جانب هيئة واحدة تقرر حجم الانتاج في جميع فروع الصناعة."(10)  
لم يتوقع هيلفردينج اختفاءا كاملا للمنافسة، فقد شدد على أهمية المنافسة العالمية، مشيرا إلى الكيفية التي يؤدى بها اندماج التمويل والصناعة داخل إحدى البلدان إلى ممارسة الضغط على دولتها لاستخدام ضرائب جمركية حمائية حتى تدعم رأسمالييها في صراعهم ضد منافسيهم في السوق العالمية. وكتب "إن البلدان التي تطبق سياسة حمائية مثل ألمانيا والولايات المتحدة هي التي أصبحت نماذج للتنمية الرأسمالية وليس بريطانيا التي تطبق حرية التجارة."(11) وبعيدا عن الاستمرار مع المفهوم الليبرالي التقليدي حول "الدولة الحارسة" الصغرى، أرادت الاحتكارات الكبرى أن تمتلك الدولة القوة لتوسيع حدودها حتى توسع السوق التي تستطيع أن تجني فيها أرباحا احتكارية، يقول هيلفردينج: "بينما كانت التجارة الحرة غير عابئة بالمستعمرات، تؤدي السياسة الحمائية مباشرة إلى سياسة استعمارية أكثر نشاطا، وإلى صراع على المصالح بين دول مختلفة."(12) "إن سياسة رأس المال المالي لابد أن تؤدي إلى الحرب."(13).
تجاوز هذا التحليل أي فكرة عند ماركس، الذي شهد حروب عصره وكتب عنها: مثل حروب الأفيون التي شنتها بريطانيا ضد الصين، وحرب القرم، والحرب الأهلية الأمريكية، والحرب الفرنسية البروسية. غير أن تلك الحروب، كما اعتبرها هو، كانت نتيجة لاندفاع الرأسمالية نحو فرض نفسها على بقية العالم ما قبل الرأسمالي المحيط بها. جاءت الرأسمالية إلى العالم "ملطخة بالدماء"، لكن نموذج ماركس لم يحتو على أكثر من إشارات قليلة فيما يتعلق بأسباب اندفاع بلدان رأسمالية كاملة الرسوخ إلى محاربة بعضها الآخر. وقد خطى هيلفردينج خطوة أولى نحو ماركسية للقرن العشرين فسرت ما تغير منذ عصر ماركس في هذا المضمار بالغ الأهمية.
غير أن مقاربة هيلفردينج تضمنت كثيرا من جوانب الغموض. كان الاتجاه الرئيسي في كتابه هو إقامة الدليل على أن نمو الاحتكارات لا يقضي على ميل الرأسمالية نحو الأزمة، وأن تزايد اعتمادها على الدولة سوف يؤدي إلى احتدام المنافسة العالمية والامبريالية والاندفاع نحو الحرب. ولكن في نقاط محددة، تضمن الكتاب إشارات تنحو إلى نتيجة مختلفة تماما – أن الاحتكارات والدولة يمكن أن تعملا معا على تثبيط الاتجاه نحو الأزمة: "إن طبيعة رأس المال المحددة تمحى تماما في رأس المال المالي" الذي يستطيع أن يحل "مشكلات تنظيم الاقتصاد الاجتماعي بنجاح أكبر" حتى مع استمرار المجتمع مجتمعا طبقيا، حيث "تتركز الملكية في أيدي عدد قليل من الشركات الرأسمالية العملاقة."(14) وهو ما يعني تخفيف حدة النمط القديم من الأزمة الاقتصادية:
"مع تطور الانتاج الرأسمالي، تحدث لذلك زيادة … في جانب الانتاج الذي يمكن استمراره في كل الأحوال. ومن هنا لا يلزم أن يكون الاضطراب في قطاع الائتمان كاملا كما كان في أزمات المرحلة المبكرة من الرأسمالية. علاوة على ذلك أن تطور أزمة الائتمان إلى أزمة بنكية من جانب وأزمة نقدية من جانب آخر غدا أشد صعوبة…(15) ويبدو أن حالة الجنون الشامل التي كانت تتولد عن المضاربة في بداية عصر الرأسمالية … قد انتهت إلى غير رجعة."(16)
لم يحمل هيلفردينج فكرته إلى نهايتها المنطقية في كتابه رأس المال المالي، بل ظل يكتب أن النظام لا يستطيع التخلص من "التناوب الدوري للرخاء والكساد."(17) لكنه في عشرينيات القرن العشرين، عندما عمل وزيرا في حكومتين لجمهورية فايمر، تحول باتجاه رؤية برنشتاين بنظرية عن "رأسمالية منظمة" تختفي فيها فوضى السوق والميل نحو الأزمة.(18) ومن بين النتائج الملازمة لذلك إنكار أن في الرأسمالية ما يدفعها حتما نحو الحرب، لأن الرأسماليات المنظمة في مختلف البلدان سوف ترغب في التعاون مع بعضها الآخر.
توصل كارل كاوتسكي إلى استنتاج مشابه فعلا في عام 1914 ما دفعه هو الآخر لأن يتبنى موقفا لا يكاد يختلف عن موقف برنشتاين في الممارسة. ولكن، في حين أشار هيلفردينج إلى اندماج الرأسمالية المالية والإنتاجية، اعتمدت رؤية كاوتسكي على إدراك تمايز جوهري وتعارض في المصالح بينهما:
"لدى الرأسماليين في القطاع المالي … مصلحة مباشرة في تحويل كل دولة قومية إلى جهاز دعم يعمل لصالح توسعهم الخاص. ولذلك فإن الإمبريالية ترتبط مباشرة بالرأسمالية المالية. غير أن مصالح رأس المال المالي لا تتطابق مع مصالح رأس المال الصناعي، الذي لا يستطيع النمو إلا بتوسيع أسواقه عبر حرية التجارة. فمن القطاع الصناعي تنشأ القوى الدافعة نحو التوافق الدولي في المعسكر البرجوازي… إن الإمبريالية، وهي التعبير عن مرحلة واحدة في التطور الرأسمالي وسبب في الصراعات المسلحة، ليست الشكل الوحيد الممكن لتطور الرأسمالية."(19)
شدد كاوتسكي على دور شركات السلاح بصفة خاصة باعتبار أن لها مصلحة في الإمبريالية والحرب. ولكنه أكد أن التكلفة الاقتصادية لإعادة التسليح، بينما تنحاز لتنمية بعض قطاعات الصناعة، تضر بمصالح بعضها الآخر. لقد احتاج رأس المال في البلدان الصناعية إلى الهيمنة على البلدان "الزراعية" بهدف الحصول على المواد الأولية. غير أنه لا يوجد سبب يجعل الرأسماليين عاجزين عن التعاون في فعل ذلك عبر "نوع من الإمبريالية الفائقة".(20)
كان هيلفردينج وكاوتسكي في تبنيهما فكرة أن الاندفاع نحو الحرب أمر يحدث رغما عن مصالح معظم الرأسماليين، يعبران عن رأي شديد الشبه برأي بعض الليبراليين. واحد من هؤلاء الليبراليين هو (جون) هوبسون، عالم الاقتصاد البارز الذي صاغ نظريته الخاصة عن الإمبريالية قبل هيلفردينج بنحو تسع سنوات. وقد اعتبر الامبريالية نتاجا لجماعة مصالح واحدة، تلك التي ترتبط بمؤسسات مالية معينة،(21) وتؤثر ضمان عوائدها من الفائدة على القروض الخارجية على مواجهة مخاطر الاستثمار الصناعي في الداخل، وترحب بالتوسع الاستعماري كوسيلة للتأكد من أن دولتها تضمن أمان استثماراتها. وهكذا تستمد الإمبريالية جذورها عند هوبسون لا من الرأسمالية بحد ذاتها وإنما من رأس المال المالي ومن أولئك الذين اعتبرهم مستفيدين مباشرة منه -  أي طبقة ريعية من حاملي السندات الذين يحصلون على عوائد منتظمة دون حتى أن يزعجوا أنفسهم بنشاط تجاري أو إنتاجي من أي نوع.   
ليبرالي بريطاني آخر، هو نورمان أنجل، عبر عن موقف شبيه، محددا ديناميكية سلمية في الرأسمالية من حيث جوهرها، رغم أنه ينسب دورا حميدا أكثر إلى التمويل – متأثرا بلا شك بإرسال البنك المركزي في فرنسا وألمانيا دون أدنى تردد ذهبا لمساعدة بريطانيا، وكانت روسيا قد أرسلت ذهبا إلى ألمانيا بعدها، خلال الأزمة المالية الكبرى في 1907. (22)
وقد كتب: "لم يشهد أي مجال من النشاط البشري تدويلا كاملا بقدر ما شهد مجال التمويل. إن الرأسمالي لا وطن له، وهو يعرف، لو كان من النوع العصري، أن الأسلحة والغزوات والتلاعب بحدود الدول لا يخدم أيا من أهدافه…"(23)
تسللت هذه الأفكار عبر السنوات إلى عصرنا الحالي، فهكذا يرى الماركسي الثوري السابق نايجل هاريس أن "الشركات عموما لا تملك سلطة على الحكومات أكثر من السكان" وأن الخطر الذي  يهدد العالم لا ينبع من الرأسمالية المنفلتة وإنما من الدول التي تحرس مصالحها الخاصة.(24) أما إلين وود، رغم أنها مناضلة ماركسية، فلا تختلف أفكارها كثيرا. وقد انتقدت ما أطلقت عليه "نظريات الماركسية الكلاسيكية حول الإمبريالية" التي ترجع إلى سنوات الحرب العالمية الأولى لإخفاقها في إدراك أن "الشكل السياسي للإمبريالية، التي يعتمد فيها استغلال شعوب المستعمرات ومواردها على الهيمنة السياسية والسيطرة على الإقليم" هو "جوهر الإمبراطوريات السابقة على الرأسمالية."(25) وشددت على أن "الاستغلال الطبقي الرأسمالي عملية اقتصادية خالصة، والذي يتعلق، مثل العلاقات الطبقية الرأسمالية، بأسواق السلع."(26) ويستتبع ذلك أن الرأسمالية، في حين أنها تحتاج دولة لفرض السيطرة على المجتمع، لا تحتاج دولا تدخل في صراع مع بعضها الآخر. نفس الفكرة إلى حد كبير وضعها مايكل هاردت و توني نجري في كتابهما "الإمبراطورية". وقد كتب هاردت قبيل الغزو الأمريكي للعراق أن "النخب" التي تقف وراء قرار شن الحرب "غير قادرة على فهم مصالحها الخاصة."(27)  
النظرية الكلاسيكية في الإمبريالية:
 توصل كل من نيكولاي بوخارين (28) وفلاديمير لينين (29)، فيما كتبا من أفكارهما أثناء الحرب العالمية الأولى، إلى نتائج مختلفة تماما. وقد بدأ كل منهما انطلاقا من تحليل هيلفردينج للاندماج بين رأس المال البنكي ورأس الصناعي والدولة، غير أنهما جردا هذا التحليل مما يشير إلى أي تناغم يترتب على ذلك، بل أكدا على كيفية أن دور الدولة في المنافسة الاقتصادية العالمية يؤدي إلى الحرب.
كانت هذه الفكرة محور كتيب "الامبريالية" الذي وضعه لينين بهدف أن يكون "ملخصا شعبيا" يكشف كيف أن اللجوء إلى الحرب ينتج عن "المرحلة الأخيرة من الرأسمالية" – عنوان الكتاب الفرعي:
"منذ نصف قرن مضى، عندما كتب ماركس مؤلفه "رأس المال"، كانت المنافسة الحرة تبدو "قانونا طبيعيا" في نظر الغالبية الكاسحة من الاقتصاديين… برهن ماركس على أن المنافسة الحرة ينشأ عنها تمركز للإنتاج، الذي يفضي بدوره، عند درجة معينة من تطوره، إلى الاحتكار…
يختلف هذا الوضع كل الاختلاف عن المنافسة الحرة القديمة بين أصحاب أعمال… ينتجون من أجل سوق مجهولة. وقد بلغ تمركز الانتاج حدا غدا معه بالإمكان إجراء جرد تقريبي لجميع مصادر المواد الأولية (مثلا مصادر خام الحديد) في أي بلد، بل حتى … في العالم كله… وتستولي اتحادات احتكارية هائلة على هذه المصادر… وتقوم بتقسيمها عبر الاتفاق فيما بينها."(30)
عند بلوغ هذه المرحلة، لا تعود المنافسة بين الشركات العملاقة قائمة ببساطة – ولو حتى بشكل رئيسي –على أساس أساليب السوق الخالصة. بل تستخدم أساليب كثيرة منها السيطرة على المواد الأولية حتى لا يستطيع المنافسون الحصول عليها، إعاقة وصول المنافسين إلى مرافق النقل، بيع البضائع بالخسارة بهدف دفع المنافسين خارج النشاط، وحرمانهم من فرص الحصول على ائتمان. "إن الاحتكارات تنشر معها في كل مكان مبادئ احتكارية: فاستغلال "العلاقات" للحصول على صفقات مربحة يحل بدلا من المنافسة في سوق مفتوحة."(31)
قامت القوى الرأسمالية بتقاسم العالم بينها، وبناء امبراطوريات استعمارية متصارعة على أساس "حساب ميزان القوة بين الأطراف المشاركة، أي قوتها الاقتصادية والمالية العامة وقوتها العسكرية وقوى أخرى." بيد أن "علاقات القوة النسبية بين هذه الأطراف المشاركة لا تتغير بشكل متناسق، حيث لا يمكن أن يحدث تطور متساو في مختلف المشروعات، والاحتكارات، وفروع الصناعة أو البلدان."  إن تقسيما للعالم يتسق مع علاقات القوة النسبية بين القوى العظمى في لحظة معينة لا يعود كذلك بعد عقدين من الزمن. فتقسيم العالم يمهد الطريق لاندلاع الصراع حول إعادة تقسيم العالم:  
"إن التحالفات السلمية تمهد الطريق من أجل الحروب، كما أنها بدورها تنتج من خلال الحروب. إحداهما هي شرط للأخرى، ما ينشأ عنه تناوب أشكال الصراع بين السلمية وغير السلمية على نفس الأساس وحده، وهو الروابط الإمبريالية وتداخل العلاقات بين الاقتصاد العالمي والسياسة العالمية.(32)
إن عصر المرحلة الأخيرة من الرأسمالية يكشف لنا أن ثمة علاقات معينة تقوم بين الاحتكارات الرأسمالية على أساس تقسيم العالم اقتصاديا؛ بينما تنشأ بموازاتها وبالارتباط معها علاقات بين تحالفات سياسية، بين دول، على أساس تقسيم العالم إقليميا، عن الصراع على المستعمرات، وعن "الصراع على مناطق النفوذ." (33)           
استطاعت بريطانيا وفرنسا بناء امبراطوريتين عظيمتين عبر تقاسم أفريقيا ومعظم آسيا فيما بينهما. أما هولندا وبلجيكا فقد حازتا على امبراطوريتين هائلتين، رغم أنهما أصغر مقارنة ببريطانيا وفرنسا، في إندونيسيا والكونغو. وفي المقابل، لم تمتلك ألمانيا إلا عددا قليلا من المستعمرات الصغيرة نسبيا، رغم أن اقتصادها بدأ في اللحاق باقتصاد بريطانيا. كان هذا التمييز هو الدافع وراء الصدام المتكرر بين تحالفات القوى العظمى المتصارعة الذي انتهى إلى الحرب العالمية الأولى.
وأخيرا، بينما ركز كاوتسكي ببساطة على السيطرة على المناطق "الزراعية" من العالم (ما قد يطلق عليه اليوم العالم الثالث أو جنوب العالم)، كان لينين يصر على أن التقسيم الإمبريالي للعالم كان يرتكز على نحو متزايد على المناطق الصناعية. "إن الطابع الذي يميز الامبريالية هو تحديدا أنها لا تسعى إلى ضم الأقاليم الزراعية فحسب، بل حتى المناطق عالية التصنيع (رغبة الألمان في ضم بلجيكا، وفرنسا في ضم اللورين)."(34)
مؤلف بوخارين بعنوان الإمبريالية والاقتصاد العالمي، الذي وضعه قبيل مؤلف لينين مباشرة وصدر بعده بمقدمة من لينين، صاغ الفكرة بنفس القوة التي استنبط بها نتائج الاتجاهات التي رصدها هيلفردينج:
"الاندماجات … في قطاعي الصناعة والمصارف… توحد الانتاج "القومي" بالكامل، الذي يتخذ شكل شركة مؤلفة من شركات، ويغدو هكذا احتكار رأسمالية دولة. أصبحت المنافسة …الآن منافسة بين رأسماليات الدولة الاحتكارية في السوق العالمية … وتختزل المنافسة داخل حدود الاقتصاديات "القومية" إلى حدودها الدنيا، لا لشيء إلا لتستعر بمقادير هائلة، بما لم يكن ممكنا في أي من العصور التاريخية السابقة.… وينتقل مركز الثقل في المنافسة بين هيئات اقتصادية عملاقة منظمة ومتحدة تمتلك قدرات هائلة على الصراع في لعبة "الأمم" العالمية."(35)
وقد استخلص النتائج بصورة أكثر وضوحا، خاصة وأنه كان يكتب بعد نهاية الحرب الأولى بثلاث سنوات:
"إن تنظيم الدولة للبرجوازية يركز في داخلها كامل قوة هذه الطبقة. ونتيجة ذلك فإن جميع المؤسسات الباقية … لابد أن تصبح تابعة للدولة. وكلها يجري "عسكرتها"… وهكذا يظهر نموذج جديد من سلطة الدولة، النموذج الكلاسيكي للدولة الامبريالية، التي تعتمد على علاقات الانتاج لرأسمالية الدولة. هنا يندمج "الاقتصاد" تنظيميا في "السياسة"؛ وتدمج السلطة الاقتصادية للبرجوازية نفسها مباشرة مع السلطة السياسية؛ وتتوقف الدولة عن كونها مجرد حامية لعملية الاستغلال وتغدو مؤسسة استغلال رأسمالي شاملة ومباشرة."(36)
والآن تصبح الحرب محورية في النظام، وتنشأ عن المنافسة بين "رأسماليات الدولة الاحتكارية"، وكذلك تعود لتغذي تنظيمها الداخلي وتحدده:
"مع تكوين رأسماليات الدولة الاحتكارية، تنتقل المنافسة تقريبا انتقالا كاملا إلى الدول الأجنبية. ولابد بالتالي أن تنمو أجهزة الصراع الذي يشن بالخارج نموا هائلا، وبالأساس قوة الدولة… في أوقات "السلم" يكون الجهاز العسكري للدولة مختفيا وراء المشهد حيث لا يتوقف أبدا عن العمل؛ وفي أوقات الحرب يظهر على مسرح الأحداث ظهورا مباشرا… ويحسم الصراع بين احتكارات رأسمالية الدولة في المقام الأول عبر العلاقة بين قواها العسكرية، لأن القوة العسكرية للبلد هي الملاذ الأخير للمجموعات "القومية" المتصارعة من الرأسماليين… إن كل تحسن في التقنية العسكرية يستتبع إعادة تنظيم وإعادة بناء للآلية العسكرية؛ وكل ابتكار، وكل توسع للقوة العسكرية لإحدى الدول يحفز جميع الدول الأخرى."(37)
منطق الرؤية التي عرضها كل من لينين وبوخارين هو أن فترة السلام التي أعقبت الحرب العالمية الأولى سوف تمهد الطريق عاجلا وليس آجلا إلى حرب عالمية جديدة إلا إذا أطيح بالرأسمالية. كتب بوخارين "إن إمكانية اندلاع "جولة ثانية" من الحرب الإمبريالية … واضحة تماما"(38). وكما سنرى فيما بعد أن رد فعل القوى الرأسمالية العظمى إزاء الأزمة الاقتصادية التي بدأت في عام 1929 أكد هذه النبوءة. بيد أن ذلك لم يخمد الحجة المعارضة لتحليل لينين وبوخارين.
اقتصاديات الامبراطورية:        
افترضت هذه الحجة – ومازالت تفترض(39) – أن التجارة الحرة السلمية ربما كانت مسارا أكثر ربحية لغالبية الرأسماليين أن يسلكوه بدلا من الصراع العسكري للسيطرة على مساحات من الأرض. ومن السهل التعامل مع هذا الادعاء. كان الربع الأخير من القرن التاسع عشر أطول فترة شهدت فيها الامبراطوريات الغربية نموا. ففي عام 1876 لم تكن المساحة التي تقع تحت سيطرة أوروبية من أفريقيا تزيد على 10 بالمئة. وبحلول عام 1900، جرى استعمار أكثر من 90 بالمئة من القارة. في نفس الفترة، أسست كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا وألمانيا جيوبا مستعمرة ومناطق نفوذ واسعة في الصين؛ واستولت اليابان على كوريا وتايوان؛ واحتلت فرنسا الهند الصينية بالكامل؛ كما استولت الولايات المتحدة على بورتوريكو والفلبين من إسبانيا؛ واتفقت بريطانيا وروسيا اتفاقا غير رسمي على تقاسم إيران.  
في ذلك الوقت، شهدت بريطانيا نموا هائلا في تصدير رأس المال، وكانت آنذاك أكبر اقتصاد رأسمالي ومركزا للنظام المالي العالمي، حتى وإن كانت الولايات المتحدة وألمانيا تسارعان في اللحاق بها في مجال الانتاج الصناعي.  فقد ارتفع إجمالي الاستثمارات البريطانية في السندات الخارجية من 95 مليون جنيه استرليني في عام 1883 إلى 393 مليون جنيه في عام 1889، حتى بلغ سريعا ما يعادل 8 بالمئة من إجمالي الناتج القومي لبريطانيا واستحوذ على 50 بالمئة من المدخرات.(40) لم توجه كل صادرات رأس المال، ناهيك عن صادرات السلع، إلى المستعمرات. بل كثير منه توجه إلى الولايات المتحدة وكمية كبيرة ذهبت إلى بلدان أمريكا اللاتينية مثل الأرجنتين. بيد أن المستعمرات كانت وجهة هامة. فقد حازت الهند وحدها، وهي أكبر مستعمرة لبريطانيا، على 12 بالمئة من صادرات السلع و 11 بالمئة من صادرات رأس المال؛ كما أنها كانت مصدرا للفائض في ميزان مدفوعات بريطانيا ساعد على تمويل استثمارات في مناطق أخرى من العالم؛ كما قدمت لبريطانيا جيشا مجانيا من أجل غزو مناطق أخرى.(41) وكانت المواد الأولية الضرورية في معظم الصناعات المتقدمة تكنولوجيا آنذاك تأتي من مناطق مستعمرة (مثل الزيوت النباتية المستخدمة في صناعة الزبد النباتي وصناعة الصابون، والنحاس المستخدم في الصناعات الكهربية، والمطاط والنفط لصناعة السيارات الناشئة، والنترات المستخدمة في صناعة الأسمدة والمتفجرات). وفوق كل ذلك، كانت الأهمية الاستراتيجية للمستعمرات. فما كان يهم كلا من السياسيين والمصالح الصناعية أن "تحكم بريطانيا البحار" وأن تستطيع استخدام قواعدها في المستعمرات لمعاقبة الدول التي تهدد تلك المصالح.
لم يبد مصادفة عند منظري الامبريالية أن العقود التي شهدت ذلك التوسع الهائل في الاستعمار، وفي تصدير رأس المال وفي استخراج المواد الأولية شهدت كذلك انتعاشا في الربحية والأسواق من قتامة الكساد الكبير. ربما لم يتمكنا من التنظير لذلك تنظيرا واضحا على الدوام، غير أن التزامن بين الامبراطورية والرخاء الرأسمالي كان حقيقيا بما يكفي.
وعلى ذلك فإن نظرية لينين-بوخارين تنهض باعتبارها تحليلا لعقود ما قبل الحرب العالمية الأولى – وللاندفاع نحو الحرب. ومع ذلك، كانت طبعة لينين من هذه النظرية تنطوي على ضعف، أنها اعتمدت التعميم من تجربة الامبريالية البريطانية في نهاية القرن التاسع عشر على الامبريالية كلها، ومالت لأن تؤسس النظرية كلها على الدور الرئيسي للبنوك في تصدير رأس المال المالي. لكن ذلك لم يطابق الصورة حتى عندما كان لينين يضع مؤلفه، ناهيك عن العقود التالية. حقا كان تصدير رأس المال المالي سمة مركزية في الإمبريالية البريطانية، لكن الموقف كان يختلف نوعا ما عند منافسيها الجدد. ففي حالة ألمانيا، كانت الاحتكارات الصناعية، وخاصة في مجال الصناعة الثقيلة، لا التمويل بحد ذاته، هي التي سعت إلى التوسع وراء الحدود القومية عبر تأسيس المستعمرات ومناطق النفوذ. ولم يكن تصدير رأس المال الطابع الذي يميز اقتصاد الولايات المتحدة وروسيا في عقود ما قبل الحرب العالمية الأولى، بل تدفق الأموال من دول رأسمالية أخرى (رغم بعض عمليات إعادة تصدير رأس المال). بل إن التركيز على رأس المال المالي أصبح إشكاليا أكثر خلال ربع القرن الذي أعقب كتابة لينين مؤلفه. فلم ترتفع كمية رأس المال المستثمرة خارج الحدود أبدا على مستوى عام 1914، بل انخفضت فيما بعد.(42) ومع ذلك استمرت القوى الرأسمالية العظمى في إصرارها على التوسع الامبريالي خلال فترة ما بين الحربين، مع قيام بريطانيا وفرنسا بالاستيلاء على معظم بلدان الشرق الأوسط والمستعمرات الألمانية السابقة، وتوسع اليابان داخل الصين، وتطلع الصناعة الثقيلة الألمانية إلى اقتناص امبراطورية جديدة في أوروبا.   
أدت الصياغة اللغوية في أجزاء من كتيب لينين إلى ظهور بعض التأويلات لها تعتبر المصالح المالية مسئولة عن الامبريالية مسئولية أساسية، بنفس القدر عند هوبسون وكاوتسكي. ويصدق ذلك على نحو خاص على الأجزاء التي شدد فيها لينين، مستندا إلى هوبسون، على الطابع "الطفيلي" لرأس المال المالي، فكتب عن:  
"نمو غير عادي … لفئة اجتماعية من أصحاب العوائد الريعية، أي أشخاص يعيشون على "نزع الكوبونات" ولا يشاركون في مؤسسة من أي نوع، ومهنتهم الكسل."(43)
وقد دفع هذا التشديد على "طفيلية" رأس المال المالي حتى بعض اليساريين إلى تبني استراتيجيات تقوم على التحالف ضد الإمبريالية مع أقسام من رأس المال الصناعي ضد رأس المال المالي – وهي تحديدا سياسة كاوتسكي التي هاجمها لينين هجوما عنيفا. 
أما تحليل بوخارين للامبريالية فهو يتجنب إجمالا هذه الزلات. ورغم أنه يستخدم مصطلح "رأس المال المالي" استخداما متكررا، فقد حذر بوضوح من اعتباره شيئا يتميز عن رأس المال الصناعي. "لابد ألا نخلط بين رأس المال المالي … ورأس المال النقدي، لأن رأس المال المالي يتسم بأنه رأس مال مصرفي ورأسمال صناعي في نفس الوقت."(44) وهو عند بوخارين غير قابل لأن نفصله عن اتجاه "احتكارات رأسمالية الدولة" نحو الهيمنة على كامل الاقتصاد القومي في صراعها عالميا ضد "احتكارات رأسمالية الدولة" الأخرى.
ليس لازما أن يركز هذا الصراع على الاستثمار في بلاد أجنبية، بل قد يتجه إلى أمر آخر: أي محاولة الاستيلاء على مناطق صناعية بالفعل من بلدان أخرى أو مصادر لمواد أولية هامة باستخدام القوة. فكما كتب بوخارين "بقدر ما تتطور (الإمبريالية) أكثر بقدر ما ستغدو صراعا على المراكز الرأسمالية كذلك."(45)
بمعنى آخر، كان ضروريا تحويل قدر هائل من القيمة إلى وسائل للدمار – لا من أجل محاولة الاستحواذ على قيمة أكبر فحسب، وإنما للحفاظ على القيم المستحوذ عليها فعلا. وهذا هو منطق السوق الرأسمالية في تطبيقه على العلاقات بين الدول. على كل دولة أن تستثمر في الاستعداد للحرب حتى لا تخسر أمام دولة أخرى تستثمر أكثر منها، تماما كما يجب على كل رأس مال أن يستثمر في وسائل إنتاج جديدة حتى يحافظ على نفسه في المنافسة في السوق. ليست "السياسات الإمبريالية" إلا "إعادة إنتاج الصراع التنافسي على نطاق عالمي،" ويكون "الفاعل في هذه المنافسة هي احتكارات رأسمالية الدولة" لا شركات منفردة. إن "اندلاع الحروب" ينتج عن "التناقض بين القوى الإنتاجية للاقتصاد العالمي وأساليب التملك البرجوازية المحدودة قوميا وتفصل الدول بينها."(46) بمعنى آخر، بينما جرى اختزال المنافسة بين رؤوس الأموال داخل الدول (ومعه اختزال عمل قانون القيمة دون قيود)، نشطت هذه المنافسة بدرجة أشد شراسة بكثير بين الدول.
روزا لوكسمبورج: الإمبريالية وانهيار الرأسمالية
لم يكن لينين وبوخارين وحدهما بين الماركسيين الذين عارضوا الامبريالية من حاول البرهنة على أنها مرحلة جوهرية في الرأسمالية. فكذلك حاولت روزا لوكسمبورج عبر تحليل نظري مختلف نوعا في كتابها "تراكم رأس المال" الذي نشر عام 1913.(47) واعتمد تحليلها على ما كانت تعتقد أنه تناقض مركزي داخل الرأسمالية أفلت من ملاحظة ماركس.
أعد ماركس جدوالا في المجلد الثاني من رأس المال توضح العلاقة المتداخلة بين التراكم والاستهلاك، بحيث كانت كل دورة للانتاج تتضمن استخدام منتجات الدورة السابقة سواء كمدخلات مادية (آلات ومواد أولية، الخ) أو كوسائل استهلاك للقوة العاملة. وقد تطلب ذلك أن تتفق المنتجات المادية في دورة إنتاج معينة مع ما يحتاجه الانتاج للاستمرار في الدورة التالية. لم تكن المسألة تتعلق بمجرد انتقال الكميات المناسبة من القيمة من دورة إلى الدورة التالية لها، بل أيضا بالأنواع المناسبة من القيم الاستعمالية – مثلا كميات معينة من المواد الأولية، من الآلات الجديدة، من مباني المصانع الخ، وكذلك كميات معينة من الطعام والملابس الخ بالنسبة للقوة العاملة (علاوة على سلع الرفاهية للرأسماليين أنفسهم). وفي دراستها لجداول ماركس، توصلت روزا لوكسمبرج إلى استنتاج مفاده أن اختلافا لابد أن يظهر بين توزيع القيمة من دورة إلى أخرى وتوزيع القيم الاستعمالية المطلوبة لتوسع الانتاج. أي زيادة في إنتاج سلع استهلاكية لا تستطيع شراؤها الأجور التي تدفع للعمال أو زيادة في إنتاج سلع استثمارية لا يمكن شراؤها من الأرباح. بمعنى آخر، إن النظام ينتج حتما فائضا من السلع لا أسواق لها في داخله. إن مشكلة فائض الانتاج ليست مجرد طور في دورة الرخاء والركود، إنما مرض مستوطن. إن تصور الرأسمالية كنظام مغلق، لابد أن تستوعب فيه كل مخرجات دورة إنتاجية معينة كمدخلات في دورات تالية، يحتم عليها أن تتجه نحو انهيار شامل.  
في مراحل الرأسمالية المبكرة، لم يكن ذلك مشكلة، فلم تكن نظاما مغلقا. وتحديدا بسبب نموها داخل عالم ما قبل رأسمالي كانت الرأسمالية محاطة بأناس لم يكونوا جزءا منها – حرفيون، بقايا الطبقات الاقطاعية الحاكمة، وأعداد واسعة من صغار الفلاحين الذين ينتجون للاكتفاء الذاتي. كان هؤلاء يستطيعون استيعاب فائض السلع ويقدمون المواد الأولية في المقابل. بيد أن الرأسمالية، بقدر ما تصبح مهيمنة في بلد معين، بقدر ما يواجهها هذا التناقض – إلا إذا توسعت خارجيا حتى تسيطر على مجتمعات أخرى ما قبل رأسمالية. وبهذه الطريقة كان الاستعمار عاملا جوهريا في استمرار قيام النظام بوظائفه. وبدونه سوف تنهار الرأسمالية.
لم تتوقف لوكسمبورج في طرح هذه القضية عند مجرد التحليل، بل استكملت هذا التحليل بفصول تلو أخرى تكشف في تفصيل رهيب كيف أن التطور التاريخي للرأسمالية في أوروبا وأمريكا الشمالية رافقه استعباد واستغلال لبقية العالم. واستنتجت من ذلك، مثل لينين وبوخارين، أن الثورة الاشتراكية هي البديل الوحيد للإمبريالية والحرب.
غير أن تحليلاتها تعرضت لانتقادات لاذعة وعنيفة، على الأخص من قبل الماركسي الإصلاحي النمساوي أوتو باور وكذلك بوخارين، فقام باور بإعداد مجموعته الخاصة من جداول إعادة الانتاج، زاعما أن مدخلات ومخرجات الانتاج لا تواجه مشكلة في تحقيق التوازن الملائم على مدار عدة دورات إنتاجية. وركز بوخارين على تفنيد الأفكار التي طرحتها لوكسمبورج في "نقدها المضاد" ردا على باور. وقد جادلت بضرورة أن يكون خارج الرأسمالية شيء يقدم الحافز للرأسماليين على الاستمرار في الاستثمار. فلم تكن زيادة كمية الاستثمار على الدوام حتى تبتلع انتاج المجتمع الآخذ في النمو أمرا جيدا بما يكفي، حيث ترى لوكسمبورج أن ذلك لن يوفر عائدا للرأسماليين يبرر هذا الاستثمار:
"إن الانتاج من أجل الانتاج على نطاق أوسع على الدوام أمر من وجهة نظر الرأسمالي سخيف، لأن هذه الطريقة يستحيل معها أن تحقق الطبقة الرأسمالية ككل ربحا، وبالتالي تراكما."(48)
جوهر ما رد به بوخارين على هذه الفكرة بلغ حد بيان أن هذا التراكم من أجل التراكم على سخافته الواضحة تحديدا هو ما يميز الرأسمالية عند ماركس.(49) لا تحتاج الرأسمالية إلى هدف من خارجها، بل يمكن إضافة أن هذا تحديدا ما يلخص عملية الاغتراب القصوى للنشاط البشري في هذا النظام: أنه يندفع إلى الأمام لا بهدف تلبية الحاجات الإنسانية، ولا حتى الحاجات الإنسانية للرأسمالي، وإنما بدينامكيته الخاصة.
لم ينكر بوخارين ظهور تباينات في مسار النمو الرأسمالي بين الانتاج والاستهلاك، بل أصر في تعليقه على لوكسمبورج أن هذه التباينات حتمية – لكن الأزمة الرأسمالية تحديدا هي التي تتجاوزها. يحدث أن يظهر فائض في التراكم وفائض في الانتاج، لكنهما لا يستمران على الدوام. إن ظهورهما يأتي في مسار الأزمة، وتطورها اللاحق يتكفل بتصفيتهما. ثم أورد بوخارين ملاحظة ماركس بأنه "لا توجد أزمة دائمة."(50) وعنده لا يمكن تفسير الامبريالية استنادا إلى مشكلة فائض الانتاج، وإنما بالكيفية التي تدعم بها سعي الرأسمالي إلى زيادة الأرباح.
لا يمكن انتقاد الحجة التي أثارها بوخارين ضد لوكسمبورج. لكن أفكاره ومعها أفكار لينين تركت أمرا دون تفسير: أي لماذا كان تصدير رأس المال خلال ذروة التوسع الإمبريالي قادرا على قيادة خروج الرأسمالية من الكساد الكبير. ومع كل ثغراتها، حاولت نظرية لوكسمبورج أن تجد ارتباطا بين الإمبريالية وتخفيف حدة الأزمة مؤقتا، ما أخفق فيه لينين وبوخارين.
أشار هنريك جروسمان، الذي يعارض كلا من لوكمسبورج والمنتقصين منها (51)، في كتاباته خلال عقد العشرينيات من القرن الماضي، إلى طريقة تحقق هذا الارتباط. فتدفق رأس المال من المراكز القائمة للتراكم إلى مراكز جديدة عبر البحار يستطيع أن يخفف من تلك الضغوط التي تؤدي إلى زيادة التركيب العضوي لرأس المال وانخفاض معدل الربح، حتى وإن كان حلا كهذا "لن يكون مؤثرا إلا لفترة قصيرة".(52)
هذه الفكرة تستطيع تفسير نمط نمو الاقتصاد الفعلي خلال ذروة الامبريالية في نهاية القرن التاسع عشر. فلو أن الاستثمارات البريطانية التي وجهت إلى الخارج، والتي بلغت نصف إجمالي الاستثمارات آنذاك، بقيت للاستثمار في الداخل لكانت رفعت من معدل الاستثمار إلى العمل (أي التركيب العضوي لرأس المال) وخفضت معدل الربح لذلك. تشير التقديرات إلى أن معدل رأس المال إلى الناتج انخفض فعليا من 2.16 في 1875-1883 (وهي سنوات الكساد الكبير الأول) إلى 1.82 في 1891-1901، (53) وأن أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر شهدت ارتفاعا في معدلات الربح (وذلك بعد انخفاضها منذ ستينيات وحتى ثمانينيات نفس القرن).(54) وما حدث في بريطانيا في تلك الأعوام كان له أثر كبير على بقية النظام.  
يشير ذلك إلى فكرة أوسع وشديدة الأهمية في دينامية الرأسمالية خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين سوف نعود إليها في فصول لاحقة. أما الآن، فيكفي أن ندرك أن الإمبريالية نشأت عن الاندفاع التنافسي لرؤوس الأموال نحو التوسع وراء الحدود القومية – وأنها أدت، كأثر جانبي مؤقت لذلك، إلى تخفيف الضغوط التي لولاها كانت ستحدث زيادة في التركيب العضوي لرأس المال وبالتالي تخفيض معدل الربح. بيد أنها لا تتجاوز الأثر المؤقت لأن الاستثمارات التي تدفقت إلى مراكز جديدة للتراكم في النهاية سوف تنتج فائضا للقيمة يبحث عن الاستثمار ويمارس ضغوط انخفاض على معدلات الربح. ويصاحب ذلك عودة التناقضات القديمة في النظام بصورة أعنف، فتبدأ فترة جديدة من عدم الاستقرار الاقتصادي تؤدي إلى احتدام المنافسة، لا في طابعها الاقتصادي فحسب وإنما في طابعها العسكري كذلك. وهذا ما جرى فعليا خلال العقود الأولى من القرن العشرين، مع ميل عالمي نحو انخفاض معدلات الربح وزيادة التوترات بين الدول. بهذه التعديلات يمكن أن تجعل تشديد لينين وبوخارين ولوكسمبورج على وجود ارتباط بين الرأسمالية والحرب محكما لا ثغرة فيه من الناحية النظرية.
مشكلة لم يعالجها ماركس
للنظرية الكلاسيكية في الامبريالية نتيجة هامة، هي إثارة سؤال العلاقة بين الدول ورؤس الأموال العاملة داخلها. وقد ترك ماركس هذا السؤال دون معالجة، ورغم أنه تناول بعض جوانبه في كتاباته غير الاقتصادية،(55) فلم يبلغ درجة أن يدمج هذه الجوانب في تحليله للنظام الرأسمالي ككل. غير أن هذه المسألة ليست من المسائل التي يمكن تجنب معالجتها في أي تحليل جدي للرأسمالية خلال القرن الذي تلى وفاة ماركس. ونظرة سريعة على نمو إنفاق الدولة يبين سبب ذلك (أنظر الرسم التالي بالنسبة للولايات المتحدة). فمن ثبات نسبته من الناتج القومي بهذا القدر أو ذاك خلال القرن التاسع عشر، فيما عدا أوقات الحرب الشاملة، بدأ ينمو في الثلث الثاني من القرن العشرين دون توقف حتى الآن.

الانفاق الحكومي في الولايات المتحدة كنسبة من إجمالي الناتج المحلي (56)

أكثر الآراء شيوعا عن الدولة، سواء عند الماركسيين أو غير الماركسيين، يعتبرها شيئا منفصلا عن النظام الاقتصادي الرأسمالي. ويحظى هذا المدخل بقبول منذ فترة طويلة من قبل مدرسة "الواقعية" السائدة في الدراسة الأكاديمية للعلاقات الدولية. فهي تنظر إلى الدول باعتبارها كيانات مستقلة بذاتها، تتصادم عالميا وفقا لمنطق لا علاقة له بنوع التنظيم الاقتصادي القائم بداخلها.(57) وفي بعض الكتابات الماركسية تجد مدخلا شبيها بذلك نوعا ما.
تتمثل الرأسمالية في هذا الرأي في سعي الشركات وراء الربح (أو في التوسع الذاتي لرأس المال بمعنى أدق) دون اعتبار لانتمائها جغرافيا. أما الدول، في المقابل، فهي وحدات سياسية ذات قاعدة جغرافية، تقطع حدودها أنشطة رؤوس الأموال المنفردة. وقد تكون الدولة بناءا تطور تاريخيا لتوفير الشروط السياسية المسبقة للإنتاج الرأسمالي – أي حماية الملكية الرأسمالية، وحراسة التعاملات بين مختلف أعضاء الطبقة الحاكمة مع بعضهم البعض، وتوفير خدمات معينة ضرورية لإعادة إنتاج النظام، وإنجاز تلك الإصلاحات التي تكون ضرورية لدفع قطاعات أخرى من المجتمع إلى قبول الحكم الرأسمالي – غير أن المطابقة بينها وبين رؤوس الأموال التي تعمل بداخلها غير جائزة.   
ويميل من يعتبرون الدولة كيانا منفصلا عن الرأسمالية إلى الإشارة إليها بصيغة المفرد "الدولة" – وغالبا يشيرون إلى رأس المال بصيغة المفرد أيضا. وقد يكون لهذه الطريقة في طرح المسألة ما يبررها في تحليل الرأسمالية عند أعلى مستوى من التجريد، حيث توفر الدولة ساحة عادلة يتنافس فيها مختلف رؤوس الأموال على قدم المساواة. بيد أن النظام الرأسمالي الموجود في الحقيقة يتكون من دول كثيرة (58) ومن رؤوس أموال كثيرة.(59)
لكن، حتى من يشيرون إلى وجود الدول في صيغة الجمع، كما تفعل إلن وود، ينتهون غالبا إلى أنها تخدم مصالح رأس المال بوجه عام، لا مصالح مجموعة محددة من الرأسماليين يعملون داخلها. تقول إلن وود:
"ليس دور الدولة الجوهري في الرأسمالية أن تعمل كأداة للاستيلاء، أو كشكل من "الملكية السياسية"، وإنما كوسيلة لتوفير شروط التراكم والحفاظ عليها في حياد مجرد، صيانة للنظام الإداري والقانوني والاجتماعي الضروري للتراكم."(60)
وفي مواجهة هذه الآراء نجد أولئك الذين ينطلق تحليلهم من نظريات الإمبريالية الكلاسيكية بكلامهم حول "اندماج" الدولة مع رأس المال، وحول "رأسمالية الدولة الاحتكارية"، أو ببساطة حول "رأسمالية الدولة"، ونظرتهم للصدام بين الدول كتعبير عن المنافسة العالمية بين رؤوس الأموال التي تعمل داخلها.
وقد أصبحت نسخة من هذا الرأي، خضعت للتنقيح، جزءا من عقيدة الماركسية الستالينية خلال الأعوام الفاصلة بين ثلاثينيات وسبعينيات القرن العشرين، وتعرف اختصارا بنظرية "الستاموكاب" (state monopoly capitalism). لكن مايك كيدرون (61) قام بمحاولة أكثر جدية في وصف النظام العالمي كنظام يتألف من رأسماليات الدولة خلال العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. وفي نظريته أصبحت كل دولة وكل رأس مال على حدة يتناغمان مع بعضهما الآخر: فكل دولة تتحرك تلبية لمصلحة مجموعة من رؤوس الأموال الوطنية بها، وكل رأس مال ذا شأن يندمج في دولة بعينها. وأي استثناء من ذلك عند كيدرون أمر من مخلفات الماضي وأثر سوف يختفي مع استمرار تطور النظام.  
وقد تطورت محاولة موازية في رؤية للعالم في أوائل سبعينيات القرن الماضي تمثل الدول فيها رؤوس الأموال، وذلك خلال السجال بين ماركسيين ألمان.(62) وعلى سبيل المثال، كتبت كلوديا فون برونمول:
"إن ما يجب أن يخضع للتحليل ليس الدولة في العموم، وإنما التنظيم السياسي المحدد للسوق العالمية في كثرة من الدول… أي أن التحليل لابد دائما أن ينطلق متضمنا دور الدولة محل الدراسة في علاقتها المحددة بالسوق العالمية وبالدول الأخرى." (63)
قلة من الناس واصلت هذه المساعي من أجل تطوير تلك الأفكار إلى تفسير قوي للنظام العالمي. لكن بعضا من الفروض التي افترضوها مسبقا تعامل كبديهيات في أساليب الحديث والكتابة اليومية عن العالم. فيتحدث الناس عادة عن "المصالح الاقتصادية" لهذه الدولة أو تلك، وعن أداء إحداها مقارنة بالأخرى، وعن "أرباح" بلد أو بلد آخر. هكذا يؤكد تحليل للرأسمالية حديث وشديد الفائدة منذ الحرب العالمية الثانية قام به روبرت برنر على تفاعلات "الرأسمالية الأمريكية"، و"الرأسمالية اليابانية" و"الرأسمالية الألمانية"، تلعب فيه المفاوضات التي تقوم بها الدول دورا محوريا.(64) فهناك استنتاج ضمني بارتباط مصالح وثيق بين أي دولة قومية محددة وقطاع معين في النظام الرأسمالي العالمي.
إن النظرة التي ترى "الدول القومية" متناغمة تماما مع رؤوس أموال "وطنية" نظرة موغلة في التبسيط المخل، خاصة في العالم المعاصر حيث تعمل الشركات متعددة الجنسية في كثرة من البلدان، كما سنرى لاحقا. بيد أن ذلك لا يعني أن الدول تقف "على الحياد" تجاه رؤوس أموال معينة، ولا أن الدول لا تتحرك تلبية لمصالح مجموعات معينة من رؤوس الأموال الوطنية. وإنما تظل على ارتباط بها بأشكال معقدة.  
نشأة الدولة الرأسمالية
نستطيع أن نجد نقطة انطلاق لفهم ذلك في العلاقة بين تطور الدول الحديثة والرأسمالية. لم يعالج ماركس هذه المسألة معالجة واضحة، وإنما كان إنجلز أول من فعل ذلك في مخطوطة كتبها بعد وفاة ماركس لم تنشر حتى عام 1935. وقد دفعته دراساته إلى استنتاج أن زيادة أهمية التجار وأهل الحرف الذين يسكنون المدن (أي "عامة السكان") في نهاية العصور الوسطى تحالفوا مع الملكية ضد بقية الطبقة الحاكمة الاقطاعية: "تطورت القوميات الجديدة تدريجيا من خلال تخبط عامة الناس الذي كان سمة لأوائل العصور الوسطى" – وكذلك بدايات لدول قومية تختلف تماما عن البنى السياسية السابقة.(65) وقدم لينين تفصيلا نظريا لأفكار شبيهة مع محاولة الحركة الثورية في روسيا التعامل مع ظهور المطالبة بدول مستقلة  بين أقليات قومية داخل الامبراطورية القيصرية على حدودها جنوب شرق أوروبا وفي المناطق المستعمرة من قوى أوروبا الغربية.
وأوضح لينين تفصيلا تلك الروابط العميقة بين النضال من أجل تأسيس دول قومية وظهور جماعات في العالم ما قبل الرأسمالي تسعى لإقامة نفسها على قاعدة من الأشكال الرأسمالية للتنظيم الاقتصادي:
"في جميع أنحاء العالم، كانت مرحلة انتصار الرأسمالية النهائي على النظام الاقطاعي ترتبط بالحركات القومية. فحتى يتحقق انتصار كامل للانتاج السلعي، لابد أن تستولي البرجوازية على السوق الداخلية، ولابد أن توجد أراضي موحدة سياسيا يتحدث سكانها لغة واحدة، مع القضاء على جميع العراقيل التي تواجه تطور تلك اللغة وتعزيزها في الأدب… ولذلك تميل كل الحركات القومية نحو تكوين دول قومية، تتحقق أفضل تلبية لهذه المتطلبات للرأسمالية الحديثة في ظلها… إن الدولة القومية نموذجية وطبيعية بالنسبة للحقبة الرأسمالية."(66)
لم تتطور الدول الحديثة، وفق هذا المفهوم، بمعزل عن رؤوس الأموال (أو على الأٌقل عن معظم رؤوس الأموال) القائمة داخلها. وقد تشكلت تاريخيا عبر نفس العملية التي بدأت تتجذر بواسطتها الأساليب الرأسمالية في مراكمة الثروة، أولا في أجزاء من أوروبا ثم في بقية أنحاء العالم.  تلك الجماعات التي تآلفت مع هذه الأساليب كانت تحتاج إلى حماية نفسها ضد مختلف القوى الاجتماعية المرتبطة بمجتمع ما قبل الرأسمالية الذي تطورت بداخله – ثم سريعا ضد جماعات رأسمالية أخرى تتخذ مواقعها في أماكن أخرى. ومعنى ذلك أن تسعى إلى تشكيل هياكل سياسية للدفاع عن مصالحها المشتركة، بالقوة عند الضرورة، في عالم قد يكون معاديا. وحيثما وجدت أشكال للدولة القديمة ما قبل الرأسمالية، كان لابد أن تسيطر عليها وأن تعيد تنظيمها بما يلائم مصالحها الخاصة (كما في انجلترا وفرنسا) أو تنفصل عنها حتى تشكل دولا جديدة (كما حدث في جمهورية هولندا، والولايات المتحدة، وبلدان المستعمرات السابقة خلال النصف الثاني من القرن العشرين). وعند أواخر القرن التاسع عشر، لم تكن المصالح الرأسمالية القائمة وحدها من تسعى لإقامة دول كتلك، بل فعلت ذلك أيضا عناصر من الطبقات المستغلة القديمة في مناطق مثل ألمانيا، روسيا القيصرية واليابان كانت ترغب في البقاء في عالم تتزايد فيه هيمنة القوى الرأسمالية باطراد من جهة، كما فعلت إنتليجنسيا الطبقة الوسطى التي أصبحت تلعب دورا قياديا في كثير من الحركات القومية في المستعمرات من جهة أخرى.
قوبلت هذه الصورة برفض بعض الماركسيين على أساس أن الدول كانت قائمة قبل ظهور الرأسمالية. واعتبروا "نظام الدول" إذن شيئا منفصلا تماما عن نظام الرأسمالية، وأن هناك "منطق للدول" يختلف عن "منطق رأس المال". بيد أن الدول القديمة لم تترك على حالها قبل ظهور الرأسمالية. بل أعيد تشكيلها جوهريا، مع إعادة ترسيم الحدود الإقليمية القديمة وبناء هياكل مركزية لأول مرة في تاريخها تمدت سلطتها إلى حياة جميع السكان (والذين أصبحوا كلهم "مواطنين" للمرة الأولى).(67) إن حقيقة أن هياكل السلطة الجديدة مارست وظائفها عبر استخدام القوة، لا عبر إنتاج السلع بهدف البيع، لم تمنع تشكلها بواسطة علاقات الانتاج والاستغلال المتغيرة التي أحدثها صعود الرأسمالية. إنما كانت منذ بدايتها – وحتى اليوم – هياكل تعود إلى تغذية تنظيم رؤوس الأموال للانتاج، والتأثير على إيقاع واتجاه تراكم رأس المال. إن منطق الدول نتيجة لمنطق الرأسمالية الأوسع، حتى وإن تناقض بين حين وآخر مع عناصر أخرى في النظام.(68)
يوجد رأس المال في ثلاثة أشكال – رأس مال إنتاجي، ورأس مال سلعي (أو تجاري) ورأس مال نقدي.(69) وكل عملية للتراكم الرأسمالي في ظل الرأسمالية كاملة النمو تتضمن تحولا متكررا من أحد أشكال رأس المال إلى آخر: فرأس المال النقدي يستخدم في شراء وسائل الإنتاج، ومواد أولية وقوة عمل؛ وتدخل في عملية الانتاج هذه الأشياء جميعا وينتج عنها سلع؛ ثم تجري مبادلة هذه السلع مقابل النقد؛ ثم يستخدم هذا النقد في شراء مزيد من وسائل الانتاج، والمواد الأولية وقوة العمل، وهكذا. أشكال رأس المال تتفاعل باستمرار بحيث يتحول كل شكل منها إلى الآخر، ولكن قد يحدث أيضا انفصال جزئي بين هذه الأشكال الثلاثة المختلفة. فقد تؤول عمليات تنظيم الانتاج المباشر، وبيع السلع وتقديم التمويل إلى جماعات مختلفة من الرأسماليين.
ويستطيع رأس المال النقدي ورأس المال التجاري أن يتنقلا باستمرار من مكان إلى آخر عبر الحدود الوطنية، مالم تعرقل ذلك الدولة أو أي جهات تستخدم القوة. ويختلف الوضع نوعا ما بالنسبة لرؤوس الأموال الانتاجية. إن النظر إليها كمجرد كتل من القيمة المتراكمة، لا يكشف اختلافا بينها إلا في أحجامها. بيد أن لكل رأس مال على حدة طبيعة مزدوجة مثل كل سلعة على حدة. فكما أنه يقبل القياس من حيث القيمة التبادلية، كذلك هو قيمة استعمالية ملموسة – أي مجموعة من العلاقات الحقيقية بين الناس والأشياء في عملية الانتاج. ولكل رأس مال محدد وسائله الملموسة في الجمع بين قوة العمل والمواد الأولية ووسائل الإنتاج، وفي تدبير التمويل والحصول على الائتمان، وفي تأمين شبكات لتوزيع وبيع منتجاته. وكل ذلك ينطوي على تفاعلات مع أناس آخرين ومع الطبيعة، تفاعلات ذات طابع مادي تجري على أساس يومي في مواقع جغرافية محددة. 
لا يستطيع رأس المال الإنتاجي أن يعمل دون أن يضمن سيطرته على وسائل الإنتاج الخاصة به، من جهة، (وهو ضمان يعتمد في نهاية المطاف على "هيئات من الرجال المسلحين") ومن جهة أخرى، على قوة عمل "حرة" بمعنى مزدوج – أي حرة من أي قهر تمارسه عليها طبقات مستغلة غير رأسمالية من ناحية، وحرة من أي وسيلة لكسب عيشها دون بيع قوة عملها من ناحية أخرى.  إن الرأسماليين الذين يعملون في حقل الانتاج في أي منطقة بعينها يتعاونون بالضرورة في محاولة تشكيل الظروف السياسية والاجتماعية لهذه المنطقة، أي في ممارسة نفوذ على الدولة. وكما يقول نيل برينر:
"في اندفاعه نحو مراكمة فائض القيمة، يسعى رأس المال جاهدا إلى التغلب على العوائق الجغرافية أمام عملية دورانه. ومع ذلك يعتمد رأس المال بالضرورة في تعقب هذه الدينامية المستمرة… على بنى أساسية إقليمية محددة وثابتة نسبيا، مثل التكتلات المناطقية الحضرية والدول الإقليمية… هذا الاندفاع المتوطن في رؤوس الأموال … يقوم من حيث الجوهر على أساس الانتاج، وإعادة الانتاج، وإعادة تشكيل تكوينات محددة وثابتة نسبيا من التنظيم الإقليمي، بما فيها التكتلات المناطقية الحضرية، وشبكات المواصلات، وأنظمة الاتصالات، ومؤسسات الدولة التنظيمية.(70)"
إن معظم المؤسسات الرأسمالية لا تعمل استنادا إلى حسابات السوق وحدها، وإنما أيضا استنادا إلى علاقات طويلة الأجل تقيمها مع مؤسسات أخرى تبيع لها وتشترى منها. ولو لم تفعل، فإنها تعيش في خوف دائم من أن يتسبب أي تغير في أوضاع السوق في قيام مورديها ببيع منتجاتهم إلى آخرين وأن يفقد فجأة من ينقلون بضائعها ومن يبيعونها بالتجزئة اهتمامهم بها. وهي تسعى إلى "احتجاز" هذه الشركات الأخرى بواسطة توليفة من الحوافز التمويلية، والمزايا التجارية والتواصل الشخصي. وعند هذا الحد، لا يقع الانتاج داخل شركات منفردة، وإنما في "مجمعات صناعية" نشأت وتكونت عبر الزمن.(71)
نماذج السوق في علم الاقتصاد الكلاسيكي والنيوكلاسيكي تصور رؤوس الأموال كذرات معزولة تنخرط في منافسة عمياء مع رؤوس أموال أخرى. أما الرأسماليون في العالم الحقيقي فيسعون دائما إلى تعزيز مراكزهم التنافسية عبر إقامة تحالفات فيما بينهم ومع شخصيات سياسية طموحة – وهي تحالفات يعضدها المال وأيضا الزيجات فيما بينهم، وشبكات زملاء الدراسة والأصدقاء القدامى والمشاركة المتبادلة في المناسبات الاجتماعية. (72)
حتى سيولة رأس المال النقدي لا تضعف من أهمية أن يكون لمؤسسات مالية معينة دول قومية محددة. وكما يلاحظ كوستاس لابافيتساس في تحليله للنقود في ظل الرأسمالية، "إن الائتمان التجاري يعتمد على الثقة بين فرادى المؤسسات الرأسمالية وهي ثقة ذاتية وخاصة حيث تبنى على المعرفة التي تراكمها الشركات عن بعضها البعض في سياق علاقاتها التجارية."(73) كما أن الشبكات التي توفر هذه المعرفة تنظم إلى حد كبير جدا على أساس قومي، وتلعب فيها الدولة، عبر البنك المركزي، دورا رئيسيا. "إن مؤسسات وأسواق نظام الائتمان، التي يشرف عليها ويديرها البنك المركزي، تضع السلطة الاجتماعية والثقة في خدمة التراكم الرأسمالي."(74)
إن العلاقة بين الدول ورؤوس الأموال علاقة بين بشر، بين من ينخرطون في استغلال جماهير السكان ومن يسيطرون على هيئات من الرجال المسلحين. والتواصل الشخصي مع الشخصيات القيادية في الدولة هدف يسعى إليه كل رأسمالي – تماما كما يسعى كل رأسمالي إلى غرس روابط الثقة والدعم المتبادل مع مجموعة محددة من رأسماليين آخرين. إن "العلاقات" التي أشار إليها لينين (75) لها أهمية هائلة.
إن هذه التفاعلات لابد أن تترك بصمتها على التكوين الداخلي لكل رأس مال، بحيث أن أي رأس مال محدد سوف يجد صعوبة بالغة في تخطي المصاعب إذا فصل بغتة عن رؤوس الأموال الأخرى والدولة التي تعايش معها في الماضي. فالدولة القومية ومختلف رؤوس الأموال التي تقوم على أساس قومي جميعها تنمو وتكبر معا مثل الأطفال في عائلة واحدة. وتطور إحداها يشكل حتما تطور الأخرى.
إن مجموعات رؤوس الأموال والدولة التي ترتبط بها تكونان نظاما تؤثر فيه كل منهما على الأخرى. وتتأثر الطبيعة الخاصة بكل رأس مال بتفاعله مع رؤوس الأموال الأخرى ومع الدولة. ولا تعكس الاندفاع العام لتوسع القيمة، للتراكم، فحسب، وإنما أيضا البيئة المحددة التي ينمو بداخلها. إن الدولة ورؤوس الأموال يتشابكان مع بعضهما وكل منهما يتغذى على الآخر.
لا تستطيع الدولة ولا رؤوس الأموال المحددة أن تفلتا بسهولة من هذه العلاقة الهيكلية من الاعتماد المتبادل. رؤوس الأموال المحددة تجد سهولة أكبر في العمل داخل إحدى الدول مقارنة بأخرى لأنها قد تضطر إلى إجراء إعادة هيكلة جوهرية لكل من تنظيمها الداخلي وعلاقاتها مع رؤوس الأموال الأخرى إذا قامت بنقل أعمالها. والدولة لابد أن تتكيف مع احتياجات رؤوس أموال محددة لأنها تعتمد عليها في الموارد – وخاصة إيرادات الضرائب – التي تحتاج إليها لاستمرارعملها: فقد تنقل رؤوس الأموال أصولها السائلة إلى الخارج إذا عملت الدولة ضد مصالحها. إن الضغوط التي تمارسها مختلف الدول على بعضها البعض لا غنى عنها بالنسبة لرؤوس الأموال القائمة في كل منها للتأكد من أن مصالحها تؤخذ في الاعتبار عندما تعمل على نطاق عالمي. فليس وجود دول متصارعة نتاجا خارجيا عن الرأسمالية ولا أمرا اختياريا بالنسبة للرأسماليين. بل جزء بنيوي في النظام وفي ديناميكيته. إن الإخفاق في إدراك ذلك، مثلا كما يفعل نايجل هاريس، يترك فجوة كبيرة في أي محاولة لفهم الرأسمالية على مدى القرن الماضي.
"استقلالية" الدولة والطبيعة الطبقية للبيروقراطية  
 بيد أن الاعتماد المتبادل بين الدول ورؤوس الأموال لا يعني أن الدول يمكن اختزالها ببساطة إلى الكيانات الاقتصادية التي تعمل داخلها. فمن يقومون على الإدارة الفعلية للدولة يضطلعون بمهام تمنع المنافسة بين الشركات أن تضطلع الشركات بها بنفسها. فلابد أن يتوسطوا بين رؤوس الأموال المتصارعة، بأن يوفروا نظما قضائية وأن يشرفوا على النظام المالي والعملة الوطنية من خلال البنوك المركزية. وكما يقول كلاوس أف، "حيث أن رأس المال ككل لا يوجد إلا بالمعنى المثالي … فإنه يتطلب توجيها خاصا وإشرافا بواسطة نظام إداري وسياسي مغاير تماما."(76)
 كما لابد أن توفر الدولة الآليات اللازمة لإدماج جمهرة السكان في النظام: مؤسسات القهر التي تجبر الناس على الخضوع من ناحية (مثل الشرطة والسجون والشرطة السرية)؛ ومن ناحية أخرى توفر آليات دمج توجه المظالم في قنوات تتلاءم مع النظام (مؤسسات برلمانية، أطر للمفاوضة الجماعية، وأحزاب إصلاحية أو محافظة أو فاشية). وتختلف النسب التي تعمل بها هاتان المجموعتان من الآليات من موقف إلى آخر، لكنها قائمة في كل مكان لتكمل بعضها الأخرى. آليات القسر تقنع الناس بأن يتخذوا الطريق الأسهل للاندماج في النظام؛ أما الآليات الاندماجية فتوفر قفازا حريريا تختبئ فيه الأيدي الحديدية لقوة الدولة القمعية، وبالتالي شرعنتها. وقد استخدم الماركسي الثوري الإيطالي أنطونيو جرامشي عن حق مجاز ماكيافيللي في "القنطور"، وهو كائن نصف حيوان ونصف إنسان، لالتقاط الطريقة التي تتآلف بها القوة مع القبول في مؤسسة الدولة.(77)
وتعتمد آليات القهر وآليات الدمج على التنظيم والقيادة من خارج مجال الاستغلال الرأسمالي والتراكم في ذاته – أي من متخصصين شرطيين وعسكريين من ناحية، ومن قيادات سياسية قادرة على حشد درجة من التأييد الاجتماعي من ناحية أخرى. وتحتاج الدولة الفعالة إلى بناء تحالف يحظى بتأييد – أو على الأقل تواطؤ – هذه العناصر بينما تسمح لها بمساحة معينة من الحركة في أن تسعى وراء مصالحها الخاصة.(78) فهي بالضرورة إذن لا تعكس فقط مصالح رأس المال عموما فحسب، وإنما كذلك التنازلات التي تقدمها لإدماج مجموعات وطبقات اجتماعية أخرى في حكمها. كما أنها بالضرورة تكشف عن درجة هامة من الاستقلالية.   
في عام 1871، لاحظ ماركس أن "آلة الدولة المعقدة … بهيئاتها العسكرية والبيروقراطية والدينية والقضائية المعقدة والمنتشرة في كل مكان، تلتف حول جسد المجتمع الحي مثل أفعى البوا العاصرة…". إن بيروقراطية الدولة تنشأ لتأكيد سيطرة الطبقة الحاكمة القائمة، ولكنها تتحول في سياق هذه العملية إلى "كائن طفيلي" قادر على أن "يخضع تحت سلطانه حتى مصالح الطبقات الحاكمة…"(79)
وتبلغ هذه الاستقلالية ذروتها عندما تقع السلطة الحكومية في أيدي أحزاب إصلاحية أو شعبوية أو فاشية لها قاعدة قوية بين العمال أو الفلاحين أو البرجوازية الصغيرة. وهناك أحوال يكون فيها من يمارسون هذه الاستقلالية قادرين على أن يقطعوا مع مصالح رأسمالية هامة داخل إقليمهم بل وأن يصادروها. وقد صدق ذلك في مناسبات عديدة على مدار القرن العشرين – ومن أمثلة ذلك النازية الألمانية، البيرونية الأرجنتينية، الناصرية في مصر، البعثية في سوريا والعراق. وكذلك في أحوال كثيرة تتصرف فرادى رؤوس الأموال بطرق تضر بمصالح "دولتها" – منها نقل الأموال والاستثمارات إلى الخارج، عقد صفقات مع رأسماليين أجانب تضعف رؤوس الأموال المحلية، بل وبيع أسلحة إلى دول تحارب دولتها الخاصة.
ومع ذلك، هناك حدود للمدى الذي يمكن لأي دولة أن تنفصل عنده مستقلة عن رؤوس الأموال بها، وكذلك لاستقلال رؤوس الأموال عن دولتها. وقد تستطيع أي دولة أن تتجاهل مصالح مجموعة محددة من الرأسماليين؛ لكنها لا تستطيع أن تنسى أن إيراداتها الخاصة وقدرتها على الدفاع عن نفسها ضد دول أخرى تعتمدان على استمرار التراكم الرأسمالي.  وفي المقابل، يستطيع رأس مال معين، بكثير من الصعوبة، أن ينزع جذوره من إقليم دولة قومية معينة ليزرع نفسه في أخرى؛ لكنه لا يستطيع أن يعمل لفترة من الزمن في "غرب متوحش" دون وجود دولة فعالة تحميه ضد كل من القوى الأدنى التي ربما تفسد الإيقاع الطبيعي لعملية الاستغلال وضد رؤوس الأموال الأخرى ودولها.
إن القطع سواء من قبل أي دولة مع رؤوس أموالها أو من قبل رؤوس الأموال مع دولتها عملية صعبة وخطيرة. فإذا استدارت دولة على رأس المال الخاص، فقد يؤدي ذلك إلى وضع لا يبدأ فيه الناس في تحدي رأس المال الخاص فحسب، وإنما أيضا تحدي التراكم الرأسمالي في حد ذاته، ومعه تحدي تراتبية الدولة.  وإذا قطع رأس المال الخاص مع "دولته" فإنه يخاطر بأن يترك وحيدا يكافح عالما معاديا وخطيرا.
للاعتماد المتبادل بين الدول ورؤوس الأموال نتائجه على قضية لم يتعرض لها حتى كثير من المحللين – هي الطبيعة الطبقية لبيروقراطية الدولة نفسها. وعادة يفترض إما أنها ببساطة كيان سلبي صنعته طبقة رأسمالية خاصة أو أنها تشكيل سياسي منفصل بمصالح تختلف تماما عن مصالح أي شكل من أشكال رأس المال. وينظر إلى الطبقة على أنها تعتمد على الملكية الفردية (أو عدم الملكية) للثروة، ويستنتج من ذلك أن بيروقراطية الدولة لا يمكن أن تكون طبقة مستغلة أو جزء من طبقة مستغلة. هذا المعنى يوجد ضمنيا في وجهة نظر مثلا إلين وود وديفيد هارفي اللذان يعتبران الأنشطة الاقتصادية التي تديرها الدولة "خارج" نظام الإنتاج الرأسمالي.(80) 
تترك هذه المقاربة فجوة هائلة عندما تطرح تحليل الرأسمالية خلال فترة قرن ونصف القرن بعد وفاة ماركس. فإجمالي دخل المجتمع الذي يمر عبر أيدي الدولة بلغ حدودا أعلى كثيرا من الدخل الذي يحصل عليه رأس المال الخاص مباشرة في شكل أرباح وفائدة وريع. كما أن الاستثمار الذي تضطلع به الدولة مباشرة يزيد غالبا على نصف إجمالي الاستثمار (81) وبيروقراطية الدولة تتصرف مباشرة في حصة كبيرة جدا من عوائد الاستغلال.
لا يمكن في أي تحليل للطبقة في هذه الأوضاع أن يقتصر على بحث الأمور كما تبدو في "المعنى الشائع" الرسمي عن مجتمع كما يعبر عنه التعريف القانوني للملكية. فعند ماركس، تعتمد الطبقات لا على هذه التعريفات الشكلية، وإنما على علاقات الإنتاج الاجتماعية الحقيقية التي يجد الناس فيها أنفسهم. والطبقة مجموعة من الناس تدفعهم علاقتهم بعملية الانتاج المادية والاستغلال لأن يتحركوا جماعيا ضد مجموعات أخرى. ويشدد ماركس، في فصل أخير لم يكتمل من المجلد الثالث لرأس المال، على أن الطبقات لا يمكن أن تتحدد ببساطة حسب "مصادر إيراداتها" لأن ذلك سوف يؤدي إلى تقسيم لا نهائي إلى طبقات بما يوازي "التفتت اللانهائي في المصالح والمكانة والذي ينتج عن تسبب تقسيم العمل الاجتماعي في تقسيم العمال وكذلك الرأسماليين والملاك العقاريين."(82) وفي موضع آخر يقول ماركس إن ما يجعل هذه الجماعات المختلفة تتحد مع بعضها في طبقات كبيرة في المجتمع الحديث هي الطريقة التي تكون فيها إيرادات زمرة من هذه الجماعات ناشئة عن استغلال من يشكلون جماعات أخرى. وكما أوضح في كراساته لكتاب رأس المال: "إن رأس المال والعمل المأجور يعبران فحسب عن عنصرين في نفس العلاقة."(83) ولا يكون الرأسمالي رأسماليا إلا بقدر تجسيده لعملية التوسع الذاتي للقيمة، بقدر ما هو تشخيص لعملية التراكم؛ ولا يكون العمال عمالا إلا بقدر ما تواجههم "الشروط الموضوعية للعمل" بوصفها رأس المال.  
وبما أن الشريحة التي تتولى الإدارة في بيروقراطية الدولة ملزمة بأن تتصرف كوكيل لتراكم رأس المال، شاءت ذلك أم أبت، فإنها تنحو إلى تعريف مصالحها الخاصة كمصالح رأسمالية وطنية في مواجهة كل من رأس المال الأجنبي والطبقة العاملة. وكما يستطيع رأسمالي فرد أن يختار الدخول في فرع من النشاط دون آخر، ولكنه لا يستطيع تجنب الفعل الإلزامي للاستغلال والتراكم في أي فرع من النشاط يدخله، كذلك بيروقراطية الدولة تستطيع أن تسير في اتجاه أو آخر، لكنها لا تستطيع تجاهل احتياجات التراكم الرأسمالي القومي دون أن تخاطر بمستقبلها في الأجل الطويل. وتتمثل "استقلاليتها" في درجة محدودة من الحرية تتعلق بكيفية فرض احتياجات التراكم الرأسمالي القومي، بلا أي مجال للاختيار بين أن تفرض هذه الاحتياجات أم لا.
غالبا يختفي اعتماد بيروقراطية الدولة على الاستغلال الرأسمالي وراء الطريقة التي تجمع بها إيراداتها – أي فرض الضرائب على الدخول والإنفاق، أو الاقتراض الحكومي أو "طباعة النقود". فكل هذه الأنشطة تبدو على السطح مختلفة عن عملية الاستغلال الرأسمالي في مواقع الإنتاج. ولذلك تظهر الدولة ككيان مستقل يستطيع تدبير الموراد التي يحتاجها عن طريق جباية الأموال من أي طبقة في المجتمع. لكن هذا المظهر الاستقلالي يتلاشى عندما ننظر إلى أنشطة الدولة في سياق أوسع. تحصل الدولة إيراداتها عبر فرض الضرائب على الأفراد. لكن هؤلاء الأفراد سوف يحاولون تعويض ما فقدوه من قدرة شرائية عبر الصراع في مواقع الإنتاج – سيحاول الرأسماليون أن يفرضوا معدلا أعلى للاستغلال، بينما يحاول العمال أن يحصلوا على زيادة في الأجور. ويحدد توازن القوى الطبقية المساحة المتاحة للدولة في زيادة إيراداتها. وهذه الإيرادات جزء من إجمالي فائض القيمة الاجتماعي – أي جزء من الكمية الإجمالية التي تتجاوز بها قيمة ناتج عمل العمال تكلفة إعادة إنتاج قوة عملهم.
وبهذا المعنى يمكن مقارنة إيرادات الدولة بالإيرادات الأخرى التي تحصل عليها مختلف قطاعات رأس المال – أي الريوع التي يحصل عليها الملاك العقاريون، والفوائد التي يحصل عليها رأس المال النقدي، وعوائد التجارة التي يحصل عليها رأس المال السلعي، والأرباح التي يحصل عليها رأس المال الإنتاجي. وتماما كما نجد صراعا مستمرا بين مختلف قطاعات رأس المال على حجم إيراداتها المختلفة، نجد كذلك صراعا مستمرا بين بيروقراطية الدولة وبقية الطبقة الرأسمالية على حجم ما تقتطعه من فائض القيمة الإجمالي. في بعض الأحوال سوف تستخدم بيروقراطية الدولة موقعها الخاص، باحتكارها للقوة المسلحة، في تحقيق مكاسب لنفسها على حساب الآخرين. وردا على ذلك سوف تستخدم قطاعات رأس المال الأخرى مواقعها الخاصة – أي قدرة رأس المال الصناعي على تأجيل الاستثمار، وقدرة رأس المال النقدي على الانتقال إلى الخارج – في المقاومة.
ومع ذلك، وفي خضم كل هذا، لا تستطيع مختلف قطاعات رأس المال أن تفلت من اعتمادها المتبادل على بعضها الآخر بما يتجاوز فترة مؤقتة. فهذا الاعتماد المتبادل يؤكد نفسه في النهاية في أعلى شكل دراماتيكي، عبر الأزمات – مثل انهيار مفاجئ في نظام الائتمان، وعجز مباغت عن بيع البضائع، وأزمات طارئة في ميزان المدفوعات، بل وحتى خطر إفلاس الدولة. فأولئك الذين يديرون بيروقراطية الدولة قد لا يملكون حصصا خاصة من رأس المال، لكنهم مضطرون إلى التصرف كوكلاء للتراكم الرأسمالي، فيصبحون، وفقا لتعريف ماركس، جزءا من الطبقة الرأسمالية.
يوضح ماركس في كتابه رأس المال أن تقسيما للوظائف يحدث داخل الطبقة الرأسمالية مع تقدم الإنتاج الرأسمالي. فيميل إلى التراجع دور ملاك رأس المال المباشر في التنظيم الفعلي لعملية الإنتاج والاستغلال، تاركين ذلك لمدراء ذوي أجور عالية. بيد أن هؤلاء المدراء يظلون رأسماليين بقدر ما يستمرون في دور وكلاء للتراكم الرأسمالي. وقام هيلفردينج بتطوير هذه الفكرة، مشيرا إلى تقسيم داخل الطبقة الرأسمالية الواحدة بين جمهرة من الرأسماليين الريعيين، التي تعتمد على نسبة ثابتة من عائد أسهمها بهذا القدر أو ذاك، ورأسماليين "مؤسسي شركات" الذين يربحون فائضا إضافيا من القيمة عبر جمع رأس المال المطلوب من قبل الشركات العملاقة.(84) ونستطيع أن نضيف تمييزا آخر بين من يديرون عملية التراكم لفرادى رؤوس الأموال وبين أولئك الذين يعملون، من خلال الدولة، على تعزيز تنمية رؤوس الأموال الشقيقة التي تعمل داخل دولة واحدة – ممن يمكن أن نسميهم "الرأسماليين السياسيين".  
رأسمالية الدولة ورأسماليو الدولة
كان ظهور قطاع اقتصادي كبير مملوك للدولة واحدا من أهم التطورات التي حدثت في القرن العشرين. أصبحت الدولة تخطط مجمل الإنتاج الداخلي في ألمانيا خلال الجزء الأخير من الحرب العالمية الأولى، وفي الولايات المتحدة وبريطانيا وكذلك ألمانيا خلال معظم فترة الحرب العالمية الثانية – وطبعا في الاتحاد السوفييتي من عصر ستالين إلى جورباتشوف، وفي الصين في عهد ماو.  
تماما كما يقبل كثير من المحللين الرأي "الشائع" بأن الدولة كيان منفصل عن الرأسمالية، فإنهم كذلك يرفضون أن يتقبلوا أن الصناعات والاقتصادات التي تديرها الدولة يمكن أن تكون رأسمالية.(85) غير أن الماركسيين الكلاسيك ينظرون إلى الأمور بصورة مختلفة نوعا. في الجزء الثاني من كتابه رأس المال، كان ماركس فعليا "يضم" … رأس مال الدولة إلى "مجموع فرادى رؤوس الأموال" بقدر ما تستخدم الحكومات العمل المأجور في المناجم، والسكك الحديدية الخ، وتضطلع بمهام رأسماليين في الحقل الصناعي."(86). وقد أوضح إنجلز ذلك بجلاء تام في رد فعله على تأميم بسمارك لشبكة السكة الحديد الألمانية:
"إن الدولة الحديثة، أيا كان شكلها، هي في الأساس آلة رأسمالية، هي دولة الرأسماليين، والتشخيص المثالي لإجمالي رأس المال الوطني، وكلما استمرت الدولة في الاستيلاء على القوى المنتجة، كلما أصبحت من الناحية الفعلية الرأسمالي الوطني وكلما زاد عدد المواطنين الذين تستغلهم. وسيبقى العمال عمالا أجراء، أي بروليتاريا. فالعلاقات الرأسمالية لا تزول. بل إنها تبلغ ذروتها." (87)
وفي تسعينيات القرن التاسع عشر استطاع كاوتسكي أن يجادل بأن الليبرالية الاقتصادية الأصلية (التي تستقي منها النيوليبرالية الحالية اسمها) لـ"مدرسة مانشستر" "لم تعد تؤثر على الطبقة الرأسمالية" بسبب "أن التطور السياسي والاقتصادي حفز ضرورة التوسع في المهام التي تضطلع بها الدولة"، مجبرا إياها على "أن تتولى بنفسها مزيدا من المهام أو الصناعات."(88)
وبعد ذلك بربع قرن، كتب تروتسكي في بيان الأممية الشيوعية لعمال العالم:
"إن دولنة الحياة الاقتصادية، التي اعتادت الليبرالية الرأسمالية الاعتراض عليها كثيرا، أصبحت واقعا ناجزا… وتستحيل العودة لا إلى حرية المنافسة فحسب بل حتى إلى هيمنة الاحتكارات والاتحادات والخطابيط الأخرى. والمسألة الوحيدة حاليا هي: من سوف يملك الإنتاج المدولن من الآن فصاعدا – الدولة الإمبريالية أم البروليتاريا المنتصرة."(89)
ما أدركه الجميع هو أن ملكية الدولة فضلا عن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج لم تغير جوهر علاقات الإنتاج أو دينامية التراكم الرأسمالي. وكان الهدف من تأميم الصناعة بالنسبة للدولة تمكين عملية التراكم محليا من بلوغ مستوى التراكم الذي يحققه المنافسون الأجانب حتى تكون قادرة على البقاء والنجاح في المنافسة الاقتصادية و/أو العسكرية. وحتى تبلغ هدفها، فإن العمل المستخدم يبقى عملا مأجورا، كما جرت محاولة لأن يبقى مقابل العمل منخفضا إلى الحد الأدنى الضروري للحفاظ على قوة العمل وإعادة إنتاجها. وقد تقوم الدولة بتخطيط الإنتاج داخل المنشآت التي تملكها، لكن تخطيطها يكون خاضعا للمنافسة الخارجية تماما كما كان التخطيط داخل أي شركة خاصة. ويبقى التوسع الذاتي لرأس المال هو الهدف، مما يعني أن قانون القيمة كان يعمل ويكشف عن نفسه في العمليات الداخلية في تلك المؤسسات.
وبهذه الطريقة، يتصرف موظفو الدولة بما يشبه الرأسماليين كثيرا – كتجسيد حي لعملية التراكم الرأسمالي على حساب العمال – كما يفعل رواد الأعمال أو حملة الأسهم في القطاع الخاص.
وكان الفشل في إدراك ذلك ما دفع هيلفردينج في عشرينيات القرن الماضي أن يصل إلى استنتاج مفاده أن الرأسمالية "المنظمة" كانت تتغلب على التناقضات التي قام ماركس بتحليلها. وبحلول أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين، دفعه تخطيط الدولة في ألمانيا النازية إلى استنتاج أن ما كان قائما في ظلها لم يعد نظاما رأسماليا على الإطلاق، وإنما شكل جديد من المجتمع الطبقي، حل فيه "التنظيم" محل "الرأسمالية"، ولم تعد القوة الدافعة فيه هي تحقيق الأرباح لتغذية عملية التراكم التنافسي بين رؤوس الأموال المتصارعة.
وما عجز هيلفردينج عن إدراكه – مثلما يعجز حاليا جميع من يستمرون في المطابقة بين الرأسمالية والملكية الخاصة لشركات تتنافس في أسواق حرة – هو أن النظام استمر قائما على التراكم التنافسي بين مختلف رؤوس الأموال حتى وإن أصبحت الآن رأسماليات دولة عسكرية. ونفس الدينامية هي التي تدفعها قدما كما كانت خاضعة لنفس التناقضات التي حللها ماركس. كان ذلك صحيحا خلال فترة الحرب الشاملة، التي لم تكن الدول المتصارعة خلالها تتاجر مباشرة مع بعضها والأخرى وأعمال الحصار البحري كانت تحد إلى درحة كبيرة منافستها في الأسواق الأجنبية. وكان كل نجاح تحققه إحدى الدول في مراكمة الآليات العسكرية يدفع جهودا تهدف إلى تحقيق تراكم مماثل من الآليات العسكرية عند منافسيها. وكما أن جهود منتجي السيارات المتنافسين في تجاوز بعضهم الآخر في حجم المبيعات تؤدي إلى دخول أشكال العمل الحقيقي الملموس في مختلف مصانع السيارات في علاقات متداخلة غير مخططة مع بعضها البعض، فتحول هذه الأشكال إلى كميات مختلفة من عمل مجرد متجانس، كذلك أيضا تحقق جهود الدول المتصارعة في إنتاج الدبابات بهدف الانتصارعلى بعضها الآخر النتيجة نفسها.
وقد وصف ماركس كيف في ظل رأسمالية السوق في عصره:
"لايؤكد عمل الفرد نفسه باعتباره جزءا من عمل المجتمع إلا عبر العلاقات التي يرسخها فعل التبادل بين المنتجات بصورة مباشرة، ومن خلالها بين المنتجين بصورة غير مباشرة."(90)
في النظام العالمي كما تطور بعد وفاة ماركس، أصبحت المنافسة العسكرية تلعب نفس الدور بأن تدخل أفعال العمل الفردية التي تبذل في كيانات دول مختلفة، ومغلقة ظاهريا، في علاقة مع بعضها والأخرى.  
إن امتلاك وسائل الدمار بالقدر الضروري لضمان الانتصار في الحرب كان يعتمد على نفس الاندفاع لمراكمة وسائل الإنتاج مثل الصراع على الأسواق – ومعه يأتي الحفاظ على انخفاض الأجور عند مستوى تكلفة إعادة إنتاج قوة العمل، ودفع مستوى الإنتاجية إلى الحدود السائدة على نطاق عالمي، والاندفاع إلى استخدام الفائض من أجل عملية التراكم.
الاختلاف الوحيد في هذا الشأن، كما أوضح توني كليف منذ أكثر من 60 عاما، بين المنافسة العسكرية والمنافسة الاقتصادية كان الشكل الذي اتخذه التراكم – بين ما إذا كان تراكما لقيم استعمالية يمكن استخدامها في إنتاج بضائع جديدة أو تراكما لقيم استعمالية يمكن استخدامها في شن الحرب. وكانت أهمية هذه القيم الاستعمالية بالنسبة لمن يسيطرون عليها في الحالتين تتحدد من خلال مقارنتها بالقيم الاستعمالية في مناطق أخرى من النظام، وهي مقارنة تحولها إلى قيم تبادلية.
يعني ذلك أيضا أن معدل الربح استمر في أن يلعب دورا محوريا. لم يعد معدل الربح يحدد توزيع الاستثمار بين مختلف قطاعات الاقتصاد الداخلي، وإنما المتطلبات العسكرية هي التي تحدد ذلك. بيد أن معدل الربح ظل يعمل باعتباره قيدا كابحا على الاقتصاد ككل. فإذا انخفض معدل إجمالي فائض القيمة الوطني إلى إجمالي الاستثمار في الآلة العسكرية الصناعية، فإن ذلك يضعف قدرة رأسمالية الدولة الوطنية على الصمود في الحرب مع منافسيها. لم يكن ممكنا أن يؤدي تدهور معدل الربح إلى أزمة اقتصادية لأن آلة الحرب سوف تواصل نموها طالما بقيت أي كمية من الفائض لاستخدامها مهما كانت ضئيلة. غير أنها قد تساهم في هزيمة عسكرية.
يمكن أن نرى نفس المنطق الرأسمالي يعمل في الدول التي نشأت فيها بيروقراطية جديدة تسيطر على وسائل الإنتاج (مثل الاتحاد السوفييتي في أواخر عشرينيات القرن الماضي وما بعدها (91)، أوروبا الشرقية والصين بعد الحرب العالمية الثانية، ومختلف الدول التي كانت مستعمرة في أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين). ورغم أن هذه الدول وصفت نفسها كدول "اشتراكية"، كانت دينامكيتها الاقتصادية تعتمد على علاقاتها المتداخلة مع العالم الرأسمالي الأوسع. فإذا تاجرت مع بلدان رأسمالية خارج حدودها، تنساق إلى منطق الإنتاج السلعي – وشروط أن تظل قادرة على المنافسة في الأسواق عبر القيام بالتراكم بطريقة رأسمالية من حيث جوهرها. ولكن حتى إذا حاولت أن تتبنى سياسية الاكتفاء الذاتي بأن تعزل نفسها اقتصاديا، فلا تستطيع تجنب الاضطرار للدفاع عن نفسها ضد قوى إمبريالية أجنبية وضارية. وفي الحالتين، كانت هذه الدول خاضعة لمنطق الرأسمالية كنظام عالمي في القرن العشرين على النحو الذي وصفه بوخارين في أوائل عشرينيات القرن. ومن حكموا هذه المجتمعات كانوا "تشخيصا" لعملية التراكم كما كان الرأسماليون الأفراد في عصر ماركس، مدفوعين في مواجهة تاريخية ضد العمال الأجراء الذين يكدحون على وسائل الإنتاج. بمعنى آخر، كانوا أعضاء في طبقة رأسمالية، حتى وإن كانت طبقة تضطلع بعمليتي الاستغلال والتراكم بصورة جماعية لا فردية.
 وكانت الدولة تبدو، على سطح ذلك، جزيرة كبيرة من التخطيط – بل وفي وقت ما كانت نصف قارة من التخطيط – وسط عالم من علاقات السوق. غير أن هذا التخطيط كان مثل جزائر التخطيط داخل فرادى المؤسسات الرأسمالية في عصر ماركس تخطيطا للحفاظ على إنتاجية العمل مسايرة لمستوى إنتاجية العمل المهيمن على نطاق عالمي، وذلك بقدر ما كانت هذه الدول تتنافس على توسع قوى الإنتاج بداخلها بوتيرة أسرع من الأخرى. وفرض قانون القيمة نفسه عبر هذه المنافسة على جميع وحدات النظام العالمي. فمن يديرون دولا، أو قطاعات معينة مملوكة للدولة، أو شركات خاصة كانوا سواءا واقعين تحت ضغط تخفيض الثمن المدفوع لكل بذل لقوة العمل إلى القيمة السائدة في النظام ككل.
يستطيع مديرو رأس المال الفردي وكذلك مدراء الدولة فرادى أن يعتمدوا فقط على حجم الموارد التي تحت تصرفهم لفترة من الوقت في محاولة تجاهل هذه الضغوط. لكنهم لا يستطيعون تجاهلها إلى مالانهاية. فعند نقطة معينة يضطرون إلى مواجهة خيارات صعبة إذا كان لهم ألا يتعرضوا لخطر الانهيار: فقد يحاولون فرض قانون القيمة على من يعملون لصالحهم ربما عبر عملية مؤلمة وخطيرة من إعادة الهيكلة الداخلية؛ أو قد يدخلون مقامرات يائسة لمحاولة تغيير ميزان القوى العالمي لصالحهم. وقد يعني ذلك بالنسبة لشركة مدنية أن تضخ الموارد في حيلة تسويقية أخيرة ربما تنطوي على غش؛ وبالنسبة لمن يديرون الدولة، فقد يعني محاولة استخدام القوة العسكرية لتعويض ضعفها الاقتصادي. ومن هنا كان التاريخ الحقيقي للرأسمالية في القرن العشرين شديد الاختلاف عن صورة المنافسة الشريفة السلمية التي تعرضها كتب الاقتصاد – ويقبلها بعض الماركسيين الذين لم يدركوا ضرورة النظر إلى العلاقات الاجتماعية الحقيقية التي تختبئ تحت الظواهر السطحية.