السبت، 20 نوفمبر 2010

سلاطة للفقراء أم كافيار للأغنياء - قضية الحد الأدنى للأجور تطرح الاختيار الصعب


الحكومة تحتج بشدة على قرار المحكمة الإدارية العليا بوضع حد أدنى للأجور وعلى مطالب قوى عمالية ونقابية بأن يكون هذا الحد قريبا من خط الفقر العالمي الذي يقدر بحوالي 1200 جنيه شهريا لأسرة مكونة من أربعة أفراد. لكنها أمام تصريحات مسئوليها بأنها ستلتزم بأحكام القضاء تلجأ للتلاعب كوسيلة للإفلات من الرفض المباشر وأعلنت أنها ستضع حدا أدنى للأجور يعادل 400 جنيه شهريا حسب قرار المجلس القومي للأجور الذي لم ينعقد إلا بعد صدور حكم المحكمة بالمخالفة للقانون الذي يلزمه بمراجعة الحد الأدنى للأجور كل ثلاث سنوات!
أهم ما احتجت به الحكومة أن زيادة الحد الأدنى للأجور سوف تؤدي إلى ارتفاع كبير في الأسعار وزيادة معدل التضخم، وهي حجة بدت لمسئوليها قوية بما يجعل رئيس الوزراء الدكتور أحمد نظيف يستخدمها زاعما انحيازه لمحدودي الدخل وأصحاب المعاشات والعاطلين في رفضه زيادة الحد الأدنى للأجور لتقترب من مستوى خط الفقر العالمي، وهو الرجل الذي لم يعرف عنه في أي تصريح سابق انحيازا إلا لرجال الأعمال والمستثمرين الأجانب والأثرياء!
وإذا كانت تصريحات الدكتور عثمان محمد عثمان، وزير التنمية الاقتصادية، مستفزة وساذجة خاصة عندما تحدث عن جلب عمال من بنجلاديش يقبلون أجورا أقل من أجور المصريين حاليا، فإن تصريحات رئيس الوزراء تكشف عن نفاق حكومي منقطع النظير فيما يتعلق بسياسة الأجور والأسعار.
يتجلى هذا النفاق واضحا عندما نتذكر تصريحات ممثلي الحكومة حول زيادة الأسعار خلال الفترات الماضية والتي تلاحقت رغم عدم ارتفاع الحد الأدنى للأجور. وتركزت معظم هذه التصريحات في تبرير زيادة الأسعار بعبارات مثل احترام حرية السوق وعدم تدخل الدولة لتسعير المنتجات أو للحفاظ على استقرار الأسعار، أو بالعبارة الشهيرة التي لا يكل مسئولو الدولة عن ترديدها وهي ارتفاع الأسعار العالمية، ثم يقارنون بين أسعار السلع في مصر وأسعارها في الولايات المتحدة وأوروبا دون أن يستمعوا لأي مقارنة بين مستويات الأجور هنا وهناك.
التضخم يرتفع رغم عدم زيادة الأجور، أو أنه يرتفع بمعدلات أعلى بكثير من زيادة الأجور ، وتسعى الحكومة إلى تبرير الزيادة في معدلات التضخم بصور شتى دون أن تجد فيه مشكلة خطيرة، بل إن سياسة البنك المركزي بتثبيت أسعار الفائدة عند مستويات متدنية تدعم ارتفاع التضخم باستمرار، وتتغنى الحكومة بنجاح هذه السياسة في دعم الاقتصاد، ولا تجد أي مشكلة في التضخم إلا عند الحديث عن زيادة الحد الأدنى للأجور!
موقف الحكومة في هذا الصدد يعبر بدقة عن انحيازها لرجال الأعمال والمستثمرين والأثرياء وضد القطاعات العريضة من العاملين بأجر، خصوصا من العمال وصغار الموظفين وأصحاب المعاشات الذين "يشفق عليهم" رئيس الوزراء من زيادة الأجور! ذلك أن زيادة الأسعار بمعدلات أسرع من زيادة الأجور تتضمن تخفيضا للقيمة الحقيقية للأجور وزيادة في نصيب أصحاب العمل من الثروة على حساب نصيب العاملين بأجر.
ومع ذلك، ليس ضروريا أن تؤدي زيادة الحد الأدنى للأجور إلى زيادة في الأسعار أو معدل التضخم، لأن معدل التضخم لا يرتفع إلا إذا زاد حجم السيولة النقدية المتداولة في السوق وارتفع الطلب على المنتجات دون أن تواجه الزيادة في الطلب بزيادة في معروض السلع في الأسواق. فإذا قامت الحكومة بزيادة الأجور عبر طبع المزيد من أوراق النقد فإن الأسعار سوف ترتفع بلا جدال، وإذا تركت حفنة من التجار والمستوردين يتحكمون في حجم المعروض من السلع في الأسواق فإن زيادة الأسعار سوف تحدث لا محالة.
لكننا عندما نريد زيادة في الأجور، فنحن لا نريد أوراقا لا قيمة لها مثلما تفعل الحكومة دائما بضخ أوراق نقدية تلتهمها الزيادة في الأسعار في اليوم التالي. إنما نريد تمويل هذه الزيادة من موارد حقيقية حتى يرتفع الأجر ارتفاعا حقيقيا. وهذا ممكن بالتأكيد ولكن ليس من خلال حكومة تنحاز انحيازا كاملا لأصحاب العمل وللتجار والمستوردين. وذلك بزيادة الأجر  دون زيادة حجم السيولة النقدية في السوق وعبر إعادة توزيع الدخول بصورة أكثر عدالة.
من هنا تأتي المطالبة بوضع حد أقصى للأجور يتناسب مع الحد الأدنى، واستخدام الفائض الذي يزيد على الحد الأقصى في الدخول الفلكية التي يحصل عليها كبار مسئولي الدولة والقطاع الخاص في تمويل الزيادة المطلوبة في أجور من يحصلون على دخول متدنية تقل كثيرا عن الحد الأدنى لحياة إنسانية. فهناك من كبار الموظفين في الدولة والقطاع الخاص من يحصلون على أجور تصل إلى المليون جنيه شهريا في حين يوجد آلاف الموظفين والعمال لا يحصلون على حد الكفاف.
وتعتبر ضرائب الدخل أيضا مصدرا هاما من مصادر تمويل الزيادة في الحد الأدنى للأجور دون زيادة حجم السيولة النقدية في السوق ودون طبع بنكنوت لا يقابله سلع حقيقية. لكن هذه الحكومة تحديدا هي التي قامت بتخفيض الحد الأقصى للضرائب على الدخل إلى 20% فقط حتى تسمح لأصحاب الأعمال والمستثمرين الأجانب والمصريين والأثرياء من التجار والملاك بتحقيق أرباح خرافية على حساب الفقراء والطبقة الوسطى. الغريب أيضا أن هذه النسبة لا توجد حتى في دول تدعم رجال الأعمال ورأس المال ولا يعرف عنها أي ميل نحو الاشتراكية ولا يتحدث مسئولوها مطلقا عن العدالة الاجتماعية. في بريطانيا وفي فرنسا وفي ألمانيا وفي دول أوروبية كثيرة يزيد الحد الأقصى لضريبة الدخل عن 45%، وفي الولايات المتحدة يزيد على 35%. مصر وحدها من بين دول العالم هي التي تفرض ضريبة على من يحصل على 40 ألف جنيه سنويا تعادل الضريبة على من يحصل على 4 مليارات جنيه سنويا! لكن حكومة الأثرياء والمستثمرين الحالية ترفض أي حديث عن زيادة الحد الأعلى للضريبة على الدخل وفرض ضريبة تصاعدية تحقق قدرا أعلى من العدالة الاجتماعية وترفع موارد الدولة بما يمكنها من زيادة أجور الموظفين الفقراء زيادة حقيقية دون طبع أوراق عديمة القيمة.
علاوة على ذلك، هناك مصادر كثيرة أخرى للتمويل دون زيادة حجم السيولة، تتمثل في الإدارة الأمينة لموارد هذا الشعب واستخدام هذه الموارد لتحقيق حياة آدمية لأبنائه، منها إعادة تسعير الطاقة التي تمنح مدعومة لشركات التصدير مصرية وأجنبية، إعادة تسعير الغاز الذي يمنح مدعوما لإسرائيل والأردن وأسبانيا، الحصول على حقوق الشعب المصري من الأراضي التي تمنح مجانا للمستثمرين والمضاربين، الخ الخ. إذن الموارد التي يمكن استخدامها لزيادة الأجور زيادة حقيقية كثيرة دون زيادة حجم السيولة النقدية عديمة القيمة، ولكنها تحتاج فقط إلى حكومة أمينة على مصالح هذا الشعب، وبالتأكيد إلى حكومة غير الحكومة الحالية والحكومات التي سبقتها على درب إخضاع البلاد لمصالح حفنة قليلة من رجال الأعمال مصريين وأجانب.
لكن البحث عن موارد حقيقية لتمويل الزيادة في الأجور دون زيادة حجم السيولة لا يكفي لدرء مخاطر زيادة الأسعار والتضخم. فهناك أيضا ضرورة ضبط العلاقة بين العرض والطلب، خصوصا على السلع الأساسية التي يحتاجها الغالبية العظمى من أبناء الشعب المصري، مثل الخضروات والفواكه والحبوب والألبان والملابس وغيرها. وطبيعي جدا أنه عند ارتفاع دخول الفقراء فإنهم سوف يسعون إلى شراء كفايتهم من هذه السلع التي يحرمون منها حاليا، وليس كما يقول الدكتور عثمان محمد عثمان بأنه إذا ارتفعت أسعار الخضروات فإن الفقراء "مش لازم ياكلوا سلطة". الفقراء لازم ياكلوا سلطة، لكن الأغنياء مش لازم يركبوا طائرات خاصة ولا سيارات فارهة ولا يمتلكوا ساعات رولكس ولا يشربوا شامبانيا وياكلوا كافيار يا دكتور، هذا إذا كانت الحكومة تزعم تمثيلها لغالبية الشعب المصري وليس لحفنة من الأثرياء.
وحتى يتحقق ذلك لابد أن تحتكر الدولة التجارة الخارجية استيرادا وتصديرا، حتى تستطيع تحديد الأولويات وتوفير السلع الضرورية للسوق المحلية وحتى تستطيع تحمل الزيادة في الأسعار العالمية للسلع الأساسية مثل القمح والمنتجات الغذائية وتمويل ذلك، ليس من خلال الاقتراض، وانما باستخدام فوائض السلع التي تحظى مصر فيها بمزايا نسبية مثل الأسمنت ومواد البناء والحديد والكيماويات التي تعتمد فيها المزايا النسبية على انخفاض أجور العمال المصريين مقارنة بالعمال الأجانب وعلى رخص الموارد ووفرتها في مصر، وهي مزايا ملك الفقراء والشعب المصري كله ولكن لا يستفيد منها إلا أصحاب العمل مصريين وأجانب في صورة أرباح خرافية. وفي هذا السياق لا يجب أن ننسى أن شركة أجريوم الكندية تروج مصنعها لإنتاج الأسمدة الكيماوية في مصر باعتباره المصنع الأعلى ربحية في العالم نظرا لانخفاض سعر الغاز وانخفاض أجور العمال المصريين، وليس لكفاءة مديريها ولا تفوق تكنولوجياتها مقارنة بالمنافسين لها من جميع أنحاء العالم.  كما تستطيع الدولة من خلال احتكار التجارة الخارجية أن تحمي السوق المحلية من احتكارات المستوردين وجشعهم في سلع لا يستطيع المصريون الاستغناء عنها مثل الخبز والألبان، وتستطيع أن تقرر أولويات الاستيراد حسب حاجة البلاد وتنمية مواردها من الضرائب الجمركية على السلع غير الضرورية، علاوة على تنمية مواردها من عائد التصدير، والأهم من ذلك منع التضخم المستورد، الذي يحدث نتيجة ارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية.
ولا تكتمل هذه المنظومة إلى بإعادة تنظيم السوق المحلية عبر احتكار الدولة لأهم مصادر زيادة الأسعار في الداخل وهي تجارة الجملة. فمن المعروف أن تجار الجملة يستطيعون التحكم في حجم المعروض من السلع وبالتالي زيادة الأسعار عبر ممارسات احتكارية. ولذلك يجب أن تكون الدولة مسئولة مسئولية كاملة عن تجارة الجملة ولا تسمح لتجار أفراد لهم مصالح خاصة بالعمل في تجارة الجملة حتى تتمكن من تحديد الأسعار وفقا لمستويات الدخول وحتى تتمكن من توفير السلع اللازمة لمنع الاختناقات أو أزمات نقص المعروض.
ولا يبقى في منظومة مكافحة التضخم إلا أطماع تجار التجزئة، وهم أضعف الحلقات ومن السهل جدا منعهم من زيادة الأسعار بسبب التفتت الشديد في قطاع التجزئة، لكن الدولة تستطيع عند الحاجة إلى ذلك التوسع في سلاسل المجمعات الاستهلاكية والتعاونيات التي يمكنها توفير السلع بأسعار ملائمة، كما يجب أن تتحرك الدولة لضبط أي مخالفة من التجار لقواعد التسعير.
زيادة الحد الأدنى للأجور إذن لا يترتب عليها بشكل أتوماتيكي زيادة الأسعار وارتفاع التضخم، ولكن كما أن تحقيق هذه الزيادة بصورة حقيقية لا يمكن أن يأتي عبر حكومة لا تأبه بمصالح الغالبية العظمى من الشعب المصري وتركز اهتمامها على مصالح حفنة ضئيلة من الأثرياء وأصحاب العمل مصريين وأجانب، كذلك حزمة السياسات والإجراءات التي يمكنها حماية المصريين من شلة رجال الأعمال والتجار الجشعين لا يمكن أن تتحقق من خلال هذه الحكومة.
إن أهمية حكم الإدارية العليا بزيادة الحد الأدنى للأجور تكمن بالأساس في قدرته على كشف الانحيازات الحقيقية لمن يحكمون مصر، وكشف النفاق في تصريحات وزرائها الذين يزعمون أنهم يمثلون الغالبية من أبناء الشعب المصري وينحازون لمصالحه. علاوة على أهمية هذا الحكم في تركيز وتوجيه كفاح العمال وصغار الموظفين نحو وجهة صحيحة لعلها تسهم في فتح آفاق جديدة أمامهم وأمام أبنائهم لإعادة امتلاك بلادهم التي بيعت على أيدي حكام يعاملونهم معاملة السبايا والعبيد.