الاثنين، 21 يناير 2013

ارتفاع الدولار: مؤامرة الثورة المضادة


تئن بلادنا كالنمرة الجريحة بعد ثورة فقدت خلال معاركها الشرسة فلذات أكبادها. وما زال النخاسون يجوبون بلحمها الأسواق ويعرضون كرامتها وعرضها على المرابين بعد أن بدلوا جلودهم وأضافوا إلى ابتسامة السمسار لحية عريضة وإلى أظافره المعقوفة مسبحة من عظام أبنائها.  
خلال أحداث الثورة، كان السماسرة يوجهون الطعنات في نحرها وهم مايزالون على صهوتها تحسبا من أن عنفوان أبنائها الذين خرجوا بالملايين يطالبون لها بالكرامة والحرية سوف يقذفون بهم لامحالة في أقرب سلة لمهملات العصور المظلمة. انتهت الجولة الأولى من معارك الثورة تاركة هذه النمرة العجوز ممددة بطول نهر النيل منهكة ولازال السماسرة يعتلون صهوتها والنخاسون يعرضون ما تبقى من لحمها في الأسواق لورثة النظام وبقاياه وحلفائه في داخل البلاد وخارجها.
تنطوي صورة النمرة الجريحة على كثير من التفاصيل الواقعية الملموسة، غير أنني لن أتناول هنا إلا بعضا مما اقترفته طبقة المماليك والسماسرة والنخاسين، التي مازالت تحكم بلادنا وإن تبدلت الوجوه، من جرائم تتعلق بجانب من الأوضاع المالية والاقتصادية لمصر بعد ثورة 25 يناير المجيدة.
وربما كانت أسعار صرف الجنيه أمام الدولار الأمريكي محورا لكثير من الجدل والمخاوف بعد أن هوى سعر الجنيه أمام الدولار الأمريكي بشكل ملحوظ مع إطلاق البنك المركزي آلية المزاد في طرح العملة الأجنبية للبنوك في نهاية ديسمبر الماضي. وقد خرج علينا البنك المركزي آنذاك ببيان صحفي فيه من البلاغة الزائفة ما يتناقض مع حقيقة الدور الذي لعبه في صناعة الأزمة بتواطئه على هروب رؤوس الأموال من البلاد خلال أكثر من عام ونصف العام من تفاعلات الثورة، وأكثرها زيفا خاتمة البيان الذي "ناشد" فيها فئات الشعب المصري بتغليب "المصالح العليا للوطن" وترشيد استخدامات النقد الأجنبي، بعد أن أهدر مليارات الدولارات التي هربها فلول النظام والأجانب ورجال الأعمال من البلاد تحت عينيه وبفضل سياساته.
كان البنك المركزي قد حافظ على استقرار سعر الجنيه أمام الدولار منذ بداية الثورة وحتى نوفمبر من العام الماضي بحيث لم تفقد العملة المصرية أكثر من 5% من قيمتها طوال هذه الفترة، ولكنه لم يفعل ذلك حفاظا على استقرار المصالح العليا للوطن وإنما حتى يسمح لمهربي رؤوس الأموال للخارج من الأجانب ورجال الأعمال المصريين للخروج بمليارات الدولارات بلا خسائر، عن طريق بيع ما بحوزتهم من أصول في مصر وتحويل قيمتها من الجنيه إلى الدولار وتهريبها خارج البلاد. وقد ذكر البنك في بيانه المشار إليه والذي أصدره في 29 ديسمبر الماضي أن 13 مليار دولار أنفقت من احتياطي النقد الأجنبي لتغطية "خروج المستثمرين الأجانب من سوق الدين المحلي" وذلك منذ اندلاع الثورة في يناير 2011 حتى انخفض رصيد الاحتياطي من 36 مليار دولار في بداية يناير 2011 إلى نحو 15 مليار دولار حاليا.
برر المركزي سياسة طرح العملة الأجنبية في المزاد برغبته في الحفاظ على الاحتياطي الذي أصبح في مستوى حرج لا يكفي إلا لتغطية الاستخدامات "الحتمية" مثل أعباء سداد المديونية الخارجية وتغطية كلفة استيراد السلع الاستراتيجية من المواد التموينية ومنتجات البترول والتحسب لأي تحديات طارئة. وحقيقة الأمر أن هذه السياسة واكبت مفاوضات حكومة هشام قنديل مع صندوق النقد الدولي على قرض بقيمة 4.8 مليار دولار مع ما نعلمه من شروط الصندوق بضرورة تخفيض قيمة الجنيه حتى يبلغ "سعرا حقيقيا للصرف" وفقا لآليات السوق! كما أنه بدأ في تبني هذه السياسة بعد أن خرجت مليارات الدولارات التي هربها الأجانب وفلول النظام من رجال الأعمال المصريين إلى الخارج حتى يضمن لهم خروجا مربحا عند تحويل الجنيه المصري إلى العملة الخضراء، وإلا لماذا لم يتبنى هذه السياسة منذ البداية إذا كان حريصا على احتياطي البلاد من العملة الصعبة؟ وهي السياسة التي توالى معها انهيار سعر الجنيه أمام الدولار في كل مزاد يطرحه البنك المركزي منذ 30 ديسمبر الماضي.
وحتى ندرك حجم تأثير هذه السياسة (سياسة التعويم الكامل) على سعر الجنيه، نذكر أن سعر الدولار بلغ في نهاية ديسمبر 2012 وقبل إعلان البنك المركزي عن آلية المزاد ما يقرب من 6.17 جنيه، وبعد اعتماد هذه الآلية مباشرة قفز الدولار الأمريكي إلى 6.35 جنيه  في أول يناير، وتوالى ارتفاع الدولار عقب كل مزاد للبنك المركزي حتى وصل إلى 6.60 جنيه في 19 يناير الجاري. وتتضح خطورة ذلك إذا وضعنا في اعتبارنا إن الدولار الأمريكي استقر في نطاق 6 جنيهات إلى 6.10 جنيه طوال عام تقريبا حتى أوائل ديسمبر 2012، وتتضح الصورة أكثر عندما ندرك أن سعر الدولار في يناير 2011 عندما اندلعت الثورة كان يبلغ 5.83 جنيه تقريبا، ارتفع بعدها مباشرة وعلى مدى ما يقرب من عامين حتى نهاية ديسمبر إلى 6.17 جنيه بمقدار 34 قرشا تقريبا، وخلال أقل من 20 يوما بعد آلية المركزي الجديدة إلى 6.60 جنيه – أي ما يقرب من 43 قرشا في أيام معدودة، بل وبلغ في بعض منافذ تجارة العملة 7.30 جنيه .
هل صحيح أن هذه السياسة – سياسة تخفيض قيمة العملة المصرية – ترتبط بانخفاض الاحتياطي الأجنبي إلى مستوى خطير كما يدعي بيان المركزي؟ لا نستطيع أن نصدق ذلك. لأن قيادات البنك المركزي، إذا كانت حريصة على رصيد الاحتياطي كما يزعمون، كان ينبغي لها أن تتخذ هذا الإجراء خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2012، على الأقل، عندما انخفضت أموال الاحتياطي إلى نحو 15 مليار دولار في مارس 2012 لتغطي ثلاثة أشهر فقط من الواردات، خاصة أن نزيف الأموال من ميزان المدفوعات كان مستمرا دون توقف وبمعدلات كبيرة بلغت خلال الفترة من يناير إلى مارس 2012 فقط ما يزيد على 3 مليارات دولار عجزا في ميزان المدفوعات. هل كان ينبغي أن ينتظر البنك المركزي إلى أن تفقد البلاد أكثر من 21 مليار دولار من الاحتياطي في عام ونصف تقريبا قبل أن يتخذ هذا الإجراء ويحذرنا من مخاطر المستقبل؟ الحقيقة أن البنك المركزي تواطأ على هروب هذه الأموال وأكثر منها إلى الخارج، وبعد أن استنزفت البلاد لصالح الأجانب ولصالح رجال الأعمال الذين هربوا هذه الأموال، بدأ المركزي في معاقبة الفقراء على ثورتهم ليفرض عليهم أن يدفعوا ثمنا إضافيا، وهو موجة ارتفاع الأسعار في جميع السلع الأساسية بعد تخفيض قيمة الجنيه، هذا الثمن يدفعه الفقراء لأنهم لم يدركوا عندما انتفضوا ثائرين أنهم ما كان ينبغي أن يتركوا السلطة والثروة في بلادهم في أيد غير أمينة وموالية وحليفة لمن ثاروا ضدهم بالذات.
زعم البنك المركزي أنه انتهج هذه السياسة التي عصفت باحتياطي البلاد من النقد الأجنبي وساعدت على هروب رؤوس الأموال خارج البلاد إعلاء لمصالح البلاد العليا وللحفاظ على استقرار سعر صرف الجنيه مع سداد التزامات مصر الدولية وضمان تدفق الواردات من السلع الغذائية والأساسية خلال هذه الفترة العصيبة. فهل هذا حقيقي؟ هل كان المركزي مضطرا للتفريط في ثروة البلاد والسماح بتهريب ما يزيد على 20 مليار دولار خلال أقل من عامين للحفاظ على استقرار سعر الجنيه وسداد الالتزامات الدولية وضمان تدفق الواردات من السلع الأساسية؟ حقيقة الأمر أن المركزي لو كان قام بدور وطني حقيقي ومنع تهريب الأموال من خلال البنوك أو البورصة أو شركات تحويل الأموال أو بيوت تجارة العملة (شركات الصرافة) لما كان سعر صرف الجنيه تعرض لهزات ولا انهارت أموال الاحتياطي ولكانت مصر أقدر على تغطية ما تحتاجه من واردات أساسية لفترة أطول كثيرا من ثلاثة أشهر، وسداد التزاماتها الدولية دون عناء. ذلك أن معاملات مصر مع الخارج – بدون تهريب الأموال طبعا –لا يمثل فارق الإيرادات من النقد الأجنبي والإنفاق على الواردات وخدمة الديون فيها ضغطا قويا في طلب الدولار يستدعي تدخلا كبيرا من البنك المركزي بضخ الدولار في الأسواق. بل إن مجموع العجز في ميزان المعاملات الجارية خلال العامين الماليين 2010-2011 و 2011-2012 وصل إلى 14 مليار دولار بسبب طفرة كبيرة في تكلفة الواردات البترولية بالأساس، مما كان يتوجب معه على سلطات الدولة المختلفة أن ترشد المدفوعات عن الواردات الأخرى التي شهدت ارتفاعا هي الأخرى بقيمة 3 مليارات دولار تقريبا خلال العامين الماليين المذكورين.
عندما تقوم ثورة في دولة ما، أو حتى أزمة سياسية أو اقتصادية حادة، فإن أول خطر يداهمها من الناحية الاقتصادية هو هروب رأس المال، وتوقف المصانع عن العمل وزيادة البطالة. وإذا كانت سلطات هذه الدولة رشيدة ومخلصة في الدفاع عن مصالحها العليا، يكون همها الأول الحفاظ على ثروات الشعب من التهريب والتصفية. لذلك مثلا لجأت دولة مثل الأرجنتين إلى وقف التحويلات بعد الأزمة الاقتصادية التي عصفت بها خلال الفترة من 1999 وحتى عام 2002، ثم قامت بتجميد الديون الخارجية في عام 2003 وكانت ديونها الخارجية تصل إلى 130 مليار دولار. وقد تخلصت من أي ديون لها مع صندوق النقد الدولي حتى تخرج من أسر العلاقة مع الصندوق وذلك عقب انتخاب رئيسها نستور كيرتشنر في مايو من عام 2003، والذي انخفضت في عهده نسبة الفقر في الأرجنتين من 57.5% من السكان في أكتوبر 2002 إلى 15.3% في عام 2008. وشهد عهد كيرتشنر انخفاضا كبيرا في نسبة البطالة وزيادة الإنفاق الاجتماعي والتوسع في مشروعات الإسكان والبنية الأساسية وزيادة الإنفاق على البحث العلمي والتعليم وزيادة كبيرة جدا في الأجور الحقيقية للعمال والموظفين كما اتبعت البلاد سياسة الإحلال محل الواردات حتى انخفض الطلب على العملة الأجنبية وارتفعت قيمة عملتها المحلية ومستوى معيشة أبنائها، علاوة على إعادة هيكلة الشرطة ورفع وصاية العسكريين على الدولة، وقد كانت من قبل دولة تدار بالحكم العسكري المباشر، ثم إلغاء قانون العفو عن العسكريين وضباط الشرطة الذين تورطوا في التعذيب والاغتيالات. وفوق ذلك خروج الأرجنتين من أزمة اقتصادية طاحنة وتخلصها تماما من سيطرة صندوق النقد الدولي على سياساتها. وبعد وصول كيرتشنر للسلطة في ظل الأزمة العنيفة، توصل إلى اتفاق مع بعض الدائنين على تجميد الديون الخارجية مع سداد 67% فقط من أصل الدين بدون احتساب الفوائد وذلك بعد عشر سنوات، أما من رفضوا الاتفاق مع الأرجنتين من الدائنين فحتى الآن مازالوا يحاولون الضغط عليها عبر القضاء الأمريكي وضغوط صندوق النقد وخلافه دون فائدة، المهم أن الأرجنتين أخذت فسحة من الوقت تخلصت فيها من الأزمة الاقتصادية ورفعت المعاناة عن كاهل شعبها، بسياسة رشيدة لا تنحاز إلا لمصالح الجماهير. شتان بين هذا النموذج وبين من يحكموننا حاليا ويسيطرون على مفاصل السلطة على مصادر الثروة في البلاد، وهم يفرطون في مصالح العباد.
الآن نحن ندفع ثمن التأخر في إغلاق ممرات تهريب رأس المال للخارج، وندفع ثمن إصرار حكامنا على التعامل مع صندوق النقد الدولي، وندفع ثمن بقاء النظام على انحيازاته لمصالح رجال الأعمال والمستثمرين مصريين وأجانب على حساب غالبية الشعب المصري.  ارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه سوف يترتب عليه زيادة كبيرة في أسعار السلع الأساسية كلها، خاصة وأننا دولة تستورد أكثر من 50% من غذائها، كما تستورد أكثر من 90% من المادة الفعالة في الأدوية حتى التي ينتج منها محليا، كما نستورد مشتقات البترول وحوالي 50% أو أكثر من السلع الوسيطة والرأسمالية في الصناعات التحويلية، ونسبة كبيرة من مستلزمات الزراعة، وانخفاض الجنيه أمام الدولار يعني ارتفاعا في أسعار كل هذه السلع وكل ما تدخل فيه من سلع تطرح في الأسواق. كما يعني انخفاض قيمة العملة المصرية وارتفاع الأسعار انخفاض القيمة الحقيقية لأجور العمال والموظفين بما يترتب عليه من تدني مستوى معيشتهم أكثر مما هو عليه، وزيادة كبيرة في أرباح الشركات التي تنتج للتصدير والمستثمرين الأجانب الذين ستنخفض بالنسبة لهم قيمة الأصول – الأراضي والمباني والشركات والمصانع والخامات- في مصر كما تنخفض تكلفة أجور العمال المصريين.
هي نفس انحيازات نظام مبارك للمستثمرين ورجال الأعمال مصريين وأجانب على حساب جماهير الشعب المصري، ولذلك ترك رموز نظام مبارك في مواقعهم وأكد الحكام الجدد على استمرارهم على التزاماته وعلى دربه حتى وإن كان في ذلك تضحية بأبسط حقوق هذا الشعب، وكأن ثورة لم تحدث.