الخميس، 5 نوفمبر 2009

زمن البرابرة الجدد

"الرأسمالي بيملك الآلة، أغلال على استغلال على بطالة، يخللي عيشتك يا فقير عالة، ويموتك، ويبيعلك الأكفان"

فؤاد حداد من أبعد الشعراء المصريين عن المباشرة في مجمل إنتاجه الأدبي، لكنه اختار أن يعبر عن المعنى الذي تنطوي عليه هذه الأبيات بهذه الصورة المباشرة والتقريرية التي قد لا تعجب أغلب النقاد، ربما لأنه اعتقد أن وضع الصورة هكذا بشكلها التقريري أكثر قسوة وعنفا وأكثر وضوحا وصدقا من إعادة إنتاجها في قالب جمالي فريد لم يكن شاعرنا يفتقد إليه.

على أي حال، هذا ما قاله شاعر مصر العظيم فؤاد حداد في إحدى قصائده، وهذا ما تقوم حكومة الرأسماليين التي تسيطر على مصر حاليا بتحويله إلى واقع ملموس، ليس بالمعنى المجازي وإنما بالمعنى الحرفي والحقيقي لهذه الكلمات. مات فؤاد حداد قبل أن يرى الدولة المصرية تلقي بكل ثقلها وراء مصالح حفنة ضئيلة من رجال الأعمال وحلفائهم من الشركات العالمية للسيطرة على عصب الحياة في مصر التي عشقها، وقبل أن تمتد أصابعهم اللزجة وأظافرهم الطويلة الحادة وأنيابهم الملوثة بالدم والوحشية لالتهام ما تبقى من جسد المصري النحيل الذي حرقته الشمس وأرهقته مصارعة الكد في حياة مليئة بالشقاء.

امتدت شهية هذه الحفنة من الديناصورات التي لا تشبع إلى منطقة أخرى أكثر خطورة بمساعدة الدولة التاجرة، إلى سوق أخرى جديدة هي سوق الحياة والموت. وكأنهم يسعون جاهدين إلى تحقيق الصورة التي وضعها فؤاد حداد كاملة دون مواربة، بدأ هؤلاء الوحوش المتأنقون في ملابس عصرية في استهداف "سوق" الدواء والتأمين الصحي بلغة وأرقام وأهداف تجعل إنسان القرن الحادي والعشرين يحن إلى رحمة مفقودة وإنسانية غائبة في عصر البرابرة "الليبراليين" الجدد.

جسد هذه الأهداف مشروع وزارة الصحة لإعادة النظر في تسعير الدواء في مصر. خطتهم في صورتها الأولية تعتمد على دراسة أسعار الدواء في 36 دولة واختيار أرخص الأسعار فيها وتسعير الدواء في مصر بأقل منها بنسبة 10%، وذلك بدلا من سياسة التسعير الحالية التي اعتمدت على حساب التكاليف الفعلية لإنتاج الدواء بالإضافة إلى هامش ربح للشركة المنتجة وللصيدلية في تحديد سعر الدواء. تحدثوا عن هذه الخطة بشكل مكشوف بأنها سوف تؤدي قطعا إلى ارتفاع أسعار الدواء، مما يعني أن سياسة التسعير الجديدة لا هدف لها إلا زيادة الأسعار وزيادة أرباح الشركات على حساب المرضى – وأغلبهم فقراء.

لا تشكل هذه الخطة إلا جناحا واحدا من جناحي الديناصور الرهيب الذي يستعد للانقضاض على "سوق" صحة المصريين، وجناحه الثاني هو مشروع قانون التأمين الصحي الجديد الذي تستعد دولة المماليك والسماسرة لتمريره في الدورة البرلمانية القادمة. كل ذلك يأتي تحت شعار المؤتمر الأخير للحزب الحاكم "من أجلك أنت" الذي يزعم اهتمام "حزب المستثمرين" كما وصفه جمال مبارك بقضايا الفقراء. هذا المشروع الذي يفتح "سوقا" جديدة للتجارة في آلام المرضى بعد أن تحول أغلب فقراء مصر إلى مرضى وقد ضربتهم سياسات السلطة بالتلوث والكيمياء وتدهور أوضاع المرافق الخدمية العامة – مثل المستشفيات ومرافق الصرف الصحي ومياه الشرب ومرافق النقل العام.

المشروع الجديد يرفع قيمة الاشتراك في التأمين الصحي، ويحمل المريض بنسبة 30% من تكلفة الدواء والخدمة الطبية من خارج المستشفى و5% من تكلفة الخدمة الطبية داخل المستشفى. أما هذا المستشفى نفسه – والذي أنشئ في الأصل بأموال الفقراء – فسوف يتحول إلى وحدة تجارية استثمارية تتعاقد مع الهيئة العامة للتأمين الصحي أو شركات التأمين الصحي الخاصة التي بدأت فعلا في اقتحام المجال وفقا لأسعار السوق.

وبغض النظر عن الأقوال البراقة والتصريحات الكاذبة من قبيل "لا خصخصة للتأمين الصحي" وخلافه، واللازمة لترويج خطتهم وتآمرهم على صحة المصريين، فإن هذه الخطة تسير في اتجاه إعادة هيكلة نظام التأمين الصحي في مصر وفقا لنظام التأمين الصحي في الولايات المتحدة الذي أصبح الآن كريها يحرم 50 مليونا من الأمريكيين من حقهم في الرعاية الصحية بسبب ارتفاع تكاليف العلاج وفواتير شركات التأمين الصحي مما وضع إدارة باراك أوباما في حالة من الارتباك الدائم بين مطالب فقراء أمريكا من جانب وضغوط "لوبي" شركات التأمين الصحي وشركات الدواء من جانب آخر.

مشكلة التأمين الصحي في مصر يمكن اختصارها في تجاهل السلطة توفير الإنفاق اللازم على الخدمات التي تقدم للفقراء رغم الحوافز والمزايا السخية التي تقدم لحفنة من المستثمرين ليس أكثرها بذخا تخفيض الضرائب على أرباحهم إلى أقل مستوى في العالم. مشكلة نقص التمويل والتجهيزات مشكلة حقيقية جعلت النظام الحالي ينهار ولا يقدم خدمة جيدة ولا مجانية للمشتركين ناهيك عن عدم القدرة على استيعاب مشتركين جدد، لكن الحكومة ورجالها يستخدمون هذا الانهيار الذي صنعوه للترويج لمصالح الوحوش التي تتربص وتستعد للتجارة في آلام المرضى من شركات الدواء المحلية والعالمية، وشركات التأمين الصحي البازغة، والمستشفيات التي لا يملكونها ولكنهم يرغبون في استثمارها لصالحهم بدلا من الإنفاق عليها وتطويرها لصالح أصحابها من فقراء هذا البلد. اكتملت الصورة، وتحققت نبوءة حداد، ولا عزاء للفقراء.