الثلاثاء، 4 أبريل 2017

رأسمالية الزومبي، كريس هارمان – الفصل السابع "الرخاء الطويل" – ترجمة رمضان متولي

الفصل السابع:
الرخاء الطويل
العصر الذهبي للرأسمالية الغربية
كثير من المحللين الاقتصاديين توقعوا أن ينزلق الاقتصاد العالمي إلى الأزمة مرة أخرى بعد الحرب، وبعد فترة قصيرة من الرخاء كما حدث في 1919. لكن ذلك لم يحدث. وما أعقب الحرب كان أطول رخاء عرفته الرأسمالية في تاريخها – أي ما يطلق عليه الآن غالبا "العصر الذهبي للرأسمالية"، أو يطلق عليه في فرنسا "الأعوام الثلاثون المجيدة". وبحلول سبعينيات القرن العشرين، كان ناتج الاقتصاد الأمريكي ثلاثة أضعاف مستوى عام 1940؛ وكان ناتج الاقتصاد الألماني خمسة أضعاف مستوى عام 1947 (الكاسد)؛ والفرنسي أعلى أربعة أضعاف. وقد حولت زيادة الناتج الصناعي بمقدار ثلاثة عشر ضعفا اقتصاد اليابان، التي كانت تعتبر دولة فقيرة في الأربعينيات، إلى ثاني أكبر اقتصاد غربي (1) بعد الولايات المتحدة. وبالتوازي مع النمو الاقتصادي كان ارتفاع الأجور الحقيقية، وتحقيق التوظف الكامل تقريبا، وتقديم برامج الرعاية الاجتماعية على مستوى لم يكن للناس فيما سبق إلا أن يحلموا به.
كانت الأوضاع مختلفة تماما في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية – التي أصبح يطلق عليها "العالم الثالث" بعد مؤتمر باندونج في عام 1955. فقد استمر الفقر المدقع هناك من نصيب الجمهرة الواسعة من الناس. لكن القوى الأوروبية أجبرت على التخلي عن مستعمراتها، كما أن زيادة معدل النمو الاقتصادي للفرد(2) خلق توقعا بأن البلدان "الأقل تطورا" من الناحية الاقتصادية أخيرا سوف تبدأ اللحاق بالأكثر تقدما.
وأصبح بمثابة العقيدة لدى كل من اليمين وكثير من اليسار الإعلان عن أن تناقضات النظام التي أدركها ماركس قد جرى تجاوزها. وكان التغير الأساسي في نظرهم أن الحكومات قد تعلمت أن تتدخل في الاقتصاد حتى تواجه الميول نحو الأزمة وفق الخطوط التي حث عليها جون ماينارد كينز في ثلاثينيات القرن العشرين. وكل ما كان مطلوبا حتى ينجح النظام هو ألا تهتم الدولة الحالية بعقيدة السوق الحرة القديمة وأن تتدخل في الحياة الاقتصادية حتى ترفع مستوى الإنفاق على الاستثمار والاستهلاك. ويمكن تحقيق ذلك إما عبر تغيير أسعار الفائدة (إجراءات نقدية)(3) لتشجيع الاستثمار الخاص أو عبر زيادة إنفاق الحكومة بأعلى من إيراداتها الضريبية (إجراءات مالية). وسوف يؤدي "التمويل بالعجز" من النوع الأخير إلى زيادة الطلب على السلع وبالتالي زيادة مستوى التشغيل. كما أنه أيضا سيمول ذاته في النهاية من خلال "أثر مضاعف" (اكتشفه خان، زميل كينز في كامبريدج). فمن سيحصلون على وظائف من العمال الإضافيين بسبب إنفاق الحكومة سوف ينفقون أجورهم، وبالتالي يوفرون سوقا لإنتاج عمال آخرين، الذين ينفقون أجورهم بدورهم ويوفرون أسواقا أكبر. ومع نمو الاقتصاد إلى ما يقترب من مستوى التوظف الكامل، سوف ترتفع إيرادات الحكومة من الضرائب على الدخول والإنفاق حتى تبلغ درجة كافية لسداد تكلفة الزيادة السابقة في الإنفاق.
وسرعان ما أصبح ينظر إلى هذين الإجرائين على أنهما أداتان نموذجيتان أصيلتان "للكينزية" لتحقيق التوظف الكامل، وجرى اعتمادهما كأداتين جوهريتين في الإدارة الاقتصادية من قبل كل من السياسيين المحافظين والاشتراكيين الديمقراطيين في عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين. وكما رأينا في الفصل السابق أن كينز صرح بأفكار أكثر راديكالية في نقاط معينة، خاصة حجته بأن عملية توسع استثمار رأس المال ذاتها تؤدي إلى تدهور في العائد عليه – أي "الكفاية الحدية لرأس المال".(4) بل إنه ذهب بعيدا حتى أنه حث على "القتل الرحيم" تدريجيا "للريعي" الذي يعيش على انتزاع الكوبونات(5) وجادل بأن "نوعا من التشريك الشامل للاستثمار سوف يثبت أنه الوسيلة الوحيدة لتحقيق الاقتراب من التوظف الكامل."(6) غير أن كينز نفسه تجنب التعامل مع هذه الأفكار الأكثر راديكالية – وكما كتب سكيدلسكي، مؤلف سيرته شديد الاعتدال، أنه "في الممارسة كان شديد الحذر حقا"، وأفرغت نسخة الكينزية(8) التي هيمنت على علم الاقتصاد السائد على مدى ثلاثين عاما بعد الحرب العالمية الثانية نظرية كينز من عناصرها الراديكالية. ولهذا السبب، نددت بها الكينزية الراديكالية جوان روبنسون واعتبرتها "كينزية زائفة"(9).
اعتقد علم الاقتصاد السائد في تلك الأعوام أن لديه القدرة على تمكين الحكومات من التخلص من الأزمات التي كانت تضرب الرأسمالية منذ أوائل القرن التاسع عشر. وبشرت هذه العقيدة بأن النظام الرأسمالي حاليا يستطيع تحقيق ازدهار أبدي ورفع مستوى المعيشة وتخفيض مستوى الصراع الطبقي – شرط أن تتقبل الحكومات إملاءاتها وأن تتجنب "أخطاء" سنوات 1929-1932.
كان جون ستراتشي أشهر الكتاب الاقتصاديين الماركسيين في بريطانيا على الإطلاق في عقد الثلاثينيات من القرن العشرين. وساهمت كتبه، مثل "طبيعة الأزمة الرأسمالية"، و"الصراع القادم على السلطة" و "الاشتراكية النظرية والممارسة"، في تعليم النظرية الاقتصادية الماركسية لجيل كامل من العمال المناضلين وشباب المثقفين بفحوى أن الرأسمالية لا يمكنها تجنب تكرار الأزمات وزيادتها عمقا باضطراد. لكن بحلول عام 1956، كان يجادل في كتابه "الرأسمالية المعاصرة" بأن كينز كان على حق وأن ماركس مخطئ بشأن مسألة حاسمة تتعلق بإمكانية التخلص من الأزمة الرأسمالية عبر الإصلاح.(10) ورأى ستراتشي أن الخطأ الوحيد عند كينز هو أنه عجز عن إدراك ضرورة الضغط على الرأسماليين حتى يقبلوا إجراءاته العلاجية: "إن إجراءات الكينزية العلاجية … سوف تواجه معارضة من الرأسماليين قطعا: لكن التجربة كشفت أن هيئة الناخبين يمكن أن تفرضها."(11)
ولازال الاعتقاد بأن أفكار كينز كانت وراء مرحلة الرخاء الطويل مستمرا حتى اليوم، مع رأي واسع الانتشار بين اليسار بأن التخلي عن تلك الأفكار هو المسئول عن أزمات السنوات الأخيرة. هذا من حيث جوهره هو الموقف الذي طرحه الصحفيان دان أتكينسون ولاري إليوت في سلسلة من الكتب،(12) وكاتب الأوبزرفر ويل هوتون(13) وكذلك المحلل الاقتصادي الراديكالي جراهام ترنر.(14) وبعض الماركسيين يقبلون نسخة من هذا الاعتقاد. فيرجع كل من جيرارد دومينيل و دومينيك ليفي النمو الاقتصادي في أعقاب الحرب إلى تبني رأس المال الصناعي نهجا "كينزيا"، يعتمد فيه التراكم على "صفقة" مع منظمات الطبقة العاملة على أرضية دولة الرفاه.(15) ويعرض ديفيد هارفي صورة لرأسمالية تتوسع على أساس "مصالحة طبقية بين رأس المال والعمل"، فيها "تستطيع الدولة أن تركز على التوظف الكامل، والنمو الاقتصادي ورفاهية مواطنيها"، بينما "كانت السياسات المالية أو النقدية، والتي تختصر عادة كسياسات (كينزية) تستخدم على نطاق واسع لتخفيف حدة الدورات الاقتصادية ولضمان التوظف الكامل عند مستوى معقول."(16)
ومع ذلك، فإن أكثر الحقائق إثارة للدهشة في الفترة التي سادت فيها الكينزية تماما كأيديولوجيا اقتصادية رسمية أن الاجراءات التي تقترحها لتجنب وقوع الأزمات لم تستخدم خلالها. واستمر الاقتصاد في توسعه رغم غياب هذه الإجراءات حتى عقد الستينيات من القرن العشرين في الولايات المتحدة وعقد السبعينيات في أوروبا الغربية واليابان.
إن التوسع الاقتصادي في سنوات ما بعد الحرب في بريطانيا، كما أوضح آر سي أو ماثيو منذ زمن طويل، لم يعتمد تحديدا على الإجراءات الكينزية "العلاجية" للأزمات المتعاقبة في عجز الموازنة أو زيادة مستوى الاستثمار الحكومي عن مستوى سنوات ما قبل الحرب.(17) ويلاحظ ماغناد ديزاي أن "الولايات المتحدة تباطأت في تبني السياسات الكينزية رسميا… وقد انتصرت أخيرا مع تخفيض الضرائب في ظل ولايتي كيندي وجونسون في عام 1964."(18) وكان ذلك بعد أن كان الرخاء الطويل قد بدأ واستمر فعلا لمدة 15 عاما (أو 25 عاما إذا استبعدنا ركودا قصيرا في أواخر الأربعينيات). ونفس الفكرة أثيرت بشأن ألمانيا من قبل تون نوترمانز: "إن سياسات إدارة الطلب لمواجهة الدورة الاقتصادية لم تتبع في ألمانيا… إلا في سبعينيات القرن العشرين."(19) وفي كل مناسبة استخدم فيها التدخل الحكومي لتحديد سرعة الاقتصاد، كان ذلك بهدف إبطاء وتيرة الرخاء، لا تجنب الركود، مثلما حدث مع سياسات "stop-go" (الانكماشية) للحكومات البريطانية في مواجهة مشاكل ميزان المدفوعات في الخسمينيات والستينيات. وينتهي بليني، بعد إعادة تحليل الأرقام التي استخدمها ماتيو وآخرون، إلى أن الكينزية لعبت دورا لا يذكر في الرخاء الطويل في غرب أوروبا، ولم تلعب إلا دورا محدودا في الولايات المتحدة. كما يلاحظ أن الزيادة الكبيرة في حجم الإنفاق العسكري للولايات المتحدة مقارنة بمستوى سنوات ما قبل الحرب هي التي وفرت معظم "التحفيز المالي": "إن إجمالي إنفاق الحكومة على السلع والخدمات ارتفع بحوالي 9 بالمئة من إجمالي الناتج القومي المحتمل بسبب الزيادة الكبيرة في الإنفاق العسكري إلى حد كبير."(20)
إن تفسير الرخاء على أنه ناتج عن السياسات الكينزية غالبا ما يواكبه إشارات إلى حقبة "فوردية" قبلت فيها الشركات الرأسمالية الكبرى صفقة مع العمال تقوم على زيادة الأجور بما يكفي لشراء كمية من الناتج تتزايد باستمرار. فمثلا، قال الاقتصادي الفرنسي أجلييتا إن "الفوردية" نظمت "الاستهلاك الخاص للطبقة العاملة" عبر "تعميم علاقات الأجر" حتى تضمن "دورة صيانة قوة العمل."(21) وهكذا يعتبر كينز نبي الفوردية عنده وعند نسخة "مدرسة التنظيم" الماركسية التي يتبناها، والتي تعتبر نقد كينز لعلم الاقتصاد النيوكلاسيكي ومفهومه حول "الطلب الفعال" اعترافا جزئيا بضرورة تكامل الإنتاج والاستهلاك في مرحلة معينة من التطور الرأسمالي.
ومن المؤكد أن أحد عناصر أيديولوجيا الدولة التدخلية التي سادت خلال عقود ما بعد الحرب كانت حجة أن توفير الرعاية الاجتماعية يمكن أن يوازن حركة الارتفاع والهبوط في الطلب على السلع الاستهلاكية. فإن احتياج "جانب العرض" لأن يضمن رأس المال إعادة إنتاج قوة العمل ليستغلها (الذي تعرضنا له في الفصل الخامس) بدا أنه يواكب مخاوف "جانب الطلب" بشأن استمرار توسع السوق. كما أن وعود الزيادة في توفير الرعاية الاجتماعية كانت تناسب الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والديمقراطيين المسيحيين في أوروبا كوسيلة لكسب الأصوات الانتخابية وجذب العمال بعيدا عن الأحزاب الشيوعية التي على يسارها. غير أنه لا يكفي هذا ولا ذاك في تفسير أسباب ازدهار الاقتصاد العالمي في سنوات ما بعد الحرب بعد كساده قبلها.
أكثر من ذلك أنه لم يكن من سياسة واعية لدى مدراء صناعات الإنتاج الكبير "الفورديين" في انتقاء هذه السياسة "الكينزية" المفترضة لزيادة الأجور الحقيقية ومخصصات الرعاية الاجتماعية. بل كما يقول روبرت برنر ومارك جليك إن رأس المال الأمريكي:
 "لم يستسلم أبدا لقبول مبدأ الحفاظ على نصيب العمال، ولم يتخلف عن خوض صراع بالأسنان والأظافر حتى يحد من مستوى ارتفاع الأجور مع ارتفاع تكاليف المعيشة أو زيادة الانتاجية. ولم يكن من شيء مطلقا يشبه "عقدا اجتماعيا" معمما بشأن كيفية تقسيم الإيرادات بين الاستثمار والاستهلاك أو بين الأرباح والأجور.(22)"
وواقع الأمر أن الرأسمالية بينما كانت تتوسع خلال عقود ما بعد الحرب، أجبر التوظف الكامل الناتج عن ذلك أصحاب العمل والدولة على توجيه اهتمام أكبر كثيرا من ذي قبل لمسألة إعادة إنتاج قوة العمل وحرف مسار غضب الطبقة العاملة. إن كلا من النظرية الكينزية التقليدية ونظرية "التنظيم" تخلطان الأسباب بالنتائج. وفي سياق ذلك تفشلان في تفسير الملمح الأكثر أهمية في عقود ما بعد الحرب: هو أن معدل الربح في الولايات المتحدة كان يزيد بما يتراوح بين 50 بالمئة و 100 بالمئة عن معدل الربح خلال العقود الأربعة السابقة على الحرب العالمية الثانية. وقد استطاع أن يحافظ على هذا المستوى المرتفع بهذا القدر أو ذاك حتى أواخر الستينيات.(23) وكان ذلك ما يفسر لماذا واصل الرأسماليون الاستثمار بما يكفي لاستمرار الرخاء الاقتصادي دون أن تحتاج معظم الدول حتى إلى محاولة استخدام "إجراءات مواجهة الدورة الاقتصادية" التي اقترحها كينز. ولكن كيف تحققت تلك المعدلات المرتفعة للأرباح واستمرت بالتوازي مع الزيادة السريعة في الأجور الحقيقية؟
جزء من الإجابة يكمن في تأثير الأزمة والحرب، فبعض الشركات أفلست في هذه الأزمة، وأعدم الكثير من رأس المال كخسائر، وبدأت إعادة الهيكلة من خلال الأزمة في تحقيق جانب من دورها القديم في أن تتيح لرأس المال فرصة التراكم من جديد بمعدل أقل من الربح. وقدم الدمار الذي أحدثته الحرب مساعدة إضافية، فقد استخدمت كمية هائلة من الاستثمار في الأغراض العسكرية، والتي لولا ذلك كانت ستؤدي إلى زيادة معدل الاستثمار إلى العمل (وبالتالي إلى الأرباح). فمثلا، قدر شين ميج الأثر المركب لأزمة الثلاثينيات والحرب العالمية الثانية على اقتصاد الولايات المتحدة، قائلا: "ما بين عامي 1930 و 1945، انخفض مخزون رأس المال في الولايات المتحدة من 145 مليار دولار إلى 120 مليار دولار، أي تناقص في الاستثمار بنسبة 20 بالمئة."(24) فبلغت كمية ما أعدم من رأس المال ما يعادل خمس فائض القيمة المتراكم من قبل بالإضافة إلى فائض القيمة الذي أنتج على مدى تلك الأعوام الخمسة عشر. وفي أثناء ذلك، خرج الرأسماليون في الدولتين المهزومتين، ألمانيا واليابان، من تلك الحرب وقد دمرت كمية كبيرة من رؤوس أموالهم. ولم يكن أمامهم من خيار إلا إعدام الكثير من قيمة استثماراتهم القديمة كخسائر وهم يبدأون التراكم من جديد، بقوة عمل ماهرة اضطرت إلى قبول أجور منخفضة بسبب البطالة الواسعة التي نتجت عن الدمار العسكري.  
غير أن هذه العوامل في حد ذاتها ليست كافية لتفسير طول أمد الرخاء واستمراره. وهي لا توضح سبب عدم استئناف معدلات الربح تدهورها بمجرد تفعيل استثمارات إنتاجية جديدة. فلو كانت الرأسمالية استمرت في مسارها السابق على الحرب، كانت الأزمات ستحدث على الأقل كل عشرة أعوام أو نحوها. لكن، رغم حدوث زلات دورية في معدلات النمو، التي وصفت أحيانا بـفترات "ركود النمو"، لم تشهد الولايات المتحدة انخفاضا في الإنتاج إلا مرة واحدة عابرة (في عام 1949) بينما لم تشهد واحدة من كبرى البلدان الصناعية الأخرى انخفاضا في إنتاجها على مدى أكثر من ربع القرن.
لقد بذلت جهود تسعى إلى تفسير الرخاء كنتيجة للابتكارات التكنولوجية السريعة، أو لموجات الهجرة من عمال يافعين في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، أو لرخص أسعار المواد الأولية القادمة من بلاد غير صناعية. لكن هذه الأمور لم تكن قادرة على منع الأزمات الدورية فيما سبق. فربما أدت الابتكارات التكنولوجية إلى تخفيض كلفة كل وحدة من وحدات الاستثمار الجديدة، ولكنها كذلك تخفض من عمر الاستثمارات القديمة، بما يرفع قيمة الخصم من الأرباح بسبب تكاليف الإهلاكات؛ والهجرة الواسعة إلى بريطانيا من أيرلندا وإلى الولايات المتحدة من أوروبا كانت تميز القرن التاسع عشر دون أن توقف الضغوط على معدلات الربح؛ كما أن انخفاض أسعار المواد الأولية تسبب فيه جزئيا الكيفية التي دفع الرخاء نفسه بها الرأسماليين إلى إنتاج بدائل صناعية داخل الاقتصادات الصناعية (مثل الألياف الصناعية والبلاستيك الخ).
غير أن عاملا واحدا جديدا ظهر يمكنه تفسير ما كان يحدث، فقد بلغ الإنفاق على السلاح في أوقات السلم مستوى غير مسبوق. قبل الحرب، كان الإنفاق على السلاح يزيد قليلا على واحد بالمئة من إجمالي الناتج القومي في الولايات المتحدة، لكن عملية "نزع السلاح" بعد الحرب خلفت الإنفاق على السلاح عند مستوى 4 بالمئة من إجمالي الناتج القومي في 1948، ثم ارتفع ذلك الإنفاق ارتفاعا صاروخيا مع بداية الحرب الباردة إلى ما يزيد على 13 بالمئة في الأعوام من 1950 إلى 1953، وظل يعادل ما بين خمسة إلى سبعة أضعاف مستوى الإنفاق على السلاح في سنوات ما بين الحربين على مدار عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.  
استهلك القطاع العسكري كمية هائلة من فائض القيمة القابل للاستثمار التي لولا ذلك كانت ستتجه إلى الاقتصاد الإنتاجي – وبلغت كميتها وفقا لحسابات مايكل كيدرون ما يعادل 60 بالمئة من إجمالي تكوين رأس المال الثابت في الولايات المتحدة. وكان الأثر الفوري لهذا الإنفاق أن وفر سوقا لمنتجات الصناعات الكبرى:
"إن أكثر من تسعة أعشار الطلب النهائي على الطائرات وأجزائها كان لحساب الحكومة، وغالبيتها لصالح القطاع العسكري؛ وكذلك تقريبا بالنسبة لثلاثة أخماس الطلب على المعادن غير الحديدية؛ وما يزيد على نصف الطلب على السلع الكيميائية والإلكترونية؛ وأكثر من ثلث الطلب على أجهزة الاتصال والأدوات العلمية؛ وهكذا بالنسبة لقائمة من ثمانية عشر صناعة رئيسية، يأتي عشر الطلب أو أكثر على منتجاتها من العقود الحكومية."(25)
دور الإنفاق العسكري في الرخاء الاقتصادي الذي أعقب الحرب تتجاهله معظم الروايات الكينزية من التيار السائد وكثير من الماركسيين. فلدى كلا الجانبين ميل إلى تعريف الرأسمالية بنموذج "السوق الحرة" الخالصة الذي اتخذته لفترة قصيرة في بريطانيا في القرن التاسع عشر وإلى اعتبار الدولة والجيش مؤسسات خارجها. ويغيب عنهما أي إدراك للتغيرات التي كان هيلفردينج وبوخارين ولينين قد بدأوا فعلا في تحليلها، ناهيك عن التحولات اللاحقة التي حدثت خلال الأزمة والحرب والحرب الباردة.
لكن بعض الماركسيين وقليلا من الكينزيين أدركوا أحد الآثار الهامة للإنفاق العسكري. أنه وفر سوقا لبقية الاقتصاد لا تتأثر بموجات الصعود والهبوط في الاقتصاد عموما – أي حائلا يحد من الحركة الهبوطية في الدورة الاقتصادية. وهكذا استطاع الماركسيان الأمريكيان بول باران وبول سويزي أن يعتبرا الإنفاق العسكري آلية هامة لامتصاص "الفائض" الذي ينمو باضطراد وللتغلب على أزمة فائض الإنتاج.(26) لكنهما لم يستطيعا أن يوضحا لماذا لم يكن للضرائب التي يجري تحصيلها لتمويل هذا الإنفاق أثر في تخفيض الطلب في أجزاء أخرى من الاقتصاد. كما أن المشتريات العسكرية للحكومة الأمريكية، كما أوضح بليني، ما كانت تستطيع أن تلعب دورا رئيسيا مباشرا في تنشيط الاقتصادات الأوروبية.(27)
وكانت الرؤية حول تأثير الإنفاق التبديدي (أنظر الفصل الخامس) على دينامية الاقتصاد ككل التي طرحها كيدرون هي القادرة على معالجة هذه المسألة، لأن نقطة انطلاقها لم تكن "نظرية نقص الاستهلاك" وإنما مسألة معدل الربح. فقد يكون الإنفاق العسكري مثل الإنفاق "غير الإنتاجي" خصما من الأرباح في المدى القصير، ولكن تأثيره في المدى الطويل هو تخفيض الأموال المتاحة للتراكم الجديد وبالتالي يؤدي إلى تعطيل زيادة معدل الاستثمار إلى قوة العمل المستخدمة (أي "التركيب العضوي لرأس المال").  
وقد وجد منطق كيدرون تأكيدا إمبيريقيا له فيما حدث فعلا في التركيب العضوي لرأس المال. فكان ارتفاعه خلال عقود ما بعد الحرب في الولايات المتحدة أبطأ كثيرا منه في عقود ما قبل الأزمة.(28) كذلك كان أقل كثيرا مما حدث في أوروبا بعد الحرب، حيث كانت نسبة ما يوجه إلى الإنفاق العسكري من الناتج القومي أقل كثيرا منها في الولايات المتحدة.(29)  
السلاح، التراكم والتخطيط
اقتصاد السلاح لم يكن نتيجة استراتيجية واعية تهدف إلى درء الأزمات. وإنما خرج من منطق المنافسة الإمبريالية في حقبة الحرب الباردة. لكن قطاعات من رأس المال بالتأكيد قدرت تأثيره في الحفاظ على استمرار الرخاء. وظهرت "المجمعات الصناعية-العسكرية" لتجمع بين العسكريين وأولئك المسئولين عن الصناعات العسكرية، التي كان لها مصلحة مباشرة في إثارة النزاعات الإمبريالية. وكانت قادرة على توحيد الطبقة الحاكمة ككل وراء سياساتها ليس بسبب الخوف من قوة منافسة فحسب، وإنما كذلك بسبب تأثير موازنات السلاح في دعم التراكم.
وقد وصف جون كينيث جالبريث في عقد الستينيات العلاقة المتداخلة بين الإنفاق الحكومي وما أطلق عليه "نظام التخطيط" الذي كانت كل شركة كبيرة تخطط استثماراتها من خلاله لعدة سنوات قادمة:
"إن هذه الزيادة (في إنفاق الدولة)… تحظى بتأييد قوي من رجال أعمال نظام التخطيط رغم وجود افتراض واسع الانتشار بعكس ذلك. إن التنفيذيين في الشركات الكبرى يعارضون السفه في الإنفاق الحكومي بصورة منتظمة. لكن نفقات الدفاع على وجه الدقة يجري استثناؤها من التماساتهم بشأن الاقتصاد العام."(30)
من آثار هذا الإنفاق أن سمح للشركات الكبرى بأن تقوم بتخطيط استثماراتها الخاصة في المدى الطويل مع ضمان أنها سوف تكون قادرة على تحقيق ربح عليها وتحويله إلى نقود عبر بيع سلعها ("أي تحقيق فائض القيمة منها" باستخدام مصطلحات ماركس)، وقد غير ذلك نظم عملها الداخلية على نحو بدا أنه يناقض الافتراض المعتاد حول أن السلوك الرأسمالي يدفعه المطالبة بالربح في الأمد القصير والمنافسة السعرية على الأسواق.
وقد رسم جالبريث صورة للكيفية التي ظهر عليها الموقف:  
"إن اندماجا رأسيا يبطل عمل السوق. تقوم وحدة التخطيط بالاستيلاء على مصدر الإمداد أو المنفذ؛ وهكذا تستبدل العملية التي تخضع للمساومة حول الأسعار والكميات بعملية تحويل داخل وحدة التخطيط… وفي نظر الشركة، يغير القضاء على السوق عملية التفاوض الخارجية، ومن ثم القرار الذي يخرج عن السيطرة سواء جزئيا أو كليا، إلى مسألة تخضع لقرار داخلي خالص. وكما سنرى، لا شيء يقدم تفسيرا للسياسة الصناعية الحديثة أفضل من الرغبة في إخضاع عناصر التكلفة ذات الأهمية الاستراتيجية الكبرى إلى قرارات داخلية بالكامل – إمداد رأس المال هو الحالة القصوى. كما يمكن السيطرة كذلك على الأسواق. ويتمثل ذلك في تقليل أو إلغاء إستقلال أفعال أولئك الذين تبيع لهم وحدة التخطيط أو تشتري منهم… وفي نفس الوقت يستمر سليما من الناحية الصورية الشكل الخارجي للسوق، بما في ذلك عملية البيع والشراء."(31)
وعندما تكون "أكبر مائتي شركة صناعية تملك ثلثي إجمالي الأصول المستخدمة في الصناعة وأكثر من ثلاثة أخماس إجمالي المبيعات، والتوظيف وصافي الدخل"(32) فقد كان ذلك يمثل قطاعا ضخما من اقتصاد الولايات المتحدة لا تخضع فيه معظم العمليات الاقتصادية لتقلبات السوق المباشرة. كانت المنافسة قائمة بين العمالقة، ولكنها إلى حد كبير كانت تجري بوسائل مختلفة عن المنافسة القديمة التي اعتمدت على بيع السلع بأسعار أرخص من بعضها الآخر. تعلمت الشركات العملاقة أنها تستطيع ردع المنافسين المحتملين عبر اللجوء إلى وسائل غير إنتاجية – أي استخدام ثروتها في إحكام القبضة على منافذ التوزيع؛ أو استخدام الإعلانات في ترويج منتجاتها، بصرف النظر عن مزاياها الخاصة؛ أو زرع علاقات يدفع لها جيدا بصورة منظمة مع مشترين من الهيئات الحكومية. 
اعتقد جالبريث أن ذلك يمثل تغيرا جوهريا في طبيعة الرأسمالية ذاتها. كما أن الماركسيين الذين عرفوا الرأسمالية ببساطة في إطار المنافسة في "السوق الحرة" بين رأسماليين متنافسين استطاعوا أن يصلوا ببساطة إلى نفس الاستنتاج، لأن مجال الإنتاج الداخلي الضخم بالنسبة للشركات الكبرى لم يكن خاضعا مباشرة لقانون القيمة. وكشفت التباينات الشاسعة في درجة الكفاءة الداخلية للشركات إلى أي مدى اختلف الكثير منها عن النموذج الرأسمالي المثالي. كما أن رأس المال لم ينتقل تلقائيا تحت تأثير قوى السوق خارج قطاعات تتسم باستثمارات ثابتة كبيرة، أي ارتفاع التركيب العضوي لرأس المال وانخفاض معدل الربح، كما قد تقترح القراءة التبسيطية لكتاب رأس المال. وإنما اعتمد انتقاله أو عدم انتقاله ذلك على قرارات المدراء الذين قد يتخذون قرارا بالتضحية بالربحية في المدى القريب مقابل تحقيق نمو على المدى الطويل في أسواق يهيمنون عليها بالفعل. وإذا كان قانون القيمة قد استمر في عمله فقد كان ذلك في المدى الطويل، حيث أن الشركات في النهاية لن تكون قادرة على النمو وإبعاد المنافسين والداخلين الجدد إلى الصناعة إلا إذا استمرت في الحصول على ما يكفي من فائض القيمة للقيام باستثمارات جديدة ضخمة. ولكن غالبا أنها لن تكتشف ما إذا كانت فعلت ذلك أم لا إلا عند بلوغ الرخاء الطويل نفسه نهاية مباغتة.
الرأسماليات المتقدمة الأخرى
تتعلق هذه الصورة حتى الآن باقتصاد الولايات المتحدة خلال الرخاء الذي أعقب الحرب. وقد كانت مسئولة عن اقترابها من نصف إجمالي الناتج العالمي عند نهاية الحرب، كما أن ديناميتها كانت تحدد إلى درحة كبيرة ما كان يحدث في أماكن أخرى. لكن الاقتصادات الأوروبية الكبيرة، التي كان لديها مستوى كبير من الإنفاق العسكري ولكنه أقل من الولايات المتحدة، كشفت عن الكثير من نفس الخصائص. ففي بريطانيا، وفي فرنسا بدرجة أقل، كان للاستثمارات الكبيرة في صناعة السلاح أثر دفع بقية الاقتصاد إلى الأمام، معوضة تأثير بعض الضغوط نحو زيادة التركيب العضوي وانخفاض معدل الربح، وبما يسمح باستمرار التوسع الاقتصادي – وكل ذلك دون اللجوء إلى إجراءات كينزية.
في ألمانيا كان للتسليح أهمية أقل من ذلك. ولكن دور الحكومة ظل مهما. وتخبرنا إحدى الروايات الماركسية كيف:
"أن البرجوازية في الجمهورية الفيدرالية استخدمت أجهزة الدولة والنظام المالي والنقدي أكثر كثيرا منها في أي بلد رأسمالي آخر في دفع تراكم رأس المال بوسائل منها الائتمان بأسعار فائدة ميسرة لعمليات إعادة الإعمار وتمويل الاستثمار وأسعار ميسرة للإهلاك. وجرى كل ذلك في تناقض مع النظرية الاقتصادية النيوليبرالية الرسمية…"(33)
في اليابان، تقدمت رأسمالية الدولة أكثر في هيمنتها على الصناعة المدنية من معظم ما جرى في أماكن أخرى من العالم الغربي – وذلك رغم انخفاض حجم الملكية المباشرة للدولة. وقد تعاونت الدولة وكبرى الشركات الخاصة معا في ضمان توجيه الجزء الذي كان يوجه لإنتاج السلاح من الدخل القومي قبل عام 1945 إلى الاستثمار الإنتاجي:
"كان الاستثمار الثابت في المصانع والمعدات هو القوة الدافعة للنمو السريع. فارتفع معدل نمو الاستثمار الثابت الخاص من 7.8 بالمئة من إجمالي الناتج القومي في عام 1946 إلى 21.9 بالمئة في عام 1961."(34)
وعندما انخفض المعروض من المواد الأولية المستوردة في أواخر الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، تولت الحكومة مسئولية تخصيصها للصناعات التي كانت تعتقد أنها سوف تساهم أفضل في نمو الاقتصاد، وفي إقامة الصناعات الرئيسية مثل استخراج الفحم وصناعة الحديد والصلب وزيادة الصادرات.  
وأصدرت وزارة الصناعة والتجارة الدولية "دليلا إرشاديا" للصناعة، الذي تحملت وزر تجاهلها له. أما الشركات العملاقة التي قبلت إملاءات اقتصاد الحرب قبل أغسطس 1945 كأمر ضروري للتوسع العسكري، فقد قبلت إملاءات وزارة الصناعة والتجارة الدولية كأمر ضروري للتوسع الاقتصادي السلمي:
"رواد الأعمال اليابانيون نشيطون في الاستثمار. وعلى خلاف حالة رواد الأعمال في البلدان المتقدمة الأخرى، فإنهم لن يحصروا استثمارهم الثابت داخل حدود إجمالي الأرباح أو التراكم الداخلي. وسوف تضطلع المؤسسة بالاستثمار طالما توافر التمويل المصرفي حتى إذا ارتفع الاستثمار الثابت أعلى من مجمل أرباحهم."(35)
بكلمات أخرى، تعاون رؤساء الشركات الكبرى والدولة معا في ضمان نمو الرأسمالية الوطنية اليابانية عبر تعبئة مجمل فائض القيمة وتوجيهه نحو القطاعات "الاستراتيجية"، بصرف النظر عن اعتبارات الربحية في الأجل القصير. إن ما فعلته رأسماليات الدولة الأخرى عبر إعلاء الاعتبارات العسكرية، فعلته رأسمالية الدولة اليابانية في مصلحة المنافسة في الأسواق الخارجية. ولعبت الصادرات دورا بالغ الأهمية في دفع الاقتصاد إلى الأمام. وكان ذلك يعني أن الاقتصاد الياباني كان يعتمد في النهاية على اقتصاد السلاح في الولايات المتحدة. وكما يكشف روبرت برنر في دراسة إمبريقية:
"استمد الصناعيون الألمان واليابانيون كثيرا من ديناميتهم عبر الاستحواذ على أجزاء واسعة من سوق عالمية سريعة النمو من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بينما كانوا يبدأون في غزو السوق المحلية للولايات المتحدة. إن إعادة توزيع الحصص السوقية – قيام الصناعيين اليابانيين والألمان بتلبية الطلب الذي كان المنتجون الأمريكيون يغطونه من قبل – أعطت دفعة قوية لاستثماراتهم ولإنتاجهم."(36)
لم تكن "دولة الرفاه" ولا "الصفقة الاجتماعية" هي ما أنتج الرخاء الطويل و"العصر الذهبي"، وإنما كانت جميعها نتائج لرأسمالية الدولة المعسكرة. فقد استند الرخاء والازدهار على الرأس المدببة للقنبلة الهيدروجينية.(37)
قوة العمل خلال الرخاء الطويل
على مدى العقود الأولى اللاحقة للحرب كانت البطالة عند مستويات لم تكن تشهدها من قبل إلا خلال فترات الرخاء القصيرة. ففي الولايات المتحدة كانت البطالة أقل من 3 بالمئة في أوائل الخمسينيات؛ وترواحت في بريطانيا ما بين 1.5 بالمئة و 2 بالمئة؛ أما في ألمانيا الغربية فقد انخفض معدل البطالة المرتفع بسبب التفكيك الاقتصادي خلال السنوات الأولى بعد الحرب إلى 5 بالمئة في عام 1957 ثم إلى 1 بالمئة فقط في عام 1960.
وهكذا لم تكن مشكلة الدول الرأسمالية الصناعية التعامل مع البطالة، وإنما العكس – أي ضمان نمو التوظيف بسرعة كافية لتغذية شهية رأس المال التي بدا أنها لا تشبع إلى قوة العمل. ارتفعت قوة العمل المستخدمة في الولايات المتحدة بنسبة 60 بالمئة بين عامي 1940 و 1970. وتطلب هذا التوسع إمدادا جديدا بالكامل من قوة العمل. لم تستطع الدولة أن تترك توفير المادة الخام الأهم في المنافسة الاقتصادية أو العسكرية، وهي العمل، لأهواء سوق العمل "الحرة"، سواء أعجب ذلك السياسيين ومن يديرون الحكومة أم لم يعجبهم. وكان على الدولة أن تستكمل – أو حتى أن تستبدل جزئيا – نظام الأجور بالخدمات والدعم الذي تقدمه هي نفسها بمستوى أكبر كثيرا من السابق.
وتمثل أحد الحلول لمشكلة نقص قوة العمل في تخفيض أكبر لقوة العمل الزراعية، عبر رعاية الدولة لاندماج المزارع الصغيرة – وهي طريقة اتبعت في أجزاء كبيرة من أوروبا الغربية. وتمثل حل آخر في تشجيع الهجرة الواسعة للبشر من بلدان أقل تطورا إلى مدن البلدان الصناعية (من تركيا وشرق وجنوب أوروبا إلى ألمانيا، ومن يوغسلافيا والبرتغال وإسبانيا والجزائر إلى فرنسا، ومن جزر الهند الغربية وشبه القارة الهندية إلى بريطانيا، ومن بورتوريكو إلى الولايات المتحدة). والحل الثالث – وقد طبق هو الآخر في كل مكان تقريبا – كان جذب النساء المتزوجات إلى العمل الأجير. غير أن جميع أساليب توسيع قوة العمل خلفت وراءها مشاكل جديدة لرأس المال وللدولة.
لا ينجح الضغط للحصول على العمال من قطاع الزراعة إلا إذا ضخت موارد في الزراعة من أجل زيادة إنتاجيتها. وقد تكون تكلفة ذلك عالية جدا. ولكن كان البديل لها هو تعذر توفير الغذاء لسكان الحضر الآخذين في النمو وتوفير المواد الأولية للصناعة، ما يستثير غضب الطبقة العاملة وينشأ عنه اختناقات في عملية التراكم. ففي النهاية، لم يعد هناك من فائض في قوة العمل المتبقية في الريف لتلبية حاجات الصناعة مع تقلص عدد صغار الفلاحين. فكانت الهجرة من العالم الثالث مصدرا رخيصا جدا للحصول على قوة العمل. ولم يكن على البلد المتقدم أن يتحمل شيئا من أعباء تربية وتعليم هذا الجزء من قوة العمل – بل من الناحية الفعلية كان البلد المتقدم يحصل على دعم من البلد الأصلي للعمال المهاجرين.(38) وكانت قوة العمل الجديدة عادة أصغر سنا من قوة العمل "الوطنية"، وقليلة المطالب من حيث الرعاية الصحية، ومعاش التقاعد وما إلى ذلك. وكان أعضاؤها عادة أكثر استعدادا لتحمل انخفاض الأجور، وظروف العمل القاسية، وقسوة اللوائح النظامية وغيرها – باختصار أن تتحمل استغلالا فائقا. وكان المصدر الذي يأتي منه هذا العمل الجديد غير محدود من حيث الإمكانية.
غير أن حدودا عملية كانت قائمة. فمع اعتياد العمال المهاجرين على الحياة والعمل في موطنهم الجديد، طالبوا بشروط عمل تقترب من شروط عمل العمال المستقرين؛ وأرادوا الحصول على إقامة لائقة ومزايا الرعاية الاجتماعية. وكان على الدولة إما زيادة إنفاقها على هذه الأمور، أو أن تشهد توترات اجتماعية قد تؤدي إلى صراعات طبقية حادة (وكان تمرد فرنسا في عام 1968 إلى حد كبير تمردا لهؤلاء العمال الجدد) أو تؤدي إلى صدام "عنصري" بين العمال المستقرين والعمال الجدد. ومع عجزها عن تحمل تكاليف الإنفاق الاجتماعي المطلوب لقطع الطريق على مصادر عدم الاستقرار الاجتماعي – ورغبتها في حرف مسار الغضب عن التوجه إليها – كان رد فعل الدولة عادة أن فرضت قيودا على الهجرة الجديدة.
كما أن انضمام النساء المتزوجات بالجملة إلى قوة العمل تطلب مستوى معينا من الاستثمار تقوم به الدولة. فكان يلزم إيجاد الوسائل التي تضمن أن ذلك لن يؤدي إلى إهمال رعاية الأطفال – أي التهيئة الاجتماعية للجيل القادم من العمال – أو انهيار عملية توفير الغذاء والمأوى والملبس لقوة العمل من الذكور. وكثير من هذا الوسائل أمكن توافرها بتكلفة منخفضة نسبيا مع تطبيق تكنولوجيا جديدة. فالثلاجة والغسالة والمكنسة الكهربائية وإحلال المواقد التي تعمل بالغاز أو الزيت أو الكهرباء محل المواقد التي تعمل بالفحم، والترويج الشعبي للأغذية المجمدة، وشيوع منافذ الوجبات السريعة، وحتى جهاز التلفزيون، كل ذلك كان له أثر في تخفيض كمية الجهد المطلوب لضمان إعادة إنتاج قوة العمل الحالية والمستقبلية. وهي أشياء عادة لا تكلف الدولة ولا رأس المال شيئا، فالأسرة تدفع ثمنها من الدخل الأكبر الذي تحصل عليه مع حصول الزوجة على وظيفة بأجر. رعاية الأطفال الصغار لأبوين يعملان نشأت عنها صعوبات أكبر، لأن توفير دور للحضانة يمكن أن يكون مكلفا بالنسبة للدولة – حتى وإن كانت هذه التكلفة أيضا يمكن تعويضها من أجر الزوجة العاملة.
وهكذا نجحت جميع طرائق توسيع قوة العمل حتى نقطة معينة – ولكن وراء ذلك اتجهت هذه الوسائل إلى تضمن تكاليف زائدة كبيرة بدرجة ما. فتكاليف الرعاية الاجتماعية كانت محتملة أثناء التوسع السريع للنظام. فكما رأينا في الفصل الخامس، كان مبدأ "التأمين" يضمن أن بعض قطاعات الطبقة العاملة يغطي تكلفة توفير الرعاية الاجتماعية لقطاعات أخرى. وبلغت التكلفة الإضافية 2 أو 3 بالمئة فقط من إجمالي الناتج القومي في أوروبا الغربية، بينما حققت الدولة في الولايات المتحدة فائضا صغيرا منه.(39) ولكن التكلفة أصبحت عبئا بمجرد انهيار مرحلة الرخاء الطويل.
كان هناك حل آخر متاحا لمشكلة نقص العمالة. لكنه كان أكثر تكلفة بكثير. وهو زيادة إنفاق الدولة على إعادة إنتاج قوة العمل بما يؤدي إلى رفع متوسط مستوى المهارة. وفي كل البلدان المتقدمة كانت هناك زيادة كبيرة في الإنفاق على التعليم خلال فترة الرخاء الطويل – خاصة في المستويات العليا من التعليم الثانوي وفي التعليم العالي.(40)
وأخيرا، مجال ثالث من التوسع في إنفاق الدولة كان مصمما لزيادة الإنتاجية – وهي النفقات التي صممت لتوفير شعور بالأمان لدى العمال المستخدمين. ويندرج تحت هذا البند معاشات التقاعد لكبار السن وإعانات البطالة. وقد لاحظ جيمس أوكونر أن "الغرض الأساسي هو تنمية شعور بالأمان الاقتصادي بين صفوف العمال المستخدمين وبالتالي رفع روحهم المعنوية وتعزيز الانضباط."(41) ومن هنا أدخلت في كثير من البلدان في أواخر الستينيات إعانات البطالة المرتبطة بالأجر وتعويضات عند الاستغناء عن العمال. وكانت هذه الإجراءات الجانب الآخر من عملية "تسريح العمال" بهدف خفض التكاليف من الصناعات القديمة.
هذا "التحويل الاجتماعي" لتكاليف العمل كان له بعض النتائج الهامة بالنسبة للنظام ككل. في ظل ظروف النقص الشديد في العمال، كان على الدولة الرأسمالية الوطنية أن ترعى وتهتم بقوة العمل وكذلك استغلالها إذا كان مستوى الإنتاجية يكافئ المستوى العالمي. ولكن ترتب على ذلك أن كان لدى العمال بعض الفرص في أن يكونوا قادرين على مساندة أنفسهم دون بيع قوة عملهم. أي أن هناك نفيا جزئيا لطابع العمل الحر – ولكنه يظل نفيا جزئيا فقط لأن الدولة مارست كل أنواع الضغوط للإبقاء على الناس في سوق العمل.
ولكن حتى هذا "النفي" المحدود لحرية سوق العمل كان عبئا رفع المصاريف الإضافية على كل رأس مال وطني. وفي حد ذاتها، مارست هذه المصاريف ضغوطا هبوطية على معدل العائد على إجمالي الاستثمار الوطني. ولفترة طويلة بدا أن ذلك لا يهم. فعوامل أخرى كانت تعمل على حماية معدل الربح. ولكن ما أن بدأت تضعف القوة الدافعة للرخاء حتى أصبحت تكاليف الرعاية الاجتماعية مشكلة بالغة الأهمية. ولم تعد تتكامل الوظيفتان اللتان تتعلقان بزيادة الإنتاجية وشراء القبول. فكان على رأس المال أن يسعى إلى زيادة الإنتاجية وتخفيض تكلفة الحفاظ عليها، حتى وإن كان ذلك يبطل عمل آلياته القديمة في السيطرة على الطبقة العاملة. وسوف يصبح ذلك عاملا هاما في تشكيل الصراع الطبقي ما أن يضعف عنفوان الرخاء الطويل.
الكتلة الشرقية
لم تكن الاقتصادات الغربية واليابان وحدها هي من حققت معدلات نمو سريعة خلال عقود ما بعد الحرب. وإنما كذلك فعل الاتحاد السوفييتي والبلدان التي هيمن عليها في أوروبا الشرقية. وقد حقق الإنتاج السوفييتي من الكهرباء نموا بلغ 500 بالمئة مابين عامي 1950 و1966، وبلغ نمو إنتاجه من الصلب ما يقل قليلا عن 250 بالمئة، وإنتاج النفط حقق 600 بالمئة، وارتفع إنتاج الجرارات بنسبة 200 بالمئة، والألياف بنسبة 100 بالمئة، ونما إنتاج الأحذية بنسبة 100 بالمئة، كما ارتفع مخزون المساكن بنسبة 100 بالمئة.(42) وبحلول منتصف سبعينيات القرن الماضي، كانت نفس السلع الاستهلاكية التي غيرت حياة الناس في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية – أي أجهزة التلفزيون والثلاجة والغسالة الكهربائية – تبدأ في الظهور في منازل السوفييت وأوروبا الشرقية، حتى وإن كان بوتيرة أبطأ.(43) منذ انهيار الكتلة الشرقية في عامي 1989-1991، كان عادة ما ينسى أن في عقود الخمسينيات والستينيات حتى الكثير من الغربيين المعارضين للاتحاد السوفييتي اعتبروا بديهيا أن معدلات النمو لديه كانت أعلى مما حققته أنظمة أخرى في العالم. وقد استطاع أليك نوف، وهو من أشد ناقدي النظام حدة، أن يكتب "إن نجاح الاتحاد السوفييتي … في أن يجعل من نفسه القوة الثانية في العالم من الناحية العسكرية والصناعية أمر لا تعتريه الشكوك."(44)  
لكن مجرد النمو السريع لم يتغلب على الضغوط الخارجية من أجل مزيد من النمو، لأنه حتى بعد عقود من التصنيع كان حجم الاقتصاد السوفييتي مازال يقل عن نصف حجم منافسه العسكري الرئيسي آنذاك، أي الولايات المتحدة. بل من بعض النواحي تزايدت الضغوط أكثر. ففي بداية التصنيع، كانت هناك احتياطات هائلة من العمل التي يمكن تحريرها من الزراعة لصالح الصناعة. معنى ذلك أن من يعتلون قمة البيروقراطية لم يساورهم القلق كثيرا إذا استخدم كثير من هذا العمل بطريقة فيها تبديد. وبدأ الأمر يحظى بالأهمية عندما بدأ الريف يفرغ من الشباب – تاركا الكثير من الإنتاج الزراعي المطلوب لإطعام المدن ليقوم به عدد من كبار السن الآخذين في التناقص. وكانت معسكرات العمل العبودي تذوي بسرعة بعد موت ستالين في عام 1953، جزئيا لأسباب سياسية ولكن أيضا من أجل تحرير العمل العبودي غير الكفء بهدف استغلاله بكفاءة كعمل مأجور. وكان ذلك علامة على أن مرحلة "التراكم البدائي" قد بلغت نهايتها. وقد تكرر الحديث في الدوائر الرسمية منذ ذلك الوقت فصاعدا حول "الإصلاح" الاقتصادي. وخلال واحدة من هذه المراحل، في عام 1970، شرح الزعيم بريجينيف الأساس المنطقي لذلك:
"لقد عكف الرفيق بريجينيف على مسألة المنافسة الاقتصادية بين النظامين العالميين. وقال إن هذه المنافسة تأخذ أشكالا مختلفة. وفي كثير من الحالات نتعامل بنجاح مع مهمة اللحاق بالبلدان الرأسمالية وتجاوزها في إنتاج أنواع معينة من المنتجات… لكن المسألة الجوهرية لا تتعلق فقط بكمية ما ننتجه وإنما أيضا بالتكلفة، وبأي قدر من العمل المبذول… وفي هذا المجال يقع مركز الثقل بين النظامين في عصرنا."(45)
كان هذا هو نفس منطق التراكم التنافسي الذي كان يدور في قطاع الدولة الضخم أحيانا في الرأسماليات الصناعية الغربية – أو، بالنسبة لهذه المسألة، في الشركات العملاقة التي وصفها جالبريث. إن تنظيم الانتاج داخل الاتحاد السوفييتي قد يتضمن الجمع بين مختلف القيم الاستعمالية (هذه الكمية من العمل، وتلك الكمية من المواد الأولية المتمايزة فيزيائيا، وهذا النوع أو ذاك من الآلة المعنية) من أجل إنتاج مزيد من القيم الاستعمالية. ولكن ما كان يهم البيروقراطية الحاكمة هو كيف تقارن هذه القيم الاستعمالية قياسا على أرتال القيم الاستعمالية التي تنتج داخل الشركات الكبرى في الغرب. ومعنى ذلك مقارنة كميات العمل المستخدمة في الاتحاد السوفييتي بكميات العمل المستخدمة في الشركات الغربية. أو، باستخدام مصطلحات ماركس، كان الانتاج في الاتحاد السوفييتي خاضعا لقانون القيمة الذي يعمل على المستوى العالمي.(46)
كان أحد الأوهام التي نتجت عن النمو السريع المتواصل في الاتحاد السوفييتي أن هذا النمو كان يتقدم بسلاسة وبشكل عقلاني وفقا لمختلف الخطط الخمسية، مقارنة بحركات الصعود والهبوط في الغرب. غير أن الاندفاع العنيد نحو التراكم كان من نتائجه الضرورية اختلال في التنظيم، وفوضى وفاقد في حقول كاملة من الإنتاج. ففي بداية كل "خطة" يبدأ بناء مشروعات صناعية هائلة. ولكن بعد فترة يتضح عدم إمكانية إتمامها كلها. وبعضها يجري "تجميده" (عادة ما يعتني منها بحاجات استهلاكية للشعب)، بينما يجري تحويل الموارد المخصصة لها لمشروعات أخرى (أي لإنتاج وسائل الإنتاج). يعنى ذلك تغييرا وتقليصا مستمرا للسلع التي كان ينتظر أن تنتجها الموارد؛ وضغوطا مفاجئة على الناس لإنتاج المزيد من منتج معين والقليل من منتج آخر؛ وقيام الناس بإخفاء الموارد التي تحت تصرفهم في كل مستوى في العملية الإنتاجية تحسبا لأن يتعرضوا لضغوط مفاجئة لإنتاج المزيد؛ وكميات هائلة من الفاقد عند إنتاج بعض المنتجات التي تتضمنها الخطط دون إنتاج منتجات أخرى ضرورية للاستفادة منها (كما حدث في ثمانينيات القرن العشرين عندما أهدرت كميات كبيرة من الأسمدة لأن أحد المشروعات التي جرى تجميدها كان بناء مصنع لإنتاج الأكياس اللازمة لتعبئة السماد).(47)
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، أصبح معتادا وسط اليسار واليمين إلقاء اللوم في كل ذلك ببساطة على اللاعقلانية البيروقراطية، دون إقرار بتطابق ذلك مع لاعقلانية الاستبداد الإداري داخل المؤسسات الغربية – وجذورها المشتركة لديهما في إخضاع العمل الإنساني للتراكم التنافسي، أي للتوسع الذاتي لرأس المال. غير أن رصد كل شكل من أشكال اللاعقلانية داخل الاقتصاد السوفييتي وإرجاعه إلى الاستثمار الزائد كان ممكنا – تماما كما هو ممكن بشأن اللاعقلانية الإدارية داخل الشركات الغربية.
لم تشهد الاقتصادات من النمط السوفييتي تبديدا فقط. بل شهدت أيضا تفاوتا في النمو عبر الزمن، تماما كما في الغرب. وقد كشفت دراسات في ستينيات القرن العشرين أجراها بشكل رئيسي اقتصاديون من شرق أوروبا عن وجود دورات الصعود والهبوط في الاقتصادات من نموذج الاتحاد السوفييتي. ويروي التشيكيان جولدما وكوبرا في عام 1968 كيف أن:
"تحليل ديناميات الإنتاج الصناعي في تشيكوسلوفاكيا وجمهورية ألمانيا الديمقراطية والمجر يقدم صورة تثير الاهتمام. ويكشف معدل النمو عن تذبذبات منتظمة نسبيا… وتتضح هذه التذبذبات أكثر إذا اقتصر التحليل على السلع الإنتاجية."(48)
واستطاع اليوغسلافي برانكو هورفات إصدار كتاب بعنوان الدورات الاقتصادية في يوغسلافيا(49) الذي أوضح أن الاقتصاد اليوغسلافي حتى قبل إصلاحات السوق في عام 1968 كان "أكثر اضطرابا بكثير" من عشرة اقتصادات أخرى ذكرها "بما فيها الولايات المتحدة". وكشف أكاديمي غربي أن هذه التقلبات كانت واضحة فعلا في الاتحاد السوفييتي منذ وقت إطلاق الخطة الخمسية الأولى وما بعدها.(50)
نمط التقلبات كشف عن تشابه كبير مع الدول الرأسمالية الغربية خلال فترة الرخاء الطويل. وترجع أصولها إلى ديناميات التراكم التنافسي. فكما رأينا في الفصل الثالث أن الاندفاع التنافسي عند الرأسماليين للاستثمار يؤدي عند نقطة معينة في أي رخاء إلى استنزاف المعروض القائم من المواد الأولية، والعمل ورأس المال المطروح للإقراض (أي فائض القيمة غير المستثمر). وتبدأ تكلفة كل هذه العناصر – أسعار السلع الأولية، والأجور النقدية وأسعار الفائدة – في الارتفاع حتى تكتشف فجأة أقل الشركات ربحية أنها تحقق خسائر في عملها. بعضها يخرج من النشاط. وتنجو شركات أخرى، ولكن فقط بالتخلي عن استثمارات خططت لها وإغلاق بعض مصانعها. وتؤدي إجراءاتها بدورها إلى تدمير أسواق رؤوس أموال أخرى، وتضطرها إلى التخلي عن استثمارات وإغلاق المصانع. وينشأ عن "الطلب الزائد" خلال الرخاء مشكلة الإنتاج الزائد خلال الأزمة. ويكمن سر الرخاء الطويل في الغرب خلال عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين في الطريقة التي استطاعت بها الدولة الوطنية تخفيض الضغوط التي تؤدي إلى التراكم الزائد (عبر توجيه جزء من رأس المال إلى قنوات عسكرية غير إنتاجية)؛ واتخاذ إجراءات مباشرة لمحاولة الحفاظ على معدل مرتفع للاستغلال (عبر السيطرة على الأجور)؛ والتدخل بهدف إبطاء الرخاء قبل أن يؤدي إلى تحول شركات هامة إلى شركات غير رابحة؛ والحفاظ على مستوى أدنى مضمون من الطلب عبر الطلب العسكري.
 إن اقتصاد السلاح لرأسمالية الدولة الاحتكارية لم يكن قادرا على التخلص من النمط الدوري للتراكم الرأسمالي. وتحديدا لم يتمكن من وقف الضغوط التنافسية التي تدفع الرأسماليين لأن يتجهوا إلى التوسع في الإنتاج خلال فترات صعود الاقتصاد بدرجة تتجاوز الموارد المتاحة. لكنه كان قادرا على منع هذه الفترات من "التراكم الزائد" التي تؤدي إلى أزمات كساد من نوع الأزمات التي سبقت الحرب العالمية الثانية.
كان شيء من نفس النمط قائما في الاقتصادات من النموذج السوفييتي. فقد ظهرت اختناقات في مختلف مجالات الاقتصاد تهدد بإغلاق قطاعات واسعة من الإنتاج بسبب نقص المدخلات. وتقريبا لم يرتفع الإنتاج أبدا بنفس الوتيرة المخطط لها. وتجاوزت الأرصدة النقدية التي صرفتها المؤسسات لشراء المواد الأولية والعمل ناتج الاقتصاد، ما نشأ عنه ضغوط تضخمية وجدت التعبير المباشر عنها في زيادة الأسعار أو التعبير "الخفي" في نقص شديد في السلع بالمتاجر.
إذا ترك تراكم فائق السرعة تقوم به شركات رئيسية بعينها دون تدخل فسرعان ما كان سيبتلع الموارد التي تعتمد عليها كثير من الشركات حتى تستمر في العمل عند المستويات الحالية، ما يؤدي إلى إغلاق بالجملة لمصانعها وتدمير أسواق لمنتجات شركات أخرى. وكان ذلك سيتحول إلى أزمة من الإنتاج الزائد من السلع. ولكن كما حدث في الغرب خلال الرخاء الطويل، تدخلت الدولة في محاولة لاستباق ذلك عبر "تبريد" الاقتصاد. وأمرت شركات "بتجميد" استثمارات معينة وتحويل الموارد إلى استثمارات أخرى. وتضمن ذلك تحول بعض المصانع فجأة من أحد فروع الإنتاج إلى آخر. وتركت أسطورة التخطيط المسبق للإنتاج الساحة لحقيقة التخصيص "اللاحق"، ما بعد الحدث، مع تكرار تغيير المدخلات والمخرجات. وكان مستهدف إنتاج السلع الاستهلاكية أحد أهداف الخطة الذي كان دائما يعاني في هذه العملية. وكانت النتيجة زيادة أكبر في الفارق بين الأموال التي ترصدها الشركات للأجور والسلع المتوفرة لهذه الأجور حتى تشتريها – أي زيادة في التضخم المعلن أو الخفي.  
وكشفت الأزمات السياسية والاجتماعية العميقة في عام 1953 (في ألمانيا الشرقية) وعام 1956 (في بولندا والمجر) وعام 1968 (تشيكوسلوفاكيا) وعام 1970-1971 (بولندا مرة أخرى) كيف أن التوترات الناتجة عن ذلك وجدت تعبيرا مفاجئا عن نفسها. غير أنه طالما أمكن استعادة معدلات النمو، كان ممكنا تخفيض هذه التوترات، وعادة من خلال الجمع بين القمع من ناحية والتنازلات بشأن مستويات المعيشة من ناحية أخرى. وقد أدت هذه الإجراءات العلاجية مؤقتا إلى التغطية على الضغوط الأساسية باتجاه وقوع الأزمة.
أولئك الذين عجزوا عن تحليل النظام من زاوية التراكم التنافسي عجزوا عن إدراك ذلك. ويصدق ذلك على المنظرين الغربيين من أنصار الرأسمالية الذين نظروا لفكرة "الشمولية". وقد يبحث المرء في كتاباتهم في الخمسينيات والستينيات عبثا عن بعض الإشارات على أن الأنظمة من النمط الروسي كانت تحتوي على تناقضات اقتصادية بنيوية. كما يصدق أيضا على معظم أولئك الذين رأوا في تلك الأنظمة نوعا من الدول الاشتراكية أو العمالية. وقد كانوا مغالين باستمرار في تفاؤلهم بشأن التوقعات الاقتصادية – ويعكسون بطريقتهم الخاصة أوهام الكينزيين الغربيين.
السلاح والأرباح والحرب الباردة
كانت موازنة السلاح عند القوى العظمى محورية في تطورها الاقتصادي. لكن جذورها لم تكن محدودة بالجانب الاقتصادي. بل كانت تنبع من صراع جديد على تقسيم وإعادة تقسيم العالم بين القوتين الرئيسيتين المنتصرتين في الحرب العالمية الثانية، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي – أي الحرب الباردة. 
كان لدى الولايات المتحدة طموحا بأن تخترق صناعاتها، وهي الأكثر تقدما وإنتاجية في العالم، الاقتصاد العالمي بأكمله عبر "التجارة الحرة". ولم تكن قوى أوروبا الغربية التي أنهكتها الحرب في موقف يؤهلها لتحديها بصورة مباشرة (رغم أن السياسيين البريطانيين غالبا ما عبروا في أحاديث خاصة عن رغبتهم في ذلك). وكان حكام روسيا في موقف مختلف. فقد انتهت الحرب وهم يسيطرون فعليا على كامل أوراسيا الشمالية، من حدود أوروبا الغربية مباشرة وحتى المحيط الهادئ. ومع انخفاض مستوى الإنتاجية الصناعية إلى أقل من نصف مستوياتها في الولايات المتحدة، لم يكونوا في موقف يؤهلهم للحفاظ على أنفسهم في منافسة اقتصادية عبر التجارة الحرة. لكن كان بإمكانهم منازعة الولايات المتحدة في مساعيها للهيمنة العالمية عن طريق منع دخولها إلى اقتصاد بلدان تحت سيطرتهم – لا في أراضي الامبراطورية الروسية القديمة فحسب، وإنما أيضا في بلدان أوروبا الشرقية التي أخضعوها لأهدافهم العسكرية-الصناعية. ومن جانبها سارعت الولايات المتحدة إلى تدعيم سيطرتها على أوروبا الغربية من خلال تمويل الأحزاب السياسية المسيحية الديمقراطية والاشتراكية الديمقراطية المناصرة لأمريكا، وخطة مارشال لإنعاش الصناعة الأوروبية داخل أطر تلائم مصالح الولايات المتحدة، وتأسيس حلف الناتو العسكري، وإقامة قواعد أمريكية في أوروبا الغربية.  
وجرى تصميم النموذج لأربعين عاما قادمة حيث كل من القوتين العظمتين تتحرك حتى تجذب قدر ما تستطيع من العالم إلى منطقة نفوذها حتى تحقق ميزة استراتيجية على حساب الأخرى. وقد انخرطتا في حرب شرسة من أجل السيطرة على شبه الجزيرة الكورية، لا بسبب الثروة الضئيلة التي كانت لديها آنذاك، وإنما بسبب الأبعاد الاستراتيجية لكل منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ. وحاولت كل منهما على مدار العقود التالية أن تمد مجال نفوذها عبر منح المعونة والسلاح للدول التي تختلف مع خصمها.
كما هو مفهوم غالبا، إن صراع الحرب الباردة لا يمكن تفسيره بالاقتصاد من حيث حساب الربح والخسارة فقط. ففاتورة السلاح عند كل من القوتين العظمتين سرعان ما تجاوزت كل ما كان يأمله حكامهما من مكاسب من وراء زيادة استغلال القوى الأضعف الواقعة تحت سيطرتها. لم يبلغ إجمالي استثمارات الولايات المتحدة الخارجية (ناهيك عن العائد على هذه الاستثمارات وهو أقل كثيرا منها) في أي مرحلة خلال عقدي الأربعينيات والخمسينيات ما يتجاوز إنفاقها على السلاح. حتى في مرحلة "نزع السلاح" قبيل اندلاع الحرب الكورية "بلغ إجمالي الإنفاق العسكري ما يقارب 15 مليار دولار سنويا، وبذلك كان يعادل 25 ضعف إجمالي صادرات رأس المال الخاص."(51) وبحلول عام 1980، ارتفع إجمالي الإنفاق على "الدفاع" إلى حوالي 200 مليار دولار – وقد أصبح الآن أقل من إجمالي الاستثمارات الخارجية التي بلغت 500 مليار دولار، ولكنه مازال أكبر كثيرا من الأرباح التي يمكن جنيها من تلك الاستثمارات.
كان الموقف بالنسبة للاتحاد السوفييتي شبيها بذلك نوعا ما. ففي أعوام ما بين 1945 و 1950 عمد إلى نهب أوروبا الشرقية، بنقل مصانع ومعدات بالجملة من ألمانيا الشرقية ورومانيا، وأجبر المنطقة بالكامل على قبول أسعار أقل من أسعار السوق العالمية عن السلع التي توجه إلى الاتحاد السوفييتي.(52) ولكن حتى في تلك الفترة، لابد أن المكاسب الاقتصادية من وراء ذلك كانت أقل كثيرا من الزيادة في موازنة السلاح للاتحاد السوفييتي ما أن بدأت الحرب الباردة بحق. ومن عام 1955 فصاعدا، دفع الخوف من التمرد في أوروبا الشرقية الحكومة السوفييتية إلى تخفيف الضغوط الاقتصادية المباشرة على دول الأطراف.
إن الامبريالية التي جعلت الإنفاق العسكري ضروريا لم تك إمبريالية الإمبراطورية الواحدة التي يجني فيها عدد قليل من "الرأسماليين الماليين" في المركز أرباحا فائقة عن طريق إخضاع بلايين البشر. وإنما كانت إمبريالية الامبراطوريتين المتصارعتين التي اضطر فيها مجموع الرأسماليين في كل طبقة حاكمة إلى تحويل الأموال من الاستثمارات الإنتاجية إلى الإنفاق العسكري من أجل ضمان إحكام قبضتهم على ما يملكون بالفعل.
في كل من واشنطن وموسكو، كانت المعادلة بسيطة. إن تخفيض مستوى الإنفاق العسكري كان يخاطر بفقدان التفوق الاستراتيجي لصالح الإمبريالية المنافسة، ما يمكنها من أن تمد مجال هيمنتها. هكذا كان الروس يعيشون في خوف من محاولة الولايات المتحدة "استرداد" أوروبا الشرقية، ما قد ينزع اقتصاد هذه البلدان من قبضة الاتحاد السوفييتي، ويؤدي بدوره إلى احتمال تفكيك الروابط التي تربط الأجزاء الأخرى المكونة للاتحاد السوفييتي بمركزه الروسي (الأمر الذي حدث فعلا في النهاية مع الأزمة السياسية والاقتصادية الكبيرة التي هزت الكتلة الشرقية بكاملها في أعوام 1989 وحتى 1991). وفي نفس الوقت كانت الولايات المتحدة تخاف على هيمنتها. فكما أوضح أحد المتحدثين باسم الولايات المتحدة أثناء الحرب الكورية: "إذا جرى اكتساح أيا من المنطقتين الهامتين الواقعتين على حدود العالم الشيوعي – أي أوروبا الغربية أو آسيا – فسوف ينتاب بقية العالم الحر ضعف كبير… في قوته الاقتصادية والعسكرية."(53)
بمعنى آخر أنه كان ضروريا تحويل كميات هائلة من القيمة إلى وسائل للدمار – لا من أجل الحصول على مزيد من القيمة بل من أجل الحفاظ على ما لديهم فعلا. وهكذا كان منطق المنافسة الرأسمالية في تطبيقه على العلاقات بين الدول. لذلك فإن الحرب الباردة بلغت حد نزاع امبريالي جديد من النوع الذي فصله بوخارين، سرعان مع غطى على الصراعات الامبريالية القديمة بين قوى أوروبا الغربية.
جلاء الاستعمار والتوجه التنموي في جنوب العالم
كان خمسة وثمانون بالمئة من البشر يعيشون خارج البلدان الصناعية المتقدمة. وكانت تجربتهم مع "العصر الذهبي" أبعد ما تكون عن صفة الذهبي. فالغالبية العظمى منهم ظلوا يعيشون في المناطق الريفية، ولم يطرأ تغيير يذكر على الحالة البائسة التي تجتاح حياتهم اليومية.
غير أن تغييرا سياسيا هاما قد حدث. فقد أجبرت قوى أوروبا الغربية تدريجيا على التخلي عن الحكم الاستعماري المباشر، وهي عملية بدأت مع إنهاء بريطانيا بعد ضعفها امبراطوريتها القديمة في الهند التي استمرت 190 عاما في عام 1947 وانتهت مع تسليم البرتغال السلطة لحركات التحرير في أفريقيا عام 1975. وحل نفوذ الولايات المتحدة محل نفوذ أوروبا الغربية في بعض المناطق. فقد سيطرت على جنوب فييتنام عندما انسحب الفرنسيون في عام 1954 – حتى اضطرت هي أيضا إلى الانسحاب بعد أشد الحروب عنفا في منتصف السبعينيات. وقد أصبحت القوة المهيمنة في معظم بلدان الشرق الأوسط وفي أجزاء من إفريقيا. ولكنها، مثل القوى الأوروبية، تراجعت عن الاستعمار الرسمي، مانحة الاستقلال للفلبين ولم تحتفظ بالسيطرة المباشرة إلا على بورتو ريكو.
وكان من النتائج الملازمة المباشرة لهذا التراجع عن الاستعمار المباشر نهاية الصدام القديم بين القوى الغربية حول اقتسام بقية العالم. وبدا أن الدافع نحو الحرب فيما بينها قد ذهب إلى غير رجعة. وصاحب ذلك أيضا، كما رأينا، أمر آخر لم تتوقعه نظريات الإمبريالية الكلاسيكية – هو أن فقدان المستعمرات لم يمنع اقتصاد القوى الغربية عن المشاركة في الرخاء الطويل وتقديم تنازلات برفع مستوى معيشة عمالها بانتظام. وكان لدى البلدان المتقدمة التي لا تملك أي مستعمرات – مثل ألمانيا الغربية واليابان وإيطاليا – اقتصاد توسع بمعدلات أسرع من الجميع. وفي نفس الوقت، وعلى مدى عقدين بعد الحرب، استمرت صادرات رأس المال منخفضة عند المستويات شديدة الضعف التي بلغتها خلال الكساد الكبير في عقد الثلاثينيات. وكما أوضح مايك كيدرون في عام 1962:
"حتى في بريطانيا… تراجعت أهمية صادرات رأس المال تراجعا هائلا: فقد بلغت مؤخرا حوالي 2 بالمئة من إجمالي الناتج القومي مقارنة مع 8 بالمئة خلال الفترة السابقة على الحرب العالمية الأولى؛ وهي تستهلك حاليا أقل من 10 بالمئة من المدخرات مقارنة مع حوالي 50 بالمئة في السابق؛ كما أن العائد على الاستثمار الخارجي أصبح يزيد قليلا على 2 بالمئة من الدخل القومي مقارنة مع … 10 بالمئة في عام 1914."(54) 
وكان الاستثمار الخارجي الذي يحدث فعلا يتقلص في توجهه نحو المناطق الأقل تصنيعا في العالم: "كان النشاط يتركز على نحو متزايد داخل العالم المتقدم، تاركا كل البلدان النامية، إلا قليلا، خارج نطاق الدينامية الجديدة."(55)
وحدث أيضا تحول في الطلب على منتجات العالم الثالث. فقد كانت المواد الأولية القادمة من البلدان الزراعية لاغنى عنها بالنسبة للإنتاج الصناعي في الغرب قبل الحرب العالمية الأولى، وكانت السيطرة الاستعمارية وسيلة هامة للبلدان الصناعية لضمان إمداداتها ومنع منافسيها من الوصول إليها. غير أن بدائل صناعية ظهرت الآن لمعظم المواد الأولية – مثل الأسمدة الصناعية، والمطاط الصناعي، والحرير، والنايلون والبلاستيك. وأدى تحول مواز للزراعة في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية إلى تخفيض واردات الغذاء من بقية العالم. وبحلول أواخر الخمسينيات من القرن العشرين لم يعد للانسحاب من المستعمرات في إفريقيا وآسيا ذلك الخطر الذي كان يمثله بالنسبة للصناعيين في البلدان الأوروبية. وبدأت الشركات، التي صنعت ثرواتها من المزارع والمناجم في جنوب العالم، تنويع استثماراتها في مجالات جديدة من النشاط.
كان الاستثناء الوحيد العظيم في هذه الصورة هو النفط. فهو المادة الخام للمواد الأولية، المكون الأساسي في صناعة البلاستيك، والمطاط الصناعي والألياف الصناعية، وكذلك يغطي احتياجات الطاقة التي تتسع بشكل هائل، وهو القوة الدافعة في التكاثر الكبير والمستمر في السيارات والدبابات والطائرات. كما أن إمدادات النفط كانت تكتشف على نحو متزايد خارج أوروبا وأمريكا الشمالية. وبحلول منتصف السبعينيات كانت المملكة العربية السعودية والعراق وإيران والكويت والمشيخات الصغيرة التي تحيط بشبه الجزيرة العربية هي البلدان ذات الأهمية – كما اتضح من خلال الانقطاع المؤقت في الإمدادات خلال الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973. ولم يكن مصادفة أن النسخة الوحيدة من الاستعمار على النمط القديم التي استمرت في الحصول على دعم غير محدود من جميع الدول الغربية كانت دولة إسرائيل الاستيطانية – دعمتها الامبريالية البريطانية في سنواتها الأولى "كوطن لليهود"، وأمدتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بالسلاح للاستيلاء على 78 بالمئة من فلسطين في عام 1948، وتحالفت معها بريطانيا وفرنسا في هجومها على مصر في 1956، ومنحتها الولايات المتحدة دعما كاملا في العدوان الذي وهبها السيطرة على بقية فلسطين في يونيو 1967.(56)
الحكومات المحلية والتنمية الرأسمالية
كان تفكك الامبراطوريات الاستعمارية الأوروبية واقعا ذا أهمية بالغة بالنسبة لما يقرب من نصف سكان العالم الذين عاشوا تحت سلطاتها. كما أنه طرح بصورة أو بأخرى أسئلة شديدة الأهمية على أولئك الذين قاتلوا ضد سلطة تلك الامبراطوريات. فماذا حدث للإمبريالية – والنضال ضدها – إذا لم تعد الامبراطوريات قائمة؟
كان الرد عند كثير من الاشتراكيين الديمقراطيين والليبراليين في الغرب هو الزعم بأن الإمبريالية لم تعد موجودة. كانت هذه على سبيل المثال هي النتيجة التي توصل إليها جون ستراشي. وقد رأى في كتابه نهاية الامبراطورية (1959) أن ارتفاع مستويات المعيشة كان يعني أن الشركات لم تعد تحتاج إلى المستعمرات لاستيعاب الفائض ومنع أزمة الإنتاج الزائد. أي كان يقول، من الناحية العملية، أن بديل هوبسون للإمبريالية، أي تنشيط الاقتصاد المحلي، قد هيمن وحل مشكلات النظام.
رفض قطاع هام من اليسار هذا المنطق. فقد شاهدوا أن الدول التي كانت مستعمرة ما تزال موبوءة بالفقر والجوع – وأن الشركات الغربية التي استفادت من الامبراطورية استمرت راسخة بداخلها. وعلاوة على ذلك، لم تكن نهاية الامبراطوريات الأوروبية نهاية للعنف الذي يمارس على شعوب العالم الثالث، مع التقاط الولايات المتحدة الهراوة من الأوروبيين الراحلين.  
غير أن رفض الكلام السطحي حول نهاية الإمبريالية كان يصحبه غالبا اقتباس من تحليل لينين في عام 1916، يردد على طريقة الببغاوات، دون إدراك للتغيرات التي وقعت منذ كتابته. فإصرارهم على أن القوى الغربية العظمى كانت مدفوعة بتقسيم وإعادة تقسيم العالم فيما بينها عبر الحكم الاستعماري المباشر لم ينطبق على وضع حصلت فيه المستعمرات على استقلالها. وكان رد معظم اليساريين هو إعادة تعريف الإمبريالية حتى تعني مجرد استغلال العالم الثالث من قبل الطبقات الرأسمالية الغربية، والتخلي عن الاندفاع نحو الحرب بين القوى الإمبريالية رغم مركزيته في نظرية لينين لصالح ما كان في حقيقته رؤية كاوتسكي عن الامبريالية الفائقة (Ultra-Imperialism). وفي نفس الوقت، قاموا ببساطة باستبدال الحديث عن الاستعمار بحديث عن "المستعمرات الجديدة" أو "أشباه المستعمرات".
وقد كتب لينين عن "أشباه المستعمرات". وكان يقصد بها مناطق مثل الصين في زمن الحرب العالمية الأولى، عندما كان "الاستقلال" يخفي استمرار الخضوع السياسي للقوى المسلحة الأجنبية في احتلال جزئي للبلاد. في بعض المناطق كانت الأوضاع شبيهة بذلك بعد نهاية السيطرة الاستعمارية المباشرة في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. وفي حالات كثيرة، كانت الإدارات الاستعمارية الراحلة قادرة على ضمان أن يتسلم مواقعها صنائعها، مع استمرار كبير في أشخاص من يتولون مواقع في الدولة، خاصة عندما يتعلق الأمر بوظائف هامة في القوات المسلحة. هكذا، مثلا، منحت فرنسا "الاستقلال" لمناطق شاسعة في غرب ووسط أفريقيا عبر تسليم السلطة لأشخاص استمروا كما في السابق يعملون مع الشركات الفرنسية، ويستخدمون العملة الفرنسية – ويطلبون القوات الفرنسية بين حين وآخر من أجل الحفاظ على "النظام".
غير أن الاستقلال في بعض من أكثر الحالات أهمية كان يعني استقلالا فعلا. ولم تتقدم حكوماتها فحسب إلى الحصول على مقاعد في الأمم المتحدة وتأسيس سفارات لها في مختلف أنحاء العالم، وإنما أيضا تدخلت في الاقتصاد، لتؤمم الشركات الاستعمارية، وتنفذ إصلاحا زراعيا، وتطلق برامج للتصنيع تلهمها دعوات منظري التنمية الاقتصادية أو غالبا روسيا ستالين. وقد اتخذت هذه الإجراءات بدرجات متفاوتة من النجاح أو الفشل في الهند ومصر وسوريا والعراق والجزائر وإندونيسيا وغانا وغينيا الاستوائية وأنجولا وكوريا الجنوبية، وكذلك من جانب أنظمة أكثر راديكالية مثل الصين وكوبا وفييتنام. وبمرور الزمن، بدأت حتى بعض أنظمة مابعد الاستعمار الخاضعة في اتباع نفس الطريق. ويصدق ذلك، مثلا، على النظام الماليزي(57) وعلى نظام الشاه في إيران في عقد الستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي، وكذلك على النظام التايواني. بل حتى الديكتاتور موبوتو، الذي تولى السلطة بمساعدة المخابرات المركزية الأمريكية في كونغو-زائير في عام 1965، المناجم الكبرى لشركة يونيون مينيير دو أوت كاتانجا للتعدين علاوة على 70 بالمئة من أرباح التصدير بعد ثلاث سنوات.
كان وصف أنظمة مثل مصر عبد الناصر وهند نهرو بأنها "استعمار جديد" أو "أشباه مستعمرات" تقليدا يثير السخرية – كما كان بالنسبة للأنظمة "الشعبوية" في أمريكا اللاتينية أو لحكومات حزب فيانا فيل في إيرلندا. ففي كل حالة من هذه الحالات بذلت جهود لا من أجل إقامة كيانات سياسية مستقلة فحسب، بل أيضا مراكز مستقلة لتراكم رأس المال. وهذه المراكز عملت داخل عالم تهيمن عليه رأسماليات البلدان المتقدمة الأكثر قوة بكثير، ولكنها لم تكن بأي معنى مجرد دمى تتلاعب بها.
وقد أشارت نظرية "تنموية" جديدة إلى الوسائل التي بواسطتها كانت تهدف هذه البلدان إلى إغلاق الفجوة بين اقتصادها واقتصاد البلدان الصناعية المتقدمة. ورأت هذه النظرية أن آليات السوق الرأسمالية لا يمكنها إنجاز هذا الهدف. وكما تذكر فريق عمل البنك الدولي فيما بعد عن "النموذج المهيمن في ذلك الوقت":
"كان يفترض أن الأسواق لا يمكن الاعتماد عليها في المراحل الأولى من التنمية، وأن الدولة سوف تكون قادرة على توجيه عملية التنمية… وقد تأثر صناع السياسة أيما تأثير بنجاح التخطيط الذي تقوم به الدولة في إنجاز التصنيع في الاتحاد السوفييتي (حيث كانوا يتصورون ذلك). وقد أيدت مؤسسات التنمية الكبرى (بما فيها البنك الدولي) هذه الآراء بدرجات متفاوتة من الحماس."(58)
وكما كانت النظرية الكينزية مسيطرة على علم الاقتصاد البرجوازي في البلدان المتقدمة في ذلك الوقت، كذلك كانت نظريات "إحلال محل الواردات" والدولنة سائدة فيما يتعلق بالعالم الثالث. وكانت المؤسسة الرئيسية التي تناصر هذه النظريات في الأربعينيات والخمسينيات هي مفوضية الأمم المتحدة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية ذات التأثير البارز، والتي كان يديرها الاقتصادي الأرجنتيني راؤول بريبيش. وكانت ترى أن التنمية لا يمكن أن تتحقق إلا إذا تدخلت الدولة لمنع الاستيراد حتى تشجع نمو الصناعات المحلية(59)، لأنه بخلاف ذلك، سوف يمنع "الاعتماد" على الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة عملية التصنيع."(60)
وقد هيمنت طبعات أكثر راديكالية من "نظرية التبعية" هذه على قطاع كبير من اليسار في مختلف أنحاء العالم خلال ستينيات القرن العشرين. وسيطرت كتابات بول باران (خاصة كتابه الاقتصاد السياسي للتنمية) وأندريه جوندر فرانك (الذي تحدث عن "تنمية التخلف")(61) على كثير من الفكر الماركسي في هذا المجال (رغم أن جوندر فرانك لم يعتبر نفسه ماركسيا.(62)
كتب باران:
"إن النظام الرأسمالي في هذه البلدان يمثل إطارا للركود الاقتصادي، والتكنولوجيا المتخلفة والتخلف الاجتماعي، بدلا من أن يعمل كقاطرة للتوسع الاقتصادي والتقدم التكنولوجي والتغيير الاجتماعي.(63)"
وأضاف:
"إن إقامة اقتصاد اشتراكي مخطط شرط جوهري لا غنى عنه لتحقيق تقدم اقتصادي واجتماعي في البلدان المتخلفة.(64)"
كان جوندر فرانك على نفس الدرجة من الإصرار، فكتب:
"لم يحقق بلد من البلدان التي ارتبطت بالمركز في أطرافه عبر الاندماج في النظام الرأسمالي العالمي مكانة البلد المتقدم اقتصاديا إلا عندما تخلى أخيرا عن النظام الرأسمالي.(65)"
كان معنى الاشتراكية عند باران والقطع مع الرأسمالية عند جوندر فرانك هو اتباع نموذج روسيا الستالينية.(66)
كانت حجة نظرية "التبعية"، سواء في شكلها السائد أو الراديكالي، حجة ضعيفة. فقد افترضت أن الرأسماليين من البلدان المتقدمة الذين يستثمرون في العالم الثالث سوف يتعمدون عدم إقامة صناعة حتى عندما تكون رابحة. لكن ذلك كان منافيا للحقائق. فقبل الحرب العالمية الأولى، كان هناك تمويل أجنبي كبير للتنمية الصناعية في روسيا القيصرية، والأرجنتين والمستعمرات البريطانية. كما أن الدول الغربية لم تستخدم في جميع الأوقات قوتها لمنع عملية التصنيع. بل إنها أحيانا فعلت وأحيانا أخرى لم تفعل. وأخيرا، لا تفقد أي طبقة حاكمة في بلد من البلدان التي تعتمد على بلدان رأسمالية أكبر في كثير من تجارتها واستثماراتها كامل قدرتها على أن تشق طريقا مستقلا لتراكم رأس المال. فمثلا كانت الاقتصادات الأوروبية لفترة طويلة معتمدة بدرجة كبيرة على ما يحدث في اقتصاد الولايات المتحدة دون أن تتحول الطبقات الحاكمة الأوروبية إلى مجرد دمى أمريكية.
كان الرأي القائل بأن "الرأسمالية تعني التخلف" من الانتشار حتى أن أناسا أعادوا قراءته في بعض الكلاسيكيات الماركسية. واقتبس باران من لينين حتى يدعم حجته، بينما استطاع شخص في ذكاء نايجل هاريس أن يرجع هذه الآراء إلى "البلاشفة في عام 1917."(67)
حقيقة الأمر أن كتابات لينين عن الإمبريالية قدمت رأيا مختلفا تماما، كما فعلت كتابات تروتسكي في أواخر عشرينيات القرن العشرين. فقد كتب لينين أن تصدير رأس المال "يسرع وتيرة نمو الرأسمالية في البلاد التي يصدر إليها،"(68) بينما كتب تروتسكي أن الرأسمالية "تلغي التفاوت في التطور الاقتصادي والثقافي بين معظم البلدان المتقدمة ومعظم البلدان المتخلفة،"(69) حتى وإن فعلت ذلك وهي "تطور بعض أجزاء الاقتصاد العالمي بينما تعرقل تنمية أجزاء أخرى وتدفعها للخلف."(70)
إن ما فعلته نظرية التبعية من التيار السائد لفترة من الزمن هو أن وفرت التبرير الأيديولوجي للوسائل التي مكنت حكام بعض الدول المستقلة سياسيا من تحقيق مستويات مذهلة من التراكم، حتى وإن كان لفترة فقط. فكان معدل النمو الاقتصادي في الأرجنتين خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي يقارن بمعدل النمو الاقتصادي في إيطاليا،(71) وبحلول أوائل السبعينيات كان ثلث قواها العاملة يعملون بالصناعة، مع 13 بالمئة فقط يعملون بالزراعة. وكان معدل النمو في البرازيل البالغ 9 بالمئة واحدا من أعلى المعدلات في العالم، وبحلول منتصف الثمانينيات استطاعت مجلة الإيكونومست أن تشير إلى مدينة ساوباولو باعتبارها "ديترويت في طور التكوين".(74) وشهدت كوريا الجنوبية نموا اقتصاديا سريعا بلغ 8 بالمئة سنويا بعد استيلاء جنرال بارك تشونج هي على السلطة في عام 1961 وإجباره الشركات الكبيرة (أو التشيبول) على العمل في إطار وضعته الدولة وأطلق عملية تصنيع على نمط رأسمالية الدولة.
وفي الصين، حيث اقتربت سيطرة الدولة على الاقتصاد أكثر من النموذج الروسي الذي تبناه منظرو التبعية الراديكاليون، لم يكن معدل النمو الاقتصادي أعلى من هذه الأرقام بمجرد أن أكملت المرحلة الأولى القصيرة من الانتعاش الاقتصادي بعد عشرين عاما من الحرب الأهلية والغزو الياباني. وقد أدى فرض الخطط التي حولت الموارد نحو الصناعات الثقيلة الجديدة – مثل الصلب والأسمنت والكهرباء – في بلد شديد الفقر ويغلب عليه الطابع الزراعي مثل الصين في أوائل خمسينيات القرن العشرين، إلى ضغوط شديدة على مستوى معيشة الأغلبية الساحقة من السكان. وعبر فرض ضرائب عنيفة على إنتاجهم، فقد صغار الفلاحين ما كانوا حصلوا عليه من مكاسب عبر الإصلاح الزراعي في العقد السابق. ثم جاءت في النهاية المحاولة الكارثية للتجميع عبر ما أطلق عليه كوميونات الشعب، في مساع لتحقيق "قفزة كبيرة للأمام" في التنمية الاقتصادية. وأدت هذه القفزة إلى تخفيض إجمالي الناتج الزراعي، وأحدثت مجاعة في مناطق شاسعة من الريف، وكان لزاما التخلي عنها. وكان جانب كبير من الصناعة الجديدة يغيب عنه الكفاءة. إن نمو الصناعة الثقيلة بما لا يتناسب إطلاقا مع ما كان يجري في باقي الاقتصاد نتج عنه نقص حاد في المدخلات المطلوبة حتى تستمر المصانع في الدوران، وإنتاج سلع أخرى ليس لها فائدة آنية. وكانت هناك تقلبات هائلة من فترات تتسم بالتوسع الصناعي السريع إلى فترات تتسم بالركود تقريبا، وكثير من المصانع العملاقة الجديدة الفخمة لم تتمكن من العمل إلا بجزء ضئيل من طاقتها الإنتاجية.  
عادة كان يحدث النمو حتى في البلدان التي لم تكن ناجحة بقدر نجاح البرازيل وكوريا الجنوبية. فقد حقق الإنتاج الصناعي في الهند نموا بنسبة 5.3 بالمئة سنويا من عام 1950 وحتى عام 1981، وحقق الإنتاج الزراعي نموا بنسبة 2.3 بالمئة، حتى برغم الإحباط المستمر إزاء عدم قدرة الاقتصاد تجاوز معدل النمو "الهندوسي" البالغ 4 بالمئة.  وكان لدى إفريقيا جنوب الصحراء معدلات نمو للفرد تدور حول 2 بالمئة في أوائل ستينيات القرن العشرين، والتي "ارتفعت إلى 5 بالمئة تقريبا بحلول نهاية ذلك العقد."(75) وحققت مصر، التي قام زعيمها عبد الناصر بتأميم كامل للصناعة تقريبا، نموا بحوالي 6 بالمئة سنويا خلال النصف الأول من عقد الستينيات. هذه النتائج من حيث مستويات النمو الاقتصادي كانت كافية لإقناع أحد الماركسيين من دعاة المراجعة هو بل وارين بأن يستنتج في بداية سبعينيات القرن العشرين أن معظم بقية اليسار كانوا على خطأ. وقد استطاعت بلاد من العالم الثالث أن تلحق بالغرب دون القطع مع الرأسمالية:
"إن فرص نجاح التنمية الاقتصادية الرأسمالية (ويتضمن ذلك التصنيع) لعدد كبير من البلدان المتخلفة الرئيسية فرص جيدة…وقد تحقق فعلا تقدم كبير في التصنيع الرأسمالي… وفي حال وجدت عقبات في سبيل هذه التنمية، فإن جذورها لا ترجع إلى العلاقات الحالية بين الإمبريالية والعالم الثالث، ولكن تعود بالكامل تقريبا إلى التناقضات الداخلية للعالم الثالث نفسه… إن سياسات البلدان الإمبريالية وتأثيرها الكلي على العالم الثالث تشجع عملية تصنيعه من الناحية الفعلية…"(76)
وقد عرض أرقاما تكشف النمو الاقتصادي الحقيقي بالنسبة للفرد الذي كان يحدث في الواقع. وكان يقف على أرضية قوية في تحدي افتراض الطبعة الراديكالية من نظرية التبعية. كذلك أيضا كان موقفه قويا عندما طرح فكرة أن اليسار أذا كان يرى أولويته الرئيسية في تأييد الأنظمة التي تتجه للتصنيع كأنظمة "ضد الإمبريالية" فإنه قد "يجد أنه يدعم مباشرة أنظمة برجوازية تستغل وتقمع العمال والفلاحين كما في بيرو وفي مصر بينما تستخدم خطابا معاديا للإمبريالية."(77)
لكن تحليله كان يفتقد إلى أي تفسير حقيقي للتفاوت الهائل بين بلدان العالم الثالث، رغم أن أرقامه نفسها كانت تكشف أن معدل النمو السنوي للفرد في اثنين من أكثر البلدان سكانا، هما الهند وإندونيسيا، لم تتجاوز 1.2 بالمئة و 1 بالمئة (وذلك مقارنة مع 6.8 بالمئة في كوريا الجنوبية، 4.9 بالمئة في تايلاند و 7.1 بالمئة في زامبيا). كما أنه عجز عن إدراك أن النمو الرأسمالي السريع لا يكون بالضرورة سلسا ومتصلا عبر الزمن:
"إن الاستثمار الخاص في العالم الثالث يخلق على نحو متزايد شروط اختفاء الإمبريالية كنظام لعدم المساواة الاقتصادية بين الأمم في النظام الرأسمالي العالمي، … ولا يوجد أي حدود من حيث المبدأ لهذه العملية."(78)
وقاده ذلك إلى نبوءة سرعان ما ستخضع للاختبار ويثبت خطؤها بطريقة درامية:
"فيما يتعلق بتوقعات المستقبل، رؤية البنك الدولي أن أغلبية البلدان في السبعينيات لن تواجه مشكلات خدمة الديون كما في الستينيات… وتقدم الأعوام الثلاثة الأولى من عقد السبعينيات إشارة قوية أن الحال سيكون كذلك."(79)
تناول وارين الرؤية الفجة لجوندر فرانك وباران التي كانت تتبنى استحالة التنمية وقلبها ببساطة رأسا على عقب. وكان يفتقد إلى أي إدراك لطابع النمو الاقتصادي الفوضوي الذي يستعصي على التوقع في المناطق الأضعف من النظام العالمي الذي أكد عليه تروتسكي عندما أقر بأن الرأسمالية لا تؤدي دائما إلى الركود:
"إن الرأسمالية، عبر التقريب بين البلدان وبعضها من الناحية الاقتصادية وتسوية الفوارق بينها في مراحل تطورها، تعمل بوسائلها الخاصة، أي بالوسائل الفوضوية التي تقوض بانتظام عملها نفسه، تضع بلدا في مواجهة الآخر، وفرعا من فروع الصناعة في مواجهة فرع آخر، تنمي بعض أجزاء الاقتصاد العالمي بينما تعرقل التنمية في أجزاء أخرى وتدفعها للوراء… وتحقق الإمبريالية… هذا "الهدف" بواسطة تلك الوسائل العدائية، وتلك الغارات ووثبات النمر على البلدان والمناطق المتخلفة حتى أن توحيد وتسوية الفوارق في الاقتصاد العالمي الذي تحققه يتداعى على يديها على نحو أكثر عنفا وتشنجا بكثير منه في العصر السابق."(80)
وقد كانت حقيقة سوف تضر بحياة مئات الملايين من البشر على مدى العقود الأربعة التالية.
في جنوب العالم، كما في الغرب واليابان والكتلة الشرقية، سمحت نماذج مختلفة مما أطلق عليه لينين وبوخارين "رأسمالية الدولة" بانطلاق مرحلة طويلة من النمو الاقتصادي. غير أن أولئك الذين استنبطوا من ذلك أن يشهد العالم مستقبلا سلسا خاليا من الأزمات سرعان ما ثبت أنهم على خطأ.