الأحد، 26 مارس 2017

رأسمالية الزومبي – الجزء الثاني "الرأسمالية في القرن العشرين" الفصل السادس "الكساد الكبير" – ترجمة رمضان متولي

الجزء الثاني:
الرأسمالية في القرن العشرين

الفصل السادس:
الكساد الكبير
أزمة غير مسبوقة
أعمق أزمة عرفتها الرأسمالية في تاريخها، أعقبها رخاء هو الأكثر استمرارا، وتخللتها أشد الحروب دموية في تاريخ البشرية، كان هذا مسار الرأسمالية خلال خمسين عاما توسطت القرن العشرين.
كانت الولايات المتحدة في مركز الزلزال في هذه الأزمة، وقد خرجت من الحرب العالمية الأولى كأكبر قوة اقتصادية تنتج 50 بالمئة من إجمالي الإنتاج الصناعي العالمي، متجاوزة بذلك كلا من بريطانيا التي انتصرت في الحرب وألمانيا المهزومة. وغالبا ما تحدد بداية الكساد مع أزمة وول ستريت في 29 أكتوبر 1929، عندما هبطت بورصة نيويورك بحوالي الثلث. لكن "النشاط الاقتصادي كان يعاني بالفعل قبل هذه الأزمة"، مع انخفاض إنتاج السيارات بمقدار الثلث في شهر سبتمبر مقارنة مع شهر مارس 1929.(1) وعلى مدى الأعوام الثلاثة التالية، تراجع الإنتاج الصناعي للولايات المتحدة بحوالي النصف، وانتشرت الأزمة عبر المحيط الأطلنطي إلى أوروبا، حيث كانت هناك فعلا علامات أولى على الأزمة. وانخفض الإنتاج الصناعي في ألمانيا أيضا بحوالي النصف، ومع بعض التأخير، تراجع الإنتاج الفرنسي بما يقرب من 30 بالمئة. وحدها بريطانيا هي التي شهدت نسبة انخفاض أقل في إنتاجها الصناعي – بلغت حوالي 20 بالمئة – لكن سبب ذلك أن صناعاتها الثقيلة كانت تعاني فعلا من وضع ركودي.  
وبحلول عام 1932، كان ثلث القوة العاملة في الولايات المتحدة وألمانيا في عداد البطالة وخمسها في بريطانيا. لم يعان العمال اليدويون وحدهم من البطالة كما في الأزمات السابقة، بل كذلك الموظفون ذوو الياقات البيضاء الذين كانوا يظنون في أنفسهم الانتماء إلى الطبقة الوسطى. فقد أفلس المئات من البنوك المحلية في الولايات المتحدة وانهارت بعض البنوك العملاقة في أوروبا على نحو يثير الدهشة، ما بدد مدخرات الناس وفاقم شعورا عاما بالكارثة. ومع ضرب الأزمة كل البلدان الصناعية مرة واحدة، دمرت الطلب على ناتج البلدان الزراعية، فأدت إلى انخفاض الأسعار التي تلقاها الفلاحون مقابل منتجاتهم مخلفة وراءها مستنقعات شاسعة من الفقر المدقع. ولم تفلت منطقة واحدة في العالم على الأقل من بعض التدهور في الإنتاج،(2) كما هبطت التجارة العالمية إلى ثلث مستواها في عام 1929.(3) وذلك مقارنة مع "الكساد الكبير" السابق في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر الذي شهد نموا في كل من الناتج العالمي والتجارة العالمية أثناءه.(4)
رخاء عشرينيات القرن العشرين
عزز من الصدمة الأيديولوجية للأزمة الكيفية التي بدا عبرها أن الرأسمالية قد تعافت في الأعوام السابقة عليها من دمار الحرب العالمية الأولى: حيث تضاعف الناتج الصناعي للولايات المتحدة خلال الفترة من عام 1914 وحتى عام 1929، مع ظهور عدد من الصناعات الجديدة التي بدأت في تثوير أنماط الاستهلاك – مثل الراديو والحرير الصناعي والكيماويات والطيران وصناعة التبريد واستبدال وسائل الإنتقال التي تجرها الخيول بوسائل تعمل بالمحركات. وكان للازدهار في الولايات المتحدة أثر مفيد في أوروبا. فألمانيا التي أجهدتها الحرب الأهلية في 1919-1920 ثم عانت تضخما لا نظير له في 1923، شهدت آنذاك زيادة في الناتج الصناعي بنسبة 40 بالمئة عن مستوى عام 1914. وتضاعف الناتج الصناعي في فرنسا. وعرضت الصحافة صورة من التفاؤل غير المحدود بشأن الرأسمالية، معلنة "عهدا جديدا" من الازدهار الأبدي. وكان الاقتصاديون من التيار السائد على نفس الدرجة من الثقة. كتب ألفين هانسن أن "أمراض طفولة" الرأسمالية في شبابها "يجري تخفيفها"، بينما قال أبرز الاقتصاديين النيوكلاسيك في أميركا عشية أزمة وول ستريت: "لقد وصلت أسعار الأسهم إلى ما يشبه مستوى مرتفعا بصفة دائمة"، وأخذ ينضح تفاؤلا باستمرار لعدة شهور بعدها، بينما كان جون ماينارد كينز يؤكد لطلابه في بريطانيا "أن أزمة أخرى لن تحدث في حياة جيلنا"(5) الديمقراطيون الاجتماعيون من الماركسيين انضموا إلى الجوقة، مع نظرية هيلفردينج حول "الرأسمالية المنظمة" كنظام اختفت فيه فوضى السوق والميل إلى الأزمة.(6) وفجأة ثبت أنهم جميعا على خطأ.
كان رد الفعل الأول لدى السياسيين من التيار السائد ورفاقهم على الدرب في مهنة علم الاقتصاد هو افتراض أن ما عليهم سوى الانتظار لفترة قصيرة وسوف تبدأ الأزمة في تصحيح نفسها. وقد طمأن رئيس الولايات المتحدة هربرت هوبر الشعب قائلا: "إن الانتعاش قريب جدا." لكن الانتعاش لم يأت في 1930، ولا 1931 ولا 1932. كما أن العقيدة الاقتصادية التي كانت شديدة الثقة لدى مديحها في عجائب الرأسمالية منذ وقت جد قصير عجزت عن توضيح السبب – ومازالت لا تستطيع توضيح السبب حتى اليوم.
وقد بذلت محاولات لتقديم هذا التفسير. وكان أكثرها شيوعا بين أكثر العقائديين في ذلك الوقت هي تلك التي صاغها الاقتصادي الانجليزي بيجو. ووفقا لنظريته، إن العمال وضعوا أسعارا عالية لأنفسهم تدفعهم إلى فقدان وظائفهم بسبب عدم قبولهم تخفيضا في أجورهم النقدية. ولو كانوا قبلوا هذا التخفيض لانتهت جميع المشكلات بتأثير سحر عملية العرض والطلب. وطرح إيرفينج فيشر متأخرا تفسيرا نقدويا، دافعا بأن عرض النقود كان شديد الانخفاض ما أدى إلى تراجع الأسعار وبالتالي زيادة تراكمية في حجم الديون. أما منظرو المدرسة النقدوية الأحدث فإنهم يلقون باللوم على سلوك قادة البنوك المركزية. ويذهبون إلى أنه لو كان بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي تحرك فقط من أجل وقف انكماش عرض النقود في عامي 1930 و 1931 لمضى كل شيء على ما يرام – النقدوي الأبرز في عقود ما بعد الحرب ميلتون فريدمان أرجع أخطاء الأزمة ومدى عمقها إلى وفاة رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي لنيويورك بينجامين سترونج في أكتوبر 1928.(7) وفي المقابل، زعم فريدريك فون هايك ومعه المدرسة "النمساوية" أن الائتمان المفرط في عشرينيات القرن العشرين أدى إلى "خلل في توازن بنية الإنتاج."(8)، الأمر الذي كان سيزداد سوءا بزيادة عرض النقود. علاوة على أن اقتصاديين آخرين ألقوا اللائمة على تفكك الاقتصاد العالمي في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بينما شدد جون ماينارد كينز على تجاوز الادخار حجم الاستثمار الذي أدى إلى نقص "الطلب الفعال" على ناتج الاقتصاد. وأخيرا كان الادعاء الذي مازالت تروجه معظم تعليقات الميديا اليوم بأن زيادة الرسوم الجمركية في الولايات المتحدة بمقتضى قانون سموت-هاولي في صيف عام 1930 أطلقت موجة من السياسات الحمائية لتمنع بذلك انتعاشا كان سيحدث لولا هذه السياسات وإذا سمح لحرية التجارة أن تسود لا يعوقها عائق.
ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن وأنصار كل اتجاه من هذه الاتجاهات يسهل عليهم اكتشاف الثغرات في وجهات نظر أنصار الاتجاهات الأخرى، دون أن يكون أي منها قادرا على الصمود أمام نقد جدي. لذلك يرى رئيس الاحتياطي الفيدرالي الحالي بن برنانكه أن تفسير الكساد الكبير هو الهدف الأسمى المراوغ أبدا في مهنته. غير أنه إذا لم يكن بالإمكان تفسير كساد ثلاثينيات القرن العشرين، لن يكون بالإمكان كذلك إجراء حساب جدي لاحتمالات تكراره في القرن الحادي والعشرين.
إن استخلاص الأسباب الحقيقية للكساد من هذا المزيج من الآراء المتناقضة يتضمن قبل كل شيء النظر إلى ما حدث فعلا خلال عشرينيات القرن العشرين.
لقد شجع النمو الاقتصادي السريع وتزايد وانتشار السلع الاستهلاكية الجديدة على أن يرى الناس تلك الفترة عقدا من الارتفاع المتواصل في مستويات المعيشة والاستثمار الانتاجي الضخم – وهي قصة مازالت مقبولة عادة حتى اليوم. غير أن الأجور في واقع الأمر لم ترتفع إلا بإجمالي 6.1 بالمئة فقط بين عامي 1922 و 1929 (9) (ولم تحدث أي زيادة فيها بعد عام 1925) كما أن قوة العمل في الصناعة ظلت ثابتة بينما توسع الإنتاج الصناعي بحوالي الثلث. ويلاحظ مايكل برنشتاين "أن 93 بالمئة الأفقر من السكان غير الريفيين تعرضوا لانخفاض في متوسط الدخل القابل للإنفاق خلال رخاء أواخر عشرينيات القرن الماضي" (10). إن انخفاض نصيب العمل من الدخل الإجمالي يعني انخفاضا في نسبة الناتج القومي التي يمكن شراؤها بواسطة الأجور. وأن الاقتصاد استطاع أن يستمر في توسعه فقط بسبب أن شيئا آخر كان يملأ فجوة الطلب التي نشأت عن ذلك.
كثير من التحليلات ادعت بأن الاستثمار اضطلع بهذا الدور. ويروي جوردن كيف أن كثيرا من الأدب الحديث يرى "أن الملمح الأكثر وضوحا في عشرينيات القرن الماضي هو الاستثمار الزائد."(11) ويلاحظ هانسن بعد التهذيب في تحليله للأزمة أن "مبلغا هائلا يصل إلى 138 مليار دولار" من "الاستثمارات" قد "قاد الاستهلاك" خلال عشرينيات القرن الماضي، غير أن نصف هذا المبلغ فحسب كان استثمارا للشركات، واقتصرت الاستثمارات الجديدة على ثلث المبلغ فقط، أي 3 مليارات دولار فقط في السنة.(12) بمعنى آخر، أن وراء مظهر التوسع السريع للاستثمار، شهد الواقع على مستوى منخفض نسبيا في التراكم الإنتاجي رغم القوة الدافعة التي وفرتها الصناعات الجديدة. وقد أكدت على ذلك تحليلات أخرى كتبها سيمون كوزنتس(13) وجوزيف شتايندل(14) وجيلمان.(15)
نتيجة واحدة فقط نستطيع استخلاصها من هذه الأرقام، هي أن الرخاء ما كان له أن يحدث إذا اعتمد فحسب على الطلب على السلع الناتج عن الأجور والاستثمار الإنتاجي. وأن عاملا ثالثا لابد أنه كان حاضرا حتى يمنع تكدس البضائع غير المباعة والركود في منتصف عشرينيات القرن الماضي. وكما أقر هانسن "إن قوى التحفيز والدعم من خارج استثمار الشركات والاستهلاك كانت حاضرة… وإذا نحينا هذه المحفزات، لكان إنفاق الشركات بلغ حجما أكثر تقشفا، ليترك الاقتصاد راكدا إن لم يكن كاسدا."(16)
هانسن، كأحد الاقتصاديين من التيار السائد، حتى وإن أصبح الآن ناقدا له، اعتبر هذه القوى "نفقات رأسمالية غير اقتصادية (بنايات سكنية وإنشاءات عامة)" و"الأهمية المتزايدة للسلع الاستهلاكية المعمرة الممولة إلى حد كبير بواسطة نمو سنوي في أقساط الائتمان بواقع مليار دولار" و"الإقراض الخارجي غير المسئول نوعا ما."(17) 
ويشدد تحليل ماركسي كلاسيكي للأزمة قام به لويس كوري على نمو الاستهلاك الترفي، والإنفاق غير الإنتاجي والائتمان. وحسب قوله، كان عقد العشرينيات من القرن الماضي عقدا ارتفعت فيه الدخول من عوائد الأسهم ورواتب الإدارة بوتيرة أسرع عدة مرات من الأجور الحقيقية،(18) حتى كانت "البرجوازية" (بما فيها البرجوازية الصغيرة غير الريفية) مسئولة عن 40 بالمئة من الاستهلاك.(19) ثم كان تزايد الإنفاق على الإعلان وترويج المبيعات حيث كانت الشركات تبحث عن أسواق للعدد المتنامي من البضائع التي كانت تنتجها – هذا الإنفاق الذي اتخذ شكل دخول للعاملين في مجال تسويق المبيعات في هذه القطاعات نفسها استطاع من ثم أن يصنع سوقا لبعض البضائع التي كانت الشركات تحاول بيعها. وجاء تضاعف الإقراض الاستهلاكي(20) ليمكن الطبقة الوسطى وبعض شرائح العمال أن تشتري "بالتقسيط" بعضا من السلع الاستهلاكية الجديدة، حيث بلغت مبيعات السيارات مستوى في عام 1929 لم تصل إليه مرة أخرى حتى عام 1953. وأخيرا كانت الطفرات في استثمارات المضاربة غير الإنتاجية في العقارات والبورصة. هذه الأنشطة لا تستطيع أن تخلق فائض قيمة جديدا ولا أن تحل مشكلة الربحية (فلا تتضمن سوى انتقال الأموال من جيب أحد الرأسماليين إلى جيب آخر). ولكن ما نتج عنها هو إنفاق غير إنتاجي على بنايات جديدة، ورواتب جديدة للمديرين، واستهلاك مظهري باذخ، ابتلع كله بعض البضائع التي كانت تضخها الصناعة، ما شجع على المزيد من المضاربة:
"أصبح رأس المال فائق الوفرة جريئا ومغامرا أكثر فأكثر في سعيه وراء الاستثمار والربح، متدفقا في المضاربات والمؤسسات عالية المخاطرة. وركزت المضاربة اهتمامها على التغيرات التقنية والصناعات الجديدة التي أدخلت بصرف النظر عن متطلبات الصناعة ككل…"(21)
ارتفع الإنفاق على الإنشاءات الجديدة غير السكنية بما يزيد على النصف على مدى عشر سنوات، وكان "أكثر كثافة في الأحياء التجارية المركزية في المدن". وكان ذلك ملحوظا بدرجة أكبر في نيويورك، حيث بدأ العمل في أعلى مبنى في العالم، مبنى إمباير ستيت (Empire State Building)، في عام 1929 – والذي اشتهر رغم ذلك بحلول عام 1931 باسم "مبنى الولاية الخاوية" (Empty State Building).(22)
وبينما كان اقتصاد الولايات المتحدة يزدهر، كان هناك كذلك دفعة للتوسع الاقتصادي في أوروبا مع تدفق أموال أمريكية استطاعت أن تعوض بعض الدمار الذي سببته الحرب – كان تأثير خطة داوز الأمريكية في 1924 ذا أهمية ملحوظة في تشجيع القروض لألمانيا.
هذه العوامل كانت تفقد قدرتها فعلا على مساندة الانتعاش في الصناعة قبل أزمة وول ستريت. فقد ظهرت بوادر الركود في عام 1927، لكن طفرة خاطفة من الاستثمار في الصناعة الثقيلة وقطاع السيارات في عام 1928-1929 جرت وراءها بقية الاقتصاد نحو الأمام.(23) ثم في أواخر ربيع وأوائل صيف عام 1929، انتهت هذه الطفرة نهاية مفاجئة بانخفاض حاد في الاستثمار الثابت(24) وفي إنتاج السيارات.(25) واختفت المشكلات الأساسية حتى اللحظة الأخيرة بفعل توسع الائتمان وحجم المضاربة التي دعمت الإنفاق غير الإنتاجي. ولكن ما أن حدث قطع واحد صغير في سلسلة الاقتراض والإقراض التي حافظت على هذا الإنفاق حتى كان محتوما أن ينهار هذا الصرح بكامله. وما كان تعليق ماركس على الأزمات ليصبح أكثر صوابا:
"إن مظهر النشاط وافر القوة مع تدفق الإيرادات في سلاسة يمكن أن يستمر بسهولة لفترة طويلة حتى بعد أن يكون مصدر هذه الإيرادات جزئيا على حساب المخدوعين ممن يقرضون النقود وجزئيا على حساب المخدوعين من المنتجين. وهكذا، يبدو نشاط الأعمال دائما تقريبا مفرطا في قوته حتى عشية الأزمة. ويكون نشاط الأعمال دائما في منتهى القوة حتى يحدث الانهيار فجأة."(26)
لقد عجل الركود من الانكماش المفاجئ في أنشطة المضاربة والإنفاق غير الإنتاجي، وبذلك قلص أكثر فأكثر سوق المنتجات الصناعية، وفي مواجهة تدهور المبيعات، كان الصناعيون يبدأون فعلا في الاقتراض من البنوك بدلا من إقراضها. وأصبح أولئك الذين انخرطوا في الرخاء القائم على المضاربة (شاملا كلا من الصناعيين والبنوك) يحاولون الاقتراض أكثر من أجل تغطية خسائرهم بعد الأزمة، غير أن الاقتراض أضحى شديد الصعوبة. ومن لم يستطع الاقتراض منهم سقط في الإفلاس، متسببا في مزيد من الخسائر لمن قاموا بإقراضهم من قبل. وانتشرت الأزمة من قطاع اقتصادي إلى قطاع آخر.   
وما أن بدأ الإنهيار حتى بدا أنه بلا نهاية. وأدى تدهور الصناعة إلى ضغوط على البنوك، التي ساهمت بدورها في تعميق تدهور الصناعة وزيادة الضغوط على البنوك. غير أن ذلك لم يؤد إلا إلى تفاقم اختلال التوازن بين القدرة الإنتاجية والطلب الاستهلاكي، مما زاد من احتدام الأزمة في قطاع الصناعة. ومع محاولة الشركات الحفاظ على المبيعات عبر التنافس في تخفيض الأسعار، تراجعت الأرباح في كل مجال ومعها استعداد حتى الشركات التي نجت للاستثمار. وخفض الإنفاق غير الإنتاجي الذي ساهم في تنشيط الرخاء خفضا مباشرا مع محاولة الشركات الحفاظ على أموالها بينما الكساد يزداد عمقا.     
لم يكن الوضع في أوروبا أفضل بأي حال، حيث كان الركود فعلا يمضي قدما عندما وقعت صدمة وول ستريت. وكانت الأوضاع أسوأ في ألمانيا من غيرها، وهي ثانية أكبر اقتصاد صناعي في العالم، التي بدأت تشهد تدهورا اقتصاديا في عام 1928.(27) "بحلول صيف عام 1929، كان وجود الأزمة لا تخطئه عين،"(28) حيث بلغت البطالة 1.9 مليون وأطلق الانهيار المدوي لشركة فرانكفورت للتأمين سلسلة من حالات الإفلاس.
وأثرت مشكلات كل بلد من البلدان على مشكلات الأخرى. كانت ألمانيا فعلا تشهد تدفقا للخارج في بعض الأرصدة الأمريكية التي ارتبطت بخطة داوز (Dawes plan) قبل اندلاع الأزمة. وتحول هذا التدفق للخارج سيلا جارفا مع استدعاء المؤسسات الأمريكية التي ضربتها الصدمة قروضها قصيرة الأجل من ألمانيا، ما تسبب في مشكلات للصناعيين الألمان الذين كانوا يعتمدون عليها في تمويل صناعاتهم التي تعاني من طاقة إنتاجية زائدة. وأفلس أكبر بنوك النمسا، بنك كريديت أنشتالت، في مايو 1931. وتأثرت بريطانيا بانسحاب الأرصدة الأجنبية من بنوكها وانفصلت عن النظام المالي العالمي القائم على قاعدة الذهب. وهذا بدوره تسبب في مخاوف مبالغ فيها جدا في الولايات المتحدة حيث قام بنك الاحتياطي الفيدرالي بزيادة أسعار الفائدة، و"كانت هناك زيادة مذهلة في حالات انهيار البنوك"(29) كما تدهور الإنتاج الصناعي أكثر فأكثر.
إن تأثير انتشار الأزمة جعل من السهل على الناس أن يخلطوا بين الأسباب والنتائج. ومن هنا تأتي التفسيرات المتناقضة من قبل اقتصاديي التيار السائد، مع إلقاء بعضهم اللوم على الكثرة الشديدة في عرض النقود، وبعضهم على الندرة الشديدة في عرضها؛ بعضهم يلوم تدخلات البنوك المركزية، وبعضهم امتناعها عن التدخل؛ بعضهم يلقي اللوم على الإفراط في الاستهلاك، وبعضهم على انخفاض شديد في الاستهلاك؛ بعضهم يلوم قاعدة الذهب، وآخرون تحول الدول إلى سياسات حمائية والتنافس في تخفيض قيمة العملة؛ بعضهم يلقى اللوم على سرعة نمو الاستثمار، والآخر على بطئه؛ بعضهم يلوم تخفيض الأجور، والآخر على "جمودها" في اتجاه الانخفاض؛ بعضهم يلوم ضخامة حجم المديونية، والآخر يوجه اللوم إلى رفض البنوك تقديم القروض.(30)
ومع ذلك، وسط هذه التفسيرات المتناقضة كانت هناك لمحة جزئية بين الحين والآخر أن شيئا جوهريا كان يلحق الدمار بالنظام الذي ينحاز له جميع اقتصاديي التيار السائد وساسته. اثنان من الاقتصاديين يعتقد عادة أنهما يمثلان قطبي اتجاهين متعارضين، هما كينز وهايك، عثرا في نفس العنصر، لكن بطريقة لم تدفعهما ولم تدفع مريديهما لأن يأخذوه بجدية.
إن الفكرة الأساسية التي تتخلل كتاب كينز النظرية العامة للتوظف والفائدة والنقود هي أن الادخار قد يتجاوز الاستثمار، بما يفتح فجوة تضعف الطلب الفعال على السلع، وبالتالي تقلص الإنتاج حتى يعمل تراجع مستوى النشاط الاقتصادي على خفض الادخار إلى مستوى الاستثمار. وجادل بأن التغلب على ذلك ممكن عبر تخفيض سعر الفائدة (إجراءات سياسة نقدية) وضخ مزيد من النقود في أيادي الناس عبر تخفيض الضرائب وزيادة الإنفاق الحكومي (إجراءات سياسة مالية). غير أنه أقر بأن هذه الإجراءات قد لا تجدي نفعا، لأن الناس والشركات ربما يستمرون في قرار الادخار بدلا من الإنفاق. وعلى وجه الخصوص، كان كينز "متشككا نوعا ما في نجاح السياسة النقدية وحدها التي تتجه نحو التأثير على أسعار الفائدة."(31) وقد اشتهر بشرح مواطن الضعف في استثمار سيكولوجية القطيع عند المضاربين – "عندما تصبح التنمية الرأسمالية في أحد البلدان نتاجا ثانويا لأنشطة أندية القمار فمن الأرجح أن تنجز المهمة على نحو رديء"(32) – وفي الرهان على "روح الحيوية والنشاط" المتدهورة عند المنظمين.(33) ولكنه أورد عاملا آخر في نقاط معينة في نص الكتاب. فقد رأى أن عملية توسع الاستثمار الرأسمالي نفسها أدت إلى تدهور العائد عليه – "الكفاية الحدية" – وبالتالي إضعاف الحافز على الاستثمار الجديد.(34)
كان كينز يعتقد أن تدهور "الكفاية الحدية لرأس المال" حقيقة إمبيريقية نستطيع اكتشافها، مثلا، في "تجربة بريطانيا العظمى والولايات المتحدة" في فترة ما بين الحربين. ونتيجة ذلك أن العائد على رأس المال لم يكن أكبر من تكلفة اقتراض رواد الأعمال بما يكفي لتشجيع الاستثمار الجديد، وبالتالي يميل إلى "التدخل… عبر مستوى معقول من التشغيل ومستوى من الحياة تكون الشروط التقنية للإنتاج قادرة على توفيره."(35)
وهي يرى اتجاها طويل الأجل، وأثرا قصير الأجل، يحول الرخاء إلى أزمة في كل دورة اقتصادية:
"إن جوهر الموقف يكمن في تدهور الكفاية الحدية لرأس المال، وخاصة… لتلك الأنواع من رأس المال التي ساهمت بالقدر الأكبر في المرحلة السابقة من الاستثمار الجديد الكثيف."(36)
تفسير كينز لهذا الأمر تأسس على مدخله "الحدي" الشامل، بتبنيه فكرة أن القيمة تعتمد على العرض والطلب. فمع زيادة عرض رأس المال سوف تنخفض ندرته، وتنخفض القيمة التي يحصل عليها من يستخدم كل وحدة إضافية منه حتى تبلغ صفرا في النهاية.(37) ويبدو أن هذا المنطق النظري ظل غامضا جدا بالنسبة لمعظم أتباع كينز. ففكرة "تدهور الكفاية الحدية لرأس المال" لا تكاد تظهر في معظم التحليلات التي كتبت عن أفكاره. مع أنها وحدها أكثر المفاهيم راديكالية في كتاباته. حيث تتضمن أن العراقيل التي تواجه التوظف الكامل تكمن في اتجاه بنيوي في النظام القائم لا في سيكولوجية الرأسماليين فحسب. وإذا كان الأمر كذلك، فيبدو أنه لا معنى في مجرد محاولة الحكومات "استعادة الثقة"، لأنه لا يوجد ما تستعيد فيه الثقة.
صرح هايك بشكل عابر بنفس الفكرة عما كان يحدث للأرباح رغم اختلاف منطقه. فقد زعم أن الأزمات الدورية تنتج عن اختلال التوازن بين مختلف قطاعات الإنتاج – حيث يتسبب "الإفراط في الائتمان" في زيادة سرعة النمو في إنتاج السلع الإنتاجية مقارنة بالنمو في إنتاج السلع الإستهلاكية.(38) وبهذه الطريقة، كما كان يعتقد، استطاع أن يفسر الدورة الاقتصادية كوسيلة حتمية تتوازن عبرها مختلف القطاعات مع بعضها الآخر، بما يشبه كثيرا اعتبار ماركس أن الأزمات تستطيع جزئيا أن تحل التناقضات الداخلية في الرأسمالية – لكن ما كان يراه ماركس سلبيا، كان هايك يراه إيجابيا. ورغم ذلك تنطوي نظريته على ثغرة كبيرة. لماذا ينبغي أن يسبب التأخر بين القطاعات عددا بهذا القدر من المشكلات أكثر من عقود سابقة؟ ولماذا، على وجه الخصوص، لا ينبغي أن يستمر قطاع السلع الإنتاجية في النمو بسرعة كافية ليجر وراءه بقية الاقتصاد؟ وكانت إجابته التي طرحها بشكل عابر في عام 1935 (والتي لم يحدث أبدا أن تضمنتها العقيدة الهايكية) هي أن الربحية انخفضت مع توسع ما أطلق عليه "عمليات الإنتاج غير المباشرة" (The roundabout  processes of production) – أي العمليات التي تتضمن ارتفاع معدل وسائل الإنتاج إلى العمال، أو ما ربما يطلق عليه ماركس "زيادة التركيب العضوي لرأس المال":
"واضح أنه لابد أن يوجد هامش (للربح) … وإن لم يوجد هذا الهامش، فلن يوجد أي حافز للمخاطرة بالأموال عبر استثمارها في الإنتاج بدلا من تركها خاملة… وهذا الهامش لابد أن يصبح أقل كلما طال امتداد عمليات الإنتاج غير المباشرة…"(39).
بمعنى آخر، أدرك كل من كينز وهايك، رغم أنهما لم يتمكنا من شرح ذلك بوضوح، تلك السمة التي تعد مركزية في نظرية ماركس حول الأزمة الرأسمالية – أي الضغوط باتجاه انخفاض معدل الربح.
وفي واقع الأمر، تستطيع النظرية الماركسية تقديم تفسير للأزمة يتفادى تناقضات جميع نظريات التيار السائد. لقد انخفضت معدلات الربح في الولايات المتحدة بنسبة 40 بالمئة تقريبا بين ثمانينيات القرن التاسع عشر وأوائل عشرينيات القرن العشرين،(40) "وكانت هذه المعدلات في تدهور فعلا في بريطانيا قبل عام 1914،"(41) أما معدلات الربح في ألمانيا فقد عجزت "عن العودة إلى مستواها الطبيعي في فترة ما قبل الحرب".(42) ويمكن تتبع هذا التدهور في معدلات الربح إلى الزيادة طويلة الأجل في معدل الاستثمار إلى قوة العمل المستخدمة (أي التركيب العضوي لرأس المال)، والتي بلغت حوالي 20 بالمئة في حالة الولايات المتحدة.(43) وقد استطاعت معدلات الربحية الأمريكية أن تحقق انتعاشا ضعيفا في حقبة عشرينيات القرن العشرين اعتمادا على زيادة في معدل الاستغلال. لكن هذا الانتعاش لم يكن كافيا لتحفيز الاستثمار الإنتاجي بالقدر الضروري لاستيعاب فائض القيمة المتراكم من دورات سابقة للإنتاج والاستغلال. وكانت الشركات ممزقة بين الضغوط التنافسية التي تدفعها للاضطلاع بالاستثمار في مجمعات ضخمة من المصانع والمعدات الجديدة (مجمع شركة فورد River Rouge Plant لصناعة السيارات الذي اكتمل بناؤه في عام 1928، كان الأكبر في العالم) وبين الخوف من أن أي مصانع جديدة لن تكون مربحة. ربما أن بعضهم أقدم على المخاطرة ولكن كثيرا منهم لم يفعل. معنى ذلك أن المصانع الجديدة الكبيرة التي بدأت عملها بحلول نهاية فترة الرخاء ضخت بالضرورة إنتاجا كبيرا جدا في الأسواق، وأغرقتها بمنتجات قللت كثيرا أسعار وأرباح المصانع القديمة. وتوقفت الاستثمارات الجديدة ما أدى إلى انخفاض التوظيف والاستهلاك لتزداد الأزمة سوءا.
إن التوسع الذاتي الأعمى لرأس المال أدى إلى زيادة مستمرة على الدوام في تراكم رأس المال الثابت مقارنة مع العمل الحي. وقد عبر ذلك عن نفسه من ناحية في معدل للربح أقل كثيرا من مستواه في ربع قرن سابق، ومن ناحية أخرى في تخفيض أصحاب العمل أجور العمال وبالتالي تدهور جزء من الناتج كانت تستطيع القوة الشرائية للعمال استيعابه. كان "فائض الإنتاج" وانخفاض معدل الربح وجهين لنفس العملية التي كانت تدفع النظام إلى الأزمة في نهاية المطاف. استطاعت الطفرة في الائتمان والإنفاق غير الإنتاجي أن تؤجل الأزمة فقط، لكنها لا تفعل أكثر من ذلك. وقد تهيأ المسرح لأزمة عميقة – لم تكن تحتاج إلا إلى موجات الفزع في بورصة الأوراق المالية والقطاعات المالية حتى تحدث.
من هذه الجوانب، كانت الأزمة شبيهة جدا بتلك الأزمات التي وصفها ماركس في فقرات كان يحلل فيها أزمات عامي 1846 و1857 في بريطانيا.(44) كما أنها أيضا تتفق مع تفسير جروسمان لنظرية ماركس، بتأكيده على كيفية اندفاع الشركات إلى القيام باستثمارات جديدة تهدد بأن تدفع معدل الربح المنخفض فعلا إلى التراجع إلى الحد الذي يصبح عنده كثير من الاستثمارات الجديدة غير مربحة ما يتسبب في أن يتوقف الاستثمار كله توقفا تاما.(45)
غير أن أمرا آخر مازال ينبغي تفسيره – هو لماذا يبدو أن آليات السوق التلقائية لم تعد تقوم بعملها، وقد كانت دائما قادرة فيما مضى على انتشال الاقتصاد من الأزمة في النهاية. فبعد ثلاثة أعوام من بداية الأزمة، كان الإنتاج الصناعي في الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا في تدهور مستمر. وحتى نفسر ذلك، لا يكفي أن ننظر فقط إلى ميل معدل الربح نحو الانخفاض. فالاتجاه الآخر طويل الأجل في تحليل ماركس – أي الاتجاه نحو تركيز وتمركز رأس المال مع كهولة النظام – لعب أيضا دوره كما أشرنا في الفصل الثالث. 
في البداية، أخر هذا الاتجاه انفجار الأزمة. ، لدى محاولته تحليل الأزمة في عام 1931، قال الاقتصادي البلشفي بريوبراجنسكي إن تغيرا كبيرا قد جرى منذ عصر ماركس. فكانت أزمات الركود آنذاك تؤدي إلى القضاء على الشركات عديمة الكفاءة وتسمح للشركات المتبقية بالدخول في دورات جديدة للتراكم. لكن النظام حاليا تهيمن عليه شركات كبيرة شبه احتكارية لديها القدرة على منع تصفية مصانعها التي تتسم بعدم الكفاءة. وهذه الشركات تبذل قصارى جهدها حتى تحافظ على سلامة أعمالها، حتى وإن كان ذلك يعني أن تعمل مصانعها بنسبة ضئيلة فقط من طاقتها المعتادة وتخفيض الاستثمار إلى الحدود الدنيا. وهو ما ينتج عنه "تجلط في مسار الانتقال من الأزمة إلى الركود" ويمنع – أو على الأقل يؤخر- عملية إعادة الهيكلة اللازمة للخروج من الأزمة: "يبرز الاحتكار كعامل من عوامل التحلل في الاقتصاد بأكمله. وتؤخر نتائجه عملية الانتقال إلى إعادة الإنتاج الموسع."(46)
ما أن اندلعت الأزمة، حتى كان حجم فرادى رؤوس الأموال الصناعية والمالية وحده من الضخامة حتى أن انهيار أي منها يهدد بأن يجر الأخرى إلى الانهيار معها. فالبنوك سوف تخسر الأموال التي قامت بإقراضها، وبالتالي تقوم بتخفيض الائتمان لشركات أخرى. وموردو هذه الشركات سوف يدفعون إلى خارج النشاط مما يضر بشركات أخرى كانت تعتمد عليهم. ويؤدي توقف إنفاقها على الاستثمار والأجور إلى انخفاض الطلب في الاقتصاد ككل. وتصبح الأزمة المؤجلة الآن أكثر ضخامة بكثير بحيث لا يمكن أن تحل نفسها تلقائيا. ويكون رد رؤوس الأموال الكبيرة أن تتجه إلى الدولة من أجل "إنقاذها" حتى تحافظ على استمرار النظام.
التحول إلى رأسمالية الدولة
في البداية استمرت الحكومات في أن تضع آمالها على انطلاق عمل آليات السوق بلا عائق، وتدخلت فقط بإجراءات محدودة لحماية بعض البنوك. ولكن الأزمة استمرت في التفاقم، خاصة في الولايات المتحدة وألمانيا. ووقعت أضرار هائلة على رأس المال نفسه في سعيه إلى العمل عند ما يزيد قليلا على نصف معدلات الإنتاج السابقة. في نفس الوقت كان اليأس يدفع جمهرة الناس إلى البحث عن علاج قد يقلب المجتمع بكامله. وبدأت قطاعات رئيسية من رأس المال تبحث عن مدخل ربما يحل مشكلاتها، مهما بلغ في قطعه مع الشعارات الأيديولوجية القديمة. وبحلول صيف عام 1932، كان رئيس شركة جنرال إليكتريك في الولايات المتحدة يقود حملة من أجل تدخل الدولة. وكان التحول الذي حدث في النهاية من أشكال الرأسمالية الاحتكارية التي كانت فيها الدولة في خلفية المشهد وتقدم خدماتها لرؤوس الأموال الكبيرة مع الالتزام بالابتعاد عن محاولة إدارتها إلى أشكال تحاول فيها الدولة أن تكفل القدرة التنافسية لرؤوس الأموال الوطنية في السوق العالمية. وبلغ الأمر أن شمل إعادة الهيكلة العمدية للصناعة عبر تحويل فائض القيمة من قطاع من الاقتصاد إلى آخر.
عندما استحوذت الدولة على سلطات وحشية لإجبار رؤوس الأموال الفردية على تركيز جهودها على الصراع العسكري في المراحل المتأخرة من الحرب العالمية الأولى، كان ذلك يؤذن بهذا التحول. غير أن الدولة في أعقاب الحرب تخلت عن السلطات التي كانت اكتسبتها. والآن دفعت ضخامة الأزمة وحدها إلى إعادة التفكير في الأمر. فالأزمات السياسية في الولايات المتحدة وألمانيا جاءت إلى السلطة بحكومات في أوائل 1933 مستعدة لإجراء تغيير جذري من أجل حماية الرأسمالية من نفسها.
في الولايات المتحدة، اتخذ هذا التغيير شكل الاتفاق الجديد (The New Deal) بقيادة روزفلت. وقام على توسيع برامج الأشغال العامة القائمة فعلا من أجل امتصاص جزء من البطالة، وضمان الأرصدة في البنوك التي لم تهوي إلى الإفلاس، وتشجيع التنظيم الذاتي للصناعة عبر التكتلات الاحتكارية، وتدمير المحاصيل من أجل زيادة أسعار الحاصلات الزراعية ودخولها، والاضطلاع بتجارب محدودة جدا لقيام الدولة بالإنتاج مباشرة، وكذلك تسهيل مساعي النقابات قليلا إلى زيادة الأجور (وبالتالي زيادة الطلب على السلع الاستهلاكية). إنفاق الحكومة الفيدرالية، الذي كان يدور حول 2.5 بالمئة فقط من إجمالي الناتج المحلي عام 1929، بلغ ذروة في أوقات السلم تزيد على 9 بالمئة في عام 1936. وكان ذلك اعترافا بأن الرأسمالية في مرحلتها الاحتكارية لم تعد تستطيع حل مشكلاتها دون تدخل محدود من الدولة. ومع ذلك فقد ظل تدخلا محدودا: فإنفاق الحكومة الفيدرالية تراجع مرة أخرى في عام 1937.
هذه السياسة الخجولة ما كان لها إلا أن تحدث أثرا محدودا على الأزمة. فكل الجهود التي انطوت عليها سياسة "الاتفاق الجديد" لم تستطع دفع الانتعاش الذي بدأ في ربيع عام 1933 أعلى من نقطة معينة. انخفض عدد العاطلين عن العمل بمقدار 1.7 مليون شخص – ولكن ظل 12 مليونا بلا عمل. ولم يحدث حتى عام 1937 – أي بعد ثمان سنوات من بداية الأزمة – أن وصل حجم الإنتاج إلى أرقام عام 1929. ولكن حتى آنذاك استمر الاستثمار الثابت في الصناعة منخفضا(47) وكانت نسبة البطالة عند مستوى 14.3 بالمئة. غير أن هذا "الرخاء المحدود" مهد الطريق في أغسطس عام 1937 إلى "انهيار اقتصادي هو الأكثر حدة في تاريخ الولايات المتحدة" التي "فقدت نصف ما تحقق على كثير من المؤشرات منذ عام 1932."(48)
لقد كشفت عشرينيات القرن العشرين أن الإنفاق غير الإنتاجي الذي ارتبط برأس المال الاحتكاري (مثل نفقات التسويق، والإعلان، ومشروعات المضاربة، والاستهلاك الترفي) يمكن أن يؤخر وقوع الأزمة ولكن لا يوقف أثرها النهائي بل يجعل تأثيرها أعنف مما كان في السابق. وكشفت ثلاثينيات نفس القرن أن "الإنفاق الحكومي" لتنشيط الاقتصاد قد ينتج عنه انتعاش محدود قصير الأمد في الإنتاج، ولكنه أيضا لا يستطيع أن يمنح النظام فرصة جديدة للحياة. وكان ضروريا أن يحدث تغيير أكثر عمقا في اتجاه رأسمالية الدولة.
من الأزمة إلى الحرب
وهنا كان للنموذجين الألماني والياباني أهميتهما. فقد قبلت القطاعات الرئيسية في الطبقة الحاكمة لديهما بدائل سياسية أخضعت الرأسماليين الأفراد إلى برامج للتراكم الرأسمالي الوطني فرضتها الدولة فيما كانت تقمع حركة الطبقة العاملة. بقيت المجموعات الرأسمالية الرئيسية دون مساس، ولكن جرى إخضاعها من الآن فصاعدا لاحتياجات التوجه نحو التسلح الذي أيدته هي نفسها. ودفع إنتاج السلاح والتوسع في الصناعة الثقيلة الاقتصاد كله إلى الأمام، بتوفير الأسواق وفرص الاستثمار، وبينما تأخر نمو الأجور استعيدت جزئيا معدلات الزيادة في الإنتاج والأرباح.
في ألمانيا، نجحت هذه الوسائل في انتشال الاقتصاد مباشرة من الأزمة (وذلك بعد عامين من سياسة "الإنفاق الحكومي" قليلة الفاعلية) وحافظت على رخائه بينما كان الاقتصاد الأمريكي يعود إلى الأزمة في عام 1937. وبحلول عام 1939، قفز الإنتاج بنسبة 30 بالمئة أعلى من مستوى عام 1929، وانخفض عدد العاطلين من ستة ملايين إلى 70 ألفا، مع توفير ثمانية ملايين فرصة عمل جديدة.(49) اتجه معظم الإنتاج الجديد إلى السلاح وكذلك الصناعات الثقيلة التي توفر الاستعداد العسكري، لكن عشر الزيادة في الإنتاج اتجه فعلا إلى زيادة الاستهلاك الخاص.(50) كما أن التوسع الاقتصادي نفسه ساهم بنسبة كبيرة في تحمل تكاليف تغذية الرخاء، مع انخفاض التمويل بالعجز في تغطية الإنفاق الحكومي إلى خمس قيمة هذا الإنفاق فقط. ومن الناحية الفعلية، كانت الديكتاتورية النازية قادرة على ضمان قيام استثمارات جديدة، حتى عندما كانت معدلات الربح منخفضة في البداية.
غير أن أي سياسة من هذا النوع كان بها مشكلات خطيرة، فلم تكن ألمانيا وحدة اقتصادية مستقلة ومكتفية بذاتها، وكانت قوى الإنتاج عالميا قد تطورت منذ وقت طويل إلى درجة عبرت بها الحدود الوطنية، وظهرت حاجة مستمرة في تزايدها لواردات استراتيجية معينة مع انطلاق موجة الرخاء القائمة على التسلح. وكانت الطريقة الوحيدة للتغلب على ذلك مع الحفاظ على الاقتصاد الألماني مستقلا ومكتفيا ذاتيا، وبالتالي محصنا ضد الضغوط الركودية العالمية، هي توسيع حدود الرايخ الألماني حتى يضم إليه اقتصادات مجاورة ويخضع صناعاتها لحاجات اندفاع ألمانيا العسكري.
إن منطق الرأسمالية الاحتكارية التي توجهها الدولة أدى إلى ضرب من الإمبريالية كان لينين قد أشار إليه في عام 1916 – أي الاستيلاء على "مناطق عالية التصنيع"(51). وأدى هذا التوسع عند تجاوز نقطة معينة إلى صدام حتمي مع قوى عظمى أخرى كانت تخشى تهديد امبراطورياتها الخاصة ومناطق نفوذها. ومع ردها بتعزيز وبناء قواتها المسلحة الخاصة، كان على نظامي ألمانيا واليابان بدورهما أن يوجها المزيد من قدراتهما الاقتصادية نحو السلاح – وأن يتمددا لاقتناص أراض جديدة – من أجل الدفاع عن الأراضي التي استحوذا عليها فعلا. وقد وفر ذلك للرأسماليين في البلدين مصادر جديدة لفائض القيمة لتعويض أي ضغوط هبوطية على معدلات الربح. غير أنه في نفس الوقت زاد من عداء الإمبراطوريات القائمة – ما أدى إلى ظهور حاجة لقدرات تسليح أكبر مع المزيد من المغامرات العسكرية. وكانت النقطة الفاصلة هي استيلاء الألمان على غرب بولندا والهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر.(52)
وكما أن الأزمة في كل بلد رأسمالي كبير ساهمت في تغذية تطور الأزمات في بلاد أخرى، كذلك فعل مسار الخروج من الأزمة عبر رأسمالية الدولة العسكرية.
لم تستطع الامبريالية البريطانية والامبريالية الأمريكية أن تدافعا عن مواقعهما الخاصة في العالم بعد سقوط فرنسا في عام 1940 وواقعة بيرل هاربر في 1941 إلا عبر الانتقال من رأسمالية لا توجهها الدولة بصورة كاملة في منتصف الثلاثينيات إلى عسكرة كاملة لاقتصاديهما. وقد تولت الدولة البريطانية مسئولية جميع القرارات الاقتصادية الهامة، لتحديد أي الصناعات ينبغي أن تحصل على المواد الأولية وتقنين الغذاء والسلع الاستهلاكية، مع اختزال الاقتصاد المدني إلى مجرد ملحق تابع لاقتصاد الحرب المنظم مركزيا. حكومة الولايات المتحدة "لم تسيطر فحسب على قطاع إنتاج السلاح في الاقتصاد، والذي كان يمثل نحو نصف الإنتاج الإجمالي من السلع، بل كانت الدولة تقرر أي السلع الاستهلاكية ينبغي إنتاجها وأيها لا يجب إنتاجه."(53) وقد أنفقت مبالغ هائلة في بناء مصانع للسلاح وقامت بتسليمها للشركات الخاصة لإدارتها. وكان إنفاق الحكومة الرأسمالي في عام 1941 يزيد بنسبة 50 بالمئة عن كامل الاستثمار الصناعي في البلاد في عام 1939، وفي عام 1943 كانت الدول تتولى مسئولية 90 بالمئة من إجمالي الاستثمار.(54) ومرة أخرى، بدا أن اقتصادا معسكرا تحت هيمنة الدولة يقدم حلولا للمشكلات التي واجهت الاقتصاد قبل الحرب. عدد العاطلين الذي بلغ تسعة ملايين أصبح أقل من مليون واحد خلال ثلاثة أعوام، كما شهد الاقتصاد المدني نموا رغم الإنفاق الهائل على القطاع غير الإنتاجي. وتضاعف إجمالي الناتج خلال الفترة بين عامي 1940 و1943، كما تجاوز الإنفاق الاستهلاكي في عام 1943 مستوى السنوات السابقة حتى عند قياسه بأسعار عام 1940(55). واستطاع اقتصاد الحرب أن يحقق ما عجزت عن تحقيقه ثمان سنوات من سياسة الاتفاق الجديد – أي التوظف الكامل للطاقة الإنتاجية لدى كبرى الرأسماليات الناضجة. وكما يلاحظ كينيث جالبريث "إن الكساد الكبير في عقد الثلاثينيات لم يبلغ نهايته أبدا. بل إنه اختفى فحسب في التعبئة الكبيرة في عقد الأربعينيات."(56)
البديل الروسي
في اقتصاد آخر كبير بدا أن إدارة الدولة تقدم بديلا عن الدمار في دوامة النظام العالمي. وكان ذلك في الاتحاد السوفييتي. وفي عقد الثلاثينيات من القرن العشرين، كان كل المعلقين تقريبا يرون أن الاتحاد السوفييتي يقوم على مبادئ مختلفة جذريا عن مبادئ الرأسمالية الغربية – وقد استمرت هذه النظرة وثابرت بين كثيرين حتى وقت انفجاره في عام 1989-1991. وقد دمغه اليمين ببساطة بتعريف "النظام الشمولي"، كما لو كان اقتصاده بلا أي قوة محركة، وكثير من اليسار تبنوا نظرة انعكاسية صورية وتحدثوا عن النظام باعتباره "شيوعيا" أو "اشتراكيا"، أو أولئك ممن اتخذوا موقفا نقديا أكثر واعتبروه "مابعد رأسمالي"(57) أو "دولة عمالية منحطة"(58). وافترضت جميع هذه المقاربات المختلفة درجة عالية من الاستمرارية بين النظام السوفييتي كما كان يسير في ثلاثينيات القرن العشرين وبين الدولة الثورية التي تأسست في عام 1917. 
غير أن الآليات المركزية التي كانت توجه الاقتصاد السوفييتي لم تؤسس خلال الثورة، وإنما في عام 1928-1929 تحت تأثير أزمة سياسية واقتصادية عميقة. بحلول ذلك العام لم يكن تبقى شيء يذكر من الديمقراطية الثورية التي ميزت البلاد مباشرة عقب ثورة أكتوبر في 1917. وكانت شريحة بيروقراطية جديدة قد أوغلت في تركيز السلطة في أيديها وسط الدمار الذي لحق ببلد متخلف اقتصاديا فعلا ويعاني آثار ثلاث سنوات من الحرب العالمية تبعتها ثلاث سنوات من الحرب الأهلية. ورغم ذلك، ظلت القوة الدافعة للاقتصاد حتى منتصف عشرينيات القرن العشرين هي إنتاج السلع لتلبية حاجات السكان، وارتفعت مستويات المعيشة عن المعدلات البائسة في سنوات الحرب والحرب الأهلية، حتى وإن ارتفع مستوى معيشة البيروقراطيين بمعدلات أكبر كثيرا بما لا يقارن بمستوى معيشة العمال والفلاحين. 
ثم في أواخر عام 1928 ضربت البيروقراطية موجة من الذعر في مواجهة ما يشبه تهديدا بالحرب من بريطانيا وأزمة محلية مع قيام الفلاحين بوقف إمدادات الغذاء، ما تسبب في انتشار الجوع في المدن. ومع خوفها من فقدان سيطرتها على البلاد عبر التمرد في الداخل والضغط العسكري من الخارج، لجأت البيروقراطية بقيادة ستالين بصورة براجماتية إلى سلسلة من الإجراءات تضمنت استغلالا فائقا لصغار الفلاحين والطبقة العاملة من أجل بناء الصناعة التي تفتقد البلاد إليها. وكان الأثر التراكمي لهذه الإجراءات أن دفعت الاقتصاد ككل نحو قوة محركة جديدة تختلف عن تلبية احتياجات الشعب – وهي قوة محركة تحددها في النهاية المنافسة العسكرية مع مختلف الدول الغربية.
وكما يقول المؤرخ التشيكي رايمان: (59)
"لم يكن هناك ما يكفي من الموارد لضمان تحقيق المعدل المقترح للنمو الصناعي. وبالتالي قررت هيئات التخطيط… تحقيق التوازن في الخطة عبر موارد لم تكن توفرت للاقتصاد بعد… واعتمد إنجاز الخطة على هجوم بالغ القسوة على ظروف معيشة وعمل العمال الصناعيين وسكان الريف… لقد كانت خطة للبؤس والمجاعة المنظمة.(60)" 
وفي تبريره لإخضاع كل شيء آخر للتراكم، أصر ستالين أن: "نحن نتخلف عن البلدان المتقدمة بخمسين أو مئة عام. يجب علينا أن نجتاز هذه الفجوة في عشر سنوات. إما أن نحقق ذلك أو أنهم سيحطموننا."(61) "إن البيئة التي وضعنا فيها… في الداخل والخارج… تجبرنا على أن نتبنى معدلا سريعا في نمو صناعتنا."(62)
عند اضطلاعها بمهمة التراكم، استبدلت البيروقراطية نفسها بالرأسمالي الذي لم يعد موجودا. غير أن الطرق التي استخدمتها كانت في جوهرها طرق التصنيع الرأسمالي القائمة في أماكن أخرى من العالم. وأدى "التجميع" –وكان في الواقع استيلاء الدولة على الأرض – إلى زيادة نسبة الإنتاج الزراعي المتاح للتراكم الصناعي فيما كان يطرد نسبة كبيرة جدا من صغار الفلاحين من الأرض، تماما مثلما فعلت عمليات التسييج بالنسبة للرأسماليين الأوائل في انجلترا. وكان يعمل في الصناعات الآخذة في النمو عمال أجراء بشكل رئيسي – لكن بعض المهام الثانوية كان يقوم بها بضعة ملايين من العمال العبيد. وألغيت الحقوق التي احتفظ بها العمال حتى نهاية عقد العشرينيات.
كانت السيطرة على الاقتصاد من قبل بيروقراطية دولة مركزية واحدة تحتكر التجارة الخارجية تعني أن التراكم يمكن أن يستمر دون انقطاع، مثل احتكارات رأسمالية الدولة العسكرية في الغرب. لكن عزل الاقتصاد تماما عن النظام العالمي الأشمل لم يكن ممكنا بأكثر مما كان ممكنا للاقتصاد الألماني والياباني في أواخر الثلاثينيات. فاستيراد الآلات من الغرب من أجل التصنيع كان يعتمد على أرباح الصادرات من الحبوب في وقت انخفاض الأسعار العالمية – واعتمد ذلك على قيام الدولة بالاستيلاء على الحبوب من الفلاحين الجوعى الذين مات منهم بضعة ملايين. وقد لاحظ بريوبراجنسكي "إننا (الاتحاد السوفييتي) كدولة مصدرة نعاني معاناة قاسية من الأزمة العالمية."(63)
ومع ذلك، كانت هناك عزلة نسبية عن الاقتصاد العالمي، وكان ذلك يعني إمكان استمرار التراكم طالما أن قدرا من فائض القيمة متوفر بصرف النظر عن معدل الربح في أي وقت محدد. غير أن ذلك لم يتغلب على التناقضات الاقتصادية. فإنجاز خطط الإنتاج للصناعة الثقيلة والسلاح تضمن دائما تحويل الموارد إليها من صناعات السلع الاستهلاكية، التي انخفض إنتاجها حتى عندما توسع الاقتصاد ككل بسرعة كبيرة. هذه النتيجة كانت نقيض "التخطيط" بأي معنى حقيقي للكلمة. فلو أن اثنين منا خططا للذهاب إلى مانشستر انطلاقا من لندن ثم انتهى الأمر بأحدنا في جلاسكو والآخر في برايتون، لا تكون "خطتنا" إذن مرشدا لحركتنا. ينطبق نفس الأمر على التخطيط السوفييتي. فكما في الغرب، نتج عن التراكم التنافسي دينامية نمو في جانب وفوضى وانعدام كفاءة وبؤس في جانب آخر. كما نتج عنه كذلك ميل إلى التوسع الإمبريالي وراء الحدود الوطنية، كما ظهر في عام 1939 عندما قسم ستالين أوروبا الشرقية مع هتلر، ليأخذ نصف بولندا، وإستونيا، وليتوانيا ولاتفيا – ليكتشف في عام 1941 أن هتلر كان يضع عينيه على الاستيلاء على الاتحاد السوفييتي ونهبه لصالح الرأسمالية الألمانية.
كشف حساب عشرية
في عقد الثلاثينيات من القرن العشرين ساد شعور بين مؤيدي الرأسمالية على نطاق واسع أنها كانت في أزمة عميقة؛ وكان الشعور بين معارضيها أن الرأسمالية قد انتهت. فكتب لويس كوري عن "تدهور وتحلل الرأسمالية"(64)، وكتب جون ستراتشي أنه "بالنسبة للمناطق الرأسمالية من العالم ليس هناك إلا تحلل سريع على نحو متزايد" مع "انكماش دائم في الإنتاج"(65)، وكتب بريوبرجينسكي عن "أزمة النهاية لكامل النظام الرأسمالي"(66)، وليون تروتسكي عن "آلام احتضار الرأسمالية". ولم تبد نبوءاتهم غبية في وقت كان مؤيدو الرأسمالية يمزقهم القلق بشأن العلة التي أصابت نظامهم الذي يفترض أنه لا تشوبه شائبة. غير أن التحول العنيف نحو رأسمالية الدولة والإنتاج الكبير للسلاح سمح للنظام بأن يدخل مرحلة جديدة من التوسع. ويستمر السؤال: إلى متى؟      

الأربعاء، 15 مارس 2017

رأسمالية الزومبي - الفصل الخامس - إنفاق الدولة والنظام - ترجمة رمضان متولي

الفصل الخامس
إنفاق الدولة والنظام
تمييز ضروري
إذا كانت زيادة الأهمية الاقتصادية للدولة زيادة هائلة إحدى الخصائص التي تميز رأسمالية القرن العشرين عن الرأسمالية في زمن ماركس، فإن نمو كل أشكال الإنفاق غير الإنتاجي بصورة مباشرة كان خاصية مميزة أخرى.
كان ماركس اقتبس من آدم سميث تمييزا بين العمل "الإنتاجي" والعمل "غير الإنتاجي". وكان سميث يكتب في عصر مازال فيه نمط الإنتاج الرأسمالي جنينيا، وقد حاول أن يستنبط ما كان يحتاجه النظام حتى يتغلب على العقبات أمام المزيد من تقدمه. ولذلك عمد إلى التمييز بين استخدامات العمل المأجور التي تمكن الرأسمالي من تحقيق الأرباح حتى تستمر زيادة الإنتاج وتقدمه وتلك الاستخدامات التي كانت تبتلع فحسب ثروات موجودة. فاستخدام شخص ما لصناعة أشياء من أجل بيعها عمل إنتاجي؛ أما استخدام أحد الأشخاص ليرعى الرغبات الفردية للمرء فلم يكن كذلك. أو، كما قيل أحيانا، أن توظيف أحد الأشخاص في مصنع ينتج ثروة؛ أما توظيف شخص ما كخادم شخصي فيستهلك الثروة فقط. غير أن سميث لم يعتبر الخدم وحدهم تبديدا وعملا غير إنتاجي بهذا المعنى: فقد اتخذ نفس الموقف تجاه جيوش الموظفين العموميين بلا داع، وتجاه النساء اللائي كن يتعيشن على إيرادات دولة لم يكتمل إصلاحها بعد حتى تلائم متطلبات الإنتاج الرأسمالي.(1)
أخذ ماركس عنه هذا التمييز عندما كان يعد مختلف مسودات كتابه رأس المال وقام بتطوير فهمه الخاص له. فمثل سميث، كان ماركس مهتما بما يجعل الرأسمالية تقوم بوظيفتها – حتى وإن كان ذلك من منطلق معارضة النظام لا تأييده. وهكذا كان اهتمامه بما هو "إنتاجي" بالمفهوم الرأسمالي.(2) والذي كان، حسب رأيه، ذلك الذي ينتج فائض القيمة. فالعمل الذي ينتج فائض القيمة يجعل الرأسماليين قادرين على تحقيق التراكم؛ أما العمل الذي لا ينتج فائض القيمة فكان بلا جدوى في هذا المضمار – أي "غير إنتاجي". 
في كل ذلك، كان ماركس شديد الاهتمام بتوضيح أن صفة "الإنتاجية" في العمل لا تعتمد على الشكل الفيزيقي للمنتج ولا فائدته للمجتمع. المهم هو قدرة العمل على إنتاج فائض القيمة – ولا شيء آخر. وكتب في إحدى مذكراته: "إن هذا التمييز بين العمل الإنتاجي والعمل غير الإنتاجي لا علاقة له سواء بخاصية معينة للعمل أو القيمة الاستعمالية المحددة التي … يتجسد فيها."(3)
لم يكن تمييز ماركس بين الإنتاج المادي وما يصنف حاليا تحت "الخدمات". فبعض "الأعمال الخدمية" لها قيمة استعمالية تشترى وتباع كسلعة في السوق – أو تمثل إضافة مفيدة لسلعة أخرى. ولهذه الأعمال قيمة تبادلية تتحدد بوقت العمل الضروري اجتماعيا لإنتاجها وبالتالي يمكن أن تقدم للرأسماليين فائض قيمة جديد. ولذلك فهي أعمال إنتاجية. فمثلا، التمثيل في أحد الأفلام عمل إنتاجي بقدر ما ينتج قيمة استعمالية (بإضافته المتعة للناس وبالتالي تحسين مستوى معيشتهم) التي يبيعها الرأسمالي الذي يستخدم الممثل كسلعة تدر ربحا. ومثل ذلك نقل البضائع من مكان إنتاجها إلى مكان يمكن فيه استهلاكها، كما يفعل بعض عمال النقل، هو عمل إنتاجي لأنه من الناحية الفعلية جزء من عملية إتمام إنتاجها. وفي المقابل، ليس عملا إنتاجيا ظهور ممثلين على شاشة التلفيزيون ليحثوا الناس على شراء سلعة معينة، لأن عملهم هذا لا ينتج قيمة استعمالية ولا قيمة تبادلية جديدة. وإنما يساعد فقط في بيع بضائع جرى إنتاجها فعلا.
وقد جادل جوجليلمو كارشيدي عن حق قائلا:
"إن تصنيف "الخدمات" لا يقدم إلا خلط الأمور وينبغي إسقاطه. "إن الخدمة ليست أكثر من الأثر النافع لقيمة استعمالية، كانت لسلعة أم لعمل" (وفقا لماركس)(4)، ولذلك فإن فئة "الخدمات" تشمل عملا إنتاجيا (الفنادق، والترفيه) وعملا غير إنتاجي (الإعلان، ودراسات السوق)…"(5)
 في معالجاته الأولى لهذه المسألة في أوائل ستينيات القرن التاسع عشر، افترض ماركس، مثل سميث، أن العمل غير الإنتاجي يتعلق بالخدمات التي يؤديها الأفراد لصالح الطبقات العليا.(6) وتشمل هذه الخدمات تقديم "وسائل الترفيه"، ومعالجة "العاهات الجسدية" (الأطباء) و"الضعف الروحي" (الكهنة) وحل "النزاعات بين المصالح الخاصة والمصالح القومية" (مثل رجال الدولة، والمحامون، والشرطة والجنود). وهذا النوع الأخير اعتبر "عند الرأسماليين الصناعيين أنفسهم" مصاريف إنتاج عارضة ينبغي أن تكون منخفضة إلى الحد الأدنى الضروري وأن تتوفر بأقل تكلفة ممكنة.(7)
أدرك ماركس أن الخدمات الشخصية للطبقة الحاكمة أحيانا لا يقدمها أفراد يعملون لدى أنفسهم، وإنما يقدمها رأسماليون يستخدمون عملا مأجورا في توفيرها للآخرين. وقد رأى في هذه الحالات أن العمل عمل إنتاجي لأنه ينتج فائض القيمة. فعلى أي حال، يقوم الرأسماليون الذين يستخدمونه ببيع منتج العمل بسعر أعلى مما دفعوه في قوة العمل ويحصلون على ربح نتيجة ذلك. وهكذا، فإن مدرسا يعمل لدى نفسه في منزل أحد الأشخاص لتعليم أبنائه يقدم خدمة لا ينتج عنها ربح فهو غير منتج؛ وفي المقابل، إن مدرسا تستخدمه شركة تحقق أرباحا من إدارة مدرسة فهو منتج. فأحدهما لم يساعد الرأسماليين بأي طريقة في مراكمة القيمة؛ بينما الآخر فعل. فكان التمييز بين عمل لا ينفصم عن عمليتي الإنتاج والتراكم الرأسمالي وعمل ليس كذلك.   
لكن في كتاب رأس المال، وجد ماركس ضرورة للعودة إلى التمييز بين العمل المنتج وغير المنتج في سياق مختلف – سياق لا ينفصم عن عملية الإنتاج الرأسمالي في كليتها وليس خارجها. فمع تطور الرأسمالية أصبحت تعتمد على نحو متزايد على كثير من أشكال العمل الذي لا ينتج شيئا.
هناك عمل يبذل في الحفاظ على الانضباط داخل المؤسسة الرأسمالية – أي "عمل" المدراء والمشرفين والملاحظين. وهناك العمل التجاري الذي يبذل في تبادل سلع جرى إنتاجها فعلا عندما تتحرك خلال مختلف سلاسل الشراء والبيع قبل وصولها إلى المستهلك النهائي. وهناك العمل المالي الذي يبذل في حساب الربح والخسارة، وتقديم الائتمان، وتقسيم فائض القيمة بين مختلف قطاعات الطبقة الرأسمالية. وقد أدرك ماركس أن هذه الأنواع من العمل سوف تزداد كميا مع توسع الرأسمالية:
"واضح أنه مع توسع حجم الإنتاج وبالتوافق معه… تتضاعف العمليات التجارية اللازمة لإعادة تدوير رأس المال الصناعي بصورة منتظمة… وبقدر ما يتطور حجم الإنتاج، بقدر ما تتزايد … العمليات التجارية لرأس المال الصناعي."(8)
لا يمكن اعتبار هذا العمل لو استخدمه الرأسمالي بهذه الطرق منتجا أكثر من اعتبار عمل الخادم كذلك. فالحفاظ على الانضباط وبيع البضائع أو إجراء الحسابات وظائف ضرورية يلزم شراؤها خصما من فائض القيمة، وليست أعمالا منتجة تضيف إلى فائض القيمة. إنها لا تنتج شيئا جديدا، وإنما تعنى فقط بالسيطرة على إنتاج القيمة بواسطة آخرين، وبتحويلها من شكل (السلع) إلى شكل آخر (النقد)، أو بتقسيمها بين الأشخاص. إن الأنشطة التي يؤديها المشرف، أو موظف البنك أو عامل المتجر لا تستطيع إنتاج قيمة (وبالتالي فائض قيمة) أكثر ما يستطيع الخادم الخاص.
ولكن ماذا يحدث إذا استخدم الرأسماليون العاملون في حقل الإنتاج رأسماليين آخرين لأداء بعض هذه الوظائف نيابة عنهم؟ ينبغي اعتبار العمل الذي يستخدمه هؤلاء الرأسماليون الآخرون عملا منتجا وفق تعريف ماركس المستقر لأنه يمكنهم من تحقيق الأرباح. غير أن النظر إلى الأمور بهذه الطريقة يطرح علينا مشكلة. هي أن هذه الأرباح لم تنشأ عن زيادة كمية الناتج بأي قدر أكثر مما كانت عندما كان الرأسماليون في حقل الإنتاج يوظفون أشخاصا لديهم مباشرة لأداء تلك المهام. وينتهي الأمر ببساطة إلى أن الرأسمالي الثاني حصل على حصة من فائض القيمة الذي كان أصلا في حوزة الرأسمالي الأول. واستنتج ماركس أن هذا العمل ليس عملا منتجا من وجهة نظر عملية الإنتاج الرأسمالي، حتى وإن بدا أن ذلك يستند إلى تعريف للعمل المنتج يختلف عن التعريف الذي استخدمه في سياق آخر. ولهذا السبب قال جاك بيديه، على سبيل المثال، أن ماركس لم يكن متسقا.(9) غير أن للفكرة مغزاها من حيث الجانب الذي كان يحظى باهتمام كل من آدم سميث وكارل ماركس – أي التمييز بين ما يدفع التطور الرأسمالي قدما وما يعرقله.
طالما كان الرأسماليون يعملون في بيئة إقتصادية لم يهيمن عليها بعد أسلوب الإنتاج الرأسمالي، كان من يستخدمون عمالا في توفير الخدمات الشخصية يقدمونها بالأساس إلى أولئك الذين تأتي ثرواتهم من خارج النظام الرأسمالي. فعلى سبيل المثال، كانت المدفوعات التي يحصل عليها ملاك مدرسة تمثل تحويلا للثروات إلى القطاع الرأسمالي من جيوب الطبقات المستغلة السابقة على الرأسمالية – وهي الثروات التي يمكن استخدامها بعد ذلك في التراكم الإنتاجي. في المقابل، يحصل التجار أو أصحاب المحال الذين يتداولون بضائع الرأسماليين العاملين في حقل الإنتاج على أرباحهم من فائض القيمة الذي أنتج فعلا لدى الرأسمالي الإنتاجي. فهم لا يضيفون شيئا إلى إجمالي فائض القيمة ولا عملية زيادة التراكم لرأس المال.  
وكما يقول ماركس:
"إن تكاليف التوزيع تبدو بالنسبة لرأس المال الصناعي مصاريف غير إنتاجية، وهي كذلك فعلا. أما بالنسبة للتاجر فإنها تبدو مصدرا للربح يتناسب مع حجمها في ضوء المعدل العام للربح. ولذلك، تكون المصاريف التي يجب إنفاقها على تكاليف التوزيع تلك استثمارا منتجا بالنسبة لرأس المال التجاري… وبالمثل يكون العمل التجاري الذي يشتريه عملا منتجا مباشرة بالنسبة له."(10)
إن المنافسة بين الرأسماليين التجاريين وبعضهم تعني أن كلا منهم يخضع لنفس الضغوط التي يخضع لها الرأسماليون العاملون في الإنتاج نحو الحفاظ على انخفاض الأجور عند مستوى قيمة قوة العمل. ولهذا السبب، يقع العاملون لديهم تحت الاستغلال بنفس الطريقة التي يستغل بها العاملون لدى رأس المال في حقل الإنتاج. وبقدر ما يقوم الرأسمالي التجاري بتخفيض أجور موظفيه وزيادة أعباء العمل عليهم، تزداد الحصة التي يستطيع أن يحتفظ بها لنفسه من الأموال التي يحصل عليها من الرأسماليين الإنتاجيين مقابل تقديم الخدمات لهم. فإذا كان أداء مهمة بيع محددة مثلا يستغرق ثمان ساعات من العمل الضروري اجتماعيا ويتكلف أربع ساعات فقط لتغطية أجر عامل المبيعات، يستطيع الرأسمالي التجاري أن يحتفظ بقيمة أربع ساعات عمل من فائض القيمة الذي يحصل عليه من مكان آخر في النظام.
غير أن ذلك لا يعني أن العمل التجاري يمكن مساواته بالعمل الإنتاجي عند محاولة فهم ديناميكية النظام ككل. فأحدهما ينتج ثروات يمكن استخدامها لزيادة التراكم، والآخر لا ينتج. ولذلك يشدد ماركس على أن:
"التكاليف التي تؤدي إلى زيادة سعر أي سلعة دون إضافة إلى قيمتها الاستعمالية، والتي يجب لذلك تصنيفها كمصاريف غير إنتاجية بقدر ما نعنى بالمجتمع، قد تكون مصدرا للثراء بالنسبة لرأسمالي فرد. ومن ناحية أخرى، لا تكف هذه الزيادة على سعر تلك السلعة عن كونها غير إنتاجية في طبيعتها، لأنها توزع فحسب تكاليف التداول توزيعا متساويا. فمثلا، تقوم شركات التأمين بتوزيع خسائر فرادى الرأسماليين فيما بين الطبقة الرأسمالية. لكن ذلك لا يجعل هذه الخسائر التي جرى توزيعها بالتساوي تكف عن كونها خسائر بقدر ما نأخذ في اعتبارنا مجمل رأس المال الاجتماعي.(11)
 إن التمييز بين العمل الإنتاجي والعمل غير الإنتاجي غالبا ينظر إليه كمجرد مسألة مدرسية. غير أن لذلك التمييز آثارا هائلة عند رؤيته من زاوية ما يساهم في عملية التراكم وما لا يساهم فيها – وتشمل بعض النتائج التي لم يستنتجها ماركس نفسه. فما يكون "منتجا لفائض القيمة بالنسبة لرأسمالي فرد (التعريف الذي استخدمه ماركس للعمل الإنتاجي في مذكراته) ليس بالضرورة منتجا من حيث الإضافة لفائض القيمة المتاح لرأس المال عموما من أجل التراكم. وهذا بالتحديد هو المحوري بالنسبة لديناميكية النظام.   
حجم العمل غير الإنتاجي
حقق مستوى النفقات غير الإنتاجية في مجال المبيعات والتمويل نموا على مدار القرن العشرين. وفق حسابات أنور شيخ وتوناك ارتفع عدد العمال المستخدمين في التجارة في الولايات المتحدة من 10 ملايين و690 ألفا في عام 1948 إلى 24 مليونا و375 ألفا في عام 1989، ومن أولئك في مجال التمويل والتأمين ارتفع العدد من مليون و 251 ألفا إلى 7 ملايين و123 ألفا. في نفس الوقت، ارتفع عدد العمال المنتجين فقط من 32 مليونا و994 ألفا إلى 41 مليونا و148 ألفا.(12) ويقدر فرد موسلي أن أعداد العاملين في التجارة زادت من 8.9 مليون إلى 21 مليونا بين عامي 1950 و1980 وأعداد العاملين في التمويل من 1.9 مليون إلى 5.2 مليون، بينما قوة العمل الإنتاجية زادت من 28 مليونا إلى 40.3 مليون فقط.(13)
هذه الأرقام لا تشمل العدد الكبير من الموظفين الإداريين الذين اعتبرهم ماركس موظفين غير منتجين لأنهم ينخرطون في مراقبة من ينتجون القيمة فعليا. ويقدر سيمون موهون أن نمو أعدادهم وأجورهم تسبب في ارتفاع نصيب الأجور والمرتبات "غير الإنتاجية" في الولايات المتحدة من 35 بالمئة من "القيمة المادية المضافة" في عام 1964 إلى مايزيد على 50 بالمئة في عام 2000.(14) وهذه الأرقام هي الأخرى تقلل من حجم إجمالي الزيادة في العمل غير الإنتاجي لأنها لا تشمل الموظفين المنخرطين في وظائف الدولة غير الإنتاجية مثل الجيش والنظام القضائي.
نفقات غير إنتاجية وإنتاج فاقد
نوع آخر من العمل ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار عند دراسة رأسمالية القرنين العشرين والحادي والعشرين. وهو العمل الذي ينفق في إنتاج سلع تباع مثل السلع الأخرى ولكنها لا تدخل في دورات تالية للإنتاج بعد ذلك سواء كوسائل للإنتاج أو كأجور سلعية، ويقع العمل الذي ينتج سلعا فاخرة للطبقة الرأسمالية تحت هذه الفئة. وكذلك أيضا العمل الذين ينفق في إنتاج أسلحة الجيش. فرغم أن بعض الماركسيين عادة يعتبرون هذا العمل "عملا إنتاجيا"، فإنه يشترك مع العمل غير الإنتاجي في حقيقة أنه لا يضيف شيئا في التراكم الرأسمالي. ولهذه الأسباب دافع مايكل كيدرون في أوائل السبعينيات عن وجوب اعتباره أيضا عملا غير إنتاجي:
"إن نضوج الرأسمالية… أنشأ هوة واسعة بين معياري الإنتاجية اللذين استخدمهما (ماركس – كريس هارمان) بالتناوب – أي التوظيف بواسطة رأس المال، وتعظيم رأس المال… الآن ورأس المال هو الملك… لم يعد هذان المعياران متناغمين. فملايين العمال يستخدمهم رأس المال استخداما مباشرا لإنتاج سلع وخدمات لن يستطيع استعمالها في مزيد من التوسع تحت أي ظروف يمكن تصورها. فهي أعمال إنتاجية وفق أحد المعيارين وغير إنتاجية وفق المعيار الآخر… وفي ضوء ضرورة الاختيار، يجب تعريف العمل الإنتاجي اليوم بالعمل الذي يكون ناتجه النهائي، أو يمكن أن يكون، مدخلا في إنتاج لاحق. فهذا النوع من العمل فقط ما يمكن استخدامه في التوسع الذاتي لرأس المال… بوضوح شديد، في الرأسمالية المتأخرة لا يستخدم في توسع رأس المال إلا جزءا من الفائض. أما بقية الفائض فإنتاج فاقد."(15)
كما اقترح ألان فريمان مؤخرا ضرورة أن يتسع مفهوم العمل غير الإنتاجي حتى يشمل استخدام العمل في إنتاج أشياء تستهلك فيما بعد بطريقة غير منتجة. "إن العمال الذين زينوا البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية بألواح الرخام غير منتجين تماما مثل الموظفين الذين يسيرون عليه الآن."(16) وفي المقابل، يرى جوجلييلمو كارشيدي أن هناك عملا وهو عمل منتج إذا خلق قيمة جديدة، حتى إن لم يساهم بعد ذلك بأي قدر في دورة التراكم التالية.(17) وبغض الطرف عن كيفية تصنيفها، أصبحت نسبة العمل التي تعد عملا فاقدا من وجهة نظر التراكم الرأسمالي هائلة في حجمها. وقدر كيدرون أن "ثلاثة أخماس العمل الذي بذل فعليا في الولايات المتحدة في سبعينيات القرن العشرين جرى تبديدها من وجهة النظر الخاصة لرأس المال."(18)
قطاع الدولة والعمل غير الإنتاجي
إن النفقات التي تنفقها فرادى رؤوس الأموال، والتي لا توجه إلى استثمار رأسمالي ولا إلى أجور لعمال الإنتاج، يمكن تحليلها إلى فئات مختلفة:
‌أ.        النفقات المتعلقة بانضباط قوة العمل وضمان أنها تعمل بأقصى سرعة لديها – أي النفقات على الأمن الداخلي، والعمل الإشرافي، وقياس الحركة والوقت، وملاحظة سرعة العمل.
‌ب.  النفقات المتعلقة بالحفاظ على ولاء قوة العمل، مثلا النفقات على العلاقات العامة الداخلية، نشرات العمل، لجان العمل التي تسيرها الإدارة، دعم الفرق الرياضية في العمل. 
‌ج.   النفقات المخصصة للمعاملات المالية والحصول على الائتمان والمصاريف البنكية، إلخ.
‌د.     النفقات المخصصة للمبيعات، والإعلان، إلخ.
‌ه.    النفقات المتعلقة بالحفاظ على لياقة قوة العمل وقدرتها على العمل – المرافق الطبية للشركة، كانتين المصنع، الخ، وفي بعض الحالات توفير السكن لقوة العمل.
‌و.    النفقات المتعلقة بتدريب قوة العمل – التي يطلق عليها اقتصاديو التيار السائد عادة "رأس المال البشري".
‌ز.    الإنفاق على البحوث والتطوير.
النفقات في (أ) و (ب) هي نفقات غير إنتاجية بشكل واضح. فهي لا تنتج شيئا ولا تتعلق إلا باستخلاص الحد الأقصى من القيمة التي ينتجها العمال فعلا. والنفقات في (ج) و (د) نفقات غير إنتاجية من وجهة نظر رأس المال بالمعنى العام. فهي لا تضيف شيئا على الإطلاق إلى قدرة النظام ككل على التراكم. ولكن شركة منفردة يمكن أن تعتبرها إنتاجية بنفس المعنى الذي كتب عنه ماركس عما يفعل التاجر الرأسمالي الفرد – أي أنها تساهم في الحصول على فائض قيمة لولاها كان سيذهب إلى شركات منافسة. وهكذا قد تعتبر الشركة الإنفاق مثلا على الإعلانات مثل الإنفاق على الآلات الجديدة وسيلة لتوسيع مركزها في السوق، أو لإحباط محاولات رأسماليين آخرين لدخول السوق، وهكذا. ويمكن اعتبار النفقات على براءات الاختراع وحماية حقوق الابتكار وسيلة لامتلاك السيطرة على السوق (وسوف أعود إلى النوعين الآخرين من النفقات في بندي "و" و "ز" لاحقا).
تضمن نمو إنفاق الدولة على مدار القرن الأخير اضطلاع الدول بالمسئولية جزئيا عن الكثير من هذه النفقات بدلا من رؤوس الأموال الخاصة التي تعمل داخل إقليمها الوطني. ولذا يمكن تحليل نفقات الدولة إلى فئات تؤدي نفس الوظائف أو وظائف مماثلة لنفقات الشركات.
هناك تلك النفقات غير الإنتاجية بشكل جلي من حيث عملية التراكم على مستوى النظام ككل، ومن بينها النفقات المتعلقة بحماية الملكية، والحفاظ على الانضباط الاجتماعي وضمان إعادة إنتاج سلسة للعلاقات الطبقية؛ الحفاظ على هيئات تديرها الدولة أو هيئات ممولة للحفاظ على ولاء شعبي للنظام، مثل الدعاية التي تنتجها الدولة وأشكال الدعم للمؤسسات الدينية؛ تخليد الأيديولوجية الحاكمة من خلال بعض أجزاء النظام التعليمي؛ الحفاظ على البنية التحتية المالية للنظام عبر طباعة النقود الوطنية وإدارة البنوك المركزية.
وإلى جانب هذه النفقات توجد نفقات مفيدة لرؤوس الأموال العاملة بالداخل في منافستها مع رؤوس الأموال الأجنبية، ولكنها مثل إنفاق رأس المال الفردي على التسويق والدعاية لا تضيف شيئا إلى عملية التراكم ككل. وتشمل هذه النفقات الإنفاق العسكري، والإنفاق على برامج ترويج الصادرات، والمفاوضات مع حكومات أخرى حول التجارة الدولية وقواعد تنظيم الاستثمار إلخ.
كانت هذه هي النفقات غير الإنتاجية التي أشار إليها ماركس عندما كتب:
"إن الاقتصاد السياسي في مرحلته الكلاسيكية كان، مثل البرجوازية نفسها عندما كانت حديثة عهد بالثراء، يتبنى توجها نقديا عنيفا تجاه آلة الدولة إلخ. غير أنه في مرحلة لاحقة أدرك وتعلم من التجربة أن ضرورة وجود طبقات لا تنتج شيئا على الإطلاق نشأت عن نظامه الخاص نفسه."(19)
وهذا النمو في النفقات غير الإنتاجية أصبح له أثر كبير على دينامية النظام بعد وفاة ماركس.

الإنتاج الفاقد وديناميكية النظام
ألمح ماركس إلى نقطة هامة تتعلق بالعمل غير الإنتاجي في محاولته الأولى لوضع مسودة لكتاب رأس المال، في الجروندريسه. فهو يضم بين "اللحظات" التي يمكنها تأجيل الزيادة في التركيب العضوي لرأس المال وميل معدل الربح نحو الانخفاض ما يلي:
"تحويل جانب كبير من رأس المال إلى رأس مال ثابت لا يساهم كفاعل في الإنتاج المباشر؛ التبديد غير المنتج لقسم كبير من رأس المال الخ (يتم إحلال رأس المال الموظف في الإنتاج دائما بتكلفة الضعف، من حيث أن طرح رأس مال إنتاجي يفترض مسبقا قيمة تقابله). فالاستهلاك غير الإنتاجي لرأس المال بالإحلال له من جانب وتدميره من الجانب الآخر…"(20)
يقول ماركس لو أن جزءا من فائض القيمة المتاح للاستثمار لسبب ما يوجه نحو استخدام آخر، يؤدي ذلك إلى انخفاض رأس المال المتاح مجددا للشركات الباحثة عن الابتكارات التي تخفض تكاليفها، فينخفض الاتجاه نحو الاستثمارات كثيفة رأس المال. نفس هذه الفكرة طرحها بوضوح أكثر مايك كيدرون في ستينيات القرن العشرين – وواضح أنه لم يكن يعرف أن ماركس طرحها.(21) وأوضح كيدرون أن رؤية ماركس المتعلقة بميل معدل الربح نحو الانخفاض:
"استندت على افتراضين كلاهما واقعي: أن الناتج كله يعود ليتدفق في النظام كمدخلات إنتاجية إما عبر الاستهلاك الإنتاجي للعمال أو الاستهلاك الإنتاجي للرأسماليين – بمنظور مثالي لا يوجد أي منافذ للتسرب داخل النظام ولا خيار إلا تخصيص إجمالي الناتج قسمة بين ما يطلق عليه الآن الاستثمار واستهلاك الطبقة العاملة؛ ثانيا، في نظام مغلق كهذا النظام، سوف يتأرجح هذا التخصيص ليميل لصالح الاستثمار على نحو متزايد.
فإذا تخلينا عن الافتراض الأول بأن جميع المنتجات سوف تتدفق مرة أخرى في النظام – بمعنى آخر، إذا فقدت بعض هذه المنتجات ولم تدخل دورة الإنتاج – فلا ضرورة إذن أن ينمو الاستثمار بسرعة أعلى من نمو العمل المستخدم. ولن يعمل قانون ميل معدل الربح نحو الانخفاض. لأن "تسرب" فائض القيمة من الدورة المغلقة من الإنتاج/الاستثمار/الإنتاج سوف يعوض هذا الميل في معدل الربح إلى الانخفاض."(22)
كما أوضح كيدرون هذه الفكرة لاحقا:
"عند ماركس يفترض النموذج نظاما مغلقا يتدفق فيه كل الناتج مرة أخرى في النظام كمدخلات إنتاج في شكل سلع استثمارية أو سلع للأجور. ولا يوجد منافذ تسريب. غير أن أي تسرب من حيث المبدأ يمكن أن يعزل الاندفاع الاضطراري نحو النمو عن أكثر نتائجه أهمية… وفي هذه الحالة لن يوجد أي تدهور في متوسط معدل الربح، ولا سبب لأن نتوقع أزمات حادة بشكل مطرد، وهلم جرا."(23)   
وهي فكرة لا يشوبها أي أخطاء، كما يواصل كيدرون فيوضح الشكل الذي تتخذه التسربات:
"في الواقع لم تشكل الرأسمالية أبدا نظاما مغلقا. فالحروب والأزمات تدمر كميات هائلة من الناتج، التي تتجسد فيها أكداس ضخمة من القيمة، كما تمنع إنتاج المزيد منها. كما أن تصدير رأس المال يجمد ويحرف اتجاه أكوام أخرى من القيمة لفترات طويلة من الزمن."(24)
وكما رأينا في الفصل الرابع من هذا الكتاب، أدرك هنريك جروسمان أن الإمبريالية بتحويلها فائض القيمة إلى الخارج أدت إلى تخفيف مؤقت في الضغوط نحو زيادة التركيب العضوي لرأس المال في الاقتصاد المحلي وبالتالي إضعاف الميل نحو الأزمة. كما أنه، جزئيا على الأقل، استبق فكرة كيدرون حول تأثير الإنفاق العسكري. فقد لاحظ أن الحروب رغم تدميرها كميات هائلة من القيم الاستعمالية، فمن نتائجها تخفيف التناقضات الاقتصادية الخالصة في الرأسمالية حيث أنها "تسحق القيم" و"تبطئ عملية التراكم". وعبر تخفيض اتجاه التراكم نحو الارتفاع بمعدل أسرع من قوة العمل المستخدمة، فإنها تقاوم انخفاض معدل الربح:
"إن الدمار وتخفيض القيم الذي تحدثه الحرب وسيلة من وسائل درء عوامل الانهيار الكامنة (في الرأسمالية) ومن وسائل خلق متنفس لعملية تراكم رأس المال… إن الحرب وتدمير قيم رأس المال المرتبط بها تثبط عملية انهيار (الرأسمالية) وتقدم بالضرورة قوة دفع جديدة لتراكم رأس المال… إن العسكرية إحدى مجالات الإستهلاك غير الإنتاجي، وبدلا من ادخار القيم يجري سحقها."(25)
الإنفاق العسكري أحد الأشكال الخاصة للتبديد الذي يمكن أن يحبذه الرأسماليون المرتبطون بدولة معينة، لأنه يدعم قدرتهم في الصراع مع رأسماليين منافسين من أجل السيطرة على فائض القيمة عالميا. وله دور وظيفي بالنسبة لمجمعات رأس المال الوطنية بنفس طريقة وظيفة الإنفاق الإعلاني بالنسبة للشركات الفردية، حتى مع كونه تبديدا للموارد بالنسبة للنظام ككل. ولذلك كان هذا النوع من الإنفاق ظاهرة تميز الشكل الكلاسيكي للإمبريالية التي أدت إلى الحرب العالمية الأولى – كما أنه يستمر حاليا في صورة الإنفاق العسكري الهائل لدى الولايات المتحدة على وجه الخصوص.
إن منطق التوسع الاقتصادي المعتمد على السلاح أفلت من ملاحظة الكثير من الاقتصاديين الماركسيين، فمن الحماقة كما يرون أن نعتبر أن خصما تقوم به الدولة من إجمالي فائض القيمة يتصدى بشكل ما لميل فائض القيمة إلى الزيادة بوتيرة أبطأ من إجمالي تكاليف الاستثمار، ومن ثم يتغلب على مشكلة انخفاض معدل الربح. وما يخفق هؤلاء في استيعابه أن هذه "الحماقة" ليست إلا جزءا من الحماقة الكبرى للنظام الرأسمالي ككل، أي طبيعته المتناقضة. فلم يدركوا أن الانخراط في المنافسة العسكرية يمكن أن يكون هدفا رأسماليا "مشروعا" بنفس قدر مشروعية الانخراط في المنافسة الاقتصادية على الأسواق.
وكما رأينا في الفصل السابق، لم تستطع واحدة من أعظم أتباع ماركس هي روزا لوكسمبرج أن تستوعب كيف تستطيع الرأسمالية أن توسع القيمة المتجسدة في وسائل الإنتاج باضطراد دون أن تنتج مزيدا من البضائع الموجهة للاستهلاك. وبنفس الطريقة، لم يكن هؤلاء الماركسيون قادرين على استيعاب كيف يمكن أن تستفيد الرأسمالية من استمرار التوسع في وسائل الدمار. وقد دفعتهم لاعقلانية ما يفعله الرأسماليون إلى حد من البلبلة حاولوا معه إنكار أن النظام يعمل بهذه الكيفية.
غير أن هذه النفقات كان لها آثار ضخمة على الرأسمالية خلال الجزء الأخير من القرن العشرين. فقد لعبت نفقات التبديد دورا متناقضا، فأدت إلى تخفيض كمية فائض القيمة المتاحة للاستثمار الإنتاجي، ومن ثم تصدت للميل نحو التراكم فائق السرعة والأزمة. ولكن الأثر النهائي لإبطاء عملية التراكم هو صناعة سلسلة جديدة كاملة من المشكلات للنظام كما سنرى في الفصل التاسع.
نفقات الرفاه وعرض قوة العمل
لا تقع كل أشكال إنفاق الدولة التي سردناها سابقا تحت تصنيف التبديد غير الإنتاجي سواء بالمعنى الضيق أو بالمعنى الأوسع لهذا التبديد. فالإنفاق على البحث والتطوير الذي تموله الدولة (والذي يصنف تحت البند "ز" في القائمة السابقة) ويساهم في دعم عملية التراكم في الاقتصاد عموما يلعب دورا واضحا بالنسبة لرؤوس الأموال التي تنتفع منه يماثل دور الإنفاق على العمل الميت المتجسد في وسائل الإنتاج. ولكن ماذا عن الإنفاق على الصحة والتعليم وخدمات الرفاه الاجتماعي (التي تماثل النفقات المدرجة تحت البند "ه" والبند "و" عند الرأسماليين الأفراد)؟ هنا من الضروري أن نتدارس نقطة ناقشها ماركس فقط مناقشة عابرة – أي إعادة إنتاج الطبقة العاملة التي تحتاج الرأسمالية لاستغلالها.
في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، لم يضطر الرأسماليون الصناعيون الأوائل إلى الاعتناء كثيرا بشأن عرض قوة العمل، فقد كانت متاحة بوفرة بمجرد أن أزاح "التراكم البدائي" ما يكفي من صغار الفلاحين خارج أراضيهم. وافترضوا أنهم يستطيعون إخضاع الفلاحين السابقين وأطفالهم لنظام العناية بالآلات التي لا تحتاج إلى المهارة(26) وأن يعتمدوا في نفس الوقت على جذب العمالة المدربة كحرفيين إلى العمل في المصانع في الأعمال الأعلى مهارة. ولهذه الأسباب، فإن ماركس، الذي عالج مسألة التراكم البدائي ومعاملة العمال في المصانع معالجة تفصيلية، تجاهل تقريبا المشكلة التي تواجه الرأسماليين في الحصول على قوة عمل مؤهلة بدنيا ومهاريا. ومع ذلك، بحلول وقت وفاته كان انتشار الصناعة الرأسمالية إلى قطاعات جديدة من الإنتاج يجعل عرض وإدارة قوة العمل – خارج المصنع وداخله – أمرا يدعو إلى القلق والاهتمام المتزايد بالنسبة لمن يروجون للتراكم الرأسمالي.
يهدف الرأسمالي الفرد إلى أن يدفع للعامل الفرد ما يكفي فقط مقابل ساعة أو يوم أو أسبوع عمل ما يبقيه لائقا بدنيا ومستعدا للعمل. لكن ذلك لا يعبأ بعدد من الأمور الهامة إذا كان لقوة عمل بأعداد ونوعية كافية أن تكون متاحة للطبقة الرأسمالية ككل مع مرور الزمن. فلا يأخذ في الاعتبار ضرورة أن يتعلم العمال المهارات الضرورية ولا يدعمهم خلال فترات البطالة حتى يكونوا قادرين على عرض قوة عملهم عندما تنتهي الأزمة. ولم يعالج مشكلة فقدان العمال مؤقتا صلاحيتهم للاستغلال بشكل منتج بسبب المرض أو الإصابة. ولا يوفر ما يلزم لتربية أطفال الطبقة العاملة الذين سيصبحون الجيل التالي من قوة العمل.(27)
بذلت محاولات مختلفة ومؤقتة خلال القرن التاسع عشر لمعالجة كل واحدة من هذه المشكلات. فقامت صناديق دينية وخيرية أخرى بتوفير بعض التيسيرات للعاطلين أو للمرضى. ومورست الضغوط على نساء الطبقة العاملة لتحمل أعباء رعاية الأطفال عبر ترويج أيديولوجيات تعامل الرجال على أنهم كاسبي الأجور وأجور الرجال على أنها "أجر الأسرة" (وذلك رغم أن نساء الطبقة العاملة كن دائما يعملن بدرجة ما وأن أجر الرجل نادرا ما كان يكفي لإعالة أسرة)(28). وكانت بعض الشركات توفر لقوة عملها سكنا تحت إدارتها الخاصة – وأحيانا حدا أدنى من المرافق الصحية كذلك. ومجموعات من العمال المهرة كانت تدير صناديق لتوفير احتياجاتها خلال فترات البطالة أو المرض. وكانت بعض الشركات تدمج في نظام مصنعها نوعا من التلمذة الصناعية في شكل نظام الحرف السابق على الرأسمالية، يتعلم فيه الصغار حرفة من خلال العمل تحت إشراف عمال مهرة بأجور شديدة التدني لمدة خمس أو سبع سنوات.  
غير أنه أتضح مع مرور الزمن أن الأساليب المؤقتة غير كافية وأن الدولة اضطرت أن تتولى كثيرا من المهام من أيدي الرأسماليين الأفراد والمؤسسات الخيرية. وقد تدخلت الدولة في بريطانيا مبكرا مع صدور قانون الفقراء لسنة 1834 لضمان أن الشروط التي يحصل بمقتضاها الفقراء أو العاجزون على إعانة الفقر ستكون على درجة من الصعوبة حتى أن من يستطيعون العمل سوف يعملون مهما كان الأجر متدنيا. وفي عام 1848 أسست الدولة هيئة للصحة حتى تتحرك ضد انتشار الأمراض في مناطق الطبقة العاملة – والتي كانت تصيب مناطق الأغنياء أيضا. وعلى مدى عدة عقود جرى إغراؤها والتزلف إليها حتى تحدد ساعات العمل للأطفال وتمنع تشغيل النساء في الأعمال التي قد تضر بقدرتهن على الحمل وتربية الجيل التالي. وفي سبعينيات القرن التاسع عشر تحركت لتأسيس نظام للتعليم الأولى تحت إدارة الدولة ولتشجيع بناء المنازل للعمال المهرة. ثم في العقد الأول من القرن العشرين قامت بالتحركات الأولى لتنظيم مختلف الإجراءات المؤقتة التي اتخذت عبر 70 عاما ماضية في هيئات وطنية لتقدم حدا أدنى من مزايا التأمين الاجتماعي ضد البطالة والشيخوخة والمرض.(29) وكان الدافع وراء ذلك ينبع من صدمة اكتشاف كيف أن قليلا جدا من أبناء الطبقة العاملة كانوا أصحاء بما يكفي للانخراط في الخدمة العسكرية وذلك خلال عملية التجنيد لخوض حرب البوير. وقد لخصت آن روجرز رد فعل الطبقتين العليا والوسطى على هذه الإجراءات:
"كان الاعتقاد بضرورة التغيير إذا كان لبريطانيا أن تنجح في المنافسة مع ألمانيا والولايات المتحدة اعتقادا محوريا. وسواء صاغ هذه الفكرة الامبرياليون الفابيون أو الليبراليون، كان التركيز ينصب على الضرر الذي يحدثه الفقر في المجتمع بدلا من حالة البؤس التي يسببها لفرادى العمال… كان السبب الأساسي وراء الرغبة في تحسين صحة الطبقة العاملة هو الحاجة لقوة عمل تتمتع بصحة أفضل في المصانع وفي الجيش."(30)
لم تأت هذه الإجراءات ببساطة نتيجة لتجمع الرأسماليين واتخاذهم قرارا بشأن ما هو عقلاني بالنسبة لنظامهم. بل إنها جاءت فقط بعد حملات متكررة شارك فيها المحسنون من أبناء الطبقة العليا ممن يحملون احتقارا محافظا لوضاعة الرأسمالية ونهمها للمال، وكذلك الواعظون الأخلاقيون من الطبقة الوسطى بشأن سلوك الطبقة العاملة، والانتهازيون السياسيون في سعيهم لكسب أصوات الطبقة العاملة، ومفتشو المصانع والأطباء ذوي الاهتمام المهني بسلامة وصحة الناس – ومعهم، وبشكل مستقل عنهم في الأغلب، قادة النقابات والاشتراكيون.
لكن هذه التحالفات وضعت إطارا للمشاريع التي كانوا يسعون وراءها من حيث ما كانوا يعتبرونه عقلانيا بالنسبة للرأسمالية، وكان معنى ذلك ما هو ضروري لإمداد الرأسمالية بموارد من قوة العمل الماهرة والمتمتعة بصحة كافية. وقد ظهر ذلك بوضوح في أحد الملامح التي ميزت إصلاحات أوائل القرن العشرين بنفس مقدار ما أظهرته الجهود الخيرية في أوائل القرن التاسع عشر. فأي مزايا كانت دائما تقدم بطريقة ترمي إلى إجبار جميع المؤهلين القادرين إلى البحث عن عمل، فكان يلزم تطبيق مبدأ "نقص الاستحقاق": أي أن الحصول على إعانة الفقر لابد أن يحافظ على بقاء متلقي الإعانة في وضع أسوأ من أسوأ الأعمال أجرا. وأكثر من ذلك، لم تكن الإعانات تهدف إلى أن تنفق عبر تحويل للقيمة من رأس المال إلى العمل، بل عبر إعادة توزيع الدخل بين الطبقة العاملة من خلال "مبدأ التأمين". فكانت الدفعات الأسبوعية التي يقدمها القادرون على العمل تستخدم في مساندة من لا يستطيعون العمل بسبب المرض أو البطالة.
ارتفع دور الدولة في توفير وتدريب وإعادة إنتاج قوة العمل على مدار القرن العشرين، وبلغ ذروة خلال فترة الرخاء الطويل من منتصف أربعينيات القرن العشرين وحتى منتصف السبعينيات من نفس القرن، واستمر لفترة في المرحلة الجديدة من الأزمات التي أعقبت ذلك. وخلال كل هذا، استمر تنظيم "دولة الرفاه" وفق مصالح رؤوس الأموال الوطنية، حتى عندما كانت القوة الضاغطة لتوسيع دورها تأتي من أسفل، مثلما كان الحال خلال الحرب العالمية الثانية عندما أعلن السياسي البريطاني المحافظ كوينتين هوج إعلانه الشهير: "إذا لم تمنح الناس إصلاحا اجتماعيا، فسوف يردون عليك بثورة اجتماعية"(31). وقال إنورين بيفان وزير الصحة البريطاني عن حزب العمال في أربعينيات القرن الماضي إن إجراءات التأمين الصحي العام أصبحت جزءا من النظام، "ولكنها لا تنبع منه. والرأسمالية بنسبتها إليها إنما تفخر باستعراض الميداليات التي اغتنمت في المعارك التي خسرتها."(32) غير أن حقيقة الأمر هي أن من صاغوا تلك الإجراءات – بمن فيهم بيفان – فعلوا ذلك بالأساليب التي يمكن أن تتلاءم مع احتياجات النظام.
ولذلك آثار هامة بالنسبة لقوة العمل التي تبذل لأداء هذه الخدمات – وبالنسبة للناس الذين يقدمونها. فهناك اتجاه واسع الانتشار عند الماركسيين – وكذلك عند بعض غير الماركسيين(33) – نحو التأكيد على أن هذا العمل لا يمكن أن يعد إنتاجيا لأنه لا ينتج سلعا إنتاجا مباشرا. لكن هذه الحال تنطبق كذلك على كثير من العمل داخل أي مؤسسة رأسمالية، والذي لا يعدو أن يكون شرطا أوليا لعمل آخر ينتج المنتجات النهائية. إنه عمل منتج باعتباره جزءا من عمل "العامل الجماعي"(34) داخل المؤسسة. إن نجارا أو  بناءا مدربا تدريبا كاملا يمكن أن تكون إنتاجيته أكثر بمراحل عديدة من إنتاجية عامل غير ماهر؛ كما أن صانع أدوات مدربا تدريبا كاملا يستطيع أن يأتي بأعمال لا يمكن أن يقوم بها عامل غير ماهر. فعمل الذين يقومون بالتدريب يضيف إلى قدرة العامل الجماعي على إنتاج القيمة. وهؤلاء يخضعون للاستغلال لأنهم يتلقون قيمة قوة عملهم لا قيمة التدريب الذي يقدمونه. وقد يوجد خلاف حول مدى ملاءمة المهارات التي يضيفها عملهم لتصنيفات ماركس: أي هل يمكن معادلتها مع المصانع والمعدات كشكل من أشكال رأس المال الثابت، أم أنها مجرد قوة عمل مكثفة فتدرج كرأس مال متغير؟(35) كما أنه يوجد خلاف بين الشركات الفردية حول مزايا الاضطلاع ببرامج التدريب. فقد تربح هذه الشركات في المدى القصير، لكن ما الذي يمنع الشركات الأخرى من "صيد" عمالها المهرة دون اضطرارها إلى تكبد تكاليف تدريبهم.(36) وأخيرا، هناك خلافات حول كيفية تمييز طبيعة العمل المستخدم في تدريب عمال آخرين: هل هو "منتج" أم "منتج غير مباشر"؟ غير أنه لا ينبغي الشك في دوره في زيادة إجمالي الإنتاجية والناتج المحتمل: فهو جزء من مجمل العمل الإنتاجي لدى الشركة ولدى النظام ككل.(37)
إن جانبا كبيرا من العمل الذي يستخدم في النظام التعليمي يلعب دورا مطابقا في توفير المهارات التي يحتاجها رأس المال رغم أن المهارات في هذه الحالة لا تتاح فقط لرأسماليين أفراد بل لكل الرأسماليين الذي يمارسون نشاطهم من داخل الدولة التي توفر هذا التعليم. إن التدريب على المهارات الذي يحصل عليه عمال المستقبل من أحد المدرسين في مؤسسة تعليمية يضيف إلى كمية العمل الضروري اجتماعيا التي يستطيعون توفيرها في ساعة تماما بنفس طريقة التدريب الذي قد يحصلون عليه داخل إحدى المؤسسات الرأسمالية. كما أن تكلفة التدريب جزء من تكلفة توفير قوة العمل تماما بنفس قدر الأجور التي تستخدم في شراء الطعام والملابس والسكن التي يحتاجها العمال. فالمؤسسات في ظل الرأسمالية الحديثة تحتاج قوة عمل يكون لديها على الأقل حدود دنيا من معرفة القراءة والحساب. والمدرسون الذين يقدمون هذه المعرفة يجب اعتبارهم جزءا من العامل الجماعي، الذي يعمل في النهاية لدى مجمع رؤوس الأموال الوطنية الذي تخدمه الدولة. مبررو النظام الرأسمالي يعترفون بذلك عن غير قصد عندما يشيرون إلى توفير التعليم باعتباره "يضيف إلى رأس المال الاجتماعي" ويطالبون "بقيمة مضافة" في المدارس.
وينطبق ذات المبدأ العام على الخدمات الصحية التي تعتني بالعمال الحاليين أو المحتملين أو عمال المستقبل. والإنفاق على الحفاظ على قوة العمل لائقة وقادرة على العمل في واقع الأمر جزء من الأجر، حتى عند سداده عينيا بدلا من السداد النقدي ويوجه إلى العمال في مجموعهم لا بصورة فردية. وبمصطلحات ماركس، هذا الإنفاق جزء من "رأس المال المتغير". يتضح ذلك جليا في بلدان مثل الولايات المتحدة حيث تقدم الرعاية الصحية لمعظم العمال من خلال برامج للتأمين يوفرها أصحاب العمل الذين يعملون لديهم. وينبغي أن يكون واضحا بنفس القدر في بلدان مثل بريطانيا حيث تقوم الدولة بتوفير الرعاية الصحية نيابة عن رؤوس الأموال الوطنية. كما أن مصطلح "الأجر الاجتماعي" شائع الاستخدام شعبيا وصف دقيق له. وهو مصطلح دقيق أيضا بنفس الدرجة عند تطبيقه على إعانة البطالة التي تتوفر فقط لمن يثبتون استعدادهم للعمل وقدرتهم عليه، وكذلك برامج التقاعد عن العمل طوال العمر. إن الرأسمالي يريد عمالا راضين لاستغلالهم بنفس طريقة فلاح يريد أبقارا راضية. فلا يمكن توقع أن يعمل العمال بأي قدر من الالتزام نحو عملهم إلا إذا توافر نوع من الوعد بأنهم لن يموتوا جوعا بمجرد أن يبلغوا سن التقاعد. وكما يوضح ماركس أن هناك عنصرا يحدد تاريخيا واجتماعيا في تكلفة إعادة إنتاج قوة العمل بالإضافة إلى عنصر فيسيولوجي.
لكن قوة العمل ليست شيئا مثل السلع الأخرى التي تكون سلبية لدى شرائها وبيعها. إنها التعبير الحي عند البشرية. وما يكون من وجهة نظر الرأسمالي "إعادة إنتاج لقوة العمل" يكون بالنسبة للعامل فرصة للراحة والمتعة والإبداع. وهناك صراع على الأجر الاجتماعي مثل الصراع على الأجر الطبيعي، حتى وإن كانا كلاهما إلى حد معين ضروريين بالنسبة لرأس المال.
وتتعقد المشكلة من وجهة نظر رأس المال بسبب حقيقة أن مزايا الرفاه الاجتماعي ليست كلها منتجة بأي معنى. فجانب كبير منها معني فقط بالحفاظ على علاقات الاستغلال القائمة. فقد أكدت دراسات أجريت على تعليم أبناء الطبقة العاملة في المدارس خلال القرن التاسع عشر على أن ما يتضمنه لم يكن تعليما للمهارات بقدر ما كان غرسا للانضباط واحترام السلطة في أذهانهم.(38) ولم يبدأ الاهتمام بأن تصبح المهارات الأساسية لقوة العمل شاغلا للرأسمالية البريطانية إلا في أواخر القرن التاسع عشر في مواجهة المنافسة الخارجية. واليوم تتعلق علوم مثل الاقتصاد وعلم الاجتماع بمحاولة إعادة إنتاج الأيديولوجيا البرجوازية، بينما تهتم علوم أخرى مثل المحاسبة المالية بإعادة التوزيع غير الإنتاجية لفائض القيمة بين أعضاء الطبقة الرأسمالية.
وإذا كان رأس المال لا خيار أمامه إلا تقبل هذا النوع من "مصاريف الإنتاج" غير الإنتاجية، فهناك بنود في الإنفاق على الرفاه الاجتماعي يتمنى لو كان قادرا على التخلص منها ويسعى جاهدا إلى تقليصها للحدود الدنيا. وهذه البنود تنفق على من لا يحتاجهم كقوة عمل (أي العاطلين الذين مكثوا طويلا في البطالة ولا حاجة لمهاراتهم) أو على غير القادرين على بذلها (أي المعاقين والمرضى بأمراض مزمنة). ولدى رأس المال ميل مماثل تجاه الإنفاق المقدم لجمهرة كبار السن ولكن يقيده إلى حد ما حاجته إلى إشاعة انطباع للعمال المستخدمين حاليا بالطمأنينة بشأن مستقبلهم. وقد أوضح ماركس أن هناك فائضا من السكان ليس للنظام مصلحة حقيقية في بقائهم على قيد الحياة فيما عدا درء التمرد ومنع الإحباط الذي قد يحدثه التخلص منهم بين الطبقة العاملة المستخدمة فعلا، وذلك  إلى جانب "جيش العمال الاحتياطي" الذي يستطيع الدخول في قوة العمل النشطة عندما يمر النظام بدورة من التوسع (وفي نفس الوقت يشكل ضغطا هبوطيا على مستوى الأجور). 
إن تاريخ تشريعات الرفاه الاجتماعي على مدى 180 عاما ماضية تاريخ من المساعي التي ترمي إلى الفصل بين الإنفاق الذي يعد ضروريا بالنسبة لرأس المال بنفس طريقة مدفوعات الأجور، وذلك الإنفاق غير الضروري لكن رأس المال مضطر إليه بسبب حاجته إلى احتواء الغضب الشعبي. وهو ما نجد تعبيرا عنه في حوارات بين هؤلاء الذين قد يديرون رأسماليات قومية حول كيفية تفاعل سياسة الرفاه الاجتماعي مع سياسة سوق العمل، وبين اقتصاديي التيار السائد حول المستوى "الطبيعي" أو "غير التضخمي" للبطالة، وبين علماء الاجتماع ومنظري العمل المجتمعي حول "الطبقة الدنيا".
إن التفرقة بين النفقات الاجتماعية التي تعد بطريقة ما منتجة بالنسبة لرأس المال وتلك التي تعد غير منتجة يتجاوز بعض الأساليب العادية في تقسيم الموازنات الوطنية. هكذا نجد التعليم يشمل تدريبا على العمل الإنتاجي وكذلك تدريبا على أشكال العمل غير الإنتاجي (مثل ترويج المبيعات أو التمويل) بالإضافة إلى زرع القيم الأيديولوجية البرجوازية. والرعاية الصحية وإعانات البطالة تحافظ على القوى العاملة لائقة ومستعدة لبذل قوة عملها وكذلك آليات للحفاظ على التماسك الاجتماعي عبر تقديم الحد الأدنى على الأقل من الإعانة لكبار السن، والمعاقين والعاطلين لفترة طويلة. وتكتسب هذه الأمور الغامضة أهمية عندما يجد رأس المال أن تكاليف الإعانات التي تقدمها الدولة بدأت في الاقتطاع من معدلات الربح.
عند هذه النقطة، تتعرض الدول لذات الضغوط التي تتعرض لها رؤوس الأموال الكبيرة عند مواجهة منافسة مفاجئة – أي الضغوط نحو إعادة الهيكلة وإعادة تنظيم أعمالها حتى تتسق مع قانون القيمة. ويعني ذلك محاولة فرض معايير للعمل وبرامج للأجور على العاملين في قطاع الرعاية الاجتماعية تشبه تلك المعايير التي تطبق داخل أكثر الشركات الصناعية تنافسية من ناحية، كما تعني تخفيضا للإنفاق على الرعاية الاجتماعية حتى تقصرها قدر الإمكان على خدمة قوة العمل الضرورية لعملية التراكم الرأسمالي من الناحية الأخرى – وأن تفعل ذلك بطريقة تجعل من يبذلون قوة العمل هذه مستعدون لبذلها مقابل الأجور التي تقدم لهم.
وتزداد هذه الضغوط كلما أصبحت إدارة قوة العمل أكثر أهمية بالنسبة للدولة. وفي سياق هذه العملية، الموظفون الذين يعملون في مجال الرعاية الاجتماعية والصحية وقطاع التعليم، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم في مرحلة معينة من التطور الرأسمالي جزءا من الطبقة الوسطى المهنية – ويحصلون على رواتب وشروط عمل تقارن بالمحامين والمحاسبين – يجدون أنفسهم هدفا لعملية مؤلمة من البلترة. وهذا، كما سنرى، يضيف إلى المشكلات التي تحاصر الدول الرأسمالية القومية لدى محاولتها التعامل مع الأزمات المفاجئة. ويصبح الإنفاق العام هدفا محوريا للصراع الطبقي بطريقة لم يشهدها في زمن ماركس.