الجزء الثاني:
الرأسمالية في القرن العشرين
الفصل السادس:
الكساد الكبير
أزمة غير مسبوقة
أعمق أزمة عرفتها الرأسمالية في تاريخها، أعقبها رخاء هو الأكثر استمرارا،
وتخللتها أشد الحروب دموية في تاريخ البشرية، كان هذا مسار الرأسمالية خلال خمسين
عاما توسطت القرن العشرين.
كانت الولايات المتحدة في مركز الزلزال في هذه الأزمة، وقد خرجت من الحرب
العالمية الأولى كأكبر قوة اقتصادية تنتج 50 بالمئة من إجمالي الإنتاج الصناعي
العالمي، متجاوزة بذلك كلا من بريطانيا التي انتصرت في الحرب وألمانيا المهزومة. وغالبا
ما تحدد بداية الكساد مع أزمة وول ستريت في 29 أكتوبر 1929، عندما هبطت بورصة
نيويورك بحوالي الثلث. لكن "النشاط الاقتصادي كان يعاني بالفعل قبل هذه
الأزمة"، مع انخفاض إنتاج السيارات بمقدار الثلث في شهر سبتمبر مقارنة مع شهر
مارس 1929.(1) وعلى مدى الأعوام الثلاثة التالية، تراجع الإنتاج الصناعي للولايات
المتحدة بحوالي النصف، وانتشرت الأزمة عبر المحيط الأطلنطي إلى أوروبا، حيث كانت
هناك فعلا علامات أولى على الأزمة. وانخفض الإنتاج الصناعي في ألمانيا أيضا بحوالي
النصف، ومع بعض التأخير، تراجع الإنتاج الفرنسي بما يقرب من 30 بالمئة. وحدها بريطانيا
هي التي شهدت نسبة انخفاض أقل في إنتاجها الصناعي – بلغت حوالي 20 بالمئة – لكن
سبب ذلك أن صناعاتها الثقيلة كانت تعاني فعلا من وضع ركودي.
وبحلول عام 1932، كان ثلث القوة العاملة في الولايات المتحدة وألمانيا في
عداد البطالة وخمسها في بريطانيا. لم يعان العمال اليدويون وحدهم من البطالة كما
في الأزمات السابقة، بل كذلك الموظفون ذوو الياقات البيضاء الذين كانوا يظنون في
أنفسهم الانتماء إلى الطبقة الوسطى. فقد أفلس المئات من البنوك المحلية في
الولايات المتحدة وانهارت بعض البنوك العملاقة في أوروبا على نحو يثير الدهشة، ما
بدد مدخرات الناس وفاقم شعورا عاما بالكارثة. ومع ضرب الأزمة كل البلدان الصناعية
مرة واحدة، دمرت الطلب على ناتج البلدان الزراعية، فأدت إلى انخفاض الأسعار التي
تلقاها الفلاحون مقابل منتجاتهم مخلفة وراءها مستنقعات شاسعة من الفقر المدقع. ولم
تفلت منطقة واحدة في العالم على الأقل من بعض التدهور في الإنتاج،(2) كما هبطت
التجارة العالمية إلى ثلث مستواها في عام 1929.(3) وذلك مقارنة مع "الكساد
الكبير" السابق في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر الذي شهد نموا في كل
من الناتج العالمي والتجارة العالمية أثناءه.(4)
رخاء عشرينيات القرن العشرين
عزز من الصدمة الأيديولوجية للأزمة الكيفية التي بدا عبرها أن الرأسمالية
قد تعافت في الأعوام السابقة عليها من دمار الحرب العالمية الأولى: حيث تضاعف
الناتج الصناعي للولايات المتحدة خلال الفترة من عام 1914 وحتى عام 1929، مع ظهور
عدد من الصناعات الجديدة التي بدأت في تثوير أنماط الاستهلاك – مثل الراديو
والحرير الصناعي والكيماويات والطيران وصناعة التبريد واستبدال وسائل الإنتقال
التي تجرها الخيول بوسائل تعمل بالمحركات. وكان للازدهار في الولايات المتحدة أثر
مفيد في أوروبا. فألمانيا التي أجهدتها الحرب الأهلية في 1919-1920 ثم عانت تضخما
لا نظير له في 1923، شهدت آنذاك زيادة في الناتج الصناعي بنسبة 40 بالمئة عن مستوى
عام 1914. وتضاعف الناتج الصناعي في فرنسا. وعرضت الصحافة صورة من التفاؤل غير
المحدود بشأن الرأسمالية، معلنة "عهدا جديدا" من الازدهار الأبدي. وكان
الاقتصاديون من التيار السائد على نفس الدرجة من الثقة. كتب ألفين هانسن أن
"أمراض طفولة" الرأسمالية في شبابها "يجري تخفيفها"، بينما قال
أبرز الاقتصاديين النيوكلاسيك في أميركا عشية أزمة وول ستريت: "لقد وصلت
أسعار الأسهم إلى ما يشبه مستوى مرتفعا بصفة دائمة"، وأخذ ينضح تفاؤلا
باستمرار لعدة شهور بعدها، بينما كان جون ماينارد كينز يؤكد لطلابه في بريطانيا
"أن أزمة أخرى لن تحدث في حياة جيلنا"(5) الديمقراطيون الاجتماعيون من
الماركسيين انضموا إلى الجوقة، مع نظرية هيلفردينج حول "الرأسمالية
المنظمة" كنظام اختفت فيه فوضى السوق والميل إلى الأزمة.(6) وفجأة ثبت أنهم
جميعا على خطأ.
كان رد الفعل الأول لدى السياسيين من التيار السائد ورفاقهم على الدرب في
مهنة علم الاقتصاد هو افتراض أن ما عليهم سوى الانتظار لفترة قصيرة وسوف تبدأ
الأزمة في تصحيح نفسها. وقد طمأن رئيس الولايات المتحدة هربرت هوبر الشعب قائلا:
"إن الانتعاش قريب جدا." لكن الانتعاش لم يأت في 1930، ولا 1931 ولا
1932. كما أن العقيدة الاقتصادية التي كانت شديدة الثقة لدى مديحها في عجائب
الرأسمالية منذ وقت جد قصير عجزت عن توضيح السبب – ومازالت لا تستطيع توضيح السبب حتى
اليوم.
وقد بذلت محاولات لتقديم هذا التفسير. وكان أكثرها شيوعا بين أكثر
العقائديين في ذلك الوقت هي تلك التي صاغها الاقتصادي الانجليزي بيجو. ووفقا
لنظريته، إن العمال وضعوا أسعارا عالية لأنفسهم تدفعهم إلى فقدان وظائفهم بسبب عدم
قبولهم تخفيضا في أجورهم النقدية. ولو كانوا قبلوا هذا التخفيض لانتهت جميع
المشكلات بتأثير سحر عملية العرض والطلب. وطرح إيرفينج فيشر متأخرا تفسيرا نقدويا،
دافعا بأن عرض النقود كان شديد الانخفاض ما أدى إلى تراجع الأسعار وبالتالي زيادة
تراكمية في حجم الديون. أما منظرو المدرسة النقدوية الأحدث فإنهم يلقون باللوم على
سلوك قادة البنوك المركزية. ويذهبون إلى أنه لو كان بنك الاحتياط الفيدرالي
الأمريكي تحرك فقط من أجل وقف انكماش عرض النقود في عامي 1930 و 1931 لمضى كل شيء
على ما يرام – النقدوي الأبرز في عقود ما بعد الحرب ميلتون فريدمان أرجع أخطاء
الأزمة ومدى عمقها إلى وفاة رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي لنيويورك بينجامين
سترونج في أكتوبر 1928.(7) وفي المقابل، زعم فريدريك فون هايك ومعه المدرسة
"النمساوية" أن الائتمان المفرط في عشرينيات القرن العشرين أدى إلى
"خلل في توازن بنية الإنتاج."(8)، الأمر الذي كان سيزداد سوءا بزيادة
عرض النقود. علاوة على أن اقتصاديين آخرين ألقوا اللائمة على تفكك الاقتصاد العالمي
في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بينما شدد جون ماينارد كينز على تجاوز الادخار
حجم الاستثمار الذي أدى إلى نقص "الطلب الفعال" على ناتج الاقتصاد. وأخيرا
كان الادعاء الذي مازالت تروجه معظم تعليقات الميديا اليوم بأن زيادة الرسوم
الجمركية في الولايات المتحدة بمقتضى قانون سموت-هاولي في صيف عام 1930 أطلقت موجة
من السياسات الحمائية لتمنع بذلك انتعاشا كان سيحدث لولا هذه السياسات وإذا سمح
لحرية التجارة أن تسود لا يعوقها عائق.
ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن وأنصار كل اتجاه من هذه الاتجاهات يسهل عليهم
اكتشاف الثغرات في وجهات نظر أنصار الاتجاهات الأخرى، دون أن يكون أي منها قادرا
على الصمود أمام نقد جدي. لذلك يرى رئيس الاحتياطي الفيدرالي الحالي بن برنانكه أن
تفسير الكساد الكبير هو الهدف الأسمى المراوغ أبدا في مهنته. غير أنه إذا لم يكن
بالإمكان تفسير كساد ثلاثينيات القرن العشرين، لن يكون بالإمكان كذلك إجراء حساب
جدي لاحتمالات تكراره في القرن الحادي والعشرين.
إن استخلاص الأسباب الحقيقية للكساد من هذا المزيج من الآراء المتناقضة
يتضمن قبل كل شيء النظر إلى ما حدث فعلا خلال عشرينيات القرن العشرين.
لقد شجع النمو الاقتصادي السريع وتزايد وانتشار السلع الاستهلاكية الجديدة
على أن يرى الناس تلك الفترة عقدا من الارتفاع المتواصل في مستويات المعيشة
والاستثمار الانتاجي الضخم – وهي قصة مازالت مقبولة عادة حتى اليوم. غير أن الأجور
في واقع الأمر لم ترتفع إلا بإجمالي 6.1 بالمئة فقط بين عامي 1922 و 1929 (9) (ولم
تحدث أي زيادة فيها بعد عام 1925) كما أن قوة العمل في الصناعة ظلت ثابتة بينما
توسع الإنتاج الصناعي بحوالي الثلث. ويلاحظ مايكل برنشتاين "أن 93 بالمئة
الأفقر من السكان غير الريفيين تعرضوا لانخفاض في متوسط الدخل القابل للإنفاق خلال
رخاء أواخر عشرينيات القرن الماضي" (10). إن انخفاض نصيب العمل من الدخل
الإجمالي يعني انخفاضا في نسبة الناتج القومي التي يمكن شراؤها بواسطة الأجور. وأن
الاقتصاد استطاع أن يستمر في توسعه فقط بسبب أن شيئا آخر كان يملأ فجوة الطلب التي
نشأت عن ذلك.
كثير من التحليلات ادعت بأن الاستثمار اضطلع بهذا الدور. ويروي جوردن كيف
أن كثيرا من الأدب الحديث يرى "أن الملمح الأكثر وضوحا في عشرينيات القرن
الماضي هو الاستثمار الزائد."(11) ويلاحظ هانسن بعد التهذيب في تحليله للأزمة
أن "مبلغا هائلا يصل إلى 138 مليار دولار" من "الاستثمارات"
قد "قاد الاستهلاك" خلال عشرينيات القرن الماضي، غير أن نصف هذا المبلغ
فحسب كان استثمارا للشركات، واقتصرت الاستثمارات الجديدة على ثلث المبلغ فقط، أي 3
مليارات دولار فقط في السنة.(12) بمعنى آخر، أن وراء مظهر التوسع السريع للاستثمار،
شهد الواقع على مستوى منخفض نسبيا في التراكم الإنتاجي رغم القوة الدافعة التي
وفرتها الصناعات الجديدة. وقد أكدت على ذلك تحليلات أخرى كتبها سيمون كوزنتس(13)
وجوزيف شتايندل(14) وجيلمان.(15)
نتيجة واحدة فقط نستطيع استخلاصها من هذه الأرقام، هي أن الرخاء ما كان له
أن يحدث إذا اعتمد فحسب على الطلب على السلع الناتج عن الأجور والاستثمار
الإنتاجي. وأن عاملا ثالثا لابد أنه كان حاضرا حتى يمنع تكدس البضائع غير المباعة
والركود في منتصف عشرينيات القرن الماضي. وكما أقر هانسن "إن قوى التحفيز
والدعم من خارج استثمار الشركات والاستهلاك كانت حاضرة… وإذا نحينا هذه المحفزات،
لكان إنفاق الشركات بلغ حجما أكثر تقشفا، ليترك الاقتصاد راكدا إن لم يكن
كاسدا."(16)
هانسن، كأحد الاقتصاديين من التيار السائد، حتى وإن أصبح الآن ناقدا له،
اعتبر هذه القوى "نفقات رأسمالية غير اقتصادية (بنايات سكنية وإنشاءات
عامة)" و"الأهمية المتزايدة للسلع الاستهلاكية المعمرة الممولة إلى حد
كبير بواسطة نمو سنوي في أقساط الائتمان بواقع مليار دولار" و"الإقراض
الخارجي غير المسئول نوعا ما."(17)
ويشدد تحليل ماركسي كلاسيكي للأزمة قام به لويس كوري على نمو الاستهلاك الترفي،
والإنفاق غير الإنتاجي والائتمان. وحسب قوله، كان عقد العشرينيات من القرن الماضي
عقدا ارتفعت فيه الدخول من عوائد الأسهم ورواتب الإدارة بوتيرة أسرع عدة مرات من
الأجور الحقيقية،(18) حتى كانت "البرجوازية" (بما فيها البرجوازية
الصغيرة غير الريفية) مسئولة عن 40 بالمئة من الاستهلاك.(19) ثم كان تزايد الإنفاق
على الإعلان وترويج المبيعات حيث كانت الشركات تبحث عن أسواق للعدد المتنامي من
البضائع التي كانت تنتجها – هذا الإنفاق الذي اتخذ شكل دخول للعاملين في مجال
تسويق المبيعات في هذه القطاعات نفسها استطاع من ثم أن يصنع سوقا لبعض البضائع
التي كانت الشركات تحاول بيعها. وجاء تضاعف الإقراض الاستهلاكي(20) ليمكن الطبقة
الوسطى وبعض شرائح العمال أن تشتري "بالتقسيط" بعضا من السلع
الاستهلاكية الجديدة، حيث بلغت مبيعات السيارات مستوى في عام 1929 لم تصل إليه مرة
أخرى حتى عام 1953. وأخيرا كانت الطفرات في استثمارات المضاربة غير الإنتاجية في
العقارات والبورصة. هذه الأنشطة لا تستطيع أن تخلق فائض قيمة جديدا ولا أن تحل
مشكلة الربحية (فلا تتضمن سوى انتقال الأموال من جيب أحد الرأسماليين إلى جيب
آخر). ولكن ما نتج عنها هو إنفاق غير إنتاجي على بنايات جديدة، ورواتب جديدة
للمديرين، واستهلاك مظهري باذخ، ابتلع كله بعض البضائع التي كانت تضخها الصناعة،
ما شجع على المزيد من المضاربة:
"أصبح رأس المال فائق الوفرة جريئا ومغامرا أكثر فأكثر في سعيه وراء
الاستثمار والربح، متدفقا في المضاربات والمؤسسات عالية المخاطرة. وركزت المضاربة اهتمامها
على التغيرات التقنية والصناعات الجديدة التي أدخلت بصرف النظر عن متطلبات الصناعة
ككل…"(21)
ارتفع الإنفاق على الإنشاءات الجديدة غير السكنية بما يزيد على النصف على
مدى عشر سنوات، وكان "أكثر كثافة في الأحياء التجارية المركزية في
المدن". وكان ذلك ملحوظا بدرجة أكبر في نيويورك، حيث بدأ العمل في أعلى مبنى
في العالم، مبنى إمباير ستيت (Empire State Building)، في عام 1929 – والذي
اشتهر رغم ذلك بحلول عام 1931 باسم "مبنى الولاية الخاوية" (Empty State Building).(22)
وبينما كان اقتصاد الولايات المتحدة يزدهر، كان هناك كذلك دفعة للتوسع
الاقتصادي في أوروبا مع تدفق أموال أمريكية استطاعت أن تعوض بعض الدمار الذي سببته
الحرب – كان تأثير خطة داوز الأمريكية في 1924 ذا أهمية ملحوظة في تشجيع القروض
لألمانيا.
هذه العوامل كانت تفقد قدرتها فعلا على مساندة الانتعاش في الصناعة قبل
أزمة وول ستريت. فقد ظهرت بوادر الركود في عام 1927، لكن طفرة خاطفة من الاستثمار
في الصناعة الثقيلة وقطاع السيارات في عام 1928-1929 جرت وراءها بقية الاقتصاد نحو
الأمام.(23) ثم في أواخر ربيع وأوائل صيف عام 1929، انتهت هذه الطفرة نهاية مفاجئة
بانخفاض حاد في الاستثمار الثابت(24) وفي إنتاج السيارات.(25) واختفت المشكلات
الأساسية حتى اللحظة الأخيرة بفعل توسع الائتمان وحجم المضاربة التي دعمت الإنفاق
غير الإنتاجي. ولكن ما أن حدث قطع واحد صغير في سلسلة الاقتراض والإقراض التي
حافظت على هذا الإنفاق حتى كان محتوما أن ينهار هذا الصرح بكامله. وما كان تعليق
ماركس على الأزمات ليصبح أكثر صوابا:
"إن مظهر النشاط وافر القوة مع تدفق الإيرادات في سلاسة يمكن أن يستمر
بسهولة لفترة طويلة حتى بعد أن يكون مصدر هذه الإيرادات جزئيا على حساب المخدوعين
ممن يقرضون النقود وجزئيا على حساب المخدوعين من المنتجين. وهكذا، يبدو نشاط
الأعمال دائما تقريبا مفرطا في قوته حتى عشية الأزمة. ويكون نشاط الأعمال دائما في
منتهى القوة حتى يحدث الانهيار فجأة."(26)
لقد عجل الركود من الانكماش المفاجئ في أنشطة المضاربة والإنفاق غير
الإنتاجي، وبذلك قلص أكثر فأكثر سوق المنتجات الصناعية، وفي مواجهة تدهور
المبيعات، كان الصناعيون يبدأون فعلا في الاقتراض من البنوك بدلا من إقراضها.
وأصبح أولئك الذين انخرطوا في الرخاء القائم على المضاربة (شاملا كلا من الصناعيين
والبنوك) يحاولون الاقتراض أكثر من أجل تغطية خسائرهم بعد الأزمة، غير أن الاقتراض
أضحى شديد الصعوبة. ومن لم يستطع الاقتراض منهم سقط في الإفلاس، متسببا في مزيد من
الخسائر لمن قاموا بإقراضهم من قبل. وانتشرت الأزمة من قطاع اقتصادي إلى قطاع آخر.
وما أن بدأ الإنهيار حتى بدا أنه بلا نهاية. وأدى تدهور الصناعة إلى ضغوط
على البنوك، التي ساهمت بدورها في تعميق تدهور الصناعة وزيادة الضغوط على البنوك. غير
أن ذلك لم يؤد إلا إلى تفاقم اختلال التوازن بين القدرة الإنتاجية والطلب
الاستهلاكي، مما زاد من احتدام الأزمة في قطاع الصناعة. ومع محاولة الشركات الحفاظ
على المبيعات عبر التنافس في تخفيض الأسعار، تراجعت الأرباح في كل مجال ومعها
استعداد حتى الشركات التي نجت للاستثمار. وخفض الإنفاق غير الإنتاجي الذي ساهم في
تنشيط الرخاء خفضا مباشرا مع محاولة الشركات الحفاظ على أموالها بينما الكساد
يزداد عمقا.
لم يكن الوضع في أوروبا أفضل بأي حال، حيث كان الركود فعلا يمضي قدما عندما
وقعت صدمة وول ستريت. وكانت الأوضاع أسوأ في ألمانيا من غيرها، وهي ثانية أكبر
اقتصاد صناعي في العالم، التي بدأت تشهد تدهورا اقتصاديا في عام 1928.(27)
"بحلول صيف عام 1929، كان وجود الأزمة لا تخطئه عين،"(28) حيث بلغت
البطالة 1.9 مليون وأطلق الانهيار المدوي لشركة فرانكفورت للتأمين سلسلة من حالات
الإفلاس.
وأثرت مشكلات كل بلد من البلدان على مشكلات الأخرى. كانت ألمانيا فعلا تشهد
تدفقا للخارج في بعض الأرصدة الأمريكية التي ارتبطت بخطة داوز (Dawes
plan) قبل اندلاع الأزمة. وتحول هذا التدفق للخارج سيلا
جارفا مع استدعاء المؤسسات الأمريكية التي ضربتها الصدمة قروضها قصيرة الأجل من
ألمانيا، ما تسبب في مشكلات للصناعيين الألمان الذين كانوا يعتمدون عليها في تمويل
صناعاتهم التي تعاني من طاقة إنتاجية زائدة. وأفلس أكبر بنوك النمسا، بنك كريديت
أنشتالت، في مايو 1931. وتأثرت بريطانيا بانسحاب الأرصدة الأجنبية من بنوكها
وانفصلت عن النظام المالي العالمي القائم على قاعدة الذهب. وهذا بدوره تسبب في
مخاوف مبالغ فيها جدا في الولايات المتحدة حيث قام بنك الاحتياطي الفيدرالي بزيادة
أسعار الفائدة، و"كانت هناك زيادة مذهلة في حالات انهيار البنوك"(29)
كما تدهور الإنتاج الصناعي أكثر فأكثر.
إن تأثير انتشار الأزمة جعل من السهل على الناس أن يخلطوا بين الأسباب
والنتائج. ومن هنا تأتي التفسيرات المتناقضة من قبل اقتصاديي التيار السائد، مع
إلقاء بعضهم اللوم على الكثرة الشديدة في عرض النقود، وبعضهم على الندرة الشديدة
في عرضها؛ بعضهم يلوم تدخلات البنوك المركزية، وبعضهم امتناعها عن التدخل؛ بعضهم
يلقي اللوم على الإفراط في الاستهلاك، وبعضهم على انخفاض شديد في الاستهلاك؛ بعضهم
يلوم قاعدة الذهب، وآخرون تحول الدول إلى سياسات حمائية والتنافس في تخفيض قيمة
العملة؛ بعضهم يلقى اللوم على سرعة نمو الاستثمار، والآخر على بطئه؛ بعضهم يلوم
تخفيض الأجور، والآخر على "جمودها" في اتجاه الانخفاض؛ بعضهم يلوم ضخامة
حجم المديونية، والآخر يوجه اللوم إلى رفض البنوك تقديم القروض.(30)
ومع ذلك، وسط هذه التفسيرات المتناقضة كانت هناك لمحة جزئية بين الحين
والآخر أن شيئا جوهريا كان يلحق الدمار بالنظام الذي ينحاز له جميع اقتصاديي
التيار السائد وساسته. اثنان من الاقتصاديين يعتقد عادة أنهما يمثلان قطبي اتجاهين
متعارضين، هما كينز وهايك، عثرا في نفس العنصر، لكن بطريقة لم تدفعهما ولم تدفع
مريديهما لأن يأخذوه بجدية.
إن الفكرة الأساسية التي تتخلل كتاب كينز النظرية العامة للتوظف
والفائدة والنقود هي أن الادخار قد يتجاوز الاستثمار، بما يفتح فجوة تضعف
الطلب الفعال على السلع، وبالتالي تقلص الإنتاج حتى يعمل تراجع مستوى النشاط
الاقتصادي على خفض الادخار إلى مستوى الاستثمار. وجادل بأن التغلب على ذلك ممكن
عبر تخفيض سعر الفائدة (إجراءات سياسة نقدية) وضخ مزيد من النقود في أيادي الناس
عبر تخفيض الضرائب وزيادة الإنفاق الحكومي (إجراءات سياسة مالية). غير أنه أقر بأن
هذه الإجراءات قد لا تجدي نفعا، لأن الناس والشركات ربما يستمرون في قرار الادخار
بدلا من الإنفاق. وعلى وجه الخصوص، كان كينز "متشككا نوعا ما في نجاح السياسة
النقدية وحدها التي تتجه نحو التأثير على أسعار الفائدة."(31) وقد اشتهر بشرح
مواطن الضعف في استثمار سيكولوجية القطيع عند المضاربين – "عندما تصبح
التنمية الرأسمالية في أحد البلدان نتاجا ثانويا لأنشطة أندية القمار فمن الأرجح
أن تنجز المهمة على نحو رديء"(32) – وفي الرهان على "روح الحيوية
والنشاط" المتدهورة عند المنظمين.(33) ولكنه أورد عاملا آخر في نقاط معينة في
نص الكتاب. فقد رأى أن عملية توسع الاستثمار الرأسمالي نفسها أدت إلى تدهور العائد
عليه – "الكفاية الحدية" – وبالتالي إضعاف الحافز على الاستثمار الجديد.(34)
كان كينز يعتقد أن تدهور "الكفاية الحدية لرأس المال" حقيقة
إمبيريقية نستطيع اكتشافها، مثلا، في "تجربة بريطانيا العظمى والولايات
المتحدة" في فترة ما بين الحربين. ونتيجة ذلك أن العائد على رأس المال لم يكن
أكبر من تكلفة اقتراض رواد الأعمال بما يكفي لتشجيع الاستثمار الجديد، وبالتالي
يميل إلى "التدخل… عبر مستوى معقول من التشغيل ومستوى من الحياة تكون الشروط
التقنية للإنتاج قادرة على توفيره."(35)
وهي يرى اتجاها طويل الأجل، وأثرا قصير الأجل، يحول الرخاء إلى أزمة في كل
دورة اقتصادية:
"إن جوهر الموقف يكمن في تدهور الكفاية الحدية لرأس المال، وخاصة…
لتلك الأنواع من رأس المال التي ساهمت بالقدر الأكبر في المرحلة السابقة من
الاستثمار الجديد الكثيف."(36)
تفسير كينز لهذا الأمر تأسس على مدخله "الحدي" الشامل، بتبنيه
فكرة أن القيمة تعتمد على العرض والطلب. فمع زيادة عرض رأس المال سوف تنخفض ندرته،
وتنخفض القيمة التي يحصل عليها من يستخدم كل وحدة إضافية منه حتى تبلغ صفرا في
النهاية.(37) ويبدو أن هذا المنطق النظري ظل غامضا جدا بالنسبة لمعظم أتباع كينز.
ففكرة "تدهور الكفاية الحدية لرأس المال" لا تكاد تظهر في معظم
التحليلات التي كتبت عن أفكاره. مع أنها وحدها أكثر المفاهيم راديكالية في كتاباته.
حيث تتضمن أن العراقيل التي تواجه التوظف الكامل تكمن في اتجاه بنيوي في النظام
القائم لا في سيكولوجية الرأسماليين فحسب. وإذا كان الأمر كذلك، فيبدو أنه لا معنى
في مجرد محاولة الحكومات "استعادة الثقة"، لأنه لا يوجد ما تستعيد فيه
الثقة.
صرح هايك بشكل عابر بنفس الفكرة عما كان يحدث للأرباح رغم اختلاف منطقه.
فقد زعم أن الأزمات الدورية تنتج عن اختلال التوازن بين مختلف قطاعات الإنتاج –
حيث يتسبب "الإفراط في الائتمان" في زيادة سرعة النمو في إنتاج السلع
الإنتاجية مقارنة بالنمو في إنتاج السلع الإستهلاكية.(38) وبهذه الطريقة، كما كان
يعتقد، استطاع أن يفسر الدورة الاقتصادية كوسيلة حتمية تتوازن عبرها مختلف
القطاعات مع بعضها الآخر، بما يشبه كثيرا اعتبار ماركس أن الأزمات تستطيع جزئيا أن
تحل التناقضات الداخلية في الرأسمالية – لكن ما كان يراه ماركس سلبيا، كان هايك
يراه إيجابيا. ورغم ذلك تنطوي نظريته على ثغرة كبيرة. لماذا ينبغي أن يسبب التأخر
بين القطاعات عددا بهذا القدر من المشكلات أكثر من عقود سابقة؟ ولماذا، على وجه
الخصوص، لا ينبغي أن يستمر قطاع السلع الإنتاجية في النمو بسرعة كافية ليجر وراءه
بقية الاقتصاد؟ وكانت إجابته التي طرحها بشكل عابر في عام 1935 (والتي لم يحدث
أبدا أن تضمنتها العقيدة الهايكية) هي أن الربحية انخفضت مع توسع ما أطلق عليه
"عمليات الإنتاج غير المباشرة" (The roundabout processes of production) – أي
العمليات التي تتضمن ارتفاع معدل وسائل الإنتاج إلى العمال، أو ما ربما يطلق عليه
ماركس "زيادة التركيب العضوي لرأس المال":
"واضح أنه لابد أن يوجد هامش (للربح) … وإن لم يوجد هذا الهامش، فلن يوجد
أي حافز للمخاطرة بالأموال عبر استثمارها في الإنتاج بدلا من تركها خاملة… وهذا
الهامش لابد أن يصبح أقل كلما طال امتداد عمليات الإنتاج غير المباشرة…"(39).
بمعنى آخر، أدرك كل من كينز وهايك، رغم أنهما لم يتمكنا من شرح ذلك بوضوح،
تلك السمة التي تعد مركزية في نظرية ماركس حول الأزمة الرأسمالية – أي الضغوط
باتجاه انخفاض معدل الربح.
وفي واقع الأمر، تستطيع النظرية الماركسية تقديم تفسير للأزمة يتفادى
تناقضات جميع نظريات التيار السائد. لقد انخفضت معدلات الربح في الولايات المتحدة
بنسبة 40 بالمئة تقريبا بين ثمانينيات القرن التاسع عشر وأوائل عشرينيات القرن
العشرين،(40) "وكانت هذه المعدلات في تدهور فعلا في بريطانيا قبل عام
1914،"(41) أما معدلات الربح في ألمانيا فقد عجزت "عن العودة إلى
مستواها الطبيعي في فترة ما قبل الحرب".(42) ويمكن تتبع هذا التدهور في
معدلات الربح إلى الزيادة طويلة الأجل في معدل الاستثمار إلى قوة العمل المستخدمة
(أي التركيب العضوي لرأس المال)، والتي بلغت حوالي 20 بالمئة في حالة الولايات
المتحدة.(43) وقد استطاعت معدلات الربحية الأمريكية أن تحقق انتعاشا ضعيفا في حقبة
عشرينيات القرن العشرين اعتمادا على زيادة في معدل الاستغلال. لكن هذا الانتعاش لم
يكن كافيا لتحفيز الاستثمار الإنتاجي بالقدر الضروري لاستيعاب فائض القيمة
المتراكم من دورات سابقة للإنتاج والاستغلال. وكانت الشركات ممزقة بين الضغوط
التنافسية التي تدفعها للاضطلاع بالاستثمار في مجمعات ضخمة من المصانع والمعدات
الجديدة (مجمع شركة فورد River Rouge Plant لصناعة السيارات الذي
اكتمل بناؤه في عام 1928، كان الأكبر في العالم) وبين الخوف من أن أي مصانع جديدة
لن تكون مربحة. ربما أن بعضهم أقدم على المخاطرة ولكن كثيرا منهم لم يفعل. معنى
ذلك أن المصانع الجديدة الكبيرة التي بدأت عملها بحلول نهاية فترة الرخاء ضخت
بالضرورة إنتاجا كبيرا جدا في الأسواق، وأغرقتها بمنتجات قللت كثيرا أسعار وأرباح
المصانع القديمة. وتوقفت الاستثمارات الجديدة ما أدى إلى انخفاض التوظيف
والاستهلاك لتزداد الأزمة سوءا.
إن التوسع الذاتي الأعمى لرأس المال أدى إلى زيادة مستمرة على الدوام في
تراكم رأس المال الثابت مقارنة مع العمل الحي. وقد عبر ذلك عن نفسه من ناحية في
معدل للربح أقل كثيرا من مستواه في ربع قرن سابق، ومن ناحية أخرى في تخفيض أصحاب
العمل أجور العمال وبالتالي تدهور جزء من الناتج كانت تستطيع القوة الشرائية
للعمال استيعابه. كان "فائض الإنتاج" وانخفاض معدل الربح وجهين لنفس
العملية التي كانت تدفع النظام إلى الأزمة في نهاية المطاف. استطاعت الطفرة في
الائتمان والإنفاق غير الإنتاجي أن تؤجل الأزمة فقط، لكنها لا تفعل أكثر من ذلك.
وقد تهيأ المسرح لأزمة عميقة – لم تكن تحتاج إلا إلى موجات الفزع في بورصة الأوراق
المالية والقطاعات المالية حتى تحدث.
من هذه الجوانب، كانت الأزمة شبيهة جدا بتلك الأزمات التي وصفها ماركس في
فقرات كان يحلل فيها أزمات عامي 1846 و1857 في بريطانيا.(44) كما أنها أيضا تتفق
مع تفسير جروسمان لنظرية ماركس، بتأكيده على كيفية اندفاع الشركات إلى القيام
باستثمارات جديدة تهدد بأن تدفع معدل الربح المنخفض فعلا إلى التراجع إلى الحد
الذي يصبح عنده كثير من الاستثمارات الجديدة غير مربحة ما يتسبب في أن يتوقف
الاستثمار كله توقفا تاما.(45)
غير أن أمرا آخر مازال ينبغي تفسيره – هو لماذا يبدو أن آليات السوق
التلقائية لم تعد تقوم بعملها، وقد كانت دائما قادرة فيما مضى على انتشال الاقتصاد
من الأزمة في النهاية. فبعد ثلاثة أعوام من بداية الأزمة، كان الإنتاج الصناعي في
الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا في تدهور مستمر. وحتى نفسر ذلك، لا
يكفي أن ننظر فقط إلى ميل معدل الربح نحو الانخفاض. فالاتجاه الآخر طويل الأجل في
تحليل ماركس – أي الاتجاه نحو تركيز وتمركز رأس المال مع كهولة النظام – لعب أيضا
دوره كما أشرنا في الفصل الثالث.
في البداية، أخر هذا الاتجاه انفجار الأزمة. ، لدى محاولته تحليل الأزمة في
عام 1931، قال الاقتصادي البلشفي بريوبراجنسكي إن تغيرا كبيرا قد جرى منذ عصر
ماركس. فكانت أزمات الركود آنذاك تؤدي إلى القضاء على الشركات عديمة الكفاءة وتسمح
للشركات المتبقية بالدخول في دورات جديدة للتراكم. لكن النظام حاليا تهيمن عليه
شركات كبيرة شبه احتكارية لديها القدرة على منع تصفية مصانعها التي تتسم بعدم
الكفاءة. وهذه الشركات تبذل قصارى جهدها حتى تحافظ على سلامة أعمالها، حتى وإن كان
ذلك يعني أن تعمل مصانعها بنسبة ضئيلة فقط من طاقتها المعتادة وتخفيض الاستثمار
إلى الحدود الدنيا. وهو ما ينتج عنه "تجلط في مسار الانتقال من الأزمة إلى
الركود" ويمنع – أو على الأقل يؤخر- عملية إعادة الهيكلة اللازمة للخروج من
الأزمة: "يبرز الاحتكار كعامل من عوامل التحلل في الاقتصاد بأكمله. وتؤخر
نتائجه عملية الانتقال إلى إعادة الإنتاج الموسع."(46)
ما أن اندلعت الأزمة، حتى كان حجم فرادى رؤوس الأموال الصناعية والمالية
وحده من الضخامة حتى أن انهيار أي منها يهدد بأن يجر الأخرى إلى الانهيار معها. فالبنوك
سوف تخسر الأموال التي قامت بإقراضها، وبالتالي تقوم بتخفيض الائتمان لشركات أخرى.
وموردو هذه الشركات سوف يدفعون إلى خارج النشاط مما يضر بشركات أخرى كانت تعتمد
عليهم. ويؤدي توقف إنفاقها على الاستثمار والأجور إلى انخفاض الطلب في الاقتصاد
ككل. وتصبح الأزمة المؤجلة الآن أكثر ضخامة بكثير بحيث لا يمكن أن تحل نفسها
تلقائيا. ويكون رد رؤوس الأموال الكبيرة أن تتجه إلى الدولة من أجل
"إنقاذها" حتى تحافظ على استمرار النظام.
التحول إلى رأسمالية الدولة
في البداية استمرت الحكومات في أن تضع آمالها على انطلاق عمل آليات السوق
بلا عائق، وتدخلت فقط بإجراءات محدودة لحماية بعض البنوك. ولكن الأزمة استمرت في
التفاقم، خاصة في الولايات المتحدة وألمانيا. ووقعت أضرار هائلة على رأس المال
نفسه في سعيه إلى العمل عند ما يزيد قليلا على نصف معدلات الإنتاج السابقة. في نفس
الوقت كان اليأس يدفع جمهرة الناس إلى البحث عن علاج قد يقلب المجتمع بكامله.
وبدأت قطاعات رئيسية من رأس المال تبحث عن مدخل ربما يحل مشكلاتها، مهما بلغ في
قطعه مع الشعارات الأيديولوجية القديمة. وبحلول صيف عام 1932، كان رئيس شركة جنرال
إليكتريك في الولايات المتحدة يقود حملة من أجل تدخل الدولة. وكان التحول الذي حدث
في النهاية من أشكال الرأسمالية الاحتكارية التي كانت فيها الدولة في خلفية المشهد
وتقدم خدماتها لرؤوس الأموال الكبيرة مع الالتزام بالابتعاد عن محاولة إدارتها إلى
أشكال تحاول فيها الدولة أن تكفل القدرة التنافسية لرؤوس الأموال الوطنية في السوق
العالمية. وبلغ الأمر أن شمل إعادة الهيكلة العمدية للصناعة عبر تحويل فائض القيمة
من قطاع من الاقتصاد إلى آخر.
عندما استحوذت الدولة على سلطات وحشية لإجبار رؤوس الأموال الفردية على
تركيز جهودها على الصراع العسكري في المراحل المتأخرة من الحرب العالمية الأولى،
كان ذلك يؤذن بهذا التحول. غير أن الدولة في أعقاب الحرب تخلت عن السلطات التي
كانت اكتسبتها. والآن دفعت ضخامة الأزمة وحدها إلى إعادة التفكير في الأمر.
فالأزمات السياسية في الولايات المتحدة وألمانيا جاءت إلى السلطة بحكومات في أوائل
1933 مستعدة لإجراء تغيير جذري من أجل حماية الرأسمالية من نفسها.
في الولايات المتحدة، اتخذ هذا التغيير شكل الاتفاق الجديد (The New Deal) بقيادة روزفلت. وقام على
توسيع برامج الأشغال العامة القائمة فعلا من أجل امتصاص جزء من البطالة، وضمان
الأرصدة في البنوك التي لم تهوي إلى الإفلاس، وتشجيع التنظيم الذاتي للصناعة عبر
التكتلات الاحتكارية، وتدمير المحاصيل من أجل زيادة أسعار الحاصلات الزراعية
ودخولها، والاضطلاع بتجارب محدودة جدا لقيام الدولة بالإنتاج مباشرة، وكذلك تسهيل
مساعي النقابات قليلا إلى زيادة الأجور (وبالتالي زيادة الطلب على السلع
الاستهلاكية). إنفاق الحكومة الفيدرالية، الذي كان يدور حول 2.5 بالمئة فقط من
إجمالي الناتج المحلي عام 1929، بلغ ذروة في أوقات السلم تزيد على 9 بالمئة في عام
1936. وكان ذلك اعترافا بأن الرأسمالية في مرحلتها الاحتكارية لم تعد تستطيع حل
مشكلاتها دون تدخل محدود من الدولة. ومع ذلك فقد ظل تدخلا محدودا: فإنفاق الحكومة
الفيدرالية تراجع مرة أخرى في عام 1937.
هذه السياسة الخجولة ما كان لها إلا أن تحدث أثرا محدودا على الأزمة. فكل
الجهود التي انطوت عليها سياسة "الاتفاق الجديد" لم تستطع دفع الانتعاش
الذي بدأ في ربيع عام 1933 أعلى من نقطة معينة. انخفض عدد العاطلين عن العمل
بمقدار 1.7 مليون شخص – ولكن ظل 12 مليونا بلا عمل. ولم يحدث حتى عام 1937 – أي
بعد ثمان سنوات من بداية الأزمة – أن وصل حجم الإنتاج إلى أرقام عام 1929. ولكن
حتى آنذاك استمر الاستثمار الثابت في الصناعة منخفضا(47) وكانت نسبة البطالة عند
مستوى 14.3 بالمئة. غير أن هذا "الرخاء المحدود" مهد الطريق في أغسطس
عام 1937 إلى "انهيار اقتصادي هو الأكثر حدة في تاريخ الولايات المتحدة"
التي "فقدت نصف ما تحقق على كثير من المؤشرات منذ عام 1932."(48)
لقد كشفت عشرينيات القرن العشرين أن الإنفاق غير الإنتاجي الذي ارتبط برأس
المال الاحتكاري (مثل نفقات التسويق، والإعلان، ومشروعات المضاربة، والاستهلاك
الترفي) يمكن أن يؤخر وقوع الأزمة ولكن لا يوقف أثرها النهائي بل يجعل تأثيرها
أعنف مما كان في السابق. وكشفت ثلاثينيات نفس القرن أن "الإنفاق
الحكومي" لتنشيط الاقتصاد قد ينتج عنه انتعاش محدود قصير الأمد في الإنتاج،
ولكنه أيضا لا يستطيع أن يمنح النظام فرصة جديدة للحياة. وكان ضروريا أن يحدث
تغيير أكثر عمقا في اتجاه رأسمالية الدولة.
من الأزمة إلى الحرب
وهنا كان للنموذجين الألماني والياباني أهميتهما. فقد قبلت القطاعات
الرئيسية في الطبقة الحاكمة لديهما بدائل سياسية أخضعت الرأسماليين الأفراد إلى
برامج للتراكم الرأسمالي الوطني فرضتها الدولة فيما كانت تقمع حركة الطبقة
العاملة. بقيت المجموعات الرأسمالية الرئيسية دون مساس، ولكن جرى إخضاعها من الآن
فصاعدا لاحتياجات التوجه نحو التسلح الذي أيدته هي نفسها. ودفع إنتاج السلاح
والتوسع في الصناعة الثقيلة الاقتصاد كله إلى الأمام، بتوفير الأسواق وفرص
الاستثمار، وبينما تأخر نمو الأجور استعيدت جزئيا معدلات الزيادة في الإنتاج
والأرباح.
في ألمانيا، نجحت هذه الوسائل في انتشال الاقتصاد مباشرة من الأزمة (وذلك
بعد عامين من سياسة "الإنفاق الحكومي" قليلة الفاعلية) وحافظت على رخائه
بينما كان الاقتصاد الأمريكي يعود إلى الأزمة في عام 1937. وبحلول عام 1939، قفز
الإنتاج بنسبة 30 بالمئة أعلى من مستوى عام 1929، وانخفض عدد العاطلين من ستة
ملايين إلى 70 ألفا، مع توفير ثمانية ملايين فرصة عمل جديدة.(49) اتجه معظم
الإنتاج الجديد إلى السلاح وكذلك الصناعات الثقيلة التي توفر الاستعداد العسكري،
لكن عشر الزيادة في الإنتاج اتجه فعلا إلى زيادة الاستهلاك الخاص.(50) كما أن
التوسع الاقتصادي نفسه ساهم بنسبة كبيرة في تحمل تكاليف تغذية الرخاء، مع انخفاض
التمويل بالعجز في تغطية الإنفاق الحكومي إلى خمس قيمة هذا الإنفاق فقط. ومن
الناحية الفعلية، كانت الديكتاتورية النازية قادرة على ضمان قيام استثمارات جديدة،
حتى عندما كانت معدلات الربح منخفضة في البداية.
غير أن أي سياسة من هذا النوع كان بها مشكلات خطيرة، فلم تكن ألمانيا وحدة
اقتصادية مستقلة ومكتفية بذاتها، وكانت قوى الإنتاج عالميا قد تطورت منذ وقت طويل
إلى درجة عبرت بها الحدود الوطنية، وظهرت حاجة مستمرة في تزايدها لواردات استراتيجية
معينة مع انطلاق موجة الرخاء القائمة على التسلح. وكانت الطريقة الوحيدة للتغلب
على ذلك مع الحفاظ على الاقتصاد الألماني مستقلا ومكتفيا ذاتيا، وبالتالي محصنا ضد
الضغوط الركودية العالمية، هي توسيع حدود الرايخ الألماني حتى يضم إليه اقتصادات
مجاورة ويخضع صناعاتها لحاجات اندفاع ألمانيا العسكري.
إن منطق الرأسمالية الاحتكارية التي توجهها الدولة أدى إلى ضرب من
الإمبريالية كان لينين قد أشار إليه في عام 1916 – أي الاستيلاء على "مناطق
عالية التصنيع"(51). وأدى هذا التوسع عند تجاوز نقطة معينة إلى صدام حتمي مع
قوى عظمى أخرى كانت تخشى تهديد امبراطورياتها الخاصة ومناطق نفوذها. ومع ردها
بتعزيز وبناء قواتها المسلحة الخاصة، كان على نظامي ألمانيا واليابان بدورهما أن
يوجها المزيد من قدراتهما الاقتصادية نحو السلاح – وأن يتمددا لاقتناص أراض جديدة –
من أجل الدفاع عن الأراضي التي استحوذا عليها فعلا. وقد وفر ذلك للرأسماليين في
البلدين مصادر جديدة لفائض القيمة لتعويض أي ضغوط هبوطية على معدلات الربح. غير
أنه في نفس الوقت زاد من عداء الإمبراطوريات القائمة – ما أدى إلى ظهور حاجة
لقدرات تسليح أكبر مع المزيد من المغامرات العسكرية. وكانت النقطة الفاصلة هي
استيلاء الألمان على غرب بولندا والهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر.(52)
وكما أن الأزمة في كل بلد رأسمالي كبير ساهمت في تغذية تطور الأزمات في
بلاد أخرى، كذلك فعل مسار الخروج من الأزمة عبر رأسمالية الدولة العسكرية.
لم تستطع الامبريالية البريطانية والامبريالية الأمريكية أن تدافعا عن
مواقعهما الخاصة في العالم بعد سقوط فرنسا في عام 1940 وواقعة بيرل هاربر في 1941
إلا عبر الانتقال من رأسمالية لا توجهها الدولة بصورة كاملة في منتصف الثلاثينيات
إلى عسكرة كاملة لاقتصاديهما. وقد تولت الدولة البريطانية مسئولية جميع القرارات
الاقتصادية الهامة، لتحديد أي الصناعات ينبغي أن تحصل على المواد الأولية وتقنين
الغذاء والسلع الاستهلاكية، مع اختزال الاقتصاد المدني إلى مجرد ملحق تابع لاقتصاد
الحرب المنظم مركزيا. حكومة الولايات المتحدة "لم تسيطر فحسب على قطاع إنتاج
السلاح في الاقتصاد، والذي كان يمثل نحو نصف الإنتاج الإجمالي من السلع، بل كانت
الدولة تقرر أي السلع الاستهلاكية ينبغي إنتاجها وأيها لا يجب إنتاجه."(53)
وقد أنفقت مبالغ هائلة في بناء مصانع للسلاح وقامت بتسليمها للشركات الخاصة لإدارتها.
وكان إنفاق الحكومة الرأسمالي في عام 1941 يزيد بنسبة 50 بالمئة عن كامل الاستثمار
الصناعي في البلاد في عام 1939، وفي عام 1943 كانت الدول تتولى مسئولية 90 بالمئة
من إجمالي الاستثمار.(54) ومرة أخرى، بدا أن اقتصادا معسكرا تحت هيمنة الدولة يقدم
حلولا للمشكلات التي واجهت الاقتصاد قبل الحرب. عدد العاطلين الذي بلغ تسعة ملايين
أصبح أقل من مليون واحد خلال ثلاثة أعوام، كما شهد الاقتصاد المدني نموا رغم
الإنفاق الهائل على القطاع غير الإنتاجي. وتضاعف إجمالي الناتج خلال الفترة بين
عامي 1940 و1943، كما تجاوز الإنفاق الاستهلاكي في عام 1943 مستوى السنوات السابقة
حتى عند قياسه بأسعار عام 1940(55). واستطاع اقتصاد الحرب أن يحقق ما عجزت عن
تحقيقه ثمان سنوات من سياسة الاتفاق الجديد – أي التوظف الكامل للطاقة الإنتاجية
لدى كبرى الرأسماليات الناضجة. وكما يلاحظ كينيث جالبريث "إن الكساد الكبير
في عقد الثلاثينيات لم يبلغ نهايته أبدا. بل إنه اختفى فحسب في التعبئة الكبيرة في
عقد الأربعينيات."(56)
البديل الروسي
في اقتصاد آخر كبير بدا أن إدارة الدولة تقدم بديلا عن الدمار في دوامة
النظام العالمي. وكان ذلك في الاتحاد السوفييتي. وفي عقد الثلاثينيات من القرن
العشرين، كان كل المعلقين تقريبا يرون أن الاتحاد السوفييتي يقوم على مبادئ مختلفة
جذريا عن مبادئ الرأسمالية الغربية – وقد استمرت هذه النظرة وثابرت بين كثيرين حتى
وقت انفجاره في عام 1989-1991. وقد دمغه اليمين ببساطة بتعريف "النظام
الشمولي"، كما لو كان اقتصاده بلا أي قوة محركة، وكثير من اليسار تبنوا نظرة
انعكاسية صورية وتحدثوا عن النظام باعتباره "شيوعيا" أو
"اشتراكيا"، أو أولئك ممن اتخذوا موقفا نقديا أكثر واعتبروه "مابعد
رأسمالي"(57) أو "دولة عمالية منحطة"(58). وافترضت جميع هذه
المقاربات المختلفة درجة عالية من الاستمرارية بين النظام السوفييتي كما كان يسير
في ثلاثينيات القرن العشرين وبين الدولة الثورية التي تأسست في عام 1917.
غير أن الآليات المركزية التي كانت توجه الاقتصاد السوفييتي لم تؤسس خلال
الثورة، وإنما في عام 1928-1929 تحت تأثير أزمة سياسية واقتصادية عميقة. بحلول ذلك
العام لم يكن تبقى شيء يذكر من الديمقراطية الثورية التي ميزت البلاد مباشرة عقب
ثورة أكتوبر في 1917. وكانت شريحة بيروقراطية جديدة قد أوغلت في تركيز السلطة في
أيديها وسط الدمار الذي لحق ببلد متخلف اقتصاديا فعلا ويعاني آثار ثلاث سنوات من
الحرب العالمية تبعتها ثلاث سنوات من الحرب الأهلية. ورغم ذلك، ظلت القوة الدافعة
للاقتصاد حتى منتصف عشرينيات القرن العشرين هي إنتاج السلع لتلبية حاجات السكان، وارتفعت
مستويات المعيشة عن المعدلات البائسة في سنوات الحرب والحرب الأهلية، حتى وإن
ارتفع مستوى معيشة البيروقراطيين بمعدلات أكبر كثيرا بما لا يقارن بمستوى معيشة
العمال والفلاحين.
ثم في أواخر عام 1928 ضربت البيروقراطية موجة من الذعر في مواجهة ما يشبه
تهديدا بالحرب من بريطانيا وأزمة محلية مع قيام الفلاحين بوقف إمدادات الغذاء، ما
تسبب في انتشار الجوع في المدن. ومع خوفها من فقدان سيطرتها على البلاد عبر التمرد
في الداخل والضغط العسكري من الخارج، لجأت البيروقراطية بقيادة ستالين بصورة
براجماتية إلى سلسلة من الإجراءات تضمنت استغلالا فائقا لصغار الفلاحين والطبقة
العاملة من أجل بناء الصناعة التي تفتقد البلاد إليها. وكان الأثر التراكمي لهذه
الإجراءات أن دفعت الاقتصاد ككل نحو قوة محركة جديدة تختلف عن تلبية احتياجات
الشعب – وهي قوة محركة تحددها في النهاية المنافسة العسكرية مع مختلف الدول
الغربية.
وكما يقول المؤرخ التشيكي رايمان: (59)
"لم يكن هناك ما يكفي من الموارد لضمان تحقيق المعدل المقترح للنمو
الصناعي. وبالتالي قررت هيئات التخطيط… تحقيق التوازن في الخطة عبر موارد لم تكن
توفرت للاقتصاد بعد… واعتمد إنجاز الخطة على هجوم بالغ القسوة على ظروف معيشة وعمل
العمال الصناعيين وسكان الريف… لقد كانت خطة للبؤس والمجاعة المنظمة.(60)"
وفي تبريره لإخضاع كل شيء آخر للتراكم، أصر ستالين أن: "نحن نتخلف عن
البلدان المتقدمة بخمسين أو مئة عام. يجب علينا أن نجتاز هذه الفجوة في عشر سنوات.
إما أن نحقق ذلك أو أنهم سيحطموننا."(61) "إن البيئة التي وضعنا فيها…
في الداخل والخارج… تجبرنا على أن نتبنى معدلا سريعا في نمو صناعتنا."(62)
عند اضطلاعها بمهمة التراكم، استبدلت البيروقراطية نفسها بالرأسمالي الذي
لم يعد موجودا. غير أن الطرق التي استخدمتها كانت في جوهرها طرق التصنيع الرأسمالي
القائمة في أماكن أخرى من العالم. وأدى "التجميع" –وكان في الواقع
استيلاء الدولة على الأرض – إلى زيادة نسبة الإنتاج الزراعي المتاح للتراكم
الصناعي فيما كان يطرد نسبة كبيرة جدا من صغار الفلاحين من الأرض، تماما مثلما
فعلت عمليات التسييج بالنسبة للرأسماليين الأوائل في انجلترا. وكان يعمل في
الصناعات الآخذة في النمو عمال أجراء بشكل رئيسي – لكن بعض المهام الثانوية كان
يقوم بها بضعة ملايين من العمال العبيد. وألغيت الحقوق التي احتفظ بها العمال حتى
نهاية عقد العشرينيات.
كانت السيطرة على الاقتصاد من قبل بيروقراطية دولة مركزية واحدة تحتكر
التجارة الخارجية تعني أن التراكم يمكن أن يستمر دون انقطاع، مثل احتكارات
رأسمالية الدولة العسكرية في الغرب. لكن عزل الاقتصاد تماما عن النظام العالمي
الأشمل لم يكن ممكنا بأكثر مما كان ممكنا للاقتصاد الألماني والياباني في أواخر
الثلاثينيات. فاستيراد الآلات من الغرب من أجل التصنيع كان يعتمد على أرباح
الصادرات من الحبوب في وقت انخفاض الأسعار العالمية – واعتمد ذلك على قيام الدولة
بالاستيلاء على الحبوب من الفلاحين الجوعى الذين مات منهم بضعة ملايين. وقد لاحظ
بريوبراجنسكي "إننا (الاتحاد السوفييتي) كدولة مصدرة نعاني معاناة قاسية من
الأزمة العالمية."(63)
ومع ذلك، كانت هناك عزلة نسبية عن الاقتصاد العالمي، وكان ذلك يعني إمكان
استمرار التراكم طالما أن قدرا من فائض القيمة متوفر بصرف النظر عن معدل الربح في
أي وقت محدد. غير أن ذلك لم يتغلب على التناقضات الاقتصادية. فإنجاز خطط الإنتاج
للصناعة الثقيلة والسلاح تضمن دائما تحويل الموارد إليها من صناعات السلع
الاستهلاكية، التي انخفض إنتاجها حتى عندما توسع الاقتصاد ككل بسرعة كبيرة. هذه
النتيجة كانت نقيض "التخطيط" بأي معنى حقيقي للكلمة. فلو أن اثنين منا
خططا للذهاب إلى مانشستر انطلاقا من لندن ثم انتهى الأمر بأحدنا في جلاسكو والآخر
في برايتون، لا تكون "خطتنا" إذن مرشدا لحركتنا. ينطبق نفس الأمر على
التخطيط السوفييتي. فكما في الغرب، نتج عن التراكم التنافسي دينامية نمو في جانب
وفوضى وانعدام كفاءة وبؤس في جانب آخر. كما نتج عنه كذلك ميل إلى التوسع
الإمبريالي وراء الحدود الوطنية، كما ظهر في عام 1939 عندما قسم ستالين أوروبا
الشرقية مع هتلر، ليأخذ نصف بولندا، وإستونيا، وليتوانيا ولاتفيا – ليكتشف في عام
1941 أن هتلر كان يضع عينيه على الاستيلاء على الاتحاد السوفييتي ونهبه لصالح
الرأسمالية الألمانية.
كشف حساب عشرية
في عقد الثلاثينيات من القرن
العشرين ساد شعور بين مؤيدي الرأسمالية على نطاق واسع أنها كانت في أزمة عميقة؛
وكان الشعور بين معارضيها أن الرأسمالية قد انتهت. فكتب لويس كوري عن "تدهور
وتحلل الرأسمالية"(64)، وكتب جون ستراتشي أنه "بالنسبة للمناطق الرأسمالية
من العالم ليس هناك إلا تحلل سريع على نحو متزايد" مع "انكماش دائم في
الإنتاج"(65)، وكتب بريوبرجينسكي عن "أزمة النهاية لكامل النظام
الرأسمالي"(66)، وليون تروتسكي عن "آلام احتضار الرأسمالية". ولم
تبد نبوءاتهم غبية في وقت كان مؤيدو الرأسمالية يمزقهم القلق بشأن العلة التي
أصابت نظامهم الذي يفترض أنه لا تشوبه شائبة. غير أن التحول العنيف نحو رأسمالية
الدولة والإنتاج الكبير للسلاح سمح للنظام بأن يدخل مرحلة جديدة من التوسع. ويستمر
السؤال: إلى متى؟