الخميس، 14 يناير 2010

الضحايا المجرمون وسلطان الزمان


لا يتعلم الإنسان إلا إذا لدغته العقارب ونهشت أنامله الثعابين، وإلهة الحكمة الجبارة لا تقبل إلا التجربة الأليمة قربانا لنعمتها رغم قسوتها وعبؤها الثقيل … يخرج الغجري من خيمته الرثة مسرعا إلى قمة التل الهادئ في غبش السحر، يكشف عن صدره العاري الذي امتلأ بالندوب العميقة والجراح صارخا: كم سنة، بل كم قرنا نحتاج حتى نداوي هذه الجروح التي اقترفتها أيادي الغدر من المماليك الجدد والسماسرة واللصوص؟
يعرف الوالي بخبرة القهر الطويلة أن عبيده الذين يدوس على رقابهم بحذائه الميري الطويل لن يجعلوه سيدا عليهم إذا اتحدوا وأشرق نور الحكمة في أعينهم المسملة واندلعت نيران العدالة الجموح في قلوبهم الهشة، يبث الفرقة بينهم ليزرع الفتنة ويشق الصفوف: "أنا رئيس مسلم لدولة إسلامية!".
يتذكر الغجري، فيلتهب الهواء ساخنا وتزداد حمرة السماء والسهول والتلال من رجع الصدى. هذه الصرخة المشئومة التي أطلقها الوالي المحاصر في لعبة السادة والعبيد لم تكن سوى حلقة أخرى لحقبة جديدة في سياسة المماليك الجدد الذين وثبوا ذات صباح أليم على عرش السلطنة فعاثوا في البلاد فسادا وقهرا وإذلالا وجلبوا الكوارث على رؤوس العباد.
يصرخ الغجري في زمن الفضيحة مازال المماليك على عرش السلطنة رابضين، ينفثون في الهواء سما وفي المياه حنظلا وفي عقول وقلوب الفقراء لعنة وقنوطا وأحقادا عمياء لا تدري عدوا من صديق. كهنة السلاطين من كل دين وعسكر المماليك يبتسمون ابتسامة الأفعى، بينما التجار والسماسرة واللصوص والصيارفة يمرحون، يكدسون دماء الفقراء عسلا شهيا في خزائنهم ويستمتعون بالعبيد والراقصات في صخب القصور الحصينة. ينهمك الفقراء في معارك عبثية، يذبح بعضهم بعضا. يثأر الضحايا من الضحايا ويلوذون بالجلاد حكما بينهم طلبا لعدالة ميزانها مقلوب.
كم ضحية من نجع حمادي أكلته القروش في أعماق البحر وصاحب عبارة الموت يعيش الآن في حانات لندن بعد أن شلت يد العدالة عند باب الطائرة؟ يزعق الغجري في فضاء العبث وفي جنون المهزلة: هل انتصرنا على الشر بعد إطلاق اللحى وبعد أن سربلنا نساءنا بأغطية الرأس والنقاب؟ هل وجد المشردون سكنا يأويهم بعد أن ملأنا الطرقات والأزقة بالمساجد والمآذن العالية؟ هل زال عنا الضيم وانكشفت الغمة بعد أن انكفأنا على وجوهنا ساجدين ومنصتين إلى الإمام الذي يرفع الدعاء إلى السماء في خشوع؟ هل هدأت معدة أطفالنا وصراخهم من الجوع والهزال بعد أن امتلأت كروش أصحاب اللحى الذي لا يكفون عن مطالبتنا بالصدقات والزكاة والصبر عبر شاشة التلفاز؟!
وهل فتح المسيح ملكوت السماء لأطفالنا العراة بعد أن وشمناهم بالصليب وحفرنا صورة العذراء على أكتافنا الهزيلة؟ وهل زالت كآبة بيوتنا وجحورنا الطينية بعد أن شيدنا كنائسنا صروحا ذات أبراج تخترق السحاب؟ هل هدأت صرخات الجوعى والمرضى من أطفالنا بعد أن امتدت أيادي القساوسة بصلبانهم الذهبية وخواتيمهم وصولجانهم لتغسل رؤوسهم الصغيرة المتسخة بالماء المقدس؟ وهل نفعتنا رصانة الآباء وحكمتهم التي سخروها لخدمة السلاطين والقياصرة بعد أن أصبحنا شعبا للكنيسة وانعزلنا خانعين؟ كم مسيحا ينبغي أن يصلب كي نبرأ من خطيئة أولى لم نرتكبها؟ ولماذا يريد المسيح أن نعيش في ذل وضنك بينما القياصرة والسماسرة وسكان القصور والكهنة في رغد من العيش يمرحون؟!
يندهش الغجري أن أسئلة تحمل نفس المعنى رغم اختلاف اللغة وتستمر بلا جواب. نفس الهياكل الهزيلة والقلوب الجريحة والعيون الحيرى ونفس الصرخات، نفس الأيادي الخشنة والأعواد الجافة وشقوق الأكف وتجاعيد الوجه والبشرة الكالحة، يسكنون نفس الأكواخ الحقيرة، ويأكلون نفس الأطعمة الرديئة، ويشربون نفس المياه الملوثة، ويعانون من نفس الأمراض، بل ونفس علامات السياط على ظهورهم من نفس الجلاد، لكنهم يتخندقون في مواجهة بعضهم كالأعداء!
يأتي الجلاد بعد كل مجزرة ليحكم بين ضحاياه، يحتمي كل فريق بسياطه وكلابه المسعورة وقوانينه الظالمة ضد الفريق الآخر، بل يطالب البعض بتحويل "مرتكبي الجريمة" من الفريق الآخر إلى المحاكم العسكرية ليمنح الاستبداد شرعية شعبية فوق شرعية القوة والاغتصاب! يفرح المشايخ ذوي اللحى الطويلة والكروش المنتفخة لصلابة "المؤمنين" حتى أمام حد المقصلة، ويصطنع القساوسة المرفهون ذوي الأيادى الناعمة رصانة وحزنا زائفا بينما قلوبهم تبتهج لغضب "المؤمنين الآخرين" ورضوخهم لحكمتهم التي سترفعهم درجة أخرى في الملكوت وفي سلم الكهنوت، وترقص طربا عندما تفتح أبواب الكنائس بعد إزالة الدماء وآثار الدمار فتزداد أعداد الرؤوس الخاضعة التي تسأل في سذاجة عن النعيم المخبأ في ملكوت السماء!
وعلى الضفة الأخرى، في منتجعات هادئة فوق التلال تحيطها الأسوار العالية والأشجار الوارفة وتغطيها الظلال يتبادل مستثمروا الأحزان وتجار المأساة أنخابهم اللذيذة على أنغام الموسيقى وأطياف الحسان الراقصة. يتمايلون طربا ومرحا لأن الوالي تعهد أن يقطعهم أراض جديدة ومزيدا من العبيد وأن يمنحهم الأمن والسكينة والأرباح الوفيرة، لا يفرق بينهم على أساس الدين أو العرق أو حتى المواطنة، إنما الويل والثبور وعظائم الأمور لمن لا يقدم فروض الطاعة والولاء لعظمة السلطان – سلطان الزمان والمكان، رفيع الشان.

كهنة الأسرار العقيمة

يجتمع العرافون أمام بلورة سحرية تختلط فيها الألوان بالفراغ والثقوب السوداء بأضواء النجوم المبعثرة، يهذي بعضهم بلغة غريبة وغامضة وعبارات تتأرجح بين التفاؤل والتشاؤم والحيرة واليقين. يلتقط الغجري المذهول أمامهم قلما بعدة ألوان ويحاول أن يرسم لوحة بيانية للاقتصاد العالمي في العام الجديد.

الأمر الوحيد الذي اتفق عليه العرافون في صندوق النقد الدولي والدوريات الاقتصادية الوقورة هو تلك المساحة الهائلة من الضباب التي تحاصر العالم على بوابة العقد الجديد في زحام من بقع الضوء المتناثرة وشبكة معقدة من الخطوط الحمراء والخضراء التي تنكسر على حافة الثقوب السوداء وبريق الأمل الخافت والخجول في فضاء متعرج وثقيل.

انتهى عام 2009 مع بعض علامات التعافي هنا وهناك، آسيا مازالت قادرة على تحقيق النمو رغم الأزمة بقيادة الصين والهند رغم تراجع معدلات النمو، لكن وحش الانكماش الرهيب يطارد اليابان، وشبح البطالة في الشمال الغني يهدد الفتات على موائد فقراء الشرق. والعرافون ذوي المعاطف الوثيرة والقفازات البيضاء ينصحون العملاق الآسيوي العاري بأن يتخلى عن سياسة الإنتاج من أجل التصدير ويعتمد على الاستهلاك المحلي في دعم النمو. يزداد ذهول الغجري وتلمع الدهشة في عينيه، إنهم يطالبون عمالقة آسيا بأن يتوقفوا عن سحق الفقراء وسحبهم مقيدين في السلاسل إلى خطوط الإنتاج التي تضخ سلعا رخيصة إلى أسواق الأغنياء في الشمال، ليس حبا ولا رحمة بالفقراء، فهؤلاء السادة لا يعرفون الرحمة، وإنما أملا في تقزيم العملاق وتقليم أطرافه، تحت عنوان مخادع هو إعادة التوازن في الاقتصاد العالمي. لكن ذلك يعني تحديدا التخلي عن السياسة التي جعلت آسيا قادرة على النمو حتى في زمن الأزمة، وفي اقتصاد عالمي لم يشهد في تاريخه أبدا أي نوع من التوازن.

لابد أن هؤلاء العباقرة يعرفون الحقيقة، فما أنت إلا غجري بسيط لا يعرف إلا لغة واحدة وبعض الألوان الصريحة الواضحة التي تركها أجدادك على جدران الكهوف. ينتقل الغجري إلى بقعة أخرى في شبكة الخطوط والألوان، وبين سحب الضباب الكثيفة حاول أن يبحث عن نقطة التوازن التي يتحدث عنها الكهنة والعرافون الذين قال أحدهم أن كثيرا من بلدان العالم سوف تشهد انتعاشا اقتصاديا في العام الجديد بعد أن انكمش الاقتصاد العالمي بنسبة 1% خلال عام 2009 ولأول مرة منذ الكساد الكبير في الثلاثينيات من القرن الماضي. وألحق نبوءته العظيمة بأن هذا الانتعاس سيكون ضعيفا وهشا ولن يوفر فرص عمل لملايين العمال الذين طردوا من وظائفهم خلال عاصفة الركود، كما أنه انتعاش بطئ تطارده احتمالات السقوط في موجة ثانية من الركود. انتعاش "بلا عمل" يعتمد على تكثيف استغلال ما تبقى من العمال خلف خطوط الإنتاج واستمرار تدفق الأموال السهلة التي تنفقها الحكومة لزيادة أرباح الشركات، بعد إغلاق العديد من المصانع وتخفيض الإنتاج والضرائب والفوائد على القروض.

يكتشف الغجري في ذهول أن هذا الانتعاش الهش تواجهه، رغم ذلك، مخاطر متناقضة من اتجاهات عديدة، لذلك يضع العرافون شروطا معقدة حتى يتحقق الانتعاش ويستمر، مثل محاربة أخطار الانكماش الذي يهدد الاقتصاد العالمي بسبب انتشار البطالة التي يتوقعون أن تصل إلى 10% في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وبسبب تراجع إنفاق المستهلكين على شراء المنتجات بعد تدهور الأجور. ثم يسارعون إلى التحذير من مخاطر التضخم الذي يهدد باكتساح العالم بسبب المبالغ الباهظة التي تضخها الحكومات لدعم أرباح الأغنياء مما أدى إلى زيادة الأموال السائلة في الاقتصاد دون أن يقابلها نمو في الإنتاج الحقيقي، والمفارقة أن هذه الأموال التي تضخها الحكومة لا تذهب إلى من ينتظر أن ينفقوا على السلع ليزداد الطلب في الأسواق!

يدرك الغجري أنه سقط في مغارة رهيبة لا تشبه كهوف أجداده البسطاء بقدر ما تشبه "بيت جحا" الخرافي الذي أغلقت فيه جميع المنافذ. يطالب العراف المتأنق ذو النظارة اللامعة بتطهير البنوك من الديون الرديئة وتشديد الرقابة على أدائها لمنع تفاقم الأزمة وتكرارها نتيجة المضاربات المالية ثم يؤكد بسرعة على ضرورة تشجيع المصارف على زيادة الإقراض وتخفيض أسعار الفائدة – إنها نفس السياسة التي أدت إلى شيوع المضاربة الخطرة وانفجار فقاعة العقارات وأزمة الديون الرديئة!

يتطلع الغجري الحائر إلى كبير العرافين، متشبثا بأمل غامض أن صاحب الحكمة الراسخة والرؤية الثاقبة قادر على اكتشاف السبيل إلى الخروج من هذه الدهاليز المعتمة، يلقى الرجل المهيب حجارة من النار فوق البلورة السحرية، فيندفع الدخان الكثيف ويملأ المكان، ويتحدث بصوت متهدج ولسان متلعثم وفصيح مؤكدا أن الحكومات ينبغي أن تستمر في دعم الاقتصاد ماليا من أجل تنشيط الطلب واستمرار عجلة الإنتاج في الدوران حتى الخروج نهائيا من الركود، غير أنه سارع إلى مطالبة الحكومات بتخفيض الدين العام وعجز الموازنة حتى لا تنفجر معدلات التضخم وأسعار الفائدة فتتوقف العربة مرة أخرى على حافة الهاوية.
زاغ بصر الغجري وأصيب بالدوار، حكماء هذا العصر شيوخ أصابهم الخرف، بل كهنة دجالون يحملون أسفارا من الأسرار العقيمة عديمة الفائدة. أخذ الغجري يهذي دون أن يدري ما يقول : توقف الإنتاج ولن يعود إلا إذا ارتفعت أرباح الشركات وزادت المبيعات، ولن تزيد المبيعات والأرباح حتى تزداد الدخول وتنخفض ديون الأفراد، لكن دخول الأفراد لن ترتفع وديونهم لن تنخفض إلا إذا تراجعت البطالة وزادت فرص العمل، ولن يحدث ذلك إلا إذا عادت عجلة الإنتاج إلى الدوران، ولن يعود الإنتاج إلا إذا ارتفعت الأرباح وزادت المبيعات .... بلا بلابلابلا، تيكيلم تيكيلم تيكيلم … هع ، هي ها هو هم هع