الخميس، 22 يوليو 2010

جرعة من الوهم لا تكفي

صحة الرئيس مبارك كانت الشاغل الأكبر لوسائل الإعلام خلال الأسبوع الماضي. والسبب أن بعض الصحف الأجنبية، وخاصة الأمريكية، تحدثت عن تأخر صحة الرئيس وتناقلت وسائل إعلام محلية هذه المزاعم، كما قامت مؤسسة الرئاسة بالتعليق مؤكدة أن نشاط الرئيس خلال الأسبوع الماضي كان ردا عمليا على هذه المزاعم وتفنيدا كافيا لها.

المتابعة الواسعة لما يتردد من أنباء حول صحة الرئيس بين حين وآخر لابد وأن لها مبرراتها، سواء في خارج مصر أو في داخلها. ولابد أن هناك مصالح كبيرة وصغيرة ترتبط بسلامة صحة الرئيس ومصالح أخرى كبيرة وصغيرة ترتبط بمجرد تكرار الحديث عن صحة الرئيس.

وبديهي أن القوى الكبرى في العالم مثل الولايات المتحدة، والقوى التي تسعى إلى الهيمنة في المنطقة مثل إسرائيل والمصالح الخاصة لعدد من الشركات الأجنبية والمحلية في مصر تهتم أكثر بالاطمئنان على احتمالات استمرار أو تغيير السياسة التي ينتهجها الرئيس أكثر من سلامته الشخصية حرصا منها على مصالحها في مصر وفي المنطقة بوجه عام. والرئيس في مصر هو الواجهة الوحيدة أو الأساسية في سياسة الدولة رغم أنه ليس صاحب السياسة أو صانعها الوحيد، وفي أعلى تقدير يعد أحد الفاعلين المؤثرين أو الأكثر تأثيرا في هذه السياسة،

غير أن الرئيس مبارك، ربما بسبب فترة حكمه الطويلة التي استمرت ما يقرب من ثلاثين عاما، يعتبر أيضا عضوا متميزا في المؤسسة الحاكمة التي تدير مصر وتقرر سياساتها، لأنه يمثل سقفا للطموح وكابحا للصراعات التي ربما تدور بين أعضاء هذه المؤسسة، مما يعني أن الاهتمام الخارجي بصحة الرئيس يحاول استشراف طموح الطامحين واتجاه وحجم الصراعات التي قد تنشأ أو لا تنشأ في حالة غيابه أو عدم قدرته على ممارسة دوره في هذه المؤسسة حتى وإن كان هذا الدور يقتصر على كبح صراع محتمل وتأجيل طموح يعتمل ويؤجل فترة من الغموض وعدم الاستقرار تطول أو تقصر.

نفس زاوية الاهتمام ربما تكون دافعا وراء اهتمام جماعات المصالح في الداخل والتي استفادت من سياسات الدولة وممارساتها أو من تحللها أو مراكز القوى التي نشأت في أجهزتها في عهد الرئيس مبارك على حساب الأغلبية العظمى من فقراء الريف والمدن ومن العمال والمهمشين وصغار الموظفين. فريق من جماعات المصالح تلك يهتم ببقاء واستمرار هذه السياسة، ولكن فريقا آخر ربما يهتم بدفعها أكثر أو تجميلها مع الحفاظ على جوهرها. وتخشى هذه الجماعات من فترة الغموض وعدم الاستقرار المحتملة، كما يخشى أو يتمنى غياب الكابح في الصراع المحتمل حسب موقفه من هذا الصراع.

هذا عن المصالح التي ترتبط بمتابعة صحة الرئيس. أما المصالح التي ترتبط بمجرد الحديث أو عدم الحديث عن صحة الرئيس فهي شتى ومتضاربة. لكنها جميعا تساهم في صناعة الوهم بأن جوهر السياسة التي تمارسها المؤسسة الحاكمة ترتبط بشخص الرئيس، بوجوده الشخصي أو غيابه. وهذه المصالح المتضاربة توجد داخل المؤسسة الحاكمة نفسها والأطراف الخارجية الداعمة أو المتعاونة أو الرافضة لشكل سياسات هذه المؤسسة وإن أيدت جوهرها.

المشكلة أن بعض معارضي الرئيس وسياسات المؤسسة الحاكمة ينساقون وراء هذا الحديث ويصدقون الوهم أو يساهمون في صناعته من خلال المتابعة، خاصة إذا كان هؤلاء المعارضون لا يملكون طرحا بديلا قادرا على كسب معركة تغيير السياسة القائمة تغييرا جوهريا، لأن أي تغيير منتظر سواء في غياب الرئيس أو وجوده سوف يكون تغييرا شكليا إن حدث ولن يمثل إضافة حقيقية مادام البديل الجوهري للسياسة والنظام القائم غير مطروح أو غير قادر على كسب معركته. وإن كان ينبغي على هؤلاء المعارضين شيئا، فهو أن يحاولوا بناء بديلهم الجوهري وتعظيم قدرته حتى يتحول إلى بديل حقيقي ومطروح أيضا، لأنه لا فرق بين أن تخوض معركة خاسرة وأن تسعى وراء أمل كاذب.

رمضان متولي

الخميس، 1 يوليو 2010

لعبة السياسة وإهدار الحقوق في معركة القضاة والمحامين

تجسد المعركة التي تدور رحاها حاليا بين القضاة والمحامين عددا من مثالب النظام الحاكم في بلادنا. معركة غير متكافئة لاريب، لأن أحد أطرافها، وهم القضاة، جزء من جهاز السلطة في مصر، ويملكون سلطة ويملكون إساءة استخدامها دون أن يحاسبهم أو يسائلهم أحد، بينما الطرف الآخر، وهم المحامون، لا ينتمون إلى جهاز السلطة من قريب أو بعيد، ولا يملكون ممارستها على أحد، ناهيك عن إساءة استخدامها.
ومن ناحية مدى قدرة الطرفين على الصمود في المعركة، نستطيع أن نتوقع قدرا كبيرا من الوحدة والتماسك في صفوف القضاة عندما يقررون تصعيدا في مواجهة المحامين لعدم وجود ضغوط حقيقية تتعلق بفقدان لقمة العيش أو عدم الشعور بالأمان أو الخوف من ضياع مصالحهم مما قد يدفع بعضهم إلى كسر الموقف الموحد خاصة إذا كان ضد المحامين، وهم فئة أضعف من القضاة من حيث امتلاك السلطة والقدرة على تحقيق مطالبهم أو أهدافهم عنوة. لكننا لا نستطيع أن نتوقع نفس درجة الوحدة والتماسك في صفوف المحامين لأنهم يعتمدون في لقمة عيشهم على عملهم الخاص كأفراد منعزلين ويتعرضون لخطر فقدان زبائنهم أو عدم الحصول على أتعابهم إذا استمر إضرابهم لفترة طويلة نسبيا مما يهدد وحدتهم وتماسك موقفهم بشأن الاستمرار في الإضراب.
بعض المحامين سوف يضطرون إلى كسر الإضراب من أجل الحصول على أتعابهم أو الحفاظ على زبائنهم، وهو الأمر الذي يضع مجلس النقابة في موقف حرج، فإذا قام بإنهاء الإضراب دون تحقيق مطالب المحامين بالإفراج عن زميليهم وحفظ القضية التي يحاكمان فيها سوف يتهم بالضعف والتخاذل أو حتى التواطؤ أمام الأعضاء، وإذا استمر على موقفه دون التوصل إلى حل في المدى القريب، فسوف يواجه ضغوطا من المحامين الذين يرغبون في كسر الإضراب، وبعضهم سيقوم فعلا بذلك، مما يضعف الموقف عمليا ويفقده تأثيره، وهذا ما تراهن عليه السلطة، وخاصة القضاة.
تشدد مجلس إدارة نادي القضاة في موقفه يعتمد في الواقع على شعوره بأنه الطرف الأقوى في المعركة بما يملكه القضاة من سلطة ونفوذ. وزعم رئيسه، المستشار أحمد الزند، بأن النادي لم يقم بالتصعيد والاستثارة، يغفل حقيقة عدم التكافؤ في الموقف من ناحية وحقيقة أن القضاة مارسوا سلطتهم كما يرغبون وتعسفوا في تحقيق أهدافهم الانتقامية بذلك الحكم العنيف الذي صدر بسرعة غريبة وإجراءات أغرب لحبس المحاميين المتهمين.
وينكر نادي القضاة، رغم ذلك، على المحامين حقهم في الإضراب والاعتصام والتظاهر في مواجهة تعسف القضاة الذين استخدموا القانون ليأخذوا "حقهم" بأيديهم. فقد جاء على لسان المستشار أحمد الزند في تقرير نشرته جريدة المصري اليوم في صدر صفحتها الأولى يوم الأربعاء الماضي رفضه للتهدئة والمفاوضات متسائلا: "هل يجوز إجراء مفاوضات في ظل ظروف يساء فيها للقضاة جميعا، ويتعرض رموزهم للسب، ويتم التشكيك في الدور الذي يقومون به، وتقارير الطب الشرعي وكل شيء، فهل هذا مقبول؟" رافضا "فلسفة أخذ الحق باليد".
تساؤلات المستشار الزند غريبة في منطقها، لأن المفاوضات تجري لإنهاء الحالة التي يساء فيها للجميع قضاة ومحامين، ولأن تلك الحالة حدثت بسبب تعسف القضاة في استخدام سلطتهم ضد فئة لا تملك في مواجهتهم ردا إلا كشف هذا التعسف أمام الرأي العام. ومن المقبول طبعا بالنسبة للرأي العام أن يشك في كل شيء بما في ذلك دور القاضي وتقارير الطب الشرعي، لأن الرأي العام هو الجهة الرقابية الأعلى في أي مجتمع سليم حتى وإن كان مهانا ولا يعتد به في مصر، وحتى وإن كان لا يملك الآليات والمنافذ التي يعبر من خلالها عن نفسه وإرادته تعبيرا فعالا في النظام السياسي المصري الذي يحتقر الرأي العام.
ولنا هنا أن نتساءل في مواجهة تساؤلات المستشار الزند: لماذا يفترض قداسة للقضاة؟ وهل هذه القداسة جائزة في مواجهة الرأي العام حاليا؟ ألم يثبت في حق بعض القضاة ارتكابهم جرائم الرشوة؟ ألم يثبت مشاركة بعضهم في تزوير انتخابات نيابية؟ ألا تتستر النيابة العامة على بعض الجرائم، خاصة بعض جرائم انتهاك حقوق الإنسان التي يرتكبها ضباط الداخلية؟
في بيئة الفساد والاستبداد السائدة في مصر، هناك ما يسمح بالشك في نزاهة وقداسة القضاء والنيابة، خاصة عندما نضع في اعتبارنا أن عددا كبيرا من أعضاء النيابة عينوا بالمحسوبية أو لأنهم أبناء للقضاة. لأن القاضي الذي يسمح لنفسه بالحصول على ميزة يكون غيره أحق بها يكون فاقدا للنزاهة بلا ريب، أو على الأقل تكون نزاهته قابلة للشك والطعن فيها.
ولماذا لا يحق لنا أن نشك في تقارير الطب الشرعي؟ هل يتمتع الطبيب الشرعي بحصانة خاصة ضد الخوف والطمع؟ أم هل نزل إليه الأمر من السماء فأصبح معصوما من الخطأ؟ وما دخل الطب الشرعي في قضية المحامين والقضاة؟ إلا إذا كان المستشار الزند يحاول مغازلة وزارة الداخلية في قضية خالد سعيد شهيد الطوارئ.
لن استرسل في التعليق على تساؤلات رئيس نادي القضاة أكثر من ذلك، إنما أردت فقط أن أؤكد أن من حق "المجتمع" أو "الرأي العام" أو "الشارع" أن يكون رقيبا على القضاء وأن يشك في أحكامه، خاصة إذا كانت هذه الأحكام صادمة ومنافية للعادة، وخاصة إذا كان المصريون يعيشون حاليا مرحلة يفتقدون فيها أشد الافتقاد إلى العدالة وحكم القانون.
القضاة يتشددون، وبقية أقسام النظام الحاكم (الرئاسة، مجلس الوزراء، إلخ) التي تملك سلطة نافذة ترفض التدخل لحل الأزمة، والمحامون يواجهون مأزقا ولا يملكون إلا الإضراب والاعتصام والتظاهر استنجادا بالرأي العام، الذي لا يعتد به النظام الحاكم ولا يمنحه ما يليق به من اعتبار، وأخير يستنجدون برئيس الجمهورية الذي يرفض التدخل حتى الآن.
لماذا يتشدد نادي القضاء، ويؤيده في ذلك أغلب أعضائه؟ يقولون إن تشددهم يأتي دفاعا عن كرامة القاضي التي رأوا أن اعتداء محام على أحد وكلاء النيابة يمثل انتهاكا لها، بغض النظر عن ظروف وملابسات الاعتداء، وبغض النظر عن مصداقية الرواية التي وردت في محضر النيابة والتحقيقات التي أجراها وكلاء النيابة والقضاة ولعبوا فيها دور الخصم والحكم.
لكن الدفاع عن الكرامة لا يتجزأ. وينبغي أن يدافع القضاة عن كرامتهم إذا أهينت بغض النظر عمن قام بهذه الإهانة، وهذا مالم يحدث عندما أهين القضاة على الملأ، وليس فقط وكلاء النيابة، على أيدي ضباط الداخلية في معركتهم من أجل استقلال القضاء التي أيدهم فيها الرأي العام، عندما تعرض أحد القضاة للضرب بالحذاء وكسرت ذراعه أمام النادي. كما أهين من قبل ذلك من لم يقبل منهم بتزوير إرادة الناس عندما كانوا يشرفون على الانتخابات، وكان ذلك أيضا على أيدي عناصر الداخلية، ولم يتخذوا أي إجراء ضد من أهانوهم يقترب من الإجراءات التعسفية التي اتخذت ضد المحامين. فلماذا لم تظهر هنا كرامة القضاة ولم يتمكنوا من الثأر لها؟! بل وظهر فيهم فريق، هو الذي انتصر في انتخابات النادي اللاحقة، يرفض إصرار القضاة على نيل استقلالهم ومواجهة بقية أجهزة السلطة والنظام الحاكم، وهو أيضا نفس الفريق الذي يتشدد حاليا في مواجهة المحامين!!!!!
لماذا يتشدد مجلس إدارة نادي القضاة إذن مادامت لم تثبت مبدأيته في الدفاع عن كرامة القضاة الذين أهينوا على أيدي عناصر جهاز الشرطة؟ الحقيقة أن تشدد إدارة النادي لا ترتبط بالدفاع عن كرامة القاضي بقدر ما ترتبط بلعبة بناء القواعد الانتخابية، وبقدر ما ترتبط بانتهاز فرصة ضعف الخصم للظهور بمظهر المدافع العنيد عن الكرامة التي أهينت. ولذلك نستطيع أن نزعم أن النادي كان سيصمت صمت القبور، أو على الأقل يقبل أي تسوية مهما كانت بسيطة، لو تعرض وكيل النيابة للإهانة على أيدي عناصر الداخلية، خاصة إذا تم ذلك على يد ضابط "مسنود" أو في موقف يتعلق بموقع القضاة في الترتيب الخاص بهيكل جهاز السلطة في مصر.
وأمام تشدد القضاة وناديهم، لا يستطيع المحامون، أو على الأقل نقابتهم، أن يتراجعوا عن موقفهم، وأن يسلموا بالهزيمة الكاملة، لأن الموقف يتعلق بممارستهم لعملهم اليومي، وما يمكن أن يتعرضوا له – وما يتعرضون له فعلا كل يوم – من إهانات في أمور ترتبط بممارسة مهنتهم وليس بسبب أنشطة أخرى ذات طابع سياسي أو غيرها مما يمكن تجنبها. لذلك واصلوا حتى الآن إضرابهم رغم المأزق الشديد الذي يعانون منه والذي دفعهم أخيرا إلى الاستنجاد برئيس الجمهورية.
لماذا إذن لم تتدخل بقية أقسام جهاز السلطة لحل المعضلة حتى الآن، سواء مؤسسة الرئاسة أو مجلس الوزراء، أو الأجهزة الأمنية النافذة؟ الحقيقة أنهم لا يريدون التدخل وإن كانوا قادرين عليه، على الأقل حتى الآن، ليس إيمانا منهم باستقلال القضاء، ولا احتراما لمكانة القاضي وكرامته، لأن ذلك لم يظهر في معركة القضاة الرئيسية ضد بقية أجزاء الجهاز التنفيذي للسلطة – وهي معركة استقلال القضاء – التي انتهكت فيها كرامة القضاة ولم يحظوا بالاستقلال المنشود، بل أجبروا على التخلي عن مطالب الاستقلال. وليس كذلك إيمانا منهم بضرورة احترام القانون وتفعيله حتى في القضايا ذات الطبيعة الشائكة – لأن بعض أجهزة السلطة تمارس عمليات التسوية القسرية في عدد كبير من قضايا الفتنة الجماعية – خاصة أحداث الفتنة الطائفية – بعيدا عن القانون ورغم أنف القانون لاعتبارات المواءمة السياسية. إن سكوت أجهزة السلطة النافذة – رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء وجميع الأجهزة النافذة الأخرى – في هذه المعركة لا يمكن فهمه إلا كنوع من استرضاء لأحد أضلاع السلطة وأجهزتها، وهو القضاء، بعد إهانة أعضائه في المواجهة مع الأجهزة والأضلاع الأخرى التي تحتل أهمية أعلى ووزنا أكبر في النظام السياسي المصري، خاصة أن هذه الأجهزة تدرك أن المواجهة بين القضاة والمحامين غير متكافئة وأن المحامين في الموقف الأضعف. كما أن هذا الصمت يتضمن رسالة واضحة تحدد للقضاة نطاق ممارسة سلطتهم، وتحدد لهم بدقة الميدان الذي يمكنهم فيه خوض المعارك ولعب أدوار البطولة. إنه نوع من التآمر على الأضعف في لعبة ممارسة السلطة في مصر.
سبب آخر وراء تشدد نادي القضاة وعدم تدخل الأجهزة السيادية في السلطة لتحجيم هذا التشدد يرتبط بلعبة انتخابات مجلس إدارة النادي. فقد انتهز مجلس إدارة النادي الفرصة ليقدم نفسه بصورة المدافع عن كرامة القضاة ويدعم قاعدته الانتخابية وسط الأعضاء حتى لا يعود فريق الاستقلال من جديد، وهو نفس الهدف الذي تريده السلطة درءا لمخاطر صعود فريق الاستقلال في أي انتخابات مقبلة والاضطرار لمواجهة انقسام بين أجهزة السلطة والحكم مرة أخرى.
اللافت في الأمر أن النظام الحاكم وأجهزة السلطة والحزب الوطني هم المستفيد من هذه المواجهة من جميع الجوانب – حتى على جبهة المحامين رغم المأزق الذي يعانون منه. نقيب المحامين حمدي خليفة عضو قيادي في الحزب الوطني، وأصبح عضوا في مجلس الشورى في الانتخابات الأخيرة، وفي الأزمة الحالية مع القضاة تبنى الرجل موقفا قويا لازما وضروريا وديمقراطيا نعم ولكنه موقف غريب على أعضاء وقيادات الحزب الوطني. فما نعرفه عن قيادات وأعضاء حزب السلطة أنهم لا يؤيدون أي إضراب أو اعتصام أو مظاهرة أو حتى اعتراض على سياسات السلطة وممارساتها. والقضاء أحد أجهزة السلطة وأركانها، لكن نقيب المحامين أعلن إضرابا واعتصاما ووضع عقوبة على أي محامي يحاول كسر هذا الإضراب!!
ولا يمكن تفسير ذلك إلا إذا وضعنا في اعتبارنا أن الرجل يواجه منذ انتخابه نقيبا للمحامين معارضة شرسة وأزمات عنيفة ومستمرة في النقابة وصلت إلى حد جمع توقيعات لسحب الثقة منه. لكن المعركة مع القضاة قدمت له فرصة سانحة لمواجهة معارضيه الذين خفتت أصواتهم أمام قيامه "بواجبه" في الدفاع عن كرامة المحامين على أكمل وجه. بل إن معارضيه، وعلى رأسهم النقيب السابق سامح عاشور، ومنافسه في الانتخابات الماضية رجائي عطية اضطروا إلى إعلان موقف معاكس يدعو إلى عدم التصعيد وضرورة التهدئة مع القضاة يسحب من رصيدهم في أوساط المحامين الغاضبين، أمام إصرار الرجل على استمرار المواجهة والخروج منها بما يحافظ على ماء الوجه إن لم يكن بانتصار ومكسب يعتد به.
هناك قدر من المغامرة طبعا في موقف نقيب المحامين، بالرهان على الوصول إلى تسوية مرضية أو تدخل رئيس الجمهورية قبل أن تفلت منه الأمور ويفقد الإضراب قوته وتأثيره، وهو ما يتمناه خصومه ومعارضوه، لكنها مغامرة لازمة وضرورية لا مفر منها، وكانت نتائجها مرضية ومفيدة بالنسبة له وللمحامين حتى الآن. مشكلته الوحيدة أن الأمور تقاس بخواتيمها وأنه لا يضمن تلك الخواتيم.
الأهم من ذلك بالنسبة لنا هو فلسفة ومنهج من يملكون زمام السلطة في مصر. تلك الفلسفة التي تقوم على ترسيخ أساليب مراكز القوى في جهاز السلطة، حيث تمارس مراكز القوى سلطتها كل في مجاله كما تريد ودون أي اعتبار إذا استطاعت إلى ذلك سبيلا، مما يجعل الأضعف الذي يخضع تحت هذه الدوائر المتشابكة من النفوذ والقوة ضحية الجميع. في هذه الرقصة الهمجية لمراكز السلطة والقوة يمتلك الجهاز التنفيذي وعلى رأسه المؤسسة الأمنية سلطة ونفوذا وقوة أعلى وأشد حسما، بينما الفقير الذي بلا سلطة ولا مال ولا قوة تعصمه يدهس كالفئران تحت أقدام الأفيال وتضيع كرامته ويهدر دمه بلا ثمن ولا حساب.