الاثنين، 18 يوليو 2016

رأسمالية الزومبي - تأليف: كريس هارمان

ترجمة: رمضان متولي
مقدمة
عالم مضطرب
نحن نعيش في عالم مضطرب يعاني من عدم استقرار سوف يزيد، عالم يعاني فيه مليار إنسان من الجوع معاناة يومية، والجوع سوف يتفاقم. عالم يدمر البيئة التي تحتويه، والدمار سوف يشتد. عالم يتسم بالعنف، والعنف سوف يحتدم. عالم ينحسر فيه شعور الناس بالسعادة عن ذي قبل، حتى في بلدانه المتقدمة صناعيا، والتعاسة سوف تزداد وطأتها.
حتى الأكثر خسة وجبنا من بين مبرري الرأسمالية يواجهون صعوبة في مواصلة إنكار هذا الواقع مع استمرار تفاقم أعنف الأزمات الاقتصادية في تاريخ الرأسمالية منذ الحرب العالمية الثانية. وبينما أكتب هذه السطور، لم تفلت أشهر البنوك العالمية من الإفلاس إلا عبر تدخل حكومي هائل لإنقاذها. وتغلق آلاف المصانع والمحال والمكاتب أبوابها في مختلف أنحاء أوروبا وأميركا الشمالية. وترتفع نسبة البطالة بسرعة القذيفة. وقد أُبلغ عشرون مليونا من العمال في الصين بأن عليهم أن يعودوا إلى قراهم، فلا وظائف لهم في المدن.
وتحذر مؤسسة بحثية تابعة لأصحاب الأعمال في الهند من أن عشرة ملايين من العاملين لديهم يواجهون الطرد من الخدمة. ولازال الجوع يهدد مائة مليون من سكان العالم في نصف الكرة الجنوبي بسبب مضاعفة أسعار الحبوب في العام الماضي، بينما نُزعت ملكية الوحدات السكنية من ثلاث ملايين أسرة في الولايات المتحدة، أغنى بلدان العالم، خلال ثمانية عشر شهرا.
ومع ذلك، كان الخطاب مختلفا تماما منذ عامين فقط عندما بدأت في وضع هذا الكتاب، فقد ورد في تقرير لبنك التسويات الدولية أن الاقتصاديين "يجمعون" على أن: "معدلات النمو الاقتصادي التي ارتفعت مؤخرا سوف تستمر، وتظل  نسبة التضخم تحت السيطرة تماما، وتتحسن تدريجيا حالة الاختلال في ميزان المعاملات الجارية على مستوى دول العالم. ويوافقه في ذلك جميع السياسيين، ورجال الصناعة والتمويل والمعلقين، الذين شربوا الأنخاب احتفاءا بعجائب السوق الحرة، وطربوا لأن "عبقرية ريادة الأعمال" قد جرى تحريرها من الرقابة وقيود التنظيم. قالوا لنا إنه أمر رائع أن يزداد الأثرياء ثراءً لأن الحوافز التي تجعل النظام أكثر وفرة وسخاءً تنشأ عن ذلك. وأن التجارة سوف تخفف حدة الجوع في إفريقيا، وأن النمو الاقتصادي يجفف مستنقعات الفقر الشاسعة في آسيا، وأن أزمات السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وبداية الألفية الثالثة أصبحت ذكريات لنا أن نرميها وراء ظهورنا. وقد يعاني العالم من فظائع، مثل الحروب في الشرق الأوسط، والحروب الأهلية في إفريقيا، لكن هذه الفظائع ترجع إلى قصور في الرؤية لدى سياسيين في واشنطن وفي لندن، شرفاء في جوهرهم، وربما ارتكبوا أخطاء، لكن تدخلهم الإنساني مازال ضروريا لمواجهة مجانين ذوي نفوس معتلة. أما آراء المختلفين الذين ينظرون إلى الأمور بشكل مغاير فجرى تجاهلها، بينما تقوم وسائل الإعلام ببث هالات تحبيذ منمقة حول ثقافة متابعة المشاهير، وأنماط الاحتفاء بالذات لدى شرائح الطبقة الوسطى العليا، والانتشاء القوموي الفارغ في المسابقات الرياضية.
وفي منتصف أغسطس عام 2007، وقع حدث ما بدأ في إزاحة هالات الزيف الإعلامي ليرى الناس لمحة من الواقع المطموس. فقد اكتشفت بعض البنوك فجأة أنها لا تستطيع موازنة مراكزها المالية وتوقفت عن إقراض بعضها الآخر. وبدأ النظام المالي العالمي يسير بطيئا نحو التوقف الكامل بأزمة في الائتمان تحولت إلى أزمة شاملة للنظام في أكتوبر عام 2008. تحول الرضا عن الذات والغرور الرأسمالي إلى فزع رأسمالي، وتحولت الغبطة والنشوى إلى إحباط وقنوط. من كانوا بالأمس أبطالا تحولوا اليوم إلى محتالين. ومن هؤلاء الذين كانوا يؤكدون لنا روائع النظام خرجت رسالة واحدة مفادها: "نحن لا نعرف الخطأ الذي وقع، ولا نعرف ماذا نفعل إزاءه." والرجل الذي كان يعتبر منذ فترة قصيرة عبقرية فذة تشرف على النظام الاقتصادي للولايات المتحدة، وهو رئيس الاحتياطي الفيدرالي ألان جرينسبان، أقر أمام الكونجرس الأمريكي بأنه مازال "لا يفهم تمام الفهم ماذا حدث وسبب مشكلة فيما يعتقد أنها أسواق ذاتية التنظيم." وتقوم الحكومات بضخ مئات المليارات إلى من يديرون البنوك – وعشرات المليارات إلى من يديرون شركات السيارات متعددة الجنسية – أملا في إن يساعد ذلك في وقف الأزمة بطريقة ما. غير أنهم لا يتفقون فيما بينهم حول كيفية ذلك، بل وفيما إذا كانت جهودهم سوف تنجح أم لا.
لكن شيئا واحدا يمكن تأكيده، أنهم سوف ينسون مئات الملايين من البشر الذين دُمرت حياتهم بسبب الأزمة في تلك اللحظة التي يبدأ عندها الاستقرار في أي جزء من الاقتصاد العالمي. وبعد شهور قليلة من توقف الانهيار في البنوك ووقف تدهور الأرباح إلى الحضيض، سوف يعود المبررون إلى بث دعاياتهم الزائفة من جديد. وما أن يبدو مستقبلهم أفضل حتى يقومون بتعميم الصورة على مستوى العالم أجمع بتجديد الحديث عن روائع الرأسمالية ومناقبها واستحالة بدائلها – حتى تضرب الأزمة من جديد وترمي بهم مرة أخرى في متاهة الذعر.
غير أن الأزمات ليست ملمحا جديدا على النظام، وإنما تقع على فترات تطول أو تقصر منذ أرست الثورة الصناعية قواعد الرأسمالية الحديثة في بريطانيا كاملة في بداية القرن التاسع عشر.  

بؤس علم الاقتصاد:
برهن علم الاقتصاد السائد، الذي يجري تدريسه في المدارس والجامعات، على عدم قدرته على استيعاب هذه القضايا. بنك التسويات الدولية اعترف بأن "أحدا لم يتمكن فعليا من التنبؤ بوقوع الكساد الكبير في عقد الثلاثينيات أو الأزمات التي تعرضت لها اليابان ومنطقة جنوب شرق آسيا على التوالي في أوائل التسعينيات.  وكانت كل أزمة من الناحية الواقعية تسبقها فترة من النمو الاقتصادي غير التضخمي مرتفع بما يكفي ليدفع الكثير من المعلقين إلى الزعم بأن "عصرا جديدا" قد بدأ". إن عجز من يدافعون عن الرأسمالية عن تفسير أهم الأحداث الاقتصادية وأبرزها في القرن العشرين، وهو أزمة الكساد الكبير في الثلاثينيات، لا يعدله شيء آخر في تأطير وتلخيص ما يعانونه من عدم إدراك وفهم. وقد أقر الرئيس الحالي للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، بن برنانكي، وهو واحد من أبرز خبراء علم الاقتصاد السائد المتخصصين في الأزمات الاقتصادية، بأن "الغاية الأسمى التي يسعى لها علم الاقتصاد الكلي هي فهم وتفسير الكساد الكبير." بمعنى آخر، إنه لا يستطيع أن يجد تفسيرا لهذا الحدث. أما إدوارد فرسكورت، الحائز على جائزة نوبل، فقد وصف الكساد الكبير بأنه: "نوبة مرضية تتحدى التفسير وفق قواعد علم الاقتصاد." وروبرت لوكاش،  أحد الحائزين على نوبل أيضا، يقول: "إن الاعتراف بأنك لا تعرف ماذا يحدث في بعض الأمور يحتاج إلى إرادة وبذل مجهود حقيقي."
غير أن هذه الإخفاقات ليست فشلا عارضا. بل إنها بنيوية في تركيبة الافتراضات الخاصة بالمدرسة النيوكلاسيكية أو المدرسة الحدية التي هيمنت على علم الاقتصاد السائد على مدى قرن وربع القرن. فقد حمل مؤسسو هذه المدرسة على عاتقهم مهمة البرهنة على "وضوح" السوق – أي إثبات أن كل البضائع التي تطرح في السوق سوف تجد من يشتريها. لكن ذلك يفترض بداية استحالة وقوع الأزمات. وأدت لاعقلانية النموذج النيوكلاسيكي في مواجهة بعض خصائص الرأسمالية الأشد وضوحا إلى محاولة تلو الأخرى من قبل التيار السائد من أجل حشر عناصر إضافية فيه كلما تطلب ذلك. لكن أيا من هذه الإضافات والعناصر لم يغير عقيدتهم الأساسية بأن النظام سوف يعود إلى التوازن – بشرط استجابة الأسعار، وخاصة الأجور، لضغوط السوق دون عراقيل.  حتى جون ماينارد كينز، الذي تجاوز جميع الاقتصاديين الآخرين من التيار السائد في وضع فكرة التوازن موضع التساؤل والشك، افترض أن درجة من التدخل الحكومي يمكن أن تنجح في تحقيق التوازن.   
هذا التغاضي والتواطؤ كان يتعرض دائما للمواجهة. تهكم الاقتصادي النمساوي شومبيتر على فكرة تحقيق التعادل معتبرا إياها لا تتسق مع ما يراه الفضيلة الإيجابية الأعظم للرأسمالية، أي ديناميتها. وبعض تلاميذ كينز ذهبوا أبعد مما ذهب هو في القطع مع العقيدة النيوكلاسيكية. وقام اقتصاديو مدرسة كامبريدج بتفنيد الأساس النظري للمدرسة النيوكلاسيكية. ومع ذلك، بقيت هذه العقيدة راسخة بقوة داخل الجامعات والمدارس كما كانت دائما، تضخ في رؤوس الأجيال الجديدة جيلا بعد آخر صورة عن النظام الاقتصادي لا علاقة لها بالواقع. وأدى الضغط على الطلاب لدراسة الكتب التي تروج هذه الأفكار كما لو كانت نصوصا علمية إلى بيع ملايين النسخ من كتابي "علم الاقتصاد" لصموئيلسن و"مقدمة في علم الاقتصاد الوضعي" لليبساي.
ولا يثير الدهشة أن حرفة علم الاقتصاد تواجه صعوبة في استيعاب تلك الجوانب في النظام الرأسمالي ذات الأثر الأكبر على حياة البشر الذين يعيشون في ظله. إن النظريات البليدة التي تملأ نصوص الكتب الاقتصادية والدوريات الأكاديمية مع حساباتها الرياضية المتلاحقة وأشكالها الهندسية تفترض الاستقرار والتوازن، وهكذا ليس لديها ما تقدمه لبشر يشعرون بقلق نتيجة ميل النظام داخليا نحو الأزمة. وقد لاحظ مارشال، وهو أحد مؤسسي المدرسة النيوكلاسيكية، منذ ما يقرب من مائة عام أن النظرية الاقتصادية التي كان يتبناها لا فائدة لها في الممارسة العملية وأن "أي شخص قد يكون اقتصاديا أفضل إذا اعتمد على بديهته وغرائزه العملية."
ومع ذلك، فإن الأمر لا يتعلق فقد بالمدرسية الأكاديمية المجردة. فهذه العقيدة نتاج أيديولوجي بمعنى أنها تنطلق من موقف من يحققون أرباحا من نظام السوق. وتقدم تربحهم ذلك على أنه الطريقة المثلى للمساهمة في المصلحة العامة، فيما تعفيهم من المسئولية عن أي خطأ يحدث.  كما أنها تستبعد أي نقد جوهري للنظام القائم بطريقة تناسب من يحتلون المواقع القيادية في هياكل النظام التعليمي والمرتبطة كما هو الحال بجميع هياكل النظام الرأسمالي الأخرى. وتلخص عالمة الاقتصاد الكينزية الراديكالية جوان روبنسن الموقف كالتالي:
"لدى الراديكاليون أسهل الطرق لتأسيس قضيتهم. فما عليهم سوى أن يشيروا إلى التناقضات بين طريقة عمل الاقتصاد الحديث وبين الأفكار المفترض الحكم عليه بمقتضاها. بينما يتكبد المحافظون عناء القيام بمهمة مستحيلة تقريبا وهي البرهنة على أن هذا العالم هو أفضل ما يمكن تحقيقه. غير أنه لنفس السبب يجري تعويض المحافظين عن هذا العناء بوضعهم في مواقع السلطة التي يمكنهم استغلالها للسيطرة على الانتقادات … فلا يشعر المحافظون بالاضطرار إلى الرد على انتقادات الراديكاليين في مواضع قوتها، ولا تخاض المعركة أبدا على أساس عادل."
ولكن حتى معظم "الراديكاليين" عادة يتعاملون مع النظام القائم كبديهية معطاة. فكانت أفكار الكينزيين الراديكاليين مثل جوان روبنسن تتعلق دائما بإدخال تعديلات على النظام عبر زيادة التدخل الحكومي عما كان يتصوره اقتصاديو التيار السائد. وهم لا يرون النظام نفسه مدفوعا بدينامية داخلية لا تقتصر آثارها التدميرية على الظواهر الاقتصادية فقط. وهذا النظام، في القرن الحادي والعشرين، ينتج الحروب والمجاعات ويسبب التغيير المناخي بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية، ويحدث ذلك كله بوسائل تهدد أساس الحياة البشرية نفسها. تحول الرأسمالية المجتمع بأكمله بينما تمتص بلايين الناس في دائرة الكد لصالحها. إنها تغير نمط حياة البشر بالكامل، وتعيد تشكيل الطبيعة البشرية نفسها. وتضفي طابعا جديدا على أشكال الاضطهاد القديمة كما تتقيأ علينا أشكالا جديدة.
الرأسمالية تنشئ الدوافع لشن الحروب وتدمير البيئة. وتبدو كما لو كانت تؤدي دور إحدى قوى الطبيعة، متسببة في فوضى ودمار يتجاوز في حجمه دمار الزلزال والإعصار والتسونامي. لكن هذا النظام ليس ناتجا عن قوى الطبيعة، وإنما عن نشاط بشري. نشاط بشري أفلت بطريقة ما من سيطرة البشر واتخذ لنفسه حياة مستقلة عنهم.  يكتب الاقتصاديون "إن السوق تفعل هذا" أو "إنها تتطلب ذاك". غير أن السوق ليست سوى تجميعا لمنتجات حركات متباينة وكثيرة لنشاط الانسان الخلاق، ألا وهو العمل. ما يخفيه كلام هؤلاء الاقتصاديين أن هذه العمليات بطريقة ما تحولت إلى آلة تسيطر على البشر الذين يقومون بهذا النشاط، وتدفع بذلك العالم في اتجاه لا يبتغيه قلة من البشر يحتفظون بسلامة عقولهم. في مواجهة الأزمة المالية التي اندلعت في عام 2007، بدأ عدد من المعلقين الاقتصاديين فعليا في الحديث عن "بنوك زومبي" – أي مؤسسات مالية أصبحت في "حالة اللاموتى" عاجزة عن القيام بأي وظيفة إيجابية ولكنها تشكل خطرا على كل شيء آخر. وما يتغافلون عن إقراره هو أن رأسمالية القرن الحادي والعشرين بأكملها أصبحت نظاما زومبيا، نظاما ميتا فيما يبدو عندما يتعلق الأمر بتحقيق أهداف البشرية والاستجابة لمشاعر البشر، ولكنه قادر على الاندفاع في نشاط فجائي يسبب الفوضى في كل اتجاه.

عالم تحول ضدنا
تراث التحليل الذي ترجع أصوله إلى كتابات كارل ماركس ورفيق عمره فريدريك إنجلز كان فريدا في رصانته لدى محاولة تفسير طبيعة النظام في هذا المضمار. أصبح ماركس يافعا في أوائل الأربعينيات من القرن التاسع عشر، في وقت بدأت فيه الرأسمالية الصناعية إحداث أول أثر محدود لها على جنوب ألمانيا، حيث مسقط رأسه. أما إنجلز فقد أرسله والده لإدارة مصنع له في مانشستر، حيث كان النظام الجديد مزدهرا فعلا. وكانت لديهما الرغبة مثل جيل كامل تقريبا من شباب المثقفين الألمان في إطاحة النظام الإقطاعي البروسي القمعي المتمثل في حكم طبقة يرأسها ملك يتمتع بسلطات استبدادية. ولكنهما بدءا بسرعة في إدراك أن الرأسمالية الصناعية التي كانت تحل مكان النظام الإقطاعي تحتوي خصائص قمعية خاصة بها، أهمها أنها تمتاز بإخضاع أغلبية الناس للعمل الذي يؤدونه بصورة غير إنسانية.  ما بدأ ماركس في اكتشافه عن طريقة عمل النظام الذي كان جديدا آنذاك دفعه إلى القيام بقراءة نقدية لأبرز أنصاره وهما عالما الاقتصاد السياسي آدم سميث وديفيد ريكاردو. واستنتج من ذلك أن النظام يحرم أغلبية البشر من عوائد الثروة رغم أنه يعظم كثيرا من حجم الثروة التي يمكنهم إنتاجها:
 "كلما أنتج العامل أكثر، كلما اضطر لاستهلاك أقل؛ وكلما خلق قيما أكثر، كلما تراجعت قيمته وأصبح بلا قيمة … (النظام) يستبدل العمل بالآلات، ولكنه يدفع قطاعا من العمال إلى أنماط بدائية من العمل، كما يحول قطاعا آخر إلى آلة … إنه ينتج الذكاء – ولكنه ينتج الغباء بالنسبة للعمال … وصحيح أن العمل ينتج أشياء رائعة للأغنياء – ولكنه ينتج الحرمان للعمال. إنه يبني القصور -  ولكنه يترك الأكواخ القذرة للعمال. وهو ينتج الجمال – ولكنه يشوه العمال …  لا يشعر العامل بنفسه إلا خارج العمل، وفي العمل يشعر بغربته عن نفسه. ويشعر بوجوده عندما لا يعمل,وعندما يكون في العمل لا يشعر بوجوده."
            وقد وصف ماركس ما يحدث في كتاباته الأولى بكلمة "الاغتراب"، مستخدما في ذلك مصطلحا فلسفيا وضعه الفيلسوف الألماني هيجل. وقد استخدم فيورباخ الذي عاصر ماركس نفس المصطلح لوصف الدين عندما قال إن الدين منتج بشري سمح له الناس بأن يسيطر على حياتهم. وقد أصبح ماركس الآن ينظر إلى الرأسمالية بنفس الطريقة. فالعمل البشري هو الذي ينتج الثروة الجديدة، ولكن هذه الثروة تحولت إلى وحش يسيطر على العمال في ظل الرأسمالية ويطلب المزيد والمزيد من العمل ليلتهمه. الشيء الذي ينتجه العمل يقف في مواجهته كشيء غريب عنه، كقوة مستقلة عمن أنتجها. وكلما بذل العامل نفسه في عمله، كلما ازداد الشيء الغريب قوة، وكلما تحول ضده عالم الأشياء الذي يجلبه إلى الوجود، وكلما أصبح هو وعالمه الخاص بائسا، وكلما أصبحت هذه الأشياء لا تخصه …  يبذل العامل حياته في إنتاج الأشياء، ولكنها لا تعود ملكا له، بل تصبح ملكا لشيء.
            وكما يشرح ماركس في مذكرات خاصة بكتابه رأس المال في أوائل الستينيات من القرن التاسع عشر:
            "إن سلطة رأس المال على العامل هي سلطة الأشياء على البشر، سلطة العمل الميت على العمل الحي، سلطة الشيء المنتج على من أنتجه، لأن السلع التي تتحول إلى وسائل للسيطرة على العامل في حقيقتها مجرد منتجات لعملية الانتاج … إنها عملية اغتراب عمله الاجتماعي الخاص."
            ولكن ماركس لم يكن يقتصر على تسجيل تلك الأوضاع القائمة. فقد قام آخرون بهذه المهمة قبله، وواصل كثيرون أداءها لفترة طويلة بعد وفاته. بل شرع أيضا، عبر ربع قرن من العمل الذهني الكثيف، في محاولة دراسة الكيفية التي نشأ بها النظام وقواه التي أطلقها وتتعارض معه. فلم تكن أعماله مجرد كتابات في علم الاقتصاد وإنما "نقد للاقتصاد السياسي"، أي للنظام الذي تعاملت معه المدراس الفكرية الأخرى كمسلمة معطاة. وكانت نقطة الانطلاق عنده هي أن الرأسمالية نتاج تاريخي، ليتوصل إلى اكتشافه بأنها نتيجة لدينامية تدفعها باستمرار إلى الأمام في عملية تغير لا نهائي عبر "تثوير متواصل لعملية الانتاج، واضطراب دائم لكل الأوضاع الاجتماعية، وإثارة وقلق أبدي." وكانت دراسات ماركس الاقتصادية في مرحلة نضجه تهدف إلى إدراك طبيعة هذه الدينامية، علاوة على اتجاهات تطور النظام. وهذه الدراسات تمثل نقطة انطلاق لا غنى عنها لمن يريد محاولة إدراك الاتجاه الذي يسير فيه العالم حاليا.  
واعتمد منهجه على تحليل النظام عند مستويات مختلفة من التجريد. ففي الجزء الأول من كتاب رأس المال، شرع ماركس في تحديد أكثر الملامح الأساسية عمومية في عملية الانتاج الرأسمالي. أما الجزء الثاني فيتناول الطريقة التي يتم بها تداول رأس المال والسلع والنقود داخل هذا النظام، ويدمج الجزء الثالث عملية الانتاج وعملية التداول ليقدم تحليلا ملموسا أكثر لقضايا مثل معدلات الأرباح، والأزمة الاقتصادية، والنظام الائتماني والريع. وكان ماركس ينوي كتابة أجزاء أخرى تتناول بين أمور أخرى مسائل الدولة، والتجارة الخارجية والأسواق العالمية. ولم يتمكن من استكمالها، رغم أن بعض ما كتبه لإصدارها ورد في العديد من المذكرات التي تركها.
ولذلك فإن كتاب "رأس المال" عمل لم يكتمل في بعض جوانبه، ولكنه رغم عدم اكتماله حقق هدفا يتعلق بالكشف عن العمليات الأساسية في حركة النظام، متضمنا في تناوله ذات القضايا التي تتجاهلها نظرية التوازن الستاتيكية لدى التيار السائد في المدرسة النيوكلاسيكية: التقدم التقني، والتراكم، والأزمات المتعاقبة، وتزايد الفقر بالتوازي مع زيادة الثروة. 
الاستفادة من ماركس اليوم
لهذه الأسباب، يجب أن يبدأ أي تفسير للنظام العالمي اليوم بالمفاهيم الأساسية التي وضعها ماركس، وقد سعيت إلى تلخيص هذه المفاهيم في الفصول الثلاثة الأولى من هذا الكتاب، وربما يعتبر بعض القراء ممن لديهم خلفية ماركسية ذلك التلخيص زائدا عن الحاجة. لكن هذه المفاهيم غالبا ما يُساء فهمها داخل المعسكر الماركسي كما يُساء فهمها من خارجه، فيجري النظر إليها كمفاهيم تنافس المفاهيم النيوكلاسيكية في تقديم نظرية للتوازن في هياكل الأسعار وبالتالي يتبين خطؤها بسبب إخفاقها في ذلك. 
ويتمثل أحد ردود الفعل على ذلك في استبعاد عناصر أساسية في نظرية ماركس، بما يجعلها مجرد تحليل لعملية الاستغلال وفوضى المنافسة الرأسمالية. رد فعل آخر، يبدو مناقضا للأول، يتمثل في اتخاذ نهج مدرسي تقريبا تتنافس فيه مختلف التفسيرات على دراسة نصوص ماركس وهيجل. وعلى الأغلب، يبدو كما لو أن النظرية الماركسية وقعت في فخ أعده معارضوها وتراجعت لتصبح مستودعا نظريا خاصا، ينفصل عن الواقع الحقيقي مثل نظريات معارضيها. ولهذا السبب شعرت بضرورة توضيح المفاهيم الأساسية بطريقة آمل أن تكون سهلة، مبينا كيف تصف هذه المفاهيم تفاعلات القوى الأساسية التي تحدد اتجاه التطور الرأسمالي. وتركت المناقشة التفصيلية للتفسيرات الأخرى في هوامش الكتاب. غير أنني رأيت ضرورة معالجة أكثر الاعتراضات شيوعا على نظرية ماركس من جانب التيار السائد من علماء الاقتصاد في الفصل الثاني، لأن كل من يدرس علم الاقتصاد في المدرسة أو الجامعة سوف يكون عرضة لتأثير أفكارهم. أما القراء الذين حالفهم الحظ بما يكفي لاجتناب هذا المصير، فلهم أن يتجاوزوا عن قراءة هذا الفصل.
            عدم اكتمال تحليل ماركس يظهر تأثيره حقا عند محاولة معالجة التغيرات التي طرأت على الرأسمالية بعد وفاته. وهي قضايا يشير إليها بشكل عابر فقط في رأس المال – مثل نمو الاحتكارات، تدخل الدولة في الانتاج الرأسمالي والأسواق، تقديم خدمات الرفاه الاجتماعي، الحرب كسلاح اقتصادي – وقد أصبح لها أهمية هائلة. واضطرت الظروف الماركسيين خلال العقود الأولى من القرن العشرين لمناقشة بعض هذه القضايا، وترتب على ذلك دفعة جديدة من التفكير الخلاق خلال الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين. وأسعى إلى أن أستمد من هذه المناقشات مجموعة المفاهيم الضرورية لتجاوز كتاب رأس المال وملئ الفجوات في تحليل ماركس للنظام في الفصلين الرابع والخامس.
            بقية الكتاب بعد ذلك يحاول التعامل مع تطور الرأسمالية على مدى الأعوام الثمانين الأخيرة، منذ أزمة الكساد الكبير في سنوات ما بين الحربين وحتى الأزمة التي تسبب اضطرابا في مختلف أنحاء العالم الآن. لن يقتصر التناول على مجرد تحليل للعمليات الاقتصادية، وإنما في كل مرحلة سيمتد إلى تحليل كيف أن التفاعل بين رؤوس الأموال والدول على مستوى العالم يؤدي إلى حروب وحروب أهلية ومجاعات وكوارث بيئية مثلما يؤدي إلى أزمات وموجات من الرخاء. إن الأسلحة النووية وانبعاثات الغازات المسببة لثقب الأوزون نتاج للعمل المغترب على نفس المستوى مع مصانع السيارات ومناجم الفحم.   
ملحوظة حول الكتاب:
كان لعدم استقرار الاقتصاد الرأسمالي أثره على كتابة هذا الكتاب. فقد بدأت في وضع مسودته عندما بلغ ما أسميه "الوهم الكبير" – وهو الاعتقاد بأن الرأسمالية اكتشفت طريقا جديدة للتوسع بدون أزمات – ذروته في أواخر عام 2006. وكنت أرى أن وقوع أزمة جديدة مسألة حتمية، بنفس الطريقة التي يعرف بها شخص يعيش في مدينة بنيت على خط شرخ سيزمي أنها سوف تتعرض إلى زلزال في لحظة ما. ولكنني لم أتظاهر بالقدرة على التنبؤ بموعد وقوع تلك الأزمة، أو إلى مدى ستكون مدمرة. بل إن هدفي من هذا الكتاب هو تحديث كتابي "تفسير الأزمة" الذي وضع منذ 25 عاما، واضعا في الاعتبار التغيرات التي شهدها النظام خلال هذه الفترة، مع إعادة التأكيد على الاستنتاج الأساسي ومؤداه أن الهروب الأعمى للأمام سيكون له عواقب مدمرة على حياة البشر خلال ما تبقى من سنوات القرن الحالي، عبر اندلاع أزمات سياسية واجتماعية هائلة تنطوي على إمكانات ثورية. لكن واحدة من هذه الاندفاعات العمياء أصابنا تأثيرها بينما كنت أنتهي من مسودة الكتاب. فأزمة الائتمان التي وقعت في أغسطس 2007 تحولت إلى أزمة كبرى في سبتمبر-أكتوبر 2008، لتدفع واحدا من أنصار النظام هو ويليام بويتر لأن يكتب عن "نهاية الرأسمالية كما عرفناها." وهكذا، تفاصيل كثيرة كنت أتناولها كجزء من الحاضر تحولت فجأة إلى جزء من الماضي، وانتشرت المطالبة الملحة لتفسير أسباب هذه الأزمة في كل مكان. ولم يكن أمامي خيار إلا أن أعمل على تحديث وإعادة هيكلة ما كتبته، ليتحول التركيز في بعض الفصول الأخيرة من الكتاب من مناقشة ما سوف يحدث عبر العقود المقبلة، إلى معالجة ما يحدث فعلا هنا والآن. وخلال هذه العملية قمت باختصار ما يقرب من ثلث عدد كلمات المسودة التي بلغت 150 ألف كلمة، وحذف جانب كبير من التفاصيل في محاولة لأن أجعل الكتاب ككل سهلا في فهمه. أما القراء الذين يهتمون بالتفاصيل الكثيرة فيمكنهم الاطلاع عليها في حوالي 15 مقالا في مجال الاقتصاد كتبتها لفصلية الانترناشونال سوشاليزم على مدى عشرين عاما، بينما يجدون معالحة بعض المسائل النظرية بتركيز أكبر في كتابي "تفسير الأزمة".   
ملحوظة حول الأرقام والمصطلحات
أي شخص يحاول تفسير التغيرات الاقتصادية لا خيار أمامه إلا استخدام المعلومات الإحصائية التي تقدمها الحكومات ومنظمات الأعمال، ومؤسسات دولية مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، ومنظمة التجارة العالمية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. وهذا الكتاب ليس استثناء من ذلك، ولكن ينبغي تحذير القراء من أن بعض الأرقام شائعة الاستخدام قد تكون مضللة في عدد من الجوانب الهامة. فأرقام النمو الاقتصادي خاصة ليست قاطعة وواضحة كما تبدو أحيانا. حيث يتعلق قياس النمو عادة بأرقام المنتجات المطروحة في الأسواق. غير أن كثيرا من العمل الإنساني الذي يمثل إضافة لرفاهة البشر لا يطرح في السوق، وينطبق ذلك على عمل المرأة المنزلي وبدرجة أقل كثيرا على عمل الرجل. كما أنه ينطبق تاريخيا على الكثير من عمل العائلة الفلاحية في أرضها. ويترتب على هذا الخلل تكوين انطباع زائف عن زيادة الثروة عندما تبدأ الأسر في شراء سلع كانت تقوم بانتاجها خارج إطار السوق – مثلا عندما تخرج زوجة إلى سوق العمل وتحصل على وظيفة وتبدأ في شراء وجبات جاهزة للطهو، أو أن تستأجر عائلة فلاحية شخصا آخر لبناء كوخ على أرضها وقد كانت تقوم هي نفسها ببنائه قبل ذلك.  
هذه التغيرات تجعل الأرقام المعلنة عادة تعطي صورة مشوهة باستمرار مع زيادة اتساع السوق ودخول المزيد من النساء إلى سوق العمل المأجور عبر العقود الماضية. كما أن الأرقام المعلنة رسميا تبالغ في أرقام معدل النمو الحقيقي في السلع التي تلبي احتياجات الناس، عبر حساب أشياء مثل الخدمات المالية ضمن إجمالي الناتج، وكل ما تعنيه هو مجرد انتقال الثروة من جيب إلى آخر – وهي كذلك ظاهرة خاصة تميز العقود الماضية. وأخيرا، لا يمكن مساواة أرقام نصيب الفرد من الناتج المحلي، كما يحدث في كثير من الأحيان، بمستوى رفاهة البشر، حيث يوزع هذا الناتج دائما بصورة غير متساوية بين الطبقات. ومع ذلك، وبسبب غياب أي وسيلة أخرى أفضل، اضطررت إلى استخدام هذه الأرقام.
تفسير مختصر للمصطلحات التي استخدمها:
بشكل عام، استخدم مصطلح "الغرب" و "الشرق" بالمعنى الذي كان مستخدما خلال سنوات الحرب الباردة من القرن الماضي، مع ضم اليابان إلى "الغرب". أما "العالم الثالث" و "جنوب العالم" فيشيران إلى الأجزاء الفقيرة من العالم التي عانت من ضعف مستوى التصنيع فيها على مدى معظم القرن العشرين، وكذلك مصلطحات مثل "الدول النامية" أو "الدول المتخلفة" التي استخدمها في بعض الإحصاءات. "الدول الشيوعية" تعود إلى الأنظمة الشبيهة بالاتحاد السوفييتي قبل عام 1991. أما "رأس المال الإنتاجي" فهي رأس المال الذي يجري توظيفه في الصناعة أو الزراعة مقابل ما يتم توظيفه في قطاعي التمويل والتجارة. وأخيرا، فإن الرأسماليين يفترض أنهم من الذكور، لأن 99.99% منهم كانوا كذلك حتى عشرين عاما مضت، بينما يفترض في العمال الذين يُستغلون من جانبهم أنهم من الجنسين. وفي هذا الكتاب قائمة بالمصطلحات في محاولة لجعل مادته أسهل بالنسبة لكل من حالفهم الحظ لدراسة علم الاقتصاد السائد وأولئك الذين لم يتعرفوا بعد على الكتب الماركسية.     

ليست هناك تعليقات: