الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

دولة النظام ضد الثورة


رمضان متولي

خرجت جماهير الشعب المصري بالملايين في ثورة 25 يناير قبل أن تنضج القوى الثورية، وقبل أن تنمو هذه القوى إلى درجة من التنظيم والوعي السياسي والارتباط العضوي بالجماهير تمكنها من قيادة الثورة والمثابرة على تعرجاتها والمناورة في منعطفاتها والمبادرة في لحظاتها الحاسمة حتى تتمكن الثورة من الاستيلاء على السلطة وتحقيق أهدافها.   

بهذا المعنى تحديدا كانت الثورة المصرية ثورة غير ناضجة، لم تكتمل عناصرها الذاتية حتى وإن كانت شروطها الموضوعية متحققة منذ زمن بعيد، ولذا لم تحقق أهدافها حتى الآن. بل الأخطر من ذلك أن ضعفها البنيوي الناتج عن غياب القيادة الثورية الحاسمة والمتمرسة والقادرة بامتلاكها استراتيجية واضحة حول أهدافها والمؤسسات والعناصر التي تخوض النضال لتنفيذ هذه الاستراتيجية سمح للمجلس العسكري، وهو الجزء الأكثر قوة وأحكم تنظيما في نظام مبارك، بالاستحواذ على السلطة والمناورة لاحتواء الثورة وإضعافها تمهيدا لوأدها وهي لم تزل بعد في مرحلة التكوين.

وإذا نظرنا إلى ما تحقق من أهداف الثورة كما ظهرت في شعاراتها، وفي خروج الملايين في ميادين مصر المختلفة للتعبير عنها، لن نجد إلا اليسير مما يتحقق عبر انتفاضة عفوية بسيطة، تفتقد إلى القيادة والتنظيم والوعي السياسي رغم بطولة الثوار وفداحة الثمن من شهداء وجرحى وسجناء في زنازين العسكر.

لم تحقق الثورة المصرية حتى الآن، رغم عنفوانها وزخمها، إلا إسقاط رأس النظام وبعض من أفراد عصابته وعصابة نجله جمال مبارك التي استبدت بالبلاد وحولت مصر إلى غنيمة لها تنهب ثرواتها وتستحوذ على أركان السلطة فيها لتنشر فيها الفساد، وتحقق المنافع الشخصية من خلالها على حساب الجماهير العريضة من أبناء الطبقة العاملة والفلاحين وصغار الموظفين وفقراء المدن والمهمشين في الأحياء الشعبية.

وبعد نزع هذه القشرة الخبيثة التي تمثل رأس النظام حاولت نخبة العسكر وقمة الجهاز البيروقراطي في الدولة وبعض النخب الإسلامية والليبرالية استيعاب الطاقة الثورية للجماهير وامتصاصها عبر ترويج فكرة زائفة بأن إسقاط الديكتاتور وحاشيته يرادف إسقاط النظام وأن الثورة حققت أهدافها، ولخص أحد الجنرالات الموقف بعبارة مخاتلة تزعم أن الثورة خرجت لإسقاط النظام لا لإسقاط دولته.

ولعل المواجهة التي تدور رحاها الآن في ميدان التحرير تكشف عن طبيعة هذه الدولة التي أشرف على بنائها الديكتاتور المخلوع عبر ثلاثين عاما من حكمه البغيض. هذه المواجهة التي يخوضها أبناء الشعب المصري بكل بسالة وفداء تفضح ما يميز هذه الدولة ممثلة في أجهزتها الأمنية والبيروقراطية من خسة وفساد وإخفاق واستبداد وترهل وانحطاط ما يجعلها فاقدة لأدنى قدر من المصداقية في أن تكون أمينة على أهداف الثورة ومطالبها، بل إنها بلغت من الغباء والسخف ما جعلها عاجزة حتى عن إدراك طبيعة هذه الثورة واستحقاقاتها.

استحوذ جنرالات المجلس العسكري على السلطة من الديكتاتور المخلوع في محاولة لإنقاذ النظام والالتفاف على مطالب الجماهير الثائرة. غير أنهم سرعان ما اكتشفوا أن الجماهير لم تقنع بالمراوغة والخداع والخطاب الأجوف المنمق، وهم يعرفون حق المعرفة أن مطالب الثورة واستحقاقاتها تتعارض مع مصالحهم وارتباطاتهم في داخل مصر وخارجها باعتبارهم جزءا حيويا وركنا أساسيا في النظام الذي خرجت الثورة من أجل إسقاطه. وهكذا بدأ هؤلاء الجنرالات يعتمدون على نفس أساليب الديكتاتور المخلوع في قمع الجماهير وترويج الأكاذيب وتشويه الحركة الثورية.

لكن الجماهير الثائرة سرعان ما اكتشفت عبر تجربتها النضالية أن مناورات الفترة الماضية والخطابات الزائفة للمجلس العسكري كانت تهدف إلى كسب الوقت من أجل إعادة بناء أجهزة القمع وخاصة جهاز الأمن المركزي، وهو الجيش الحقيقي الذي يعتمد عليه النظام في مصر والذي أعد لمواجهة شعب مصر لا مواجهة أعدائها. أمد المجلس العسكري هذا الجهاز بأسلحة ومعدات وذخائر جديدة بل وبمزيد من الأفراد، ليس لمواجهة الانفلات الأمني والبلطجة، وإنما من أجل بث الرعب وروح الهزيمة مرة أخرى في صفوف الجماهير. بل وسعى المجلس العسكري خلال هذه الفترة عبر أجهزة الإعلام الرسمية إلى تشكيل بيئة معادية حول الثورة والثوار عبر التواطؤ على الفوضى الأمنية في البلاد واستخدام فزاعة الانهيار الاقتصادي الذي تسببت فيه سياساته نفسها بتركيز إعلامي على انهيار البورصة وتراجع احتياطي النقد الأجنبي، ونسبة كل ذلك ضمنيا إلى الثورة والثوار الذين لم يسلموا كذلك من محاكمات عسكرية جائرة وضعت الآلاف منهم في السجون، ومن تشويه إعلامي واتهامات كاذبة تحاول وصمهم بكل ما ينفر الناس منهم.

إن قلب أي دولة هو أجهزتها الأمنية، وهي الأجهزة التي تتكشف فيها أكثر ما تتكشف إرادة الطبقة الحاكمة والبيروقراطية التي تخدم مصالحها – أي إرادة النظام الحاكم وسياساته. وقد رأينا بالتجربة المريرة مدى التصاق الدولة بالنظام، الذي مازال قائما، واكتشفنا خبث محاولة الفصل بينهما وكأن نظام الفساد والاستبداد والاستغلال والإهمال والقهر والتضليل كان يدير البلاد ويحكمها بدولة طاهرة اليد صادقة النية تتمتع بالكفاءة والاحتراف! وكأن مؤسسات الدولة وأجهزتها لا تسيطر عليها بيروقراطية أمنية وإدارية عاشت وترعرعت ونمت ثرواتها وتعاظم نفوذها عبر الفساد والاستبداد وإهمال احتياجات الشعب وحقوقه!

اكتشف الشباب الثائر عبر محطات مختلفة خلال الأشهر التي أعقبت سقوط الديكتاتور أن التطهير لم يقترب من أجهزة الدولة، وأن وزارة الداخلية وغيرها من الوزارات والمصالح الحكومية مازالت على فسادها واستبدادها واحتقارها لجماهير الشعب المصري الذي ينفق عليها، وأن المجلس العسكري جزء من النظام الذي أرادت الثورة إسقاطه ولن يكون أمينا على أهداف هذه الثورة ولا ملبيا لمطالبها.

إن الثورة حتى تحقق أهدافها وتفرض مطالبها تحتاج إلى دولة جديدة تنشؤها وفقا لاحتياجاتها ومطالبها وبالمعايير التي ترتضيها. لقد نجحت اللجان الشعبية من قبل في تحقيق الأمن للشارع في مواجهة الترويع الذي كان يشيعه جهاز الشرطة خلال الأيام الأخيرة من حكم الديكتاتور، وبنفس الطريقة يستطيع هذا الشعب الراقي العظيم أن يبني مؤسسات جديدة يكون هدفها تحقيق مطالب الثورة وتعبئة الجماهير خلف أهدافها وتيسير حياة الناس في مواجهة من يتآمرون على ثورته ويحاولون إهدارها وإحباطها وتفريغها من مضمونها الاجتماعي والديمقراطي.

إن المجلس العسكري ليس لديه ما يقدمه للثورة إلا القمع، لأنه يرفض أهدافها من الأساس لتعارضها مع مصالحه ومصالح الطبقة التي يمثلها ويحميها، وهذا يفسر ما يفعله الآن وما فعله خلال الفترة الماضية. فرغم الترويع والتخويف من أزمة اقتصادية وشيكه وتراجع احتياطي مصر من النقد الأجنبي وجدناه لا يتردد في استيراد مزيد من قنابل الغاز وإعادة تسليح عصابات الأمن المركزي وإمدادها بالمعدات الجديدة بهدف إلحاق هزيمة عنيفة بالحركة الثورية. إن المجلس يهدف الآن إلى انتهاز أي فرصة من أجل قتل حالة الزخم الثوري وكسر الروح المعنوية عند الشباب الثائر حتى يتمكن من ترميم ما تهدم من نظام الديكتاتور المخلوع وإحكام السيطرة على البلاد.

لكن خطة المجلس العسكري يقاومها صمود الشباب البطولي في مواجهة الأجهزة القمعية والإعلام الزائف وتخاذل وانتهازية القوى السياسية الإسلامية والليبرالية وغيرها، ممن لا يهتمون إلا بالانتخابات البرلمانية والرئاسية متجاهلين ضرورة تطهير أجهزة الدولة ومؤسساتها ووضعها تحت رقابة شعبية صارمة ومحاسبة من يستهترون بأرواح الشباب ويهدرون حقوق الشعب فيها قبل البحث عن نصيب في كعكة السلطة. صمود هؤلاء الأبطال يعزز الأمل في أن حالة الزخم الثوري التي أسقطت الديكتاتور في ثمانية عشر يوما تستطيع أن تواصل حتى تحدث تغييرا حقيقيا يشفي غليل الجرحى ويزكي الدماء الطاهرة التي ضحى بها أبطالنا الذين استشهدوا في الميدان.