السبت، 15 يناير 2011

انتفاضة تونس … دروس الحركة الجماهيرية

رمضان متولي

صفعه شرطي فأحرق نفسه، وأشعل انتفاضة شعبية هائلة في تونس… محمد بوعزيزي كان يشبه الملايين من شبابنا، تعلم واجتهد فأصبح عاطلا عن العمل. لم يكن بالتأكيد واحدا من أبناء القضاة، ولم يمت بأي صلة قرابة بواحد من النافذين في جهاز الدولة الفاسدة، ولم يكن أيضا من أبناء الطبقة التي احتكرت الثروة والنفوذ في نظام الفساد والاستبداد والنهب المنهجي. حمل إحباطه ويأسه على كتفيه مثل صليب البائسين والمهمشين في مختلف ربوع الأرض، وحمل قليلا من الخضر على عربة يدوية ليصبح بائعا جائلا في شوارع مدينة تلفظه مع الكلاب الضالة والقمامة في فنائها الخلفي.



صفعه الشرطي فأحرق نفسه، واشتعلت تونس بالانتفاضة والثورة. لم يفهم الشرطي لماذا يجب أن تشتعل الثورة بعد هذه الصفعة العادية. اعتاد الشرطي أن يصفع ويركل، بل ويقتل، هذه الحشرات التي لا مال لها ولا نفوذ، لا قوة لها ولا سند. محمد بوعزيزي يشبه تماما خالد سعيد أو سيد بلال، لا فرق بينه وبين الآلاف الذين يقتلون يوميا بلا ثمن. يصفعه الشرطي ويهينه، يركله في رأسه وبطنه، يقتاده إلى قسم الشرطة ويعذبه تعذيبا ساديا حتى يتلذذ بصراخه وعويله تحت صعق الكهرباء ولهيب السياط على جلده العاري. يعلقه من أطرافه في أوضاع مؤلمة، ويلهو بعصاة خشنة في مؤخرته حتى تسيل منها الدماء، وعندما يموت تحت تأثير التعذيب، يلقي به على قارعة الطريق، ويخرج تقرير الطبيب الشرعي مدعيا أن الوفاة بسبب جرعة زائدة من المخدر، وهبوط حاد في دورة الدم. يفلت الشرطي من العقاب، كيف يعاقب شرطي على قتل بعوض يؤذي عيون السادة والأثرياء في مدائنهم الأسطورية؟!

لكن بوعزيزي لم يكن وحيدا هذه المرة، ولم يعرف الشرطي والسياسي المخضرم لماذا اهتم به الأنذال والجبناء من بني جنسه. لماذا رأى ملايين الشباب صورتهم في ملامحه التي شوهتها وأهلكتها الحروق، في جفاف جلده من البؤس وانحناء ظهره الذي انكسر تحت صليب الفقر والقهر والتهميش. خرج ملايين الشباب حتى يستكملوا مسيرة "بوعزيزي" وطريقا أحرق نفسه كي يضيئها دون قصد أمام التائهين. خرجوا في مظاهرات "مطلبية" "فئوية" "اقتصادية" في مدينة وحيدة معزولة تدعى "سيدي بو زيد"، يطالبون فقط بحقهم في أن يعملوا، في أن يحصلوا على وظيفة استبعدوا منها لأن السادة الكبار يملكون الحق في تحديد من الذي "يليق اجتماعيا" للحصول عليها، ولا يليق لها إلا أبناؤهم وذووهم ومن يدفعون لها الرشاوى ويقتسمون معهم الدولة-الغنيمة.

مطالب ومظاهرات "اقتصادية" و"اجتماعية" و"فئوية" محدودة انطلقت من محلة "سيدي بوزيد" وانتشرت في مدن إخرى، ثم امتدت في مختلف أنحاء تونس حتى بلغت العاصمة وهي تحمل مطالب أخرى. كانت إحدى اللافتات التي حملها المتظاهرون تلخصها في "خبز وماء، وبن علي لاء".

مارست الشرطة أسلوبها المعتاد، قامت بمهمتها التي رسمت لها بدقة بالغة. ليس ضروريا أمن "المواطنين" على أنفسهم أو حياتهم، المهم حماية الرؤساء والطبقة الحاكمة تحت عنوان أمن "الوطن". اشتغلت آلة القمع لحماية المستبدين والفاسدين "ملاك الوطن". ودارت رحى الحرب غير الشريفة ضد الفقراء العزل إذ أفاقوا من سباتهم. أعملت الشرطة أسلحتها القمعية التي دفع هؤلاء الفقراء ثمنها من كدهم وعرقهم وحياة أبنائهم. أطلقت ونظمت عصابات المجرمين والمخربين لإحراق المدن وتخريبها حتى تعطي مبررا لتعميم القمع. وأمر "بن علي"، الذي اهتز به العرش وترنح على كرسيه الوثير، الجيش التونسي باحتلال المدن…وأعلن الجيش، كما ينبغي له أن يفعل حماية لشركاء قادته وسادته، حظرا للتجول والتظاهر، بل ومنع اجتماع أكثر من ثلاثة أشخاص وإلا تعرضوا للقتل رميا بالرصاص. وبدأ الإعلام الرسمي في عزف موسيقى النفاق ترحيبا بنزول الجيش، لأن "جيش الوطن يحظى باحترام الشعب"، ولأن "جيش الوطن تدخل لإنقاذ البلاد من الحرائق والدمار"، ولأن "جيش الوطن جاء تلبية لاستغاثة المواطنين الذين طلبوا حمايتهم بعد غياب الأمن عن الشوارع والمدن."

تلك هي المبررات التي صنعها النظام المستبد نفسه حتى يوفر الغطاء اللازم لتدخل الجيش، وخرج "بن علي" على شاشة التلفزيون ويداه مضرجتان بدماء العشرات الذين سقطوا صرعى في هذه الأحداث، والمئات الذين قتلهم عمدا بدماء باردة في سجونه، ودموع وآلام الملايين الذين شردهم وبدد حياتهم بسبب سياسات نظامه الظالمة على مدى 23 عاما من حكمه البغيض، خرج يعلن سلسلة من التراجعات التي فات أوانها، ويلقي مجموعة من الوعود التي لم يف بها في مناسبات عديدة سابقة. قال بن علي "لا رئاسة مدى الحياة" بعد أن أهدر آلاف الحيوات وهو يصر على الرئاسة مدى الحياة! وقام بتعديل الدستور حتى يسمح لنفسه بالترشح بعد أن تجاوز السن القانونية على رأس السلطة.

كان زين العابدين بن علي عاريا تماما وهو يرتدي قناع السلطة والرصانة الزائفة. كان يهذي ويخرف وهو يعلن تخفيض الأسعار وتوفير الوظائف وتشكيل لجنة تحقيق لتحديد المسئولية عن جرائم ارتكبت، وكان المجرم الأول فيها هو الرئيس نفسه، وإن لم يكن المجرم الوحيد في نظام العصابات الذي يحكم البلاد. في اليوم التالي غادر بن على "تونس وهي حمراء" هاربا إلى مطارات أولياء نعمته وأصدقائه الذين لفظوه وطردوه عاريا كما جاء حتى استقبلته ورحبت به واحدة من أعتى ديكتاتوريات بلاد العرب.

ومع ذلك فإن فرائص الديكتاتوريات العربية ترتعد أمام أحداث التضامن الجماهيري التي أعربت عن تأييدها للانتفاضة في تونس ودعمها للثائرين من أجل حقوقهم والعيش الكريم.

بدأت العصابات الحاكمة في تونس تبحث عن حيلة أخرى ووجه جديد للزعيم، من الوزير الأول محمد الغنوشي إلى رئيس مجلس النواب ووعد جديد بانتخابات خلال ستين يوما. لكن الحرائق التي اندلعت في قلوب شباب تونس مازالت تتوهج شوقا إلى التغيير. ومازالت العصابات التي تنظمها وتدعمها الشرطة تسعى في المدائن تخريبا وتدميرا، ومازالت الشرطة تضرب بوحشية وقوات الجيش رابضة تتأهب للانقضاض على فرائسها إذا خارت قوة الحركة الجماهيرية وفترت عزيمتها بسبب القتل والتدمير، غير أن حركة الجماهير مازالت في عنفوانها حتى الآن.

وبغض النظر عن المصير الذي ينتظر الانتفاضة الشعبية المجيدة في تونس، يكفي أنها أثبتت قدرة الحركة الجماهيرية على إسقاط واحدة من أعتى ديكتاتوريات بلاد العرب وأشدها قسوة حتى وإن طال بها الزمن في غيها وفسادها واستهتارها بكرامة الشعوب وطموحاتها.

تطورت الانتفاضة التونسية بسرعة إلى وضع ثوري، وإن كان ينقصها التنظيم الجماهيري واسع الانتشار، والمطالب والبرامج الجذرية الواضحة، والإدراك الواعي للخطوة التالية، مما قد يضع حدودا على فرص نجاح هذه الانتفاضة في تحقيق أهداف أبعد في المستقبل المنظور. فلم تعد جماهير تونس تقبل الحكم بنفس الطريقة السابقة، كما أن النظام الديكتاتوري الحاكم بدأ يرتبك ويعاني من التصدعات والشقوق حتى وإن لم تبلغ بعد حد الخطورة على استمراره بعد مرور العاصفة. لكن مستقبل الحركة لا يستطيع التنبؤ به إلا من يشاركون في صناعتها، ومازالت الصورة غير واضحة حتى الآن لمن يراقبون الوضع من خارجه.

انتفاضة تونس الجماهيرية قدمت ردا قويا ومفحما على من يزعمون في بلادنا أن الحركات الاحتجاجية الفئوية والمطلبية يسهل قمعها أو احتواؤها، ولا يمكن أن تتطور إلى انتفاضة شاملة ذات مطالب وأهداف سياسية وتستطيع تحقيقها في سبيل تغيير جذري شامل. فقد اندلعت هذه الانتفاضة على أرضية اقتصادية ومطالب فئوية بسيطة لكنها اتسعت وتطورت عبر مسيرتها من إقليم معزول إلى العاصمة لتصبح انتفاضة شاملة نسفت بعنفوانها وحيويتها سماء القمع وحدود القهر والاستبداد.

من دروسها أيضا أن موعد الانتفاضة وأسبابها المباشرة لا يمكن أن يتنبأ بها أحد، إنها أكثر الأحداث وضوحا غير أن أحدا لا يستطيع أن يتوقع تفاصيلها وتوقيتها. قد تندلع الانتفاضة بعد صدام بسيط بين بضعة طلاب تظاهروا وبين الشرطة كما حدث في إندونيسيا، وقد تنفجر بعد أن يشعل أحد الشباب اليائس المحبط النار في جسده احتجاجا على الأوضاع الظالمة، أو ربما بعد مسيرة سلمية احتجاجا على زيادة الأسعار أو الفصل التعسفي. لا أحد يستطيع أن يجزم أو يحدد متى وأين وكيف تندلع الانتفاضة. أما نجاحها في تحقيق أهدافها وفي إحداث تغيير شامل فمسئولية الجماهير والقيادة معا.

من دروس الانتفاضة أن التغيير له ثمن، لا يمنح من الديكتاتورية، وإنما تطلبه السواعد والدماء والعقول الحالمة، إنها تؤكد على قول شاعر تونس العظيم أبو القاسم الشابي: "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر." والإرادة والقوة صنوان في معادلة التغيير، والاستعداد للتضحية أوضح صورة لقوة الإرادة.

وأخيرا وليس آخرا، أثبتت انتفاضة تونس أن حماة الديكتاتورية في بلادنا العربية أو بلد آخر لا يستطيعون أن يضمنوا لها الاستمرار على أنفاس الشعوب ورغم أنوف الجماهير حتى وإن سلحوها حتى الأسنان والمخالب بتكنولوجيا القمع المتطورة، حتى وإن مجدوها وعدوها نموذجا يحتذى به مثلما كان الأمريكيون يكيلون المديح لنظام "بن علي" الفاسد، وسرعان ما يتركونه في العراء مهانا عندما تعصف به العواصف وتدور عليه الدوائر.

عاشت الانتفاضة في تونس المجيدة، والمجد للأحرار.