السبت، 24 سبتمبر 2011

لا للطوارئ – اللجان الشعبية لمواجهة مؤامرة إضراب الشرطة

رمضان متولي
ما تشهده مصر حاليا من فوضى أمنية لا يزيد كثيرا عن ظاهرة غياب الأمن في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، ولا جديد في ذلك غير الضجيج الذي يثيره وزراء الحكومة المؤقتة ورجال الأعمال وأعضاء المجلس العسكري الحاكم وأجهزة الإعلام حول ما يطلقون عليه "انفلاتا أمنيا" في مؤامرة مكشوفة من النظام الذي مازال حاكما لبث الذعر وإشاعة الهلع في المجتمع. هدف المؤامرة واضح: إعادة بناء منظومة القمع مع دفع الناس لأن يتقبلوا عودة ممارسات عصابات المماليك والانكشارية التي تسمى جهاز الشرطة إلى عهدها في تعميم القمع والإرهاب الشرطي ضد المعارضين والجماهير. ذلك بالإضافة إلى دفع الناس إلى كراهية الثورة وإشاعة روح عدائية حول الثوار والمتظاهرين بهدف عزلهم جماهيريا وإضعافهم لتسهيل ضربهم.

ومع ذلك، لا يستطيع أحد إنكار أن هذا الجهاز في ظل رئيسه المخلوع مبارك وبنفس قياداته التي مازالت مستمرة لم يكن يوفر الأمن العام في المجتمع، خاصة في الأحياء والقرى التي يسكنها الفقراء والتي تشكل أكثر من 90 في المئة من أحياء مصر. ولا يستطيع أحد إنكار أن إفلات المجرمين من العقاب كان شائعا في الجرائم الجنائية التي ترتكب ضد الفقراء وسكان الأحياء والقرى الفقيرة دون مساءلة أو محاسبة لأجهزة الشرطة التي شاع تعاونها مع المجرمين في مجالات عديدة. ولا يستطيع أحد إنكار أن جرائم صادمة للرأي العام وقعت ولم تأبه الشرطة بالكشف عن مرتكبيها الحقيقيين أو مواجهة تكرارها أو بيان ملابساتها منذ عهد الرئيس المخلوع وحتى الآن.

من هذه الجرائم، على سبيل المثال لا الحصر، جريمة وقعت في قرية شمس الدين التابعة لمركز بني مزار في أواخر عام 2005 وراح ضحيتها عشرة أشخاص (بينهم أربعة أطفال) من ثلاث عائلات مختلفة في وقت واحد، واقترنت الجريمة بالتمثيل بجثث الضحايا وتمزيق أعضائهم واختفاء قرنيات العيون والكلى. قدمت الشرطة في هذه المذبحة متهما وحيدا مريضا بانفصام الشخصية بعد أن أجبرته بوسائلها الوحشية على الاعتراف بارتكاب الجريمة رغم عدم معقولية ذلك، وحصل المتهم على البراءة بسهولة. من ذلك أيضا ظاهرة التحرش الجماعي بالفتيات في شوارع المدن، وكانت الأعياد مواسم ثابتة لها حتى في وسط القاهرة وأمام أعين الشرطة. بل شاعت الجرائم وتعددت، وشاع إفلات مرتكبيها من العقاب حتى أن العديد من البرامج التلفزيونية كانت تتحدث عن غياب الأمن الجنائي في الشارع وتركيز أجهزة الداخلية على الأمن السياسي وحماية مصالح الأثرياء وذوي النفوذ على حساب أمن المجتمع. وانتشرت جرائم الاغتصاب والبلطجة والقتل والسرقة ولم تكن الشرطة تقوم بأي دور في مواجهة هذه الجرائم أو الكشف عن الجناة الحقيقيين أو حتى ملابساتها إلا إذا تعلقت الجريمة بأشخاص من ذوي النفوذ أو الأثرياء. بل إن الناس دفعوا إلى التردد والإحجام عن تقديم بلاغات عما يتعرضون له من جرائم بسبب المعاملة المهينة والإهمال والتجاهل الذي كانوا يتعرضون له عندما يقتربون من أقسام الشرطة حتى كمبلغين عن جرائم لا كمتهمين.

على أن بعض الجرائم تراجعت نسبيا بعد الانتفاضة الثورية التي أطاحت برأس النظام الحاكم، وإن لم تستطع حتى الآن إزاحته، وهي جرائم ضباط وأمناء الشرطة وأفرادها. وتنوعت هذه الجرائم بين الخطف والتعذيب والقتل والتزوير وتلفيق الاتهامات والرشوة وفرض الإتاوات واحتجاز الرهائن وإثارة الفتن في ظل نظام الدولة البوليسية والطوارئ التي مازالت سارية حتى الآن تحت الحكم العسكري. لن نعطي أمثلة لهذه الجرائم لأنها لا تخفى على أحد ولأنها تحتاج إلى مجلدات لسرد تفاصيلها، ويكفي دليلا على ذلك أن الانتفاضة الثورية التي أطاحت بحكم الديكتاتور مبارك خرجت في يوم عيد الشرطة احتجاجا على جرائمها في حق الشعب المصري. 

لكن جهاز الشرطة حاليا لم يعد قادرا على الاستمرار في ارتكاب هذه الجرائم بنفس الوتيرة التي سبقت الإطاحة بالديكتاتور، ولذلك يشارك في مؤامرة إشاعة الفوضى الأمنية، ويستمر في خيانة شعب مصر الذي ينفق عليه ويؤيه، عبر إضراب غير معلن عن العمل. وتهدف هذه المؤامرة الخبيثة إلى دفع المصريين إلى كراهية الثورة والندم على مافات، وأن يتنازلوا عن إيمانهم بكرامتهم الذي انتزعوه عبر انتفاضة ثورية في مقابل أن يحصلوا على حقهم في الشعور بالأمن. وتهدف الشرطة من وراء ذلك إلى إقرار المجتمع لها بالأوضاع المتميزة التي تمتعت بها سابقا في النفوذ والسطوة وما يترتب على ذلك من عدم احترامها للقانون وانتهاك حقوق البشر والإفلات من العقاب وفرض الإتاوات والرشاوى وعوائد الفساد الأخرى التي كانت شائعة في هذا الجهاز.

تتلاقى هذه الأهداف مع مصالح ورغبة السلطة العسكرية التي تسلمت الحكم بعد الإطاحة بالديكتاتور بدليل أن الجهة الوحيدة التي حصلت على زيادة في رواتبها وتحسين في شروط عملها هي الشرطة رغم استمرارها في إضرابها غير المعلن. وبينما يجرم المجلس العسكري كل أنواع الإضرابات والاعتصامات الأخرى رغم اعتراف الجميع بنبل ومشروعية أهداف هذه الإضرابات، نجده صامتا أمام إضراب الشرطة غير المعلن رغم خسة أهداف هذا الإضراب بالتحديد. وذلك لأن السلطة العسكرية تريد استقرار الأوضاع تحت سيطرتها بأي ثمن، ودون إجراء تغييرات جوهرية على المجالات والمؤسسات السياسية والاقتصادية، اللهم إلا تغييرات طفيفة وشكلية إلى حد كبير. ويعرقل هذه السلطة في تحقيق هذا الهدف استمرار الزخم الثوري ورغبة الجماهير وثقتها في قدرتها على تغيير الأوضاع المزرية سياسيا واقتصاديا وتحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية دون خوف من جهاز القمع بعد أن هزموه في معركة ثورية. لذلك يرفض المجلس العسكري المبادرات الحقوقية لإصلاح جهاز الشرطة أو إعادة هيكلته ليعمل وفق أسلوب جديد يحترم القانون والحريات العامة. بل إن المجلس يصدر مراسيم قمعية مثل قانون منع الاحتجاجات سيئ السمعة علاوة على توسيع نطاق الممارسات التي يجرمها قانون الطوارئ والنكوص عن وعد سابق برفع حالة الطوارئ المستمرة في مصر منذ أكثر من ثلاثين عاما. ويعمل على إمداد جهاز الشرطة بالمعدات والأفراد وكأنه يستعد لمعركة في مواجهة الاحتجاجات الجماهيرية المختلفة ودون أي مساءلة تذكر عن استمرار الفوضى الأمنية.

كما تتلاقى مصلحة المجلس العسكري والسلطة وجهاز الشرطة في حالة الفوضى الأمنية أو حتى شيوع الإحساس بانفلات أمني خطير في المجتمع مع مصلحة طبقة رجال الأعمال، حتى وإن لم يؤرقهم غياب الأمن في المجتمع المصري عبر سنوات حكم مبارك، حيث كانت ثرواتهم كفيلة بحمايتهم عن طريق رشوة أجهزة الأمن أو انحياز الدولة لهم أو حتى الاستعانة بشركات الأمن الخاصة المنتشرة في منازلهم ومنتجعاتهم وشركاتهم ومصانعهم.

تظهر هذه المصلحة جلية في ترحيب أبداه أغلب رجال الأعمال والعاملين في البورصة بقرار المجلس العسكري بتمديد حالة الطوارئ وتوسيع نطاقها، بحجة واهية بقدر ماهي خبيثة وهي: "مواجهة الانفلات الأمني". وخلف هذه العبارة الزائفة تكمن المصلحة الحقيقية في أن هؤلاء يتمنون أن ينجح قرار المجلس العسكري بتمديد الطوارئ وتوسيع نطاقها في إرهاب العمال حتى تتوقف موجة الإضرابات والاعتصامات والمظاهرات التي يقومون بها للمطالبة بحقوقهم المهدرة، وحتى تتوقف مظاهر الاحتجاج الثوري دون أن تهدد مواقعهم المتميزة في نظام قائم على الظلم الاجتماعي والاستغلال. فالعمال والموظفون مازالوا يستخدمون هذه الوسائل الاحتجاجية للمطالبة بحقوقهم المهدرة، ويأمل رجال الأعمال في استخدام أحكام الطوارئ غير الإنسانية في قمع هذه الموجة للحفاظ على أرباحهم وثرواتهم، ولا غرابة في ذلك، فقد كانت هذه الطبقة ومازالت صاحبة الحظوة والامتيازات الهائلة أثناء حكم مبارك القائم على الاستغلال والفساد والقمع البوليسي الوحشي.

وعلى نفس الوتر تعزف وسائل الإعلام، سواء رسمية أو مملوكة لرجال أعمال، جوقة واحدة تتركز على "مخاطر الانفلات الأمني" دون مناقشة واقع أن غياب الأمن في الشارع كان قائما في عهد مبارك، وأن المجلس العسكري يرفض مبادرات إصلاحية لمعالجة هذه المؤامرة التي تشارك فيها الشرطة بإضراب غير معلن.

إن مواجهة مؤامرة الفوضى الأمنية ممكنة بمبادرة الجماهير ودون الحاجة إلى الاستسلام لعودة النظام البوليسي بمساعدة المجلس العسكري للهيمنة على البلاد وقمع المواطنين، وذلك رغم أن الأوضاع الأمنية المتردية لم تختلف كثيرا في أحياء الفقراء والمناطق الريفية التي يقطنها أغلب مواطني مصر. وقد استطاعت هذه الجماهير تكوين لجان شعبية تكفلت بحماية منازلها وأحيائها ضد خطة إشاعة الذعر والفوضى التي نظمتها الشرطة بمساعدة عصاباتها المنظمة خلال ثمانية عشر يوما هي عمر الانتفاضة التي أطاحت بالديكتاتور. ومؤخرا، تخصص تشكيل عصابي في سرقة التكاتك بالإكراه في منطقة "صفط اللبن" بالجيزة وتقدم المواطنون بشكاوى عديدة إلى قسم الشرطة ولكنهم وجدوا امتناعا معهودا من الشرطة عن القيام بواجبها الذي تتقاضى أجرا عنه من ميزانية الدولة، فقرروا مواجهة الأمر بأنفسهم. لكن طريقتهم كانت بشعة في الانتقام من المجرمين وكانت فرصة لأجهزة الإعلام أيضا للتركيز على بشاعة الانتقام دون أن تقترب من محاولة الكشف عن مؤامرة التقاعس الأمني التي تديرها السلطة ويشارك فيها جهاز الشرطة.

ورغم ذلك كشفت هذه الحادثة قدرة الجماهير مرة أخرى بمبادرتها الذاتية على مواجهة مؤامرة أجهزة الأمن في إشاعة الفوضى الأمنية، حيث يمكن مواجهة هذه المؤامرة بتكوين لجان شعبية في الأحياء والقرى يكون هدفها الحفاظ على الأمن ومطاردة المجرمين ولكن بأسلوب منظم وأكثر إنسانية ودون أن يبلغ حد الانتقام بالقتل وإحداث العاهات البدنية كما حدث في واقعة صفط اللبن. وتستطيع هذه اللجان أن تلعب دور السلطة البديلة التي تحفظ الأمن في الشوارع والأحياء وتمارس الضغوط على المجلس العسكري لإعادة هيكلة الشرطة وتسريح العناصر الفاسدة والمتآمرة فيها وإجبارها على ممارسة عملها في حفظ الأمن تحت رقابة شعبية وقضائية، أو يكون متواطئا في مؤامرة الفوضى الأمنية بهدف إحكام السيطرة على الجماهير وإفراغ الثورة من مضمونها والالتفاف على أهدافها وترميم ما تحطم من النظام القديم.

إن تمديد حالة الطوارئ وتوسيع نطاقها لن يجدي في مواجهة الجماهير التي خرجت من القمقم ودفعت ثمنا غاليا من دماء أبنائها من أجل إسقاط نظام بوليسي بشع وتحقيق حلمها في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية طالما كانت هذه الجماهير قادرة على تنظيم نفسها ومستعدة لأخذ زمام المبادرة في أيديها. وهاهي المظاهرات والمسيرات تخرج مطالبة بإسقاط الطوارئ ومنددة بالمجلس العسكري، بينما تستمر الإضرابات والاعتصامات في صفوف المعلمين والأطباء والعمال دفاعا عن حقوقهم المهدرة في حياة كريمة وفي مواجهة الفساد.