الثلاثاء، 9 مايو 2017

رأسمالية الزومبي - كريس هارمان - الفصل الثامن "نهاية العصر الذهبي" - ترجمة رمضان متولي

الفصل الثامن
نهاية العصر الذهبي
أزمة الكينزية
"إن المكتب القومي للبحوث الاقتصادية قد خلص نفسه من واحدة من مهامه الأولى، أي الأزمات الاقتصادية الدورية،" هكذا أعلن بول سامويلسون في عام 1970. وبعد أقل من ثلاث سنوات داهمت العالم الأزمة التي كان يفترض أنها أصبحت مستحيلة – أو على الأقل داهمت البلدان الرأسمالية المتقدمة وجزءا كبيرا من العالم الثالث. ووصل "العصر الذهبي" فجأة إلى نهايته.
كان رد فعل الحكومات في كل مكان هو محاولة تسيير الأمور عبر اللجوء إلى الوسائل الكينزية التي أصبحت تعتقد أن الخطأ لا يدانيها. وأصبح عجز الموازنة الحكومية، الذي كان نادرا خلال عقود ثلاثة سابقة، هو القاعدة. وعجزت الحكومات عن إعادة النظام إلى حيويته السابقة. ولم تقتصر الأزمة على ظهور أول انزلاق للاقتصاد إلى معدلات نمو سلبية – أي إلى ركود حقيقي في مقابل "الركود في معدل النمو" الذي شهده أحيانا قبل ذلك – مع ارتفاع نسبة البطالة، بل كان يصحبه ارتفاع مستويات التضخم، الذي اقترب في بلد مثل بريطانيا من 25 بالمئة.
وقد بذلت جهود لتفسير ما حدث على أنه نتيجة لتأثير الزيادة البالغة والمفاجئة في أسعار النفط في أكتوبر 1973 بسبب حرب "أكتوبر" القصيرة بين إسرائيل والدول العربية وما صاحبها من حظر صادرات البترول من جانب السعودية. لكن أثر الزيادة السعرية كان انخفاضا في الدخل القومي للبلدان المتقدمة بحوالي 1 بالمئة فقط – كما أن معظم الأموال التي ربحتها الدول المنتجة للنفط انتهى بها المطاف إلى إعادة التدوير في البلدان المتقدمة من خلال النظام المصرفي الدولي. وكان من الصعب أن تفسر في حد ذاتها حجم التأثر في معظم أجزاء النظام العالمي – وهو أثر كان ينبغي أن تكون الطرق الكينزية كافية لمعالجته وفق الحكمة الاقتصادية التقليدية آنذاك. وذلك علاوة على أن زيادة أسعار النفط لم تحدث في انفصال عن تطورات أخرى. فقبل ذلك بثلاث سنوات، ضرب "ركود في معدل النمو" جميع الاقتصادات الكبرى ضربات متزامنة بطريقة لم تحدث خلال ربع القرن السابق، وقد أعقبه انتعاش اقتصادي بالغ الحدة وتسارع في معدل التضخم حتى قبل أن تحدث الزيادة في أسعار النفط.(1) وباختصار، كان الركود الذي بدأ في نهاية عام 1973 تتويجا للدورة الاقتصادية تحديدا من النوع الذي كان يفترض أن تدخلات الدولة على النمط الكينزي قد أرسلته إلى كتب التاريخ.
أصبح الكينزيون من التيار السائد في الجانب الخاسر. واكتشفوا أن نظريتهم لم تعد تفعل أيا من الأشياء التي كانوا يدعون. وكما أوضح فيما بعد أحد الكينزيين، وهو فرانسيس كريبس من كامبريدج إيكونوميك بوليسي ريفيو، أنهم أدركوا فجأة أن:
"لا أحد يفهم حقا كيف يعمل الاقتصاد الحديث. ولا أحد يعرف حقا لماذا شهدنا هذا النمو الكبير في عالم ما بعد الحرب… وكيف توافقت مختلف الآليات مع بعضها."(2)
وبين ليلة وضحاها تخلى كثير من الكينزيين عن أفكارهم السابقة وتبنوا نظريات "نقدوية" روج لها ميلتون فريدمان واقتصاديو مدرسة شيكاغو. وكان رأي هؤلاء أن جهود الحكومات في تنظيم السلوك الاقتصادي قد أسيء فهمها. ونادوا بأن هناك "معدلا طبيعيا غير تضخمي" للبطالة، وأن محاولات تخفيض هذا المعدل عبر الإنفاق الحكومي تفشل حتما ولا تنتج إلا التضخم. وشددوا على أن كل ما ينبغي على الدول أن تفعل هو السيطرة على عرض النقود حتى يزيد بنفس سرعة نمو "الاقتصاد الحقيقي" – واتخاذ إجراءات عند الضرورة لتفكيك "الاحتكارات غير الطبيعية" من جانب نقابات العمال أو الصناعات المؤممة، بينما تقوم بتخفيض إعانات البطالة حتى يقتنع العمال عندئذ بقبول العمل بأجور أقل.
كان مبررو النظام الرأسمالي يردون على ناقدي النظام على مدى ثلاثين عاما بأن الرأسمالية يمكن أن تنجح بفعل تدخل الدولة. أما الآن فإنهم يردون بأنها لا تستطيع أن تنجح إلا بنبذ تدخل الدولة. وكما لخصت الكينزية الراديكالية المنشقة جوان روبنسون تحول اقتصاديي التيار السائد:
"كان المتحدثون باسم الرأسمالية يقولون: آسفون ياشباب، لقد ارتكبنا خطأ، نحن لا نقدم لكم التوظف الكامل، وإنما المعدل الطبيعي للبطالة. وطبعا كانوا يقترحون أن قليلا من البطالة سوف يكون كافيا لتحقيق استقرار الأسعار. لكننا نعرف الآن أن حتى كثيرا منها لن يحقق ذلك."(3)
وقد أقر بذلك فعليا رئيس الوزراء عن حزب العمال جيمس كالاجان عندما خاطب مؤتمر الحزب في سبتمبر 1976 قائلا:
"كنا نعتقد أن بإمكاننا أن نعبر طريق الخروج من الركود من خلال تخفيض الضرائب وزيادة الاقتراض الحكومي. وأنا أخبركم بكل صدق أن هذا الخيار لم يعد قائما؛ وبقدر ما كان مطروحا من قبل، كان يعمل على حقن الاقتصاد بالتضخم. وفي كل مرة حدث ذلك، كان متوسط مستوى البطالة يرتفع."
تكررت نفس الفكرة بعد ذلك بعشرين عاما من جانب رئيس الوزراء المقبل عن حزب العمال جوردون براون:
"إن البلدان التي تحاول أن تتخذ سياسات وطنية منفصلة في الاقتصاد الكلي، تقوم على سياسة فرض الضرائب والإنفاق والاقتراض من أجل تنشيط الطلب بدون النظر إلى قدرة جانب العرض في الاقتصاد، حتما سوف تعاقبها الأسواق في عصرنا الحالي في شكل ارتفاع خانق في أسعار الفائدة وانهيار عملاتها."(4)
وبدأ السياسيون والأكاديميون الذين تربوا على الكينزية قبول نفس المعايير عند تحديد السياسة الاقتصادية مثل خصومهم القدامى، بلا أي بديل عن ارتفاع مستويات البطالة، وتخفيض الرعاية الاجتماعية، و "المرونة" التي تجعل العمال "أكثر تنافسية"، والقوانين التي تحد من "قوة نقابات العمال". أما الكينزيون الذين لم يتخلوا عن معتقداتهم القديمة فقد أزيحوا إلى هوامش المؤسسة الاقتصادية. وبحلول عام 2007، كشفت إحدى الدراسات أن "72 بالمئة من طلاب علم الاقتصاد" كانوا في مؤسسات تعليمية لا يوجد بها "اقتصادي مهرطق" واحد يتحدى "الافتراضات النيوكلاسيكية والنيوليبرالية".(5)
لكن الاندفاع نحو النقدوية من جانب مؤيدي النظام لم يكن أكثر قدرة على معالجة الأزمة من الكينزية. فلم تكن النقدوية في النهاية إلا ترديدا لأفكار المدرسة النيوكلاسيكية التي هيمنت على علم الاقتصاد البرجوازي حتى ثلاثينيات القرن العشرين. وتماما كما كانت عاجزة عن تفسير القسوة غير المعهودة لأزمة ما بين الحربين، كانت كذلك عاجزة عن تفسير أزمة السبعينيات والثمانينيات، وأقل قدرة على معالجتها. ففي بريطانيا أعقب موازنة عام 1979 التي وضعها النقدوي جيوفري هاوي تضاعف معدل التضخم(6) ومعدل البطالة، بينما خلفت الناتج الصناعي في عام 1984 أقل بنسبة 15 بالمئة عن مستواه قبل 11 عاما.(7) بل إن السياسات النقدوية لم تتمكن حتى من السيطرة على عرض النقود؛ فالمعيار الأوسع نطاقا لعرض النقود (ما يطلق عليه الاقتصاديون M3) ارتفع في عام 1982 بنسبة 14.5 بالمئة بدلا من نسبة 6 إلى 10 بالمئة التي خطط لها.(8) ولم تسهم هذه السياسة إلا في تدمير كثير من الصناعة المحلية، ومفاقمة أزمة أوائل ثمانينيات القرن العشرين، وتمهيد التربة لأزمة أخرى في عام 1990.  
بعض الاقتصاديين الذين تخلوا عن الكينزية وتبنوا النقدوية في منتصف سبعينيات القرن الماضي رأيناهم ينبذون النقدوية بدورها في أوائل الثمانينيات. فكاتب جريدة الفايننشال تايمز سامويل بريتان، الذي بذل جهدا كبيرا في ترويج أفكار النقدوية في بريطانيا، كان ينتقد الكثير من السياسات النقدوية بحلول عام 1982، ويصف نفسه بأنه "كينزي من طراز جديد". وفي الولايات المتحدة، نبذ المستشارون الاقتصاديون لريجان النظرية النقدوية بهدوء(9) وتخلوا عن واحد من مبادئها المركزية وهي توازن الموازنة العامة، عندما واجهوا فشل السياسات النقدوية في القضاء على أزمة حادة.
غير أن جانبا كبيرا من النظرية الاقتصادية السائدة سارت في اتجاه آخر. فقد اتسع نفوذ مدرسة "نيوكلاسيكية" كانت تحاجج، بقدر كبير على غرار هايك في ثلاثينيات القرن العشرين، بأن خطأ النظرية النقدوية كان أنها تركت دورا للدولة – أي التدخل في أسواق النقد. وزعمت أن فريدمان وقع في نفس الفخ الذي وقع فيه كينز بتشجيع تحركات الحكومة لتغيير عرض النقود: فقد كان بمعنى ما كينزيا.(10) وشدد أنصارها على أن هذه التحركات لم تغير من سلوك الشركات بالطريقة المأمولة، ذلك أن التوقعات العقلانية للمنظمين تدفعهم دائما إلى خصم تكلفة التدخل الحكومي مقدما. إن التلاعب بعرض النقود، مثل قيام الحكومة بالتمويل بالعجز، أوقف التفاعل الملائم بين العرض والطلب. وادعوا أن "فترات الرخاء والأزمات هي محصلة ممارسات الغش في سياسات البنك المركزي".(11) إن قدرة الكلاسيكيين الجدد على الاحتفاظ بمصداقية فكرية وهم ينكرون عدم استقرار ولاعقلانية اقتصاد السوق الحرة في فترة شهدت ثلاث أزمات ركود دولية كبرى تعد شهادة مثيرة للدهشة على عزلة وابتعاد معظم علم الاقتصاد الأكاديمي عن أي صلة بالواقع.
جاءت الذروة التي بلغتها هذه الأفكار مع رخاء قصير الأجل في منتصف وأواخر عقد الثمانينيات. وقد بدا أنه يدعم تفاؤلها بشأن مزايا التحرير والخصخصة وإزالة أي عقبة أمام جشع الأغنياء لصالح النمو الاقتصادي. لكنها فقدت بعض بريقها مع تجدد أزمة الركود العميقة في أوائل التسعينيات. وقد حظيت مدرسة مختلفة لاقتصاديي السوق الحرة على بعض التأييد داخل التيار السائد. وكانت هذه المدرسة تنويعا على "المدرسة النمساوية" التي تأثرت بأفكار جوزيف شومبيتر، والتي كانت تعتبر دورة الرخاء-الركود أمرا محتوما – وكذلك محمودا.  وترى أن النظام قادر على التوسع بلا توقف، ولكن فقط على أساس "التدمير الخلاق" الذي يهدم الأشكال القديمة للإنتاج ليفتح الطريق أمام أشكال جديدة.(12) ولكنها لم تكن أكثر قدرة من كينزيي التيار السائد، ولا النقدويين ولا الكلاسيكيين الجدد على الإجابة على سؤال محوري: هو لماذا أصيب النظام مرة أخرى بمرض الأزمات المتكررة وكذلك بتدهور طويل الأجل في متوسط معدلات النمو بعد ثلاثة عقود من نمو غير مسبوق وبلا أزمات تقريبا؟(13)
وكان إخفاق معارضي الكينزية في معالجة هذه المشكلات هو ما دفع الكينزيين – وجزءا من أقصى اليسار المتأثر بالكينزية – إلى إرجاعها إلى زوال "العصر الذهبي". وهم يرون أن النظام في حد ذاته لم يكن سببا في الأزمات المتكررة.  ولكن كما أوضح نوترمانز:
"إذا لم يكن ممكنا أن ننسب انتعاش الاقتصاد من الكساد الكبير ولا النمو الاقتصادي بعد الحرب إلى السياسات الكينزية … فلا يمكن استخدامها كتفسير لنهاية التوظف الكامل."(14)
فأين نجد هذا التفسير إذن؟
من أين جاءت الأزمات
إن جميع تفسيرات نهاية "العصر الذهبي" عند مدارس التيار السائد الأكثر تأثيرا يغيب عنها تناول ما كان يحدث في معدل الربح. غير أن مختلف الجهود التي سعت إلى قياسه وصلت إلى نتيجة واحدة: أنه انخفض انخفاضا حادا خلال الفترة بين أواخر ستينيات القرن العشرين وأوائل الثمانينيات.
لا تتفق النتائج دائما اتفاقا كاملا مع بعضها البعض، ويرجع ذلك إلى اختلاف طرق قياس الاستثمار في رأس المال الثابت، كما أن المعلومات التي تقدمها الشركات والحكومات حول الأرباح تتعرض لتشوهات كبيرة.(15) ورغم ذلك، توصل إلى نتائج بالغة التشابه كل من فريد موسلي، وتوماس مايكل(16)، وأنور شيخ وإرتوجرول أحمد توناك(17)، وجيرارد دومينيل ودومينيك ليفي، وأوفوك توتان وأل كامبل(18)، وروبرت برنر وإدوين ولف(19) وبيروز أليمي ودونكان فولي(20). ويظهر نسق معين، تبينه الرسوم التوضيحية التي قدمها دومينيل وليفي (الشكل 1)(21)، بالنسبة لقطاع الأعمال كله في الولايات المتحدة، والرسوم التي قدمها برنر (الشكل 2) بالنسبة لقطاع الصناعة في الولايات المتحدة وألمانيا واليابان.




هناك اتفاق عام على أن معدلات الربح انخفضت من أواخر ستينيات القرن العشرين حتى أوائل الثمانينيات. كما أن هناك اتفاق أن هذه المعدلات تحسنت منذ عام 1982 تقريبا، لكن مع انقطاع عند نهاية عقد الثمانينيات وآخر عند نهاية عقد التسعينيات، ولم تعوض أبدا أكثر من نصف تدهورها تقريبا منذ الرخاء الطويل. ووفقا لولف، انخفض معدل الربح بنسبة 5.4 بالمئة من عام 1966 حتى عام 1979، ثم "ارتفع" بنسبة 3.6 بالمئة من عام 1979 وحتى عام 1997؛ ووفق حسابات فريد موسلي "استرد… حوالي 40 بالمئة فقط من تدهوره السابق؛"(23) وفي حسابات دومينيل وليفي "كان معدل الربح في عام 1997 يبلغ فقط نصف معدله في عام 1948، وما بين 60 بالمئة و 75 بالمئة من متوسط قيمته خلال عشرة أعوام بين 1956 وعام 1965."(24)
لقد بذلت محاولات لتفسير تدهور الربحية خلال سبعينيات القرن العشرين كنتيجة لموجة من النضال العمالي عالميا التي افترض أنها دفعت نصيب العمال من إجمالي الدخل نحو الارتفاع واقتطعت من نصيب رأس المال. وقد طرح هذه الفكرة كل من أندرو جلين وبوب سوتكليف(25) وبوب روثرون(26) وقبلهم جزئيا إرنست ماندل.(27) بل إن تحليل جلين ذكره مؤخرا ومحبذا إياه مارتين وولف.(28) لكن التحليل الإحصائي في ذلك الوقت أوضح أنه لم تحدث أي زيادة في نصيب الأجور عندما نضع في حسابنا قيمة الضرائب، وإهلاك رأس المال، ومختلف العوامل الأخرى.(29) كما أن هذه الفكرة تخفق في بيان أسباب تحول جميع الاقتصادات الغربية إلى الأزمة في نفس التوقيت في منتصف سبعينيات القرن العشرين. ففي إيطاليا وبريطانيا وإسبانيا وفرنسا ظهر تحسن كبير في مستوى تنظيم الطبقة العاملة في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، ولكننا لم نشهد تحسنا مماثلا في اليابان وألمانيا الغربية، بينما شهدنا في الولايات المتحدة تدهورا حادا في قيمة الأجور الحقيقية للعمالة غير الزراعية منذ أواخر عام 1972 وحتى ربيع 1975، رغم زيادة الإنتاجية ككل.(30)
كانت فكرة ماركس – ومازالت – حول التركيب العضوي لرأس المال هي التي تبدو معقولة وذات معنى. فقد كشفت دراسة حول اقتصاد الولايات المتحدة تنتمي إلى التيار الاقتصادي السائد عن نمو سريع في معدل استثمار رأس المال إلى العمال المستخدمين في الصناعة بنسبة تزيد على 40 بالمئة خلال الفترة ما بين 1957 إلى 1968، والفترة من 1968 إلى 1973.(31) كما كشفت دراسة عن المملكة المتحدة عن ارتفاع معدل رأس المال إلى الناتج بنسبة 50 بالمئة خلال الفترة بين عام 1960 وحتى منتصف سبعينيات القرن العشرين.(32) وقد لاحظ صامويل بريتان بارتباك:
"كان هناك تدهور بنيوي طويل الأجل في كمية الناتج لكل وحدة من رأس المال في القطاع الصناعي…وهذه تجربة عامة نوعا ما في البلاد الصناعية… يستطيع المرء أن يدبج رواية معقولة تماما عن أي بلد على حدة، لكن ليس عن العالم الصناعي ككل."(33)
وتوصلت الحسابات الأحدث التي أجراها كل من ميشل(34)، موسلي، وشيخ وتوناك، وولف(35) جميعها إلى أن زيادة معدل رأس المال إلى العمل كانت عاملا في تخفيض معدلات الربح. وهي نتيجة تؤكد رؤية ماركس التي تقول أن زيادة معدل رأس المال إلى العمل قد تؤدي إلى انخفاض الربح – كما أنها تفنيد إمبيريقي للموقف الذي تبناه أوكيشيو وآخرون الذي يرى أن ذلك مستحيلا، ولكنها تترك المجال مفتوحا لطرح السؤال حول سبب حدوث ذلك آنذاك وليس في وقت سابق.  
وهي مسألة يمكن حلها عبر البحث في التناقضات الكامنة في فترة الرخاء الطويل التي ألقى عليها الضوء في أوائل ستينيات القرن العشرين أولئك الذين فسروا الرخاء في ضوء الحجم الكبير للإنفاق على السلاح.
كان الإنفاق على السلاح موزعا بشكل غير متساوي بين معظم الاقتصادات الهامة. فكان يستهلك حصة كبيرة جدا من الناتج القومي للولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في خمسينيات القرن العشرين (بلغت 13 بالمئة في حالة الأولى، وربما 20 بالمئة أو أكثر في حالة الثاني)، ويستهلك حصة أقل في بريطانيا وفرنسا، وأقل كثيرا في ألمانيا واليابان. لم يحظ ذلك باهتمام مبالغ فيه في السنوات الأولى التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، عندما كان حجم التجارة الخارجية منخفضا نسبيا وكانت معظم الشركات عرضة لمستوى ضعيف من المنافسة الاقتصادية العالمية. فمثلا كانت الضرائب التي تستخدم في الإنفاق على موازنة التسليح بالولايات المتحدة تقتطع من أرباح الشركات الأمريكية، لكن ذلك لم يكن يضر كثيرا بأي واحدة من تلك الشركات في المنافسة المحلية مع الشركات الأخرى. كما لم يكن هناك ما يشكو منه الرأسماليون طالما أن معدل الربح الكلي لم يتدهور كثيرا عن مستواه المرتفع في الفترة التالية للحرب مباشرة. وكانت النتائج الإيجابية للإنفاق على السلاح تعوض النتائج السلبية وأكثر.
غير أن هذا التفاوت في الإنفاق على السلاح أصبحت له أهمية بمرور الوقت، فقد سمحت الولايات المتحدة لدول غرب أوروبا واليابان بدخول أسواقها كجزء من برنامج استخدام موقعها الاقتصادي المسيطر في دعم هيمنتها خارج الكتلة السوفييتية. لكن الاقتصادات التي تنفق أقل على السلاح تستطيع أن تستثمر نسبا، وأن تحقق معدلات نمو، أعلى كثيرا مما تستطيع الولايات المتحدة. ومع مرور الوقت بدأت في اللحاق بمستوى إنتاجيتها وفي زيادة أهميتها النسبية في الاقتصاد العالمي.
بلغ معدل نمو رأس المال في اليابان 11.8 بالمئة سنويا خلال الفترة من 1961 وحتى 1971، وبلغ في ألمانيا الغربية 9.5 بالمئة خلال الفترة من عام 1950 وحتى عام 1962؛ وفي المقابل كان هذا الرقم في الولايات المتحدة يبلغ 3.5 بالمئة فقط خلال الفترة من عام 1948 وحتى عام 1969.(36) وبلغ نصيب اليابان من إجمالي الناتج القومي للبلدان المتقدمة مجتمعة 17.7 بالمئة في عام 1977، بينما كانت حصة ألمانيا 13.2 بالمئة؛ في المقابل كانت هذه الأرقام في عام 1953 تبلغ فقط 3.6 بالمئة و 6.5 بالمئة على التوالي. في نفس الوقت انخفض نصيب الولايات المتحدة إلى 48 بالمئة من 69 بالمئة.(37) أرجع هذا التحول إلى المزايا التي ربحتها اليابان وألمانيا من ارتفاع مستوى الإنفاق على السلاح عالميا، وخاصة من قبل الولايات المتحدة، دون إضطرارهما إلى التضحية باستثماراتهما الانتاجية الخاصة لدفع تكاليفه. فلو كان لدى جميع البلدان مستوى من الاستثمار الإنتاجي يقترب من مستواه في ألمانيا الغربية واليابان، كنا سنشهد زيادة سريعة جدا في التركيب العضوي لرأس المال عالميا واتجاها هبوطيا في معدل الربح. وما حدث أن رأس المال حقق نموا في اليابان "أسرع كثيرا من قوة العمل – بما يزيد عن 9 بالمئة سنويا، أو بأكثر من ضعف متوسط معدل النمو في البلدان الصناعية الغربية…"(38) إن رأسماليات الدولة غير العسكرية استطاعت أن تتوسع بلا أزمات فقط بسبب أنها كانت تعمل داخل نظام عالمي يضم رأسمالية دولة عسكرية كبيرة جدا.
هكذا لم تناقض تجربتا اليابانيين والألمان أطروحة الإنفاق على السلاح كتفسير للنمو والاستقرار العالمي. وإنما كانتا عاملا نقيضا في هذا النمو. إن نجاحهما ذاته يعني أن جزءا كبيرا من الاقتصاد العالمي لم يكن يبدد ناتجا قابلا للاستثمار في إنتاج السلاح. ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد. فقد بدأ هذا النجاح نفسه لاقتصاد يتسم بانخفاض الإنفاق على السلاح في زيادة الضغط على البلدان التي تنفق كثيرا عليه لتحويل الموارد نحو الاستثمار الإنتاجي بعيدا عن السلاح. فحينذاك فقط تستطيع أن تبدأ مواجهة التحدي في المنافسة على الأسواق مع اليابان وألمانيا الغربية.
كان هذا أكثر وضوحا في حالة بريطانيا. فاقتصادها كان يعتمد كثيرا على التجارة الخارجية وقد عانت من أزمات في ميزان المدفوعات مع كل فترة نمو اقتصادي سريع ما بين أواخر أربعينيات القرن العشرين وأواخر السبعينيات. وأجبرت الحكومات البريطانية المتعاقبة مترددة على التخلي عن تصوراتها حول العظمة الإمبراطورية وعلى تخفيض الجزء الذي يوجه إلى ميزانية الدفاع من الناتج القومي من 7.7 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي في عام 1955 إلى 4.9 بالمئة في عام 1970.
في حالة الولايات المتحدة كان الضغط أقل وضوحا في البداية، لأن التجارة الخارجية حتى في عام 1965 بلغت حوالي 10 بالمئة فقط من إجمالي ناتجها القومي كما أن البلاد حققت فائضا تجاريا طوال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. ورغم ذلك، انخفض الإنفاق على التسلح من حوالي 13 بالمئة من إجمالي الناتج القومي خلال الحرب الكورية إلى ما بين 7 بالمئة و 9 بالمئة في أوائل ستينيات القرن العشرين. وقد اتضح ضغط الإنفاق العسكري فجأة على قدرتها التنافسية عالميا عندما زاد هذا الإنفاق بمقدار الثلث مع حرب فييتنام. ورغم أن المستوى الجديد من الإنفاق لم يماثل بأي صورة مستواه خلال الحرب الكورية، فقد كان أكثر مما تحتمله الصناعة في الولايات المتحدة التي كانت تواجه منافسة شرسة على الأسواق. كانت هناك زيادة سريعة في معدل التضخم بالداخل وتحولت وول ستريت إلى رفض الحرب.(39) ثم في عام 1971، تجاوزت الواردات الأمريكية صادراتها لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية. واضطر الرئيس نيكسون إلى أن يتخذ إجرائين ساهما في مزيد من تقويض الاستقرار في الاقتصاد العالمي: فقام بتخفيض الإنفاق الأمريكي على السلاح(40) وتخفيض قيمة الدولار الأمريكي، مدمرا في سياق ذلك نظام "بريتون وودز" لتثبيت أسعار صرف العملة عالميا والذي كان بمثابة إطار لتوسع التجارة العالمية ونموها على مدى مرحلة ما بعد الحرب.
كانت دينامية المنافسة في السوق تواصل باستمرار تقويض دينامية المنافسة العسكرية. إن ما أطلق عليه البعض "أزمة الهيمنة"(41) في النظام خلال عقد السبعينيات كان في واقع الأمر ناتجا عن شيء آخر – أي عدم الاستقرار الكامن في عالم يتكون من رأسماليات دولة تنخرط فيما بينها في منافسة ذات بعدين مختلفين تماما، اقتصادي وعسكري.
إن إحدى مفارقات الرأسمالية، كما رأينا في الفصل الثالث، هي أن زيادة التركيب العضوي لرأس المال تؤدي إلى زيادة أرباح الرأسمالي الأول الذي يدخل التكنولوجيا الجديدة رغم أنها تعمل على تخفيض متوسط معدل الربح. هكذا فإن انخراط اليابانيين والألمان الغربيين في أنماط من الاستثمار كثيفة رأس المال أدى إلى انخفاض معدل الربح عالميا وفي نفس الوقت زيادة نصيبهما الوطني الخاص من الأرباح العالمية. فمع زيادة قدرتهما التنافسية في أسواق التصدير اضطرت الرأسماليات الأخرى إلى تحمل نتيجة الزيادة في التركيب العضوي لرأس المال في ألمانيا واليابان، بانخفاض معدلات الربحية بها. لكن ذلك بدوره شكل ضغطا على هؤلاء الرأسماليين الآخرين لزيادة قدرتهم التنافسية عبر زيادة التركيب العضوي لرأس المال لديهم. وكانت نتيجة ذلك انخفاض معدلات الربح في عقد السبعينيات من القرن العشرين. وبحلول عام 1973، كانت معدلات الربح منخفضة حتى أن الزيادة في أسعار الغذاء والمواد الأولية نتيجة الازدهار في العامين السابقين كانت كافية لأن تدفع اقتصاد البلدان الغربية المتقدمة إلى الركود.
وفجأة لم تعد هناك ضمانة للاحتكارات الرأسمالية الكبرى بأن الاستثمارات الجديدة بالحجم الذي تحتاج إليه حتى تصمد في المنافسة العالمية سوف تكون رابحة. فبدأ الاستثمار في الانخفاض انخفاضا حادا وحاولت الشركات حماية أرباحها عبر تخفيض التشغيل وتكلفة العمالة. ثم أدى تدهور السوق إلى مزيد من انخفاض الأرباح والاستثمار.
وبعد فسحة امتدت ثلاثين عاما، عادت العملية النمطية القديمة من تحول الرخاء إلى الأزمة. وعندما ردت الحكومات بمحاولة تنشيط الطلب من خلال عجز الموازنة، لم تستجب الشركات استجابة فورية بزيادة الاستثمار والإنتاج، كما كان يتصور الكينزيون من التيار السائد. وبدلا من ذلك، قامت الشركات بزيادة أسعار منتجاتها في محاولة لتعويض الأرباح، وهو ما رد عليه العمال، الذين كان لديهم درجة من الثقة آنذاك بنيت خلال سنوات طويلة من التوظف الكامل، بالنضال من أجل زيادة الأجور. فواجهت الحكومات والبنوك المركزية اختيارا. إما أن تسمح بزيادة عرض النقود حتى تستطيع الشركات زيادة أسعار منتجاتها أكثر وحماية أرباحها. أو أن تحاول الحد من عرض النقود بزيادة أسعار الفائدة في الأجل القصير، معتمدة على أن تضطر الشركات عندذاك إلى مقاومة مطالب العمال. وقد تحولت، إجمالا، من النهج الأول في منتصف سبعينيات القرن العشرين إلى النهج الثاني في أواخرها. لكن نجاحها في استعادة الاستثمار وإطلاق فترة جديدة من النمو لم يستمر طويلا حتى عندما نجحت الحكومات في إحباط مقاومة الطبقة العاملة. فلم تستطع زيادة معدل الربح أعلى من مستوى ما قبل أزمة 1973، وفي الفترة من 1980 إلى 1982 كانت "الصدمة النفطية" الثانية كافية لأن تدفع العالم في ركود خطير للمرة الثانية، لتوكد أن المدرسة النقدوية لم تستطع استعادة الأوضاع إلى مرحلة الرخاء الطويل بأكثر مما كانت تستطيع الكينزية.
حدود الرأسمالية الموجهة من الدولة
كانت الرأسمالية تتقدم نحو الاصطدام بحدود استراتيجية رأسمالية الدولة للحفاظ على التراكم. وقد نجحت هذه الاستراتيجية بقدر ما كانت الدول قادرة على تجاهل الآثار المباشرة على معدل الربح نتيجة توجيه جانب من فائض القيمة القابل للاستثمار نحو مجالات لا تدر ربحا مباشرا بصورة خاصة (مثل قيام اليابانيين بإعطاء الأولوية للنمو على حساب الربحية) أو نحو مجالات الإنتاج التبديدي (مثل اقتصاد السلاح). لكن ذلك اعتمد أولا على عدم انخفاض معدل الربح بدرجة بالغة الحدة، وثانيا على قدرتها على تجاهل مدى تنافسية إنتاجها من سلع معينة داخل اقتصادها القومي مقارنة بما يجري إنتاجه في أنحاء أخرى من النظام العالمي (أو بلغة ماركس، قدرتها على تجاهل قانون القيمة على المستوى العالمي مقارنة بالإنتاج داخل الوحدات المفردة في الاقتصاد الوطني). وبحلول منتصف سبعينيات القرن العشرين، قوض الرخاء الطويل نفسه كلا من هاذين الشرطين الأوليين.
انخفض معدل الربح آنذاك إلى حد جعل الإنفاق غير الانتاجي أو مجالات الاستثمار غير الربحية على نحو خاص عبئا تتزايد وطأته على استمرار التراكم. كما أن دينامية الرخاء الطويل ذاتها نتج عنها نمو متزايد في الارتباط الهيكلي بين الاقتصادات الوطنية. فبحلول عام 1979، بلغت التجارة الخارجية للولايات المتحدة مستوى 31 بالمئة من الناتج مقارنة بنسبة 10 بالمئة فقط في عام 1965.(43) كما أن نسبة أكبر كثيرا من القطاع الصناعي وجب عليها أن تعتني بالمقارنة العالمية للتكاليف. واكتشفت صناعات بأكلمها فجأة ضرورة إعادة حساب قيمة إنتاجها على أساس ما قد يتكلفه الإنتاج باستخدام تقنيات أكثر تقدما وعمالة أقل كلفة في بلاد أخرى – وكان معنى ذلك أن قيمة إنتاجها لم تكن مرتفعة بما يكفي لتحقيق أرباح "ملائمة".
يفسر ذلك على ما يبدو ظاهرة الركود في إنتاجية العمل الشهيرة في الولايات المتحدة خلال سبعينيات القرن الماضي -  فقيمة الآلات التي يعمل عليها العمال احتسبت بداية من حيث حجم تكلفة إنتاجها أو إحلالها داخل الولايات المتحدة، ولكن مع زيادة التجارة العالمية أصبح المهم هو الرقم الأقل الذي قد ينتج عن هذا الحساب عند المقارنة مع العالم.(44)
على أي حال، فقد انتهى تماما ذلك الطابع الذي وصفه جالبريث بشأن قدرة الشركات على التغاضي عن أهمية الربح لصالح النمو. ولم يكن ذلك تغيرا شديد الأهمية فقط بالنسبة لرأسمالية الدولة الاحتكارية في الولايات المتحدة. بل سيكون له آثار مدمرة بالنسبة لتلك البلدان التي توغلت أكثر في اتجاه رأسمالية الدولة الكاملة في الكتلة الشرقية والعالم الثالث. فكان عليها أيضا أن تدخل في مرحلة جديدة من الأزمات.  
نهاية النموذج الستاليني
كان الافتراض السائد لدى الفكر التقليدي عند اليمين واليسار على السواء أن الاقتصاد على النمط السوفييتي يكشف عن دينامية مختلفة تماما عن دينامية الاقتصاد الغربي. فحتى سبعينيات القرن العشرين، وأحيانا الثمانينيات، كان يفترض مع اختلاف ضئيل للغاية(45) أن الاقتصادات على النمط السوفييتي يمكنها أن تحقق مستويات عالية من النمو إلى مالا نهاية، حتى وإن كانت أيضا تتسم بانعدام كبير في الكفاءة وتميل إلى إنتاج سلع منخفضة الجودة. كان الموقف الذي تبناه إرنست ماندل يمثل نموذجا لموقف اليسار، حتى بين من كانوا ينتقدون بشدة إنكار حقوق العمال في هذه المجتمعات. فقد كتب ماندل في عام 1956: 
"إن الاتحاد السوفييتي يحافظ على إيقاع منتظم بدرجة أو بأخرى من النمو الاقتصادي، في خطة وراء خطة، وعقد وراء عقد، دون أن يضغط التقدم الذي وقع في الماضي على إمكانيات وفرص المستقبل…لقد أنهيت تماما جميع قوانين تطور الاقتصاد الرأسمالي التي تؤدي إلى تباطؤ في سرعة النمو الاقتصادي…"(46)
وفي منتصف سبعينيات القرن العشرين كان ماندل لازال يجادل "إن البلاد ذات الاقتصاد غير الرأسمالي تفلت من الآثار العامة للركود، بينما هذا الركود يضرب جميع الاقتصادات الرأسمالية."(47)
تلقت هذه المواقف صدمة مهينة في أواخر ثمانينيات القرن العشرين عندما كشف ميخائيل جورباتشوف، الذي عين مؤخرا أمينا عاما للحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي، أن الاقتصاد يعاني من "الكساد" منذ بضعة أعوام(48)، وقال مستشاره الاقتصادي أجانبجيان:
"لم يشهد الاقتصاد نموا من الناحية الواقعية خلال الفترة من عام 1981 وحتى عام 1985. وقد وقعت أزمة وكساد غير مسبوق خلال الفترة بين عامي 1979 و 1982، عندما انخفض الإنتاج فعليا في 40 بالمئة من جميع السلع الصناعية."(49)   
وقد أظهرت الأرقام الرسمية في الاقتصادات على النمط السوفييتي في أواخر ستينيات القرن العشرين اتجاها طويل الأجل لتدهور معدلات النمو بما بين الثلث والثلثين.(50) وكان الانخفاض طويل الأجل في معدلات النمو يعتمد على أمر آخر يسير موازيا له. فقد استمر معدل الناتج إلى رأس المال في الانخفاض من 2.4 في أعوام 1951-1955 إلى 1.6 في أعوام 1956-1960، ثم إلى 1.3 في أعوام 1961-1965. أو، بمعنى آخر، إن كمية رأس المال الثابت المطلوبة لإنتاج كمية معينة من المنتجات الجديدة كانت ترتفع باستمرار.
وقد ازداد الأمر سوءا بسبب أن الناتج الإجمالي الآخذ في النمو من الناحية المادية لم يكن ذا جودة كافية بالنسبة للبيروقراطيات الحاكمة. كان ما يهمهم هو كيفية مقارنة هذا الإنتاج المادي مع ذلك الذي ينتجه منافسون لهم في العالم – أي قيمة هذا الإنتاج بالمعايير الدولية. وقد أدى ذلك إلى محاولات متكررة تقوم بها قطاعات من البيروقراطية لتنفيذ إصلاحات اقتصادية، وسط تصاعد الشكاوى إزاء الإنتاجية وجودة ما يجري إنتاجه: وذلك في أوائل الخمسينيات بعد وفاة ستالين، وفي أوائل الستينيات في عهد خروتشوف ثم في أواخر الستينيات في عهد ليونيد بريجينيف ورئيس وزرائه كوسيجين.  
لم تحقق الإصلاحات إلا نتائج محدودة. شجع ارتفاع مستوى معيشة العمال، مقابل انخفاضها الحاد في ثلاثينيات القرن العشرين، على زيادة التزام قوة العمل وارتفاع الإنتاجية. لكن ضغوط التراكم التنافسي عالميا (في صورتها العسكرية في حالة الاتحاد السوفييتي، وفي صورتها العسكرية والمنافسة السوقية معا في حالة دول أوروبا الشرقية) أدت إلى اتجاه متكرر إلى التضحية بزيادة السلع الإستهلاكية والمنتجات الغذائية لصالح احتياجات الاستثمار الصناعي. وكما أوضح الإحصائيون السوفييت في عام 1969 "بسبب الوضع العالمي، لم يكن ممكنا تخصيص الكثير من الموارد للاستثمار الزراعي وفق الخطة."(51) إن هذا التحويل للموارد من نوع محدد من الإنتاج إلى آخر أدى بالضرورة إلى زيادة الفاقد، وحطم معنويات قوة العمل، ودفع الأشخاص في كل مستوى من مستويات التراتب الإداري إلى إخفاء الموارد التي تحت تصرفهم حتى يتمكنون من التعامل مع الوضع إذا انخفضت مدخلات الإنتاج فجأة.(52)
من الضروري أن نلاحظ هنا بشكل عابر أن هذه الظاهرة لم تكن قاصرة على الاقتصاد ذي النمط السوفييتي. فنفس هذه الضغوط بالضبط تنطبق على الكوادر التي تلي صفوف الإدارة العليا في الشركات الغربية لأنهم مطالبون بالقدرة على الاستجابة للتغيرات المفاجئة في الضغوط الواقعة عليهم من أعلى استجابة لتغيرات المنافسة. وتحت هذه الظروف يمكن لتكاليف الإنتاج لدى الشركة أن ترتفع ارتفاعا كبيرا عن التكاليف التي كان ينبغي تحقيقها. ويمكن أن ينتج عن ذلك ما أطلق عليه أحد الاقتصاديين "X-inefficiency" – وهو مستوى من عدم الكفاءة في الشركة يصل إلى 30 أو 40 بالمئة من تكاليف الإنتاج.(53) إن تكاليف الإنتاج والأسعار التي سوف تسود في "سوق تنافسية كاملة" تتباينان تباينا هائلا عن بعضهما البعض – وباستخدام مصطلحات ماركس، هناك تجاوزات كبيرة قصيرة الأجل على قانون القيمة. 
هذه الأمور يندر أن يدرسها الاقتصاديون المنتمون للتيار السائد، لأن كلا من علم الاقتصاد الجزئي والكلي لديهم يعالجان ما يحدث بين الشركات، لا ما يحدث داخلها. لكن إشارات متكررة إلى هذه المشكلات نجدها في دراسات الإدارة. ومن المثير أن بعض الدراسات الغربية توصلت بشأن العلاقات بين المؤسسات في الاتحاد السوفييتي إلى أن "كفاءة تخصيص الموارد" (أي ما يطلق عليه الماركسيون قانون القيمة) ينطبق على اقتصاد الاتحاد السوفييتي: "ربما تكون التجارة البينية لدى هذه المؤسسات في عوامل الإنتاج على نفس مستوى كفاءتها في اقتصاد السوق."(54)
كان ما أدى إلى الأزمة والفاقد في المؤسسات الغربية وكذلك المؤسسات في الاقتصاد على النمط السوفييتي هو الاندفاع نحو التراكم مهما كان الثمن. وكان ذلك يعني كما رأينا في الفصل السابع أن يتوسع الاستثمار مرة بعد أخرى على حساب الاستهلاك، وزيادة اختلال التوازن في الاقتصاد، واستمرار الوتيرة الدورية في تحقيق النمو، وتزايد اغتراب قوة العمل. وتكشف الأرقام التي أعلنها الصحفي الاقتصادي الروسي سيليونين في عام 1987 عن إخضاع الاستهلاك للتراكم على نحو متزايد على مدى ما يقرب من ستة عقود، حيث وجه 25 بالمئة فقط من الناتج إلى الاستهلاك في عام 1985 مقابل 39 بالمئة في عام 1940 و 60.5 بالمئة في عام 1928. واختتم قائلا: "إن الاقتصاد يعمل أكثر فأكثر لمصلحته بدلا من أن يعمل لمصلحة الإنسان."(55)
تردد في كلماته (ربما دون قصد منه) الكلمات التي قالها ماركس واصفا منطق الرأسمالية "التراكم من أجل التراكم، والإنتاج من أجل الإنتاج."(56) لكن الاندفاع نحو هذا التراكم لم يكن فقط بالنسبة لماركس تعبيرا عن اغتراب النظام الرأسمالي. بل كان كذلك القوة الكامنة وراء اندلاع الأزمات في نهاية المطاف. لأنه كان يعني أن التراكم بلغ حدا يحاول عنده أن يتقدم بوتيرة أسرع من استخلاص فائض القيمة الإضافي الضروري لأن يصبح ذلك ممكنا. وعند هذه النقطة لا يمكن أن يستمر التراكم الجديد إلا على حساب التراكم القائم فعلا، كما أوضح ذلك جروسمان في نظريته عن "الانهيار الرأسمالي". فهناك "تراكم أكثر من اللازم لرأس المال". والرد الوحيد عند الرأسماليين إزاء هذا الموقف هو إغلاق المصانع، وطرد بعض العمال، ومحاولة استعادة معدل الربح على حساب أجور البعض الآخر. وكل واحدة من هذه الإجراءات تكون نتيجتها أن تجعل من المستحيل بيع بعض السلع التي أنتجت فعلا (أو، بكلمات ماركس، استحالة أن يحدث "تحقق لفائض القيمة")، بما ينشأ عنه مشكلة إنتاج زائد من البضائع عامة في علاقتها بالسوق.  
كان الاتحاد السوفييتي دائما يشهد أزمات دورية نتيجة محاولة التراكم بسرعة أكثر مما ينبغي، كما رأينا في الفصل السابق. لكن هذه الأزمات لم تتحول إلى انكماش اقتصادي أو "ركود حقيقي" مثلما كان حال الرأسماليات الغربية خلال مرحلة الرخاء الطويل. الآن أصبح من الصعب تجنب هذا الركود الحقيقي مع تحقق أثر التباطؤ في معدل النمو.
بولندا ومقدمة المستقبل الكارثي
اثنان من شباب الماركسيين البولنديين هما جاسك كورون وكارول مودجيلوسكي أعدا دراسة رائدة حول التناقضات الاقتصادية في بلد من بلدان الكتلة الشرقية عام 1964. وأشارا إلى اكتشافات قام بها اقتصاديون معينون من أوروبا الشرقية حول الطريقة التي يؤثر بها التراكم الزائد سلبا على بقية الاقتصاد. واجه التراكم ثلاث "عقبات". الأولى هي "عقبة التضخم" وتشير إلى أن التوسع في الاستثمار بسرعة أكثر مما ينبغي قد نتج عنها إما تضخم طبيعي (عندما قامت الدولة بطباعة النقود لتغطيته، وبالتالي رفع الأسعار وتخفيض مستوى المعيشة) أو "تضخم مقنع" (حيث كان تخفيض إمدادات البضائع للمحال يؤدي إلى نقص في المعروض، وطوابير وتنامي السوق السوداء.)، ثم "عقبة المواد الأولية" وتشير إلى عدم توافر ما يكفي بالضبط من المدخلات حتى يبلغ الإنتاج المستوى المستهدف. ثم "عقبة التصدير" وتعني أن محاولات تعويض النقص في المدخلات عبر الاستيراد من الخارج أدت إلى أزمات في النقد الأجنبي. واستنتج كورون ومودجيلوسكي من ذلك أن الاقتصاد سوف يبلغ قريبا نقطة لن يتوافر عندها الاحتياطي الداخلي اللازم لاستمرار التراكم دون أن تحدث أزمة اجتماعية هائلة. ووجهوا خطابا ناقدا لمن كانوا يتطلعون إلى الإصلاح:
"لسنا هنا بصدد تناقض بين أهداف الخطة وعوامل مثبطة ناتجة عن توجيهات خاطئة، إنما أمام تناقض بين الهدف الطبقي للبيروقراطية الحاكمة (الإنتاج من أجل الإنتاج) ومصالح جماعات أساسية تنجز هذا الإنتاج (مستوى الاستهلاك الأقصى). بمعنى آخر، هو تناقض بين الهدف الطبقي للإنتاج والاستهلاك، وهو ينتج عن الأوضاع القائمة، لا عن سوء الإدارة."(57)
عزز من تحليلهما جزئيا ما حدث في عام 1970 عندما أدت محاولات حل إحدى الأزمات التي تسبب فيها الاستثمار الزائد على حساب مستويات المعيشة إلى احتلال العمال مصانع سفن البلطيق في البلاد، وهجوم الشرطة عليهم، ثم الاستقالة الإجبارية لقائد البلاد جومالكا. غير أنه بدا في أول الأمر أن القيادة الجديدة اكتشفت مخرجا من الأزمة، مع رخاء اقتصادي جديد اعتمد على التوسع الكبير في التجارة مع الغرب والاقتراض من البنوك الغربية ما سمح بزيادة الواردات بنسبة 50 بالمئة في عام 1972 وبنسبة 89 بالمئة في عام 1973.     
كانت رأسمالية الدولة البولندية تتغلب على عقبات التراكم الناتجة عن صغر حجم اقتصادها الوطني عبر الاندماج في الاقتصاد العالمي من خلال المنافسة في السوق. أما الجانب الآخر في ذلك هو أن الاقتصاد البولندي كان عليه أن يعاني عند دخول الاقتصاد العالمي في ركود. كما أن الاعتماد على بقية الاقتصاد العالمي في توفير مدخلات الإنتاج وفي أرباح التصدير منع الدولة من تحويل الموارد من أحد قطاعات الاقتصاد إلى قطاع آخر حتى تمنع أي بادرة للركود داخليا من أن تتحول إلى ركود حقيقي. ومن عام 1980 حتى عام 1982 تكونت "أزمة غير مسبوقة في تاريخ أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية."(58) وانخفض "صافي الناتج القومي المادي" بما يقرب من الثلث؛ وارتفعت الأسعار بنسبة 24 بالمئة في عام 1981 وبنسبة 100 بالمئة في عام 1982؛ وانخفضت الأجور الحقيقية بحوالي الخمس.(59)
حاول النظام أن يلقي عبء الأزمة على عاتق جماهير العمال – ما أنتج صعودا مفاجئا للمقاومة من خلال حركة تضامن العمالية (سوليدارنوسك). وكانت الأحداث بمثابة تحذير لكامل الكتلة الروسية. إن رأسمالية الدولة على النمط السوفييتي لم تكن محصنة من أزمة تماثل في جوانب هامة تلك التي كانت تضرب آنذاك رأسمالية الدولة الاحتكارية الغربية. فكلاهما تمتد جذورهما في نظام التراكم التنافسي ككل.(60) كانت الأزمة الكارثية حتمية عند نقطة معينة في المستقبل غير البعيد في كل أنحاء الكتلة السوفييتية – بما فيها الاتحاد السوفييتي نفسه:
"بحلول عام 1981، كان الاختيار بين الحفاظ على اقتصاد مغلق أو الانفتاح على بقية العالم اختيارا من الناحية الفعلية بين الوقوف على صفيح ساخن أو النار. فالخيار الأول كان يعني تعميق الكساد، وزيادة الفاقد، وعجزا عن تلبية مطالب جمهرة السكان، وخطرا مستمرا لتمرد الطبقة العاملة. والخيار الثاني كان يعني أن يربط المرء نفسه بإيقاع اقتصاد عالمي يتعرض للكساد والركود على نحو متزايد – والتخلي عن الأدوات الإدارية لمنع الركود من أن تنطوي على انكماش الاقتصاد المحلي. لهذا السبب كانت الأزمة البولندية في عام 1980-1981 بمثابة الصدمة بالنسبة لجميع حكام أوروبا الشرقية. فقد برهنت على أنه لا يوجد حل سهل للمشكلات المحيقة بكل دولة."(61)
الأزمة السوفييتية
لم تكن البيروقراطية السوفييتية لتنتظر طويلا حتى تكتشف ذلك على نحو صادم. فمستوى التراكم لديها كان يتقدم نحو نهايات ما يمكن تحمله. وقد زاد اعتمادها على التجارة الخارجية عما قبل، مستخدمة إيرادات النفط في شراء القمح من الخارج لإطعام السكان في سبعينيات القرن العشرين وأوائل الثمانينيات (لتزداد الضغوط التضخمية على مستوى العالم). ثم جاء انخفاض الأسعار العالمية للنفط خلال منتصف عقد الثمانينيات ليتسبب في بعض البلبلة في حساباتها الاقتصادية الداخلية. كما أن قرار إدارة ريجان إعادة تأكيد هيمنة الولايات المتحدة عبر زيادة الإنفاق على السلاح شكل ضغطا على الاتحاد السوفييتي لأن يفعل نفس الشيء. وأضافت العوامل الخارجية إلى المشاكل الداخلية التي تسبب فيها محاولة استمرار التراكم أمام تدهور معدلات النمو.
كان ارتقاء جورباتشوف إلى رئاسة الحزب الشيوعي الحاكم علامة على أن أشخاصا مؤثرين قد أقروا بخطورة الموقف – وهو يدين بصعوده لأندروبوف، الذي شهد على ما يمكن أن تؤدي إليه الأزمة عندما كان سفيرا في المجر في عام 1956 وعندما كان أمينا عاما للحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي خلال أحداث بولندا في عام 1980-1981. ومنذ ذلك الوقت ينتقد جورباتشوف باعتباره "معاديا للثورة" من قبل بعض اليساريين الذين يأخذهم الحنين إلى نظام على النمط السوفييتي. لكن نواياه كانت محاولة إنقاذ ذلك النظام من خلال إصلاحات من أعلى قبل إمكانية وقوع أزمة سياسية واجتماعية واقتصادية وفق المسار البولندي. وكان من سوء حظه أن الأزمة قد بلغت حدا لا يمكن عنده التغلب عليها عبر الإصلاحات.
محاضر الاجتماعات الوزارية في شتاء 1988-1989 تقدم صورة لفوضى اقتصادية تتزايد، مع عدم اكتشاف النظام أي طريقة للتعامل معها. وكانت هناك خلافات مريرة بشأن "التوازن (أو قل عدم التوازن) بين مختلف قطاعات الاقتصاد"، و "عدد المؤسسات" التي كانت "ترفض توفير الناتج المستهدف حسب الخطة بمعدل كبير" أو كانت "تقلل ما تورده بنسبة كبيرة" والطريقة التي "كان يستمر بها حجم الاستثمار الجديد في النمو"(62) "إن توفير السلع لأسواق الاستهلاك قد بدأ فجأة في التدهور الحاد وبصورة ملحوظة أمام أعيننا في النصف الثاني من عام 1987 وخاصة في عام 1988."(63).  
"كان هناك موقف يتوتر على نحو متزايد فيما يتعلق بتلبية الطلب العام المدعوم بالنقد على السلع والخدمات… فكل شيء في الاقتصاد كان يعاني نقصا في المعروض."(64)
وبحلول شهر أكتوبر من عام 1989، كان الحديث علنيا عن "الأزمة في قطاعات كثيرة من الاقتصاد، ونقص السلع، واختلال السوق، وانهيار علاقات قديمة قبل أن توضع محلها علاقات جديدة، ومناخ من التوقعات غير المطمئنة والندرة."(65) وكانت الأسعار ترتفع لأن المصانع والمحال وجدت أنها تستطيع تخفيض الإنتاج وزيادة أسعارها ببساطة، مما تسبب في اضطراب الإمدادات التي تحتاجها بقية قطاعات الاقتصاد.
وكما في بولندا، تحولت الأزمة الاقتصادية إلى أزمة سياسية واجتماعية. كان جورباتشوف ينوي السماح فقط بانفتاح محدود (جلاسنوست) في المناقشة داخل الحزب الحاكم ووسائل الإعلام بهدف عزل من يعارضون إصلاحاته من البيروقراطية. لكن الناس انتهزت باستمرار هذا الفرصة للتعبير عن مظالم قديمة وعن غضبها إزاء تدهور أوضاعها الاقتصادية. ووقعت سلسلة من المظاهرات الكبيرة في الجمهوريات السوفييتية غير الروسية مثل أرمينيا، كازاخستان، دول البلطيق، جورجيا، أوكرانيا، روسيا البيضاء وأذربيجان، وحدت النضال من أجل حقوقها القومية مع التعبير عن مظالمها إزاء الأوضاع الاجتماعية التي يعانيها الناس. هكذا، كانت احتجاجات الأقلية الأرمينية في إقليم كاراباخ في أذربيجان "بدأت كاحتجاجات ضد سوء الإدارة الكارثي والأوضاع الاقتصادية البائسة."(66) وقالت صحيفة البرافدا أنه (حتى قبل تعميق الأزمة) في سنة 1986 بلغت نسبة البطالة في أذربيجان 27.6 بالمئة وفي أرمينيا 18 بالمئة.(67) وفي كازاخستان "كان نصف الشباب فقط أمامهم فرصة الحصول على عمل في الفترة من 1981 حتى 1985."(68) وقال رئيس اتحاد النقابات التي تديرها الدولة أن 43 مليون إنسان في مختلف أرجاء الاتحاد السوفييتي ككل يعيشون تحت خط الفقر.(69) واختلفت تقديرات النسبة الكلية للبطالة من 3 بالمئة إلى 6.2 بالمئة (8.4 مليون عاطل). وأضرب عمال المناجم في كل الاتحاد السوفييتي عن العمل في بداية صيف 1989، وبعدها مباشرة قال أبالكين شاكيا: "إن موجة من الإضرابات تجتاح الاقتصاد."(70) كان ذلك يحدث بينما حركات جماهيرية ضخمة في أوروبا الشرقية – ردا على أزماتها الاقتصادية – كانت تحطم السيطرة السوفييتية على المنطقة وتعمق الشعور العام بالأزمة السياسية، تشجع مزيدا من الاحتجاجات في الجمهوريات غير الروسية في الاتحاد السوفييتي وتضعف قدرة الدولة المركزية على فرض إرادتها.
من كانوا يديرون المؤسسات لم يعرفوا كيف يتعاملون مع موجة الاحتجاجات القادمة من أسفل فيما عدا تقديم التنازلات التي رفعت الأجور النقدية، ولم يكن عندهم أدنى فكرة عما يجب أن يفعلوه أزاء نقص المدخلات اللازمة للحفاظ على مستوى الإنتاج. وأفسح الكساد الطريق أمام انكماش الاقتصاد – أي بوادر الأزمة – في النصف الثاني من عام 1989.
ظهرت دعوات من الاقتصاديين الذين زعموا أن زيادة المنافسة بين المؤسسات، ثم منافسة مباشرة في النهاية بين الشركات داخل روسيا وتلك التي تعمل في الاقتصاد العالمي هي فقط ما تستطيع إجبار المدراء على أن يعملوا بكفاءة من أجل إنتاج السلع المطلوبة. ولكن لم يكن لديهم فكرة أكثر مما لدى الوزارات في المركز حول كيفية توفير الموارد اللازمة لاستكمال الاستثمارات التي ينتظر أن تنتج إنتاجا يؤدي إلى إستعادة التوازن في الاقتصاد. فالانهيار الاقتصادي استمر بصرف النظر عما كانت تفعل الحكومة، بما أدى إلى زيادة الغضب أكثر فأكثر وإلى الغليان السياسي. وأدت محاولة لجورباتشوف لاتخاذ موقف متشدد حتى يستعيد السيطرة المركزية في ربيع عام 1991 إلى موجة جديدة من الغضب أجبرته على التراجع. وقد فشل إنقلاب ضده نظمه أولئك الذين كانوا يتوقون إلى العودة إلى الماضي في أغسطس 1991، بسبب افتقاده إلى تأييد معظم الجنرالات المهمين. ولم تكن هناك قاعدة شعبية تؤيد محاولة العودة للنظام القديم. غير أن من كانوا يبشرون بالإصلاح لم يكن لديهم كذلك سبيل نحو التقدم رغم التأييد الشعبي القصير لبرامج "المائة يوم" أو "الثلاثمائة يوم" التي تعد بمعجزة اقتصادية.
كانت هذه البرامج خيالية أقصى درجات الخيال. فقد خلف انهيار السيطرة المركزية المؤسسات السوفييتية العملاقة في وضع احتكاري أو شبه احتكاري. وقد كانت قادرة على إملاء إرادتها على السوق وإنتاج ما تريده بدلا من إنتاج ما يحتاجه الاقتصاد ككل؛ وكانت في وضع يمكنها من زيادة الأسعار ومن تجاهل التزاماتها التعاقدية تجاه مؤسسات أخرى ببساطة. ولم يكن من شيء يوقف مركب تعميق الركود، والتضخم والنقص الحاد في السلع الاستهلاكية والغذاء. وبدأ الاقتصاديون والمسئولون عن التخطيط والبيروقراطيون الخائفون يبحثون عن برنامج يخرج بهم من الفوضى، حتى انتهى بهم الأمر إلى التخلي عن محاولة السيطرة على ما يحدث. وعندما أعلن يلتسن والقادة الشيوعيون للجمهوريات الأخرى تفكيك الاتحاد السوفييتي إلى الجمهوريات المكونة له في نهاية عام 1991 كانوا فقط يمنحون التعبير السياسي للتفكك الاقتصادي الذي كان يجري فعلا، مع محاولة رؤساء كل قطاع اقتصادي حماية أنفسهم من الأزمة الاقتصادية العامة عبر الاعتماد على مواردهم الخاصة. وقد تحول ذلك إلى استراتيجية اقتصادية مفترضة من خلال سياسة "العلاج بالصدمة" لدى وزراء يلتسن "الليبراليين" ومستشاريه الغربيين مثل جيفري ساكس. وكان الافتراض أن المؤسسات إذا تركت لتنافس بعضها الآخر دون قيود من الدولة سوف تقوم بتسعير بضائعها قريبا على أسس عقلانية بطريقة سوف تدفع المؤسسات الكفء إلى ترسيخ الصلات فيما بينها، وأن ذلك سوف يستعيد الاستقرار. لم يفعل ذلك شيئا في الواقع غير تقديم مباركة حكومية لأزمة كانت تعتمل فعلا ولم يكن لها سابقة في أي مكان خلال القرن العشرين سوى أزمة 1929-1933 في الولايات المتحدة وألمانيا.
إن فشل الإصلاح الاقتصادي لم يكن مجرد فشل في التطبيق. بل كان مفهوم الإصلاح ذاته معيبا. فكان الهدف منه إعادة هيكلة الاقتصاد السوفييتي بحيث أن تتوسع تلك القطاعات القادرة فيه على التأقلم مع مستوى قوى الإنتاج العالمية الحالي بينما تغلق قطاعات أخرى. غير أن تلك العملية كان حتميا أن تكون شديدة القسوة، لا بالنسبة للعمال الذين عانوا في سياقها فحسب، وإنما كذلك بالنسبة لغالبية الأفراد في البيروقراطية نفسها. فقد شملت إعادة هيكلة الاقتصاد البريطاني بين منتصف سبعينيات القرن العشرين ومنتصف الثمانينيات إغلاق حوالي ثلث المصانع وتدميرا لرأس المال بلغ في ضخامته حدا أن إجمالي الاستثمار الصناعي في عام 1990 لم يرتفع عن مستوى عام 1972. ومن المشكوك فيه جدا أن هذه العملية كان يمكن أن تجري بسلاسة إذا لم تكن الرأسمالية البريطانية تحظى بامتلاك ميزة إيرادات النفط الهائلة من بحر الشمال. كان اقتصاد الاتحاد السوفييتي أكبر كثيرا من اقتصاد بريطانيا، كما أن مؤسساته كانت أكثر انعزالا عن بقية العالم لمدة 60 عاما. وكان حجم ما سيدمر منه عبر الانفتاح الفوري على المنافسة العالمية كبيرا بما يتناسب مع ذلك. وهذا بدوره ألحق دمارا هائلا بما تبقى من مؤسسات قادرة على المنافسة مع فقدها موردين للمواد الأولية والمكونات من ناحية ومشترين لمنتجاتها من ناحية أخرى.
تكمن جذور هذه الأزمة في الضغط للتراكم من أجل التراكم الذي نشأ عن وضع البيروقراطية كجزء من نظام عالمي تنافسي. فقد كان الاقتصاد السوفييتي قد بلغ نقطة كان عندها شرطا مسبقا لموجة جديدة من التوسع الذاتي لرأس المال وقوع أزمة تتضمن تدميرا على الأقل لجزء من التراكم الذي حدث في الماضي.  وكان الفارق الوحيد بين روسيا وبين فرنسا أو بريطانيا مثلا هو أن الدمار الذي سيحدث كان أكبر حجما بكثير. ويرجع ذلك إلى أن الاتحاد السوفييتي شهد ستة عقود من التراكم دون إعادة هيكلته من خلال الأزمات والإفلاسات بينما كانت هذه الفترة بالنسبة للاقتصاد البريطاني والاقتصاد الفرنسي فقط أربعة عقود بالنسبة للأول وثلاثة عقود بالنسبة للثاني.
قليلون جدا هم من أبدوا استعدادا لرؤية الأمور على هذا النحو في ذلك الوقت. وكانت الغالبية العظمى ممن كانوا يناضلون من أجل إصلاح ديمقراطي في روسيا يعتقدون أن التحول إلى رأسمالية السوق سوف يفتح مجالا لمستقبل باهر. وبدلا من ذلك عانوا أزمة مدمرة، ومن فساد عهد يلتسن وسيطرة أعضاء سابقين في البيروقراطية والمافيا على الاقتصاد والمجتمع  وقد انبعثوا مجددا كأوليجارشية من الرأسماليين الأفراد. وفي نفس الوقت، استنتج الغالبية العظمى من السياسيين في بقية أنحاء العالم والمنظرين في اليسار الاشتراكي الديمقراطي والستاليني أن الاشتراكية هي التي سقطت وأن المستقبل يكمن في اقتصاد السوق على النمط الغربي، عاجزين عن إدراك عمق الأزمات التي كانت تختمر هناك أيضا.
اليابان: الشمس التي لم تعد تشرق
كان الاتحاد السوفييتي هو ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم في بداية ثمانينيات القرن العشرين. وقد حلت اليابان مكانه مع تحول الأزمة السوفييتية في أواخر الثمانينيات إلى انهيار.(71) وكان متوسط معدل النمو في اليابان على مدار الثمانينيات 4.2 بالمئة مقابل 2.7 بالمئة بالنسبة للولايات المتحدة و 1.9 بالمئة في ألمانيا الغربية. وكان استثمارها السنوي في المعدات الصناعية أكثر من ضعف ما كان في الولايات المتحدة.(72) وكان الاستنتاج الذي يقترب من الإجماع عند المعلقين في الإعلام أن المستقبل مع اليابان. وحذرت لجنة من الكونجرس الأمريكي في عام 1992 من أن اليابان قد تتجاوز الولايات المتحدة بحلول نهاية العقد. و"على درب اليابان" كان شعار رجال الصناعة في أوروبا وأمريكا الشمالية وهم يحاولون تحفيز قوة العمل لديهم على إنجازات أكبر في الإنتاجية. وأصبح الخطر القادم من "الشمس الصاعدة" يستخدم تبريرا لفقدان الوظائف الذي عاناه عمال صناعة السيارات الأمريكيين. وكتب معلقون كينزيون مثل ويل بوتون ووليام كيجان كتبا تحتفي بنموذج الرأسمالية اليابانية.
ثم في عام 1992-1993، وقعت أزمة مالية دفعت اليابان إلى "فترة الكساد" التي تخصها، وقد بلغ متوسط معدل النمو فيها 0.9 بالمئة سنويا فقط بين عام 1990 وعام 2001.(73) وبحلول عام 2007، كان حجم اقتصادها لا يتجاوز ثلث اقتصاد الولايات المتحدة (وثلث اقتصاد الاتحاد الأوروبي)(74) مقابل تقديرات بلغت في ارتفاعها 60 بالمئة في عام 1992.(75)
أرجعت أسباب ما جرى عادة إلى أخطاء في إدارة النظام المالي لديها – فإما نتيجة أن أسواق المال لم تكن "حرة" بما يكفي في ثمانينيات القرن العشرين، أو نتيجة إجراءات غير ملائمة اتخذتها البنوك المركزية بمجرد أن بدأت الأزمة. وما يستنتج من هذا المنطق أن أزمة اليابان كانت حدثا فريدا ليس فيه ما ينبؤنا بشيء حول الاتجاه الذي يسير فيه النظام العالمي. وهكذا تصبح حالة العجز المفاجئة عن النمو في ثاني أكبر اقتصاد في العالم نتيجة أحداث عارضة. 
غير أن جميع عناصر التحليل الماركسي للأزمة في سنوات ما بين الحربين حاضرة في الحالة اليابانية. فما بين خمسينيات القرن العشرين حتى أواخر الثمانينيات شهدت اليابان ارتفاعا سريعا في معدل رأس المال إلى العمال. وقد ارتفع هذا المعدل خلال عقد الثمانينيات بنسبة 4.9 بالمئة سنويا – بما يزيد على أربعة أضعاف سرعته في الولايات المتحدة، كما يزيد بنسبة 70 بالمئة عن ألمانيا.(76) وكانت النتيجة، وفق فرضية ماركس، ضغطا على معدل الربح نحو الانخفاض. وقد انخفض بنسبة 75 بالمئة تقريبا بين نهاية ستينيات القرن العشرين ونهاية ثمانينياته.
معدل الربح في اليابان(77)

الصناعة
الشركات غير المالية
1960-1969
36.2
25.4
1970-1979
24.5
20.5
1980-1990
24.9
16.7
1991-2000
14.5
10.8
العائد على إجمالي الأصول لغير أغراض السكن(78)
1960
28.3
1970
18.0
1980
7.8
1990
3.9
كان يبدو أن هذا الانخفاض تحت السيطرة حتى نهاية ثمانينيات القرن العشرين. وقد تعاونت الدولة والبنوك مع القطاع الخاص الصناعي في الحفاظ على النمو دون الالتفات كثيرا إلى معدلات الربح. فطالما توفرت كمية من الأرباح المتاحة للاستثمار الجديد كان النظام الياباني يضمن استخدامها في ذلك. كانت اليابان قد تلقت ضربة قوية خلال الركود العالمي في منتصف سبعينيات القرن العشرين، لكنها استطاعت أن تنتعش منها قبل معظم البلدان الأخرى، بل واستطاعت أيضا أن تعيد هيكلة صناعتها بطريقة جعلتها تواصل توسعها على مدى أوائل الثمانينيات عندما كانت الولايات المتحدة وأوروبا في ركود اقتصادي:
"كشفت أزمة (1973-1975) عدم إمكانية الحفاظ على نمو مستقبلي على أساس التصنيع الكيميائي والثقيل. وكان دور الدولة جوهريا في تغيير التوجه الاستراتيجي للرأسمالية اليابانية. وبدأ الإرشاد الإداري من جانب وزارة التجارة الدولية والصناعة في حث رأس المال الياباني في اتجاه صناعة الإلكترونيات والسيارات والمعدات الرأسمالية وأشباه الموصلات…"(79)    
احتاج ذلك إلى مستويات عالية من الاستثمار. فمثلا، استثمرت الولايات المتحدة 21 بالمئة فقط من إجمالي الناتج المحلي بها خلال ثمانينيات القرن العشرين مقارنة بمعدل الاستثمار الياباني الذي بلغ 31 بالمئة. وحسب أحد التقديرات، كان معدل مخزون رأس المال إلى إجمالي الناتج القومي في اليابان أعلى بنسبة 50 بالمئة من هذا المعدل في الولايات المتحدة.(80) أدت هذه الطريقة من تركيز الاستثمار في صناعات بعينها إلى زيادة إنتاجيتها، رغم أن الانتاجية استمرت منخفضة نوعا في بقية قطاعات الاقتصاد الياباني.(81) غير أنه لايمكن الحفاظ على مستوى من الاستثمار مرتفع على هذا النحو إلا عبر تحجيم استهلاك غالبية الشعب. وقد تحقق ذلك جزئيا عبر إبقاء الأجور الحقيقية منخفضة؛ وجزئيا عبر توفير أدنى حد ممكن من مخصصات الدولة للرعاية الصحية والمعاشات، ما أجبر الناس على الادخار. وكما أوضح رود ستيفينز عندما كان الرخاء الاقتصادي في ذروته:
"مازالت الأجور الحقيقية في اليابان تبلغ في حدها الأقصى حوالي 60 بالمئة فقط من مستوى الأجور الحقيقية في الولايات المتحدة، كما أن العمال اليابانيين يضطرون إلى الادخار بمعدلات كبيرة لتغطية التكاليف التي تمثل حصة ضخمة مما يكسبون طوال حياتهم وتبتلعها أمور مثل الإسكان والتعليم والرعاية الصحية والشيخوخة."(82)
لكن هذا المستوى للأجور الحقيقية جعل السوق المحلية محدودة بالنسبة للسلع الجديدة التي كانت تنتجها الصناعة اليابانية بسرعة تزداد وتيرتها باستمرار. وكانت الطريقة الوحيدة لبيع هذه السلع هي الاعتماد على الصادرات. وقد أوضح ستيفينز أيضا:
"بسبب ضوابط رأس المال الصارمة والمتزايدة على الأجور والسلطوية في مواقع العمل، كان لزاما بالنسبة للزيادة المستمرة في إنتاجية العمل في فروع السلع الاستهلاكية للصناعة الآلية (مثل السيارات والأجهزة البصرية والسمعية) أن تجد منافذ لها في أسواق التصدير إذا لم يكن للقوة الشرائية المحدودة للطبقة العاملة اليابانية أن تعرقل عملية التراكم."(83)
وسمحت الإنتاجية المرتفعة في الفئة المنتقاة من الصناعات ذات الأولوية بإمكانية تحقيق المستوى المطلوب من الصادرات، مع زيادة اختراق السيارات والسلع الإلكترونية اليابانية أسواق الولايات المتحدة. ولكنها جرت وراءها تعقيدات. فكان نجاح اليابان اقتصاديا يعتمد اعتمادا كبيرا على كرم وتسامح الولايات المتحدة. وعندما طلبت الأخيرة من اليابان قبول زيادة في قيمة عملتها حتى تصبح سلعها أقل تنافسية في مواجهة السلع الأمريكية، لم يكن أمام الرأسمالية اليابانية من خيار سوى الامتثال فتأثر سلبا حجم الصادرات (حتى وإن كان ارتفاع قيمة العملة يعني أن قيمة الصادرات مقومة بالدولار لم تتأثر بالسلب).  
كان رد فعل الدولة على ذلك توفير الأموال الرخيصة حتى تحافظ على استمرار الاستثمار الصناعي والتوسع. فكما قالت كاريل فان وولفرن "شجعت وزارة المالية البنوك تشجيعا على زيادة الإقراض بهدف تعويض قطاع الشركات عن أثر ضغوط أسعار الصرف."(84) لكن الآليات القديمة في توجيه الإقراض المصرفي نحو التنمية الصناعية كان يشوبها الضعف – الذي نجم جزئيا عن زيادة اندماج الرأسمالية اليابانية في النظام العالمي.(85) وشقت الزيادة في الإقراض المصرفي طريقها نحو المضاربة الهائلة في حجمها:
"لقد ساعد انفجار السيولة النقدية في إطلاق منحنى صعودي في قيم العقارات، التي كانت تستخدمها الشركات الكبيرة ضمانات لقروضها، والذي برر آنذاك انتفاخ قيم الأسهم."(86)
حلقت قيم العقارات عاليا وتضاعفت قيمة البورصة - فيما أطلق عليه فيما بعد "اقتصاد الفقاعة" – حتى قيل أن صافي قيمة الشركات اليابانية أكبر من صافي قيمة الشركات الأمريكية، رغم أن اقتصاد الولايات المتحدة كان يقترب من ضعف حجم الاقتصاد الياباني وفق أي معيار حقيقي. غير أن الاقتصاد الياباني واصل نموه ، بينما كانت الفقاعة مستمرة– وحتى بعد أن بدأت الفقاعة في الانحسار، استطاع الاقتصاد مواصلة التوسع مدفوعا بالإقراض المصرفي على مدى عامي 1991-1992 عندما ضرب الركود الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. ثم أصبح واضحا بعد ذلك أن البنوك نفسها كانت تتعثر. فقد قدمت قروضا لشراء الأراضي والأسهم لايمكن الآن سدادها بعد أن انهارت أسعارها. تعرض النظام المصرفي لضربة تلو أخرى من أزمات متواترة خلال تسعينيات القرن العشرين، ما أدى إلى إعدام حوالي 71 تريليون ين إجمالا (ما يزيد على 500 مليار دولار) من القروض الرديئة. وقدرت حكومة الولايات المتحدة إجمالي المبلغ الذي تدين به الشركات المتعثرة أو التي أفلست فعلا عند 80 إلى 100 تريليون ين (600 إلى 750 مليار دولار)، بينما قدره صندوق النقد الدولي عند 111 تريليون ين (840 مليار دولار تقريبا).(87)
إن دور النظام المالي في إنتاج الفقاعة ثم الأزمة الطويلة الممتدة للقطاع المصرفي دفع معظم المعلقين إلى إرجاع أصل الأزمة اليابانية إلى عيوب داخل ذلك النظام. فالمشكلة، كما يزعم المعلقون من الليبراليين الجدد، هي أن الروابط الوثيقة بين من يديرون الدولة والنظام المصرفي والصناعة تعني غياب التدقيق والمراقبة على تصرفات البنوك، الأمر الذي كان سيوفره اقتصاد تنافسي على وجه صحيح.(88) وذلك هو ما سمح بحدوث تلك الكمية الهائلة من الإقراض بطريق التحايل. غير أن هذا التفسير فاشل لأن فقاعات مماثلة تماما حدثت في اقتصاد مثل اقتصاد الولايات المتحدة الذي يفترض أنه يستوفي جميع مبادئ "التنافسية". ومن الصعب أن ترصد أي اختلاف جوهري بين الفقاعة اليابانية التي وقعت في أواخر ثمانينيات القرن العشرين وبين الفقاعة العقارية في الولايات المتحدة في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
إن المنطق النيوليبرالي الذي يلقي اللوم على الدولة في وقوع الأزمة يعتقد أن لها حلا – فقد كان ينبغي على الدولة أن تنسحب ببساطة وأن تسمح بخروج بعض البنوك الكبيرة من النشاط. لكن هذا الحل يفترض أن إفلاس بعض البنوك لن يترتب عليه انهيار بنوك أخرى قدمت لها قروضا، ما يؤدي إلى انهيار مركب لكامل القطاع المصرفي. ولا تجرؤ أي دولة صناعية متقدمة حتى على تصور حدوث ذلك. وكلما بدا ذلك محتملا كانت الدول الأخرى تتصرف عموما بنفس طريقة اليابانيين.
على أي حال، لا يوجد سبب لأن نعتقد بأن الأزمة المصرفية كانت السبب الأساسي للركود الياباني. ويرى الاقتصاديان المنتميان إلى المدرسة النيوكلاسيكية أن الشركات التي أرادت الاستثمار كانت تستطيع أن تفعل ذلك لأن "مصادر أخرى للتمويل حلت بديلا عن القروض المصرفية في تمويل الاستثمار النشط للشركات غير المالية في تسعينيات القرن العشرين."(89) ولكن كان عليها أن تدرك أن "تلك المشروعات التي يجري تمويلها تحقق في المتوسط معدلا منخفضا من العائد."(90) وفي واقع الأمر، شهد الاستثمار الإنتاجي انخفاضا رغم أنه لم يبلغ ما يشبه الانهيار الكامل. في أوضاع كهذه، لن يحل الأزمة إعادة هيكلة النظام المصرفي، سواء من خلال السماح بأن تتعمق الأزمة كما كان يريد الليبراليون الجدد، أو تدريجيا كما كان يقترح أصحاب التوجهات الكينزية. وفي هذا الشأن قال بول كروجمان بحق:
"إن الأمر المدهش بشأن النقاش حول الإصلاح الهيكلي رغم ذلك هو أن الإجابات تكون غامضة تماما عندما يطرح المرء هذا السؤال: كيف سيؤدي ذلك الإصلاح إلى زيادة الطلب؟ وأنا على الأقل أبعد ما أكون عن الثقة بأن نوع الإصلاح الهيكلي الذي يدعى إليه في اليابان سوف يؤدي إلى زيادة الطلب على الإطلاق، ولا أجد سببا للاعتقاد بأن إصلاحا راديكاليا حتى سيكون كافيا لدفع الاقتصاد خارج مأزقه الحالي."(91)
سبب ذلك أن المأزق خارج النظام المصرفي، ويكمن في النظام الرأسمالي ككل. لقد انخفض معدل الربح إلى نقطة في أواخر ثمانينيات القرن العشرين تحول دون تقديم زيادة حقيقية في مستوى معيشة العمال. غير أن ذلك حرم الاقتصاد المحلي بدوره من القدرة على استيعاب كل الإنتاج الزائد. وكان يمكن لدورة جديدة كبيرة من التراكم أن تستوعبه، لكن حتى يتحقق ذلك كان يلزم أن تكون الربحية أعلى كثيرا مما كانت عليه. في دراسة عن الأزمة بعنوان "الهدف الأسمى لعلم الاقتصاد الكلي"، ألمح ريتشارد كو، لدى تأكيده على الديون الخفية عند الشركات الكبرى، إلى المشكلة التي وقعت فعلا، ولكنه أخفق في تتبع أصل مشكلة الإفلاس في تدهور الربحية في المدى الطويل.(92)
لجأت الدولة اليابانية فعلا إلى بعض الحلول ذات الطبيعة الكينزية عبر برامج كبيرة من بناء المشروعات العامة (الكباري، والمطارات، والطرق، إلخ). كتب جافان ماكورماك "مع بداية الركود المزمن بعد انفجار الفقاعة في مستهل تسعينيات القرن العشرين، اتجهت الحكومة إلى تبني سياسات التمويل بالعجز الكينزية بمعدلات أكبر وبفاعلية تتناقص،" وقد "شهد قطاع الأشغال العامة في اليابان نموا إلى ثلاثة أضعاف مثيله في بريطانيا، والولايات المتحدة أو ألمانيا من حيث الحجم، ليعمل فيه سبعة ملايين شخص، أو 10 بالمئة من إجمالي قوة العمل، وينفق ما بين 40 إلى 50 تريليون ين سنويا أو حوالي 350 مليار دولار، ما يعادل 8 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي أو ضعفي إلى ثلاثة أضعاف النسبة في البلدان الصناعية الأخرى."(93) كما ارتفعت مساهمة الدولة في الناتج، وفق أحد التقديرات، إلى 15.2 بالمئة خلال الفترة من 1994 إلى 2000 مقابل 13.7 بالمئة خلال الفترة من 1984 وحتى 1990.(94)
غير أن ذلك لم يكن كافيا حتى يملأ الفجوة التي نشأت عن ضعف الحافز على الاستثمار بسبب معدل الربح، كما يكشف الرسم البياني التالي: 
لم يحدث انهيار للاقتصاد الياباني في تسعينيات القرن العشرين على نحو ما حدث لاقتصاد الولايات المتحدة وألمانيا في أوائل الثلاثينيات. وبدا أن الدولة مازالت قادرة على منعه، لكنها لم تتمكن من استعادة الاقتصاد إلى مسار النمو القديم. واعتقدت قطاعات من رأس المال الياباني أنها تستطيع أن تفلت من هذا الفخ عبر الاستثمار في الخارج – كما تبين الفجوة بين إجمالي الاستثمار وإجمالي الاستثمار المحلي. غير أن ذلك لم يكن حلا بالنسبة للكتلة الكبرى من رأس المال الياباني التي بذلت أقصى ما لديها في محاولة زيادة معدل الربح عبر زيادة معدل الاستغلال، حتى وإن كان ذلك يؤدي إلى مزيد من انخفاض الطلب المحلي وتعميق المشكلات التي تواجهها. كما لم يكن حلا بالنسبة للطبقة العاملة اليابانية، التي سوف تضطر، شاءت ذلك أم أبت، إلى النضال إذا كان لها أن تتجنب تدهورا في مستوى معيشتها. لم يخرج النمو الاقتصادي من ركوده حتى منتصف العقد الأول من الألفية، عندما انتعشت الصناعة اليابانية بسبب واردات الصين من المعدات – غير أن هذا الانتعاش تبين أنه قصير الأجل.
لم تكن أزمة اليابان مدمرة لحياة شعبها كما كانت الأزمة التي اندلعت في الاتحاد السوفييتي قبل ذلك بعامين. غير أن تشابها كان بينهما لم يلاحظه كل الاقتصاديين تقريبا سواء من التيار السائد أو التيار الماركسي. فقد بلغ تراكم رأس المال حدا لم يعد عنده قادرا على استخلاص فائض من الذين يستغلهم بمقدار يرتفع بما يكفي لمواكبة المستوى التنافسي عالميا للتراكم الذي يتطلع إليه. وأصبح العائق أمام تراكم رأس المال حقا هو رأس المال نفسه. فكان أمام من يشرفون على عملية التراكم خياران. فباستطاعتهم أن يتركوا المساحة التي تخصهم من النظام لتعيد هيكلة نفسها عبر المنافسة العمياء، بأن يقبلوا استنادا إلى الثقة تلك المزاعم الأيديولوجية بأن ذلك سوف يأتي بالمعجزات. أو باستطاعتهم أن ينحازوا للاختيار الآمن، مدركين أنهم قد لا يخرجون أبدا من ركود طويل الأجل. اختار حكام روسيا المسار الأول وشاهدوا اقتصادهم، الذي انخفض إلى النصف فعلا بسبب فقدان بقية الاتحاد السوفييتي، ينكمش مرة أخرى بمقدار النصف. واختار حكام اليابان المسار الآخر، وشهد اقتصادهم خمسة عشر عاما من الركود المرهق دون أن يبدو أكثر قربا من أي حل لمشكلاته في نهايتها عما كان في بدايتها. أما السؤال الكبير الذي أثارته الحالتان فقد كان: كيف ستتعامل بلدان أخرى، خاصة الولايات المتحدة، إذا سقطت في نفس مصيدة الركود؟
أثر الأزمة على جنوب العالم      
كان لانهيار الكينزية والستالينية، وهما النموذجان الأيديولوجيان القائمان على توجيه الدولة، أثر عميق على القوى السياسية التي تتطلع إلى "تنمية" اقتصاد بلدان العالم الثالث لتصبح أعضاء مساوية وكاملة في النظام العالمي. فقد دفعهم إلى البحث عن نماذج جديدة للتراكم الرأسمالي بدلا من نموذج إحلال الواردات الموجه من الدولة، الذي كان يكشف بالفعل عن مشكلاته.
في آسيا، بدأ الاقتصاد الصيني، الذي تسيطر عليه السلطة سيطرة محكمة، وكذلك الاقتصاد الهندي، الذي تسيطر عليه السلطة سيطرة أقل إحكاما ولكنها توجهه توجيها مركزيا، يكشفان عن علامات على الركود تثير القلق بحلول منتصف سبعينيات القرن العشرين،(95) ما اضطر الحكومات إلى البحث عن البدائل. وفي أمريكا اللاتينية تبين أن نموذج إحلال الواردات يفتقر إلى الكفاءة المرجوة في منشأه بالأرجنتين مع اندلاع الأزمات السياسية والاقتصادية. وفي إفريقيا لم تتحقق الوعود التي أطلقها مروجو "الاشتراكية الإفريقية" مع تقلص النمو الصناعي بسبب ضعف الأسواق الوطنية وهزال الموارد التي بقيت بعد أعمال النهب الامبريالي. وإضافة إلى هذه المشكلات، جاء تدهور الأسعار في السوق العالمية للمواد الأولية والسلع الغذائية – وهي المصدر الأساسي لعائدات التصدير المطلوبة لاستيراد المعدات للصناعات الجديدة. وتحديدا بعد بداية الركود في البلدان المتقدمة في عام 1974، حوصرت بلدان العالم الثالث غير المنتجة للنفط ما بين زيادة تكاليف البترول وتدهور شروط التجارة في صادرات السلع الأولية بما يقرب من 50 بالمئة.(96)
وبدأت البلدان التي تملك صناعات حققت نموا في إطار الحواجز الحمائية في النموذج القديم في إقامة صلات بطريقة براجماتية مع رأس المال الأجنبي. وكانت الأرجنتين والمكسيك والبرازيل حالات نموذجية لذلك. وقد تأسست قواعدها الصناعية خلال عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين عبر تدخل دولها لتوجيه الاستثمار إلى الصناعة، غالبا في شركات مملوكة للدولة. لكن الأبعد نظرا من الصناعيين – سواء في قطاع الدولة أو القطاع الخاص – أدركوا أنهم لن يستطيعوا الحصول على الموارد والتكنولوجيات الحديثة المطلوبة لمواكبة مستويات الإنتاجية العالمية إلا إذا وجدوا سبيلا إلى الخروج من حدود الاقتصاد الوطني. وبدأوا يتوجهون على نحو متزايد إلى الشركات الأجنبية متعددة القومية لعقد اتفاقيات الوكالة، ومشروعات الإنتاج المشترك والتمويل – وبدأوا هم أنفسهم في العمل كشركات متعددة القومية في بلدان أخرى.
اكتسب هذا الاتجاه مزيدا من القوة بعد نجاح عدد من البلدان التي وجهت نفسها منذ زمن بعيد نحو السوق العالمية في تحقيق معدلات نمو بالغة السرعة. ففي آسيا، سجلت أربعة معاقل لمعارضة الشيوعية – هي كوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونج وسنغافورة – بسهولة معدلات من النمو تبلغ في ضخامتها معدلات النمو في الاتحاد السوفييتي في عهد ستالين. وفي أوروبا حققت بلدان مثل إسبانيا واليونان والبرتغال، والتي كان بول باران قد شملها كأجزاء ضمن العالم المتخلف، نموا سريعا بما يكفي لأن تنضم إلى نادي الأثرياء – أي المجموعة الأوروبية. وبدأت البرازيل في انتهاج مسار مشابه بالتوجه إلى التصدير في ظل النظام العسكري الذي استولى على السلطة في عام 1964. وعلى نحو متزايد، توجه قطاع الدولة لديها الذي مازال كبيرا جدا، وكذلك رأس المال الخاص، نحو بقية النظام العالمي بدلا من الاتجاه نحو سوق وطنية تتمتع بالحماية. وابتهجت الصحافة الاقتصادية الغربية لذلك، مؤكدة لقرائها أن البرازيل هي البلد العظيم الصاعد في العالم الثالث والتي ينتظر أن تتحدى صناعاتها الصناعات الغربية. وقد حدث نمو قطعا. "وعلى مدى 15 عاما تقريبا (من عام 1965 وحتى عام 1980) كان متوسط معدل النمو يبلغ 8.5 بالمئة، ما جعل البرازيل في الترتيب الرابع بين أسرع البلدان نموا."(97)
بدأت دول أخرى في أمريكا اللاتينية في اقتفاء أثر السياسة البرازيلية. فقد تبع الانقلابات العسكرية في تشيلي (1973) وفي الأرجنتين (1976) انفتاح على رأس المال الخارجي. ومرة أخرى بدا أن النتيجة مشجعة في البداية. ففي ظل نظام الجنرال فيديلا في الأرجنتين "انخفض معدل التضخم، وارتفع الناتج الحقيقي، كما تحقق فائض في الحساب الجاري،"(98) بينما سجل إجمالي الناتج المحلي في تشيلي نموا بمعدل 8.5 بالمئة سنويا خلال الفترة ما بين 1977 وعام 1980.(99)
وبدا أن طريقة قد اكتشفت لتحقيق التراكم وطنيا عبر الإنطلاق خارج حدود السوق الوطنية – ثم سحق المقاومة الشعبية لزيادة مستوى الاستغلال إذ اتخذت هذه السياسات في ظل أنظمة عسكرية. وكان هناك تحول مشابه لما حدث في الغرب والدول الشيوعية السابقة في بندول الفكر مع تحول الاقتصاديين من أنصار "نظرية التبعية" بالجملة إلى تبني عجائب السوق الحرة. واستمرت هذه التحولات حتى مع انهيار "معجزة" أمريكا اللاتينية.
أصبح النمو بعد عام 1974 معتمدا على الاقتراض الخارجي (كما في بولندا والمجر في نفس الفترة). وكثير من بلدان أمريكا اللاتينية راهنت على تحقيق أهداف طموحة في النمو عبر الاقتراض بكثافة من أسواق المال العالمية. فارتفع الدين الخارجي لكل من تشيلي والأرجنتين ما يقرب من ثلاثة أضعاف على مدى سنوات قليلة من عام 1978 وحتى عام 1981.(100) لكن يبدو أن ذلك لم يكن مزعجا آنذاك، لا بالنسبة للحكومات الوطنية ولا بالنسبة للنظام المصرفي العالمي:
"حتى صدمة أسعار النفط الثانية (1979-1980)، كان الرهان يستحق المقامرة. فكان نمو الصادرات مستمرا في الأسواق العالمية وبأسعار جيدة… ونتيجة لذلك كان معدل الديون المستحقة إلى عائد التصدير يميل لصالح البلدان النامية غير النفطية في عام 1979 أكثر من عامي 1970-1972."(101)
وقد طمأن صندوق النقد الدولي الناس في عام 1980 قائلا: "خلال سبعينيات القرن العشرين… تفادينا مشكلة معممة في إدارة الديون… والتوقعات بالنسبة للمستقبل القريب ليس بها ما يدعو على القلق."(102) وقد كتب الصندوق ذلك قبل شهور قليلة من ضرب الركود العالمي الثاني، في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، كل هذه الدول ضربة مفاجئة. فمع تقلص أسواق التصدير وبداية ارتفاع أسعار الفائدة العالمية، كبلت الديون التي حصلت عليها في سبعينيات القرن العشرين نموها الاقتصادي، ودفعت بها في الركود ودمرت اقتصادها طوال عقد الثمانينيات بكامله، الذي أصبح يعرف بـ "العقد الضائع" في أمريكا اللاتينية، مع انخفاض نصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي في القارة كلها بنسبة 10 بالمئة.(103)
ورغم ذلك، فإن أثر الركود على الرأسماليين المحليين والقوى السياسية السائدة لم يدفعهم لأن يتشككوا في الانفتاح الجديد على السوق العالمية. بل كان الإصرار، كما في روسيا وأوروبا الشرقية، على أن الانفتاح لم يكن واسعا بما يكفي. وفي أواخر ثمانينيات القرن العشرين، تبنى العقيدة الجديدة بشكل أو بآخر سياسيون شعبويون بل حتى مقاتلون سابقون في العصابات الثورية في أمريكا اللاتينية، وكذلك المكتب السياسي للحزب الشيوعي في الصين، وقيادات حزب المؤتمر في الهند، وأولئك الذين أعلنوا ذات يوم التزامهم بـ"الاشتراكية" في إفريقيا وخلفاء عبد الناصر في مصر.
لم تكن هذه التحولات دائما بمحض إرادتهم. فقد تدخل كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كلما استطاعا، بتقديم العروض، بأسلوب المافيا، إلى البلدان التي ترزح تحت عبء الديون، والتي نادرا ما يجد حكامها لديهم القدرة على رفضها، لأن ذلك الرفض كان ينفي أي استراتيجة للتراكم مهما كان نوعها. كانت برامج الديون على اختلافها معنية بحماية مصالح البنوك الغربية أكثر من تحسين الأوضاع في البلدان المدينة. لكن الأمر كان ينطوي على أكثر من مجرد خضوع للإمبريالية من جانب الحكومات التي قبلت هذه البرامج. فرؤوس الأموال، سواء التي تديرها الدولة أو القطاع الخاص، التي حققت نموا خلال حقبة "التنمية" الموجهة من الدولة، لم تجد سبيلا إلى الاستمرار في التوسع داخل حدود الأسواق الوطنية الضيقة. وكانت ترغب في فرصة الحصول على أسواق وابتكارات تكنولوجية خارج الحدود الوطنية. وقد تسمح رؤوس الأموال، بل وتشجع، الحكومات الوطنية على المساومة حول الشروط التي يضعها رأس المال في البلدان المركزية للسماح بذلك، ولكنها لا ترفضها بالكلية. وفي سياق ذلك كان بعضها قادرا فعلا على تطوير أكثر من طابع قومي.
هكذا سيطرت شركة صناعة الصلب الأرجنتينية تكنت (Techint) على شركة صناعة أنابيب الصلب المكسيكية تامسا(Tamsa)  في عام 1993، واستحوذت على شركة صناعة أنابيب الصلب الإيطالية دالمين (Dalmine) في عام 1996، ثم واصلت التوسع في البرازيل وفينزويلا واليابان وكندا واتخذت لنفسها اسم تيناريس (Tinaris)(104). وهناك نمط مماثل عند بعض الشركات المكسيكية، ففي أواخر ثمانينيات القرن العشرين شرعت شركة ألفا (Alfa)، وهي أكبر مجموعة صناعية في المكسيك ولديها 109 أذرع تعمل في قطع غيار السيارات، والغذاء والبتروكيماويات والصلب، في عدد متزايد من المشروعات المشتركة مع شركات أجنبية. وأصبحت شركة فيترو (Vitro) لصناعة الزجاج، التي اشترت شركتين أمريكيتين، "رائدة صناعة الأواني الزجاجية في العالم، التي أصبحت سوقها منقسمة تقريبا بالتساوي بين الولايات المتحدة والمكسيك."(105) وكانت النتيجة المنطقية لذلك في المكسيك أن الطبقة الحاكمة نسيت وطنيتها القديمة وانضمت إلى منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية وأصبحت تعمل على نحو متزايد كعنصر تابع لرأسمالية الولايات المتحدة.
أحيانا كان لهذا التعاون نتائج إيجابية بالنسبة لقطاعات واسعة من رأس المال المحلي، ووفر بعض فرص العمل للطبقات الوسطى الطامحة (في إيرلندا، وكوريا الجنوبية، وماليزيا وسنغافورة وتايوان والمناطق الساحلية بالصين) بل وخلق أوضاعا استطاع العمال في ظلها زيادة مستوى معيشتهم من خلال الإضرابات. غير أنه في أغلب الأحوال نتج عنه مزيد من المديونية للبنوك الأجنبية التي كان على الدول القومية أن تجابهها. وفي هذه الحالات حظيت فئة ضيقة من الشعب بمذاق الرفاهية والرغد من رأس المال متعدد الجنسية بينما تدهورت أوضاع جمهرة الناس، أو استمرت دون تغيير في أفضل الأحوال. وعاشت طبقة من المترفين في مناطق مسورة تتمتع بالحماية كما لو كانت في أكثر مناطق العالم الصناعي ثراءا (وغالبا اتخذت خطوة أبعد وأصبحت تعيش هناك فترة من كل عام) بينما كان كثير من السكان يتعفنون في مدن الأكواخ والعشش التي تتكاثر باستمرار.  
كان افتراض الأيديولوجية الاقتصادية الجديدة – التي طرحت بقوة في المفاهيم "النيوليبرالية" في "إجماع واشنطن" لدى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي – هو لو أن بعض التراكم الرأسمالي في بعض البلدان استطاع أن يحصل على فرصة جديدة للحياة عبر إعادة إدماجها في النظام العالمي، فإنه يستطيع أن يحصل عليها في أي مكان إذا أزيلت فقط آخر القيود على التجارة وعلى حركة رأس المال. ولكن تبين أن الواقع كان مختلفا. فقد جذبت مناطق قليلة استثمارات انتاجية جديدة، ولكن مناطق قليلة فقط. وبحلول نهاية القرن كان الثلث فقط من الاستثمار الأجنبي المباشر عالميا يتجه إلى "الأسواق الناشئة" في الجنوب العالمي والبلدان الشيوعية السابقة، وأكثر من نصف هذه الكمية اتجه إلى أربعة بلدان فقط – الصين/هونج كونج وسنغافورة والمكسيك والبرازيل. وربعها كان يتجه إلى سبعة بلدان فقط (هي ماليزيا وتايلاند وكوريا الجنوبية، وبرمودة، وفنزويلا وتشيلي والأرجنتين) بينما تقاسم 176 بلدا نسبة الـ 25 بالمئة الباقية.(106) كما أن كثيرا من ذلك الاستثمار لم يكن استثمارا جديدا على الإطلاق، وإنما مجرد الاستحواذ على شركات تعمل بالفعل من قبل شركات متعددة الجنسية مقرها بلدان المركز.
وكان الشعور بهذه المشاكل أكثر وضوحا في المناطق الأفقر من العالم، وخاصة في إفريقيا. ورغم ما فعلته من تفكيك سياساتها الحمائية القديمة القائمة على إحلال الواردات، فما زالت غير جاذبة للشركات متعددة الجنسية التي أرادت إغرائها: "تواجه الدول الصغيرة الفقيرة عقبات متزايدة في الدخول إلى الصناعات التي تخضع أكثر من غيرها لقوى المنافسة العالمية."(107)
كثير من ذلك ينطبق أيضا على الصادرات. فالصين وعدد قليل من البلدان الأخرى واصلت فعلا اختراق الأسواق العالمية. غير أن التوجه للتصدير في هذه البلدان كان يعني أن أسواقها الداخلية للسلع الإستهلاكية المنتجة بالخارج لم تحقق نموا بسرعة مماثلة، وأن توسعها كان جزئيا على حساب بلدان أخرى في الجنوب العالمي. وهكذا وجدت بلدان أفريقية من التي بدأت تتمتع ببعض النمو في الصادرات من السلع الصناعية نفسها تفقد أسواقا لصالح الصين. إن "التطور المركب غير المتكافئ" الذي كان يميز حقبة الرخاء الطويل قد استمر في أعقابها، مع اختلاف أن كثيرا من الاقتصادات انكمشت فعليا حتى عندما كانت أخرى تحقق نموا سريعا. وكان الأمر كما لو أن "العالم الثالث" نفسه انقسم إلى عالمين، فيما عدا أن مستنقعات الفقر الهائلة استمرت حتى في المناطق التي كانت تحقق نموا.
من يديرون الدول المحلية يشعرون غالبا بعدم الأمان حتى عندما تكون الاستراتيجية التنموية ناجحة في شروطها الخاصة الرأسمالية أو رأسمالية الدولة. فنجاحهم يعتمد على مستوى عال من التراكم المحلي – والجانب الآخر منه وهو مستوى عال من الاستغلال الذي يمكن تحقيقه فقط عبر تخفيض مستوى معيشة العمال والفلاحين. ولكن حتى عندما ينجحون في تحقيق مستويات عالية من التراكم (والذي كان الاستثناء وليس القاعدة) يظلون ضعفاء في موقفهم التفاوضي مع الشركات متعددة الجنسية. فمع استحواذ الشركات متعددة الجنسية على الشركات المحلية، يمكن أن ترتفع حصتها في رأس المال المحلي إلى 40 أو حتى 50 بالمئة من الإجمالي، مما يزيد تأثيرها على صناعة القرار محليا. لكن الدول في المناطق الأفقر من العالم لا تملك شيئا يشبه نفس التأثير على الشركات متعددة الجنسية، ذلك أن صغر حجم اقتصادها المحلي يعني أنها قد لا تمثل أكثر من 1 بالمئة أو 2 بالمئة من استثمارات ومبيعات الشركات متعددة الجنسية على مستوى العالم.
وعادة ما تحدث فجوات هائلة بين ما وعد به أولئك الذين يديرون الدول جماهير الشعب وما يستطيعون تقديمه. وتصبح القاعدة استخدام درجات عالية من العنف مع الفساد بدلا من أن تكون استثناءا. وعندما تعاني الاستراتيجية التنموية من مشكلات، يصاحب القمع شيء آخر – تفريغ المنظمات الجماهيرية من محتواها، والتي كانت تربط بالدولة قطاعات من الطبقة المتوسطة ومن خلالها بعض أفراد الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء. وتصبح الدولة القمعية دولة ضعيفة تتطلع إلى الدعم الأجنبي لتعزيز سيطرتها.   
وقد حدث كل ذلك مع إجبار مشاكل الربحية في البلاد المتقدمة الرأسماليين بها إلى البحث عن أي فرصة، مهما كانت محدودة، للاستحواذ على فائض القيمة من مناطق أخرى. لم يكن هناك الكثير للاستحواذ عليه من أفقر الفقراء في أي مكان في العالم، لكن أينما وجد شيء منه كانوا مصممين على اقتناصه. إن الإمبريالية تعني أن القوى الرأسمالية المتصارعة في قمة النظام تتنازع فيما بينها بقسوة حول كيفية تلبية مصالحها المختلفة. وعند مستوى أدنى في النظام، تعني محاصرة الطبقات الحاكمة المحلية في العالم الثالث في إطار العمل كمحصلين لمدفوعات سداد الديون لصالح البنوك الغربية، والإتاوات لصالح الشركات المتعددة الجنسية، والأرباح للمستثمرين الغربيين وكذلك لصالح الرأسماليين المحليين من مواطنيهم. إن مدفوعات خدمة الديون وحدها تحول 300 مليار دولار سنويا من "البلدان النامية" لصالح الأثرياء في العالم المتقدم.(108) وقد تباهى موقع إلكتروني مخصص للدفاع عن استثمارات الولايات المتحدة الخارجية قائلا:
"إن معظم الاستثمارات الجديدة في الخارج يسدد قيمتها أرباح تحققت في الخارج. كان الاستثمار الأجنبي المباشر الذي قامت به شركات أمريكية يبلغ 86 مليار دولار فقط في عام 1996… وإذا طرحت من هذه القيمة أرباح العمليات الخارجية التي أعيد استثمارها، ستكون النتيجة 22 مليار دولار فقط…كما أن الفروع الخارجية للشركات الأمريكية تحقق دخلا يعود إلى داخل الولايات المتحدة…وفي عام 1995، بلغ تدفق هذا الدخل – الذي يعرف كدخل للاستثمار المباشر، والإتاوة ورسوم الترخيص، ورسوم وخدمات – إلى الولايات المتحدة 117 مليار دولار."(109)
لا نهاية يمكن بلوغها لهذا الاعتصار. فقد ارتفعت نسبة المستثمرين الأجانب من التداول في البورصة البرازيلية من 6.5 بالمئة في عام 1991 إلى 29.4 بالمئة في عام 1995،(110) كما ارتفعت نسبة الديون الجديدة للحكومة المكسيكية التي تستحق لغير مواطنيها من 8 بالمئة في نهاية عام 1990 إلى 55 بالمئة في نهاية عام 1993.(111)
في ظل هذه الأوضاع، وجد اضطراب الاقتصاد العالمي في أعقاب "العصر الذهبي" أقوى تعبير عنه في بلدان الجنوب العالمي. حتى تلك البلدان التي كانت تنمو نموا سريعا وتتلقى مديحا في وسائل الإعلام النيوليبرالية واجهتها فجأة مشاكل ديون مستعصية تقريبا، وأزمة آخذة في العمق، وتضخم يمكن أن يتسارع – كما حدث في المكسيك في أوائل تسعينيات القرن العشرين، وفي إندونيسيا في أواخر العقد نفسه، وفي الأرجنتين في بداية الألفية الجديدة. وكان مصير جمهرة الناس في بلاد تعتبر هامشية عند رأس المال العالمي، مثل معظم بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، هو تزايد الفقر، وتكرار المجاعات، وفي أغلب الأحوال تكرار معارك الصراعات الإثنية التي يتسع نطاقها إلى حروب أهلية يتم تمويلها غالبا من قبل الشركات الأجنبية المهتمة بالسيطرة على المواد الأولية. ربما لم تشهد هذه المناطق من العالم عصرا ذهبيا على الإطلاق، لكنها قطعا شهدت عصرا رصاصيا.
إعادة الهيكلة من خلال الأزمة
خلال الربع الأخير من القرن العشرين، كانت الرأسمالية العالمية تتسم مرة أخرى بكثير من الخصائص التي وصفها ماركس. فقد شهدت أزمات اقتصادية متكررة، وإعادة الهيكلة عبر أزمة رؤوس الأموال، الكبيرة والصغيرة، والمملوكة للقطاع الخاص والمملوكة للدولة.
النمو الاقتصادي الفعلي في البلدان الصناعية مقابل توقعات صندوق النقد الدولي(112)
   
وقد عانت جميع الاقتصادات الصناعية الكبرى على الأقل من ثلاث موجات من الركود الحقيقي، فيما عدا فرنسا وكندا اللتين عانتا من "ركود في معدلات النمو" واثنين من الركود الحقيقي، واليابان، التي أفلتت من الركود الحقيقي لما يقترب من 20 عاما بعد أزمة منتصف سبعينيات القرن العشرين فقط لتدخل في كساد تقريبا لمدة 13 عاما بعد عام 1992.
وفي بلدان الكتلة السوفييتية السابقة، تحولت الميول الركودية في أواخر ثمانينيات القرن العشرين إلى أزمات. ولكن سرعان ما ظهرت مسارات مختلفة. فقد عانى الاتحاد السوفييتي السابق (المشار إليه في الرسم التوضيحي التالي بكومونولث الدول المستقلةCIS ) انكماشا اقتصاديا هائلا، وبلغ ناتجه في عام 2000، حتى بعد عامين من الانتعاش، 70 بالمئة فقط من أرقام تسعينيات القرن العشرين. وكانت الصورة على نفس القدر من البؤس بالنسبة لرومانيا وبلغاريا وألبانيا ومعظم يوغسلافيا السابقة. وعلى النقيض، انكمشت اقتصادات وسط أوروبا (المشار إليها في الرسم بدول وسط وجنوب شرق أوروبا والبلطيق CSB) إلى ما يزيد قليلا عن 80 بالمئة من أرقام تسعينيات القرن العشرين ثم انتعشت لتبدأ في تجاوزها في عام 1998 – رغم أن هذا الرقم لم يكن أكبر من رقم عام 1980.(113)
 كل ذلك كان يعني معاناة مستمرة ومتكررة لأولئك الذين يعيشون في ظل النظام ويعملون لصالحه. غير أن القضية الكبرى بالنسبة للنظام نفسه هي ما إذا كانت إعادة الهيكلة التي تحدثها الأزمات سوف تفتتح فترة جديدة من التوسع أم لا. وهذه القضية هي ما يتناوله الجزء التالي من هذا الكتاب

ليست هناك تعليقات: