الثلاثاء، 28 سبتمبر 2021

رأسمالية الزومبي – كريس هارمان – الجزء الرابع (النظام المنفلت) - الفصل الثاني عشر: الحدود الجديدة لرأس المال – ترجمة رمضان متولي

 الجزء الرابع:

النظام المنفلت

 

الفصل الثاني عشر:

الحدود الجديدة لرأس المال

نظام يدمر نفسه

أصبحت الرأسمالية خلال القرن العشرين نظاما عالميا على نحو لم تكن عليه قبل ذلك. فلم تظهر أسواق عالمية وقطاع تمويل عالمي فحسب، وإنما نشأت كذلك صناعة رأسمالية وأنماط استهلاك رأسمالية في كل منطقة من مناطق العالم، وإن بصورة غير متكافئة. وبينما كان ذلك يحدث، تطور فيها اتجاه لم يلاحظه في طوره الجنيني إلا الأبعد نظرا من المفكرين في القرن التاسع عشر، ومن بينهم ماركس وإنجلز، حتى أصبح هذا الاتجاه بحلول نهاية القرن واضحا لكل من يهتم بالنظر. وهو اتجاه النظام إلى تقويض عملية التفاعل مع الطبيعة ذاتها التي يعتمد عليها مثل كل شكل آخر من أشكال المجتمع البشري.

كان أوضح تعبير عن ذلك والأكثر جذبا للانتباه هو الكيفية التي ترتفع بها درجة حرارة الكوكب بتأثير تراكم غازات معينة في الغلاف الجوي فتسبب تغيرا في المناخ.

كان للصناعة الرأسمالية ومنتجاتها دائما آثار مدمرة بيئيا. وقد عبر مراقبون من مختلف المشارب عن أسف وأسى إزاء تلوث المياه والهواء في المناطق الصناعية في بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر. فقد كتب تشارلز ديكينز في عام 1851 عن مدينته الخيالية (ولكن شديدة الواقعية) Coketown (أو مدينة الفحم – المترجم) "حيث كان يجري تدمير الطبيعة بنفس القوة التي كانت تشيد بها صروح الغازات والأجواء القاتلة."(1) ووصف إنجلز كيف "أن برادفورد تقع على جدول صغير ذي رائحة كريهة وقد كساه الفحم باللون الأسود. وخلال أيام الأسبوع تغطي المدينة سحب رمادية من دخان الفحم."(2) كانت أوبئة مثل الكوليرا والتيفويد تجتاج المدن؛ وكان مرض السل لعنة تعرفها جيدا معظم الأسر من الطبقة العاملة.

غير أن هذه الآثار البيئية المدمرة نتيجة التوسع الذاتي الأعمى لرأس المال كانت آثارا ذات طابع محلي. فكان يمكن الهروب من المدن المفعمة بضباب الأدخنة، والأنهار التي بلغت من التلوث أن الأسماك لا تستطيع البقاء فيها، وأكوام النفايات وبالوعات المجاري المفتوحة. كانت ضخامة حجم الإنتاج والتراكم الرأسمالي في القرن العشرين تعني كذلك دمارا بيئيا أعظم – مثل تحول أراض زراعية إلى قفار في بعض أجزاء الولايات المتحدة خلال عقد الثلاثينيات من القرن الماضي، وكارثة تسرب الغازات المريعة التي قتلت الآلاف في مدينة بوبال الهندية في عام 1984، وحوادث التسرب النووي في ثري مايل أيلاند في بنسلفانيا وفي تشيرنوبل في أوكرانيا، وتدمير حياة البشر ممن كانوا يعيشون حول بحر آرال الذين فقدوا ثلثي مواردهم من المياه لصالح زراعة القطن في الصحراء وترسب الأملاح في التربة، وانهيار المدن التي جرى بناؤها على خطوط صدع الزلازل. غير أن هذه الكوارث كانت محلية الطابع على الرغم من حجم الخسائر البشرية. وكان مؤيدو الرأسمالية – ومؤيدو رأسمالية الدولة التي كانت تسمى عادة "اشتراكية" – يستطيعون تجاهلها كحوادث عارضة. وكان معارضو الرأسمالية يستنكرون الفظائع الناجمة عنها، لكنهم لم يكونوا يعتبرون أن لها انعكاسا على النظام ككل.

ولم يحدث قبل انتهاء خمسينيات القرن العشرين أن اكتشف العلماء أول الدلائل على أن الغازات الناتجة عن نشاط الإنسان قد بدأت في خلق كارثة كونية بتسببها في ارتفاع متوسط درجات الحرارة – ولم يظهر دليل قطعي قبل أواخر الثمانينيات بشأن مدى الخطورة التي يتجه إليها هذا الوضع.(3)

النتائج العلمية معروفة بما يكفي لأن نقدم مجرد تلخيص لها هنا. فكما يعرف معظم الناس، أن أكثر هذه الغازات خطورة هو غاز ثاني أكسيد الكربون، الذي ينتج عن حرق مواد كربونية مثل النفط والفحم بهدف الحصول على الطاقة، رغم أن غازات أخرى مثل غاز الميثان وأكسيد النيتروز ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار. ويقاس تركيز هذه الغازات في الغلاف الجوي كأجزاء معادلة بالمليون وحدة من ثاني أكسيد الكربون. في عصور ما قبل الصناعة، كان هذا التركيز يبلغ 280 جزءا بالمليون؛ وحاليا يبلغ 385 جزءا تزداد بنحو 2.1 جزء بالمليون وحدة سنويا. وحتى الآن، كان هذا التغير كافيا لزيادة متوسط حرارة الكرة الأرضية بنحو 0.8 درجة سلزيوس، وإذا استمرت الانبعاثات عند معدلاتها الحالية سوف تزيد الحرارة أكثر بحوالي 0.2 درجة كل عشر سنوات، هذا إذا بقيت العوامل الأخرى على وضعها الحالي. غير أن ارتفاع درجات الحرارة ينتج عنه ميكانيزمات مختلفة كرد فعل قد تؤدي إلى زيادة وتيرة التغير – مثل ذوبان رؤوس جبال الجليد، وتسرب ثاني أكسيد الكربون في البحر أو غاز الميثان من السهول الجليدية في منطقة القطب الشمالي، وتصحر الغابات. لا يوجد اتفاق بين العلماء حول درجات الحرارة (أو "نقاط التحول") التي قد تتسبب في حدوث هذه الميكانيزمات، ولكن ما كان يحظى باتفاق واسع في عام 2007 أن بعضها قد يبدأ إذا ارتفعت الحرارة درجتين عن مستوى عصر ما قبل الصناعة – أو حوالي 1.2 درجة عن المستوى الحالي (وهذا لا يستبعد أن يبدأ حدوث بعض هذه الميكانيزمات قبل ذلك كما قال مثلا جيمس هانسون من علماء ناسا في أبريل 2008).(4)، ومن أجل تجنب بلوغ هذه النقطة لابد من الإبقاء على التركيز الكربوني منخفضا – وترى اللجنة الحكومية المشتركة حول التغير المناخي إبقاءه بين 445 و 490 جزءا بالمليون وحدة (ppm) غير أن مستوى 400 جزء فقط قد يدفع درجة الحرارة إلى الارتفاع حتى عتبة الدرجتين.(5)

على مدى العقدين الأخيرين، توصلت الحكومات إلى الاقتناع بأن ارتفاع حرارة الكوكب يمثل خطرا على كثير من البشر. فمثلا توصل تقرير ستيرن المقدم للحكومة البريطانية في عام 2006 إلى:

"أن كل بلدان العالم سوف تتأثر بتغير المناخ، غير أن أفقر البلدان سوف تعاني أكثر وأسبق من الأخرى. وقد يرتفع متوسط درجات الحرارة بمقدار 5 درجات مئوية عن مستويات ما قبل الصناعة إذا استمر التغير المناخي دون ضوابط. وسوف ينتج عن ارتفاع درجة الحرارة ثلاث أو أربع درجات مئوية غرق ملايين أخرى من البشر في الفيضانات. وربما يتسبب في نزوح 200 مليون من البشر نزوحا دائما بسبب ارتفاع مستوى مياه البحار، وزيادة قوة الفيضانات والجفاف. ويحتمل أن يتأثر إنتاج العالم من الغذاء تأثرا خطيرا أذا ارتفعت الحرارة 4 درجات مئوية أو أكثر. وقد يؤدي ارتفاعها بمقدار درجتين مئويتين إلى تعرض من 15% إلى 40% من الأنواع إلى خطر الانقراض.(6)"  

ومبكرا في عام 1992 في قمة الأرض بريو دي جانيرو، كان هناك اتفاق على ضرورة الشروع في مفاوضات على إجراءات لتخفيض الانبعاثات، كما أن مؤتمر كيوتو بعد ذلك بخمس سنوات نتج عنه اتفاق إطاري للتحرك. وبحلول عام 2007، حتى الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش تراجع وقبل مبدأ مواجهة ارتفاع حرارة الكوكب.

غير أن المهم أن هذا الاتفاق الكلامي لم يترجم إلى نوع من التحرك يحتمل أن يمنع بلوغ حد الواحد بالمئة ارتفاعا في الحرارة – أو حتى أرقاما أعلى. واستغرق الأمر أربع سنوات أخرى بعد كيوتو قبل أن يتوصل مؤتمر في لاهاي إلى اتفاق لتطبيقه. وجاء الاتفاق النهائي "ضعيفا، وغير ملزم ومليئا بثغرات السوق."(7) لم يقتصر الأمر على أن الولايات المتحدة واستراليا رفضتا التوقيع عليه. بل إن القوى الأوروبية، التي كان يفترض حرصها على الاتفاق، لم تلتزم بمستهدفاتها. ولم يحدث تخفيض للوتيرة التي واصلت بها غازات التغير المناخي زيادتها في الغلاف الجوي. فقد أعلن مشروع الكربون العالمي انبعاث رقم قياسي بلغ 7.9 مليار طن من الكربون في الغلاف الجوي في عام 2005، مقابل 6.8 مليار طن في عام 2000؛ وبلغ معدل الزيادة في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون خلال الفترة بين عامي 2000 و 2005 أكثر من 2.5 بالمئة سنويا – وكان في تسعينيات القرن العشرين واحد بالمئة سنويا.(8)

لقد جرى الاحتفاء باجتماع مجموعة الثمانية في روستوك في صيف عام 2007 كمناسبة سوف يعقبها تحرك أكثر حسما. غير أن قادة العالم، مصرحين بوجود مشكلة خطيرة، أجلوا حتى الشروع في أن يفعلوا شيئا في مواجهتها لمدة عامين. وكان كل ما اتفقوا على مناقشته في ذلك الوقت هو محاولة تخفيض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بمقدار النصف بحلول عام 2050، عندما يكون تخفيض الانبعاثات حتى بنسبة 80 بالمئة غير كاف لأن يضمن الحفاظ على ارتفاع حرارة الكوكب تحت درجتين مئويتين.(9)

واستمرت الحكومات التي أعلنت أن منع التغير المناخي على رأس أجندتها في أن تسلك كما لو أن التظاهر بأنها تفعل شيئا أكثر أهمية من الحقائق. فقد وصف توني بلير التغير المناخي "بأخطر قضية تواجه البشرية."(10) والتزمت حكومته بأن تستهدف رقما عالميا للتركز يبلغ 666 جزءا بالمليون من معادل ثاني أكسيد الكربون(وهو رقم يلائمها). مع أن تقرير ستيرن، الذي قامت هي بتكليفه، قدر أن تركيزا بمقدار 650 جزءا بالمليون يبلغ معه احتمال ارتفاع الحرارة بمقدار 3 درجات مئوية بين 60 إلى 95 بالمئة. كما أن تقريرا لوزارة البيئة صدر في عام 2003  كشف أن "مع استقرار تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي عند 550 جزءا بالمليون، ينتظر أن ترتفع معه مستويات الحرارة بمقدار يتراوح بين درجتين وخمس درجات مئوية."(11)

إن مشاهدة هذا السلوك يشبه قليلا مشاهدة تصوير بطيئ لحادث سيارة، سائقها يعرف أن كارثة في الطريق لكنه يواصل السير دون التفات.

 

  المنافسة والتراكم وتغير المناخ

ما تفسير هذا السلوك؟ الإجابة السهلة لدى جانب من حركة الدفاع عن البيئة هي "التمويه الأخضر" Greenwash أي أن الحكومات تتظاهر بالاهتمام بالموضوع فقط لأسباب تتعلق بكسب الشعبية. سيكون ذلك صحيحا بالنسبة لبعض السياسيين. ولكنه لا يفسر سلوك جميع اللاعبين الرئيسيين في النظام. وكثير منهم، وربما معظمهم، قد وصل إلى معرفة أن تغير المناخ سوف يلحق الدمار بالبيئة المادية والبيولوجية التي يعمل فيها النظام، وبالتالي بالنظام نفسه. إنهم يدركون الحاجة لأن يفعلوا شيئا، لكنهم يصبحون نصف مشلولين عندما يتعلق الأمر بالتنفيذ.

كما أن هذا الشلل لا يفسره مجرد الضغط الذي يمارس على السياسيين عن طريق حملات الضغط، والرشاوى وعمليات الابتزاز التي تقوم بها شركات كبيرة بعينها تخشى نقصا في أرباحها نتيجة أي تحول عن الإنتاج وعمليات النقل التي تعتمد على الكربون. فهذه الشركات غالبا رسخت رسوخا قويا ويمكنها، على سبيل المثال، تأجيل حتى الاعتراف بتغير المناخ بفعل حكومة الولايات المتحدة منذ سنوات عديدة. غير أنها تواجه بعض المعارضة من مصالح رأسمالية أخرى لديها مصلحة مالية حقيقية ومباشرة في محاولة تجنب التغير المناخي – شركات التأمين على سبيل المثال. إن ما ينبغي تفسيره هو عدم فاعلية هذه الضغوط المناهضة نسبيا.

هذه المشكلات تمتد إلى قلب النظام وفق بنيته الحالية. ذلك أن استخدام مستوى مرتفع للطاقة القائمة على الكربون يحتل مكانا محوريا في كل عملية من عمليات الإنتاج وإعادة الإنتاج تقريبا داخل النظام – ليس فقط بالنسبة للصناعة التحويلية، ولكن أيضا بالنسبة لإنتاج الغذاء وتوزيعه، وتدفئة وتشغيل المباني الإدارية أو المكتبية، ونقل قوة العمل من وإلى مواقع العمل، وإمدادها بما تحتاجه لتجديد نفسها وإعادة الإنتاج. إن القطع مع اقتصاد النفط والفحم يعني تحولا هائلا في هذه البنى، وإعادة تشكيل عميقة لقوى الإنتاج ولعلاقات الإنتاج المباشرة التي تنشأ عنها.

يجادل البعض بأن عملية إعادة الهيكلة هذه تحدث دائما في ظل الرأسمالية، وأن المسألة تتعلق فقط بمدى تشجيع الحكومات لها في اتجاه دون آخر. ويمثل هذا الرأي جوهر الحجة التي استخدمها كليف هاميلتون في دفاعه عن مدخل رأسمالية السوق في تقرير ستيرن خلال مساجلته مع جورج مونبيوت:

 "إن ستيرن واثق أن السوق سوف تجد وسيلة إلى تنفيذ عملية إعادة هيكلة اقتصاد الطاقة بمجرد إرسال إشارة قوية إليها. وهناك من الأسباب ما يبرر الاعتقاد بأن ستيرن على صواب. خلال خمسين عاما سوف يكون العالم مختلفا تماما: فإذا أرسلت تلك الإشارة القوية الآن سيكون لدينا أساس للتفاؤل. وبينما نملك حاليا التكنولوجيا اللازمة لتخفيض انبعاثات العالم تخفيضا كبيرا خلال عشرة أعوام أو عشرين عاما، فبحلول عام 2050 سوف تقدم لنا السوق، إذا وجهت توجيها ملائما، عددا من الإمكانيات لا يمكن أن نتنبأ بها."(12)  

ما تتجاهله هذه الأفكار أن الحكومات حتى لو طورت بعض آليات التسعير الفعالة كإشارة تشجع الاستثمار والإنتاج على أن يتجه وجهة معينة دون أخرى، فإن إشارتها يجب أن تنافس إشارات أخرى – أي تلك التي تأتي من ضغوط الحفاظ على الربحية من الاستثمارات الكثيفة القائمة في الطاقة الكربونية.

فقد تبدأ إحدى شركات النفط في إقامة فروع تهدف إلى إنتاج طاقة خالية من الكربون أو ينخفض فيها المحتوى الكربوني. لكنها أيضا ستسعى لأن تجد استخداما مربحا لاستثماراتها الكثيفة القائمة في وسائل إنتاج الطاقة كثيفة الكربون (مثل خطوط الأنابيب، ومصافي النفط، ومعدات التكسير والحفر). نفس الشيء ينطبق على شركات الصناعة التحويلية والنقل والمواصلات. فسوف تتمسك في النهاية بمبانيها ومعداتها الحالية كثيفة استهلاك الطاقة حتى تحصل منها على عائد يتجاوز تكلفة استثمارها فيها – وسوف تستثمر أكثر في مشروعات مماثلة، إلا إذا كانت الإشارات العكسية التي تقدمها الحكومات إشارات بالغة القوة.

إن سلوك المستهلكين كذلك لا يمكن تغييره بمجرد التلويح بعصا الأسعار. والإشارات السعرية وحدها لن تعالج مشكلة نسبة العشرة بالمئة من ثاني أكسيد الكربون التي تنتج عن الانتقال بالسيارات، أو نسبة الثمانية عشرة بالمئة الناتجة عن تدفئة وإضاءة المباني(13) – ربما إلا إذا ارتفعت درجات الحرارة كثيرا فوق مستوى الدرجتين. فالناس يتمسكون بمنازلهم الحالية المنعزلة بصورة سيئة وبأنماط السكن والعمل التي تجعلهم يعتمدون على الانتقال بالسيارة، إلا إذا قدمت الحكومات أكثر من "الإشارات".

لهذه الحجة المتعلقة بقدرة الرأسمالية على إعادة تشكيل نفسها طبعة أكثر قوة من تلك التي طرحها هاميلتون. ومضمونها أن إعادة هيكلة الصناعة كاملة لمواجهة مشكلة تغير المناخ ستكون مفيدة للرأسمالية لأنها ستخلق "فرصا للاستثمار". غير أن المشكلة الاقتصادية عند رأسمالية القرن الحادي والعشرين ليست نقصا في المجالات المتاحة للاستثمار.  وإنما أن هذه الفرص الاستثمارية ليست مربحة بما يكفي.

إن النظام حاليا، كما رأينا في فصول سابقة من هذا الكتاب، تهيمن عليه شركات عملاقة، تتخذ مقراتها في دول معينة ولكنها تعمل في العديد من الدول وأحيانا في النظام ككل. كل شركة من هذه الشركات محاصرة بين حاجتها إلى القيام باستثمارات كبيرة وعالية التكلفة حتى تحافظ على قدرتها التنافسية وبين شكوك بشأن ربحية هذه الاستثمارات. إن الاستثمار في أشكال جديدة من الطاقة أو في منتجات ومعدات أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة لن يتغلب على هذا التناقض. بل إن ذلك قد يزيد من حدته بالنسبة لكثير من الشركات وربما لأغلبها. ويمكن أن نطمئن إلى أنها سوف تمارس ضغوطا على الدول – وتهدد بنقل مقارها عند الضرورة للحد من الإشارات السعرية التي تصطدم  مع ربحيتها. والحكومات نفسها، لارتباطها بالتراكم القائم على مستوى قومي، سوف تقاوم أي شيء يؤثر على تنافسيتها القومية وتسير بقدر كبير في نفس الاتجاه مع المطالب التي تريدها الشركات. وهذا هو السبب في كون "الإشارات" ضعيفة جدا، وهو أيضا ما يفسر لماذا ينتهي الأمر بمن يعتمدون على التأثير على الحكومات مثل ستيرن إلى تخفيف الأرقام المستهدفة حتى يجعلوها تبدو "واقعية".

وكما يقول جورج مونبيوت "إن السير نيكولاس ستيرن يشرح النتائج الفظيعة لارتفاع مستوى الحرارة درجتين شرحا تفصيليا" لكنه "يوصي بعد ذلك برقم مستهدف لتركيز غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي يبلغ 550 جزءا بالمليون" الذي سوف يترتب عليه "احتمال بنسبة 77 بالمئة على الأقل – ربما يزيد إلى 99 بالمئة وفقا لنموذج قياس المناخ المستخدم – أن يرتفع متوسط درجة حرارة الكوكب بما يتجاوز درجتين مئويتين" و "احتمال بنسبة 24 بالمئة أن يرتفع بما يتجاوز 4 درجات مئوية."(14)  

لم يكن ستيرن راغبا في أن ينصح بتخفيض الانبعاثات على نفس المستوى الذي تتطلبه حساباته ذاتها لأن "السبل التي تتطلب خفضا سريعا جدا للانبعاثات" من "غير المحتمل أن تكون ممكنة من الناحية الاقتصادية" كما هو الحال مع أي رقم مستهدف يقل عن 550 جزءا بالمليون.(15)

قدمت حملة أوباما الانتخابية في عام 2008 وعودا كثيرة بشأن مواجهة مشكلة تغير المناخ. وكثير من الاقتصاديين من التيار السائد زعموا أن ركود الاقتصاد نفسه يتيح فرصة للقيام بذلك باستخدام برامج التحفيز المالي. ولكن عندما أعلنت هذه البرامج، كانت الصورة مختلفة:

"احتفت الحكومات وروجت لما طرحته من برامج تخفيض الضرائب والائتمان الضريبي وزيادة الإنفاق  على أساس مزاياها من الناحية البيئية، غير أن نظرة أكثر تمحيصا تكشف أن حجم الإنفاق البيئي لا يشكل إلا جزءا صغيرا من هذه المبادرات الأكبر. في الواقع، يعتقد الخبراء إن جزءا كبيرا من هذا الإنفاق سوف يتجه إلى مشروعات تؤدي إلى زيادة الانبعاثات، مثل إنشاء طرق جديدة ومحطات كهرباء تستخدم الوقود الحفري، بينما الأموال التي سوف تخصص للمشروعات منخفضة الكربون أقل كثيرا من أن تصنع فرقا حقيقيا. فمثلا، يريد رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما تخصيص 27 مليار دولار (تعادل 21 مليار يورو، أو 19 مليار جنيه استرليني) للإنفاق على إنشاء طرق جديدة، ما سيؤدي إلى زيادة الانبعاثات من حركة المرور. ورغم أن أموالا سوف تنفق على إنتاج سيارات منخفضة في انبعاث الكربون مثل السيارات الكهربائية والهيدروجينية، فإن الفائدة التي ستعود منها سوف تتجاوزها كمية الانبعاثات التي ستنتج عن زيادة السيارات التي تتحرك بالبنزين."(16)

تود ستيرن، مفوض الرئيس الأمريكي الجديد في محادثات المناخ، زعم أن الولايات المتحدة "لا يمكنها" أن تستهدف تخفيض (الانبعاثات) بنسبة تتراوح بين 25 بالمئة إلى 40 بالمئة بحلول عام 2020، رغم حسابات اللجنة الحكومية حول التغير المناخي (IPCC) بأن "الدول المتقدمة ينبغي أن تستهدف تخفيضا بنسبة بين 25 إلى 40 بالمئة بحلول ذلك التاريخ حتى نتجنب تغيرا خطيرا في المناخ."(17)

وفي بريطانيا، كانت "الشركات الخضراء" في "تراجع، مع موجة من الاستغناء عن العاملين وتخفيض الإنتاج" و "كانت شركات سيمنز وكليبر ويندباور بل حتى بريتش بتروليم من بين الأسماء الكبرى ... تقوم بذلك كرد فعل أمام تباطؤ قطاع الطاقة النظيفة." وكانت "أزمة الائتمان" "تحرم مشروعات طاقة الرياح والطاقة الشمسية من سيولة نقدية تحتاجها بشدة" وكان الموقف "يزداد تفاقما مع انهيار الأسعار في سوق تداول الكربون إلى مستويات انخفاض قياسية."(18)

        لاشيء مما ذكرنا يعني أن "إشارات" الحكومات لا تأثير لها على الإطلاق. بل إنها تشجع مجالات جديدة للاستثمار في أمور مثل طاقة الرياح والطاقة الفوتوكهربية (لكنها تشجع كذلك الاستثمار في الطاقة المستهلكة للوقود الحيوي). فرؤوس أموال جديدة – أو رؤوس أموال قديمة مبتكرة – تظهر باستمرار وتتنافس على مزيد من المساحات والموارد من أجل منتجاتها. ويحتمل أن تقل وتيرة الزيادة في الانبعاثات الكربونية عما كان سيحدث لولاها، رغم أنها قد لا تنخفض في المدى القصير. غير أن المراوغة سوف تستمر مع إعلان الحكومات والشركات الصناعية عن التزامها بمقاومة التغير المناخي تارة، وإصرارها على استخراج أقصى قدر من النفط والفحم من الأرض تارة أخرى.

 

ما يحتاجه رأس المال وما تحتاجه رؤوس الأموال:

إن توسع رؤوس الأموال في سياق المنافسة مع بعضها البعض – أو كما يقول ماركس، التوسع الذاتي لرأس المال – يدفعها إلى النهم والعربدة في استهلاك الطاقة الكربونية رغم إدراكها بأن ذلك يعد تدميرا للذات.

إن ظاهرة إضرار الرأسمالية نفسها بأساسها البيئي ليست ظاهرة جديدة تماما، حتى لو لم يكن إضرارها قبل ذلك على نفس خطورة ما يحدث اليوم. ففي أوائل القرن التاسع عشر، أدى التراكم التنافسي في بريطانيا إلى عدم الالتفاف إلى الصحة البدنية، أو حتى البقاء المادي، للعمال الذين يعملون لديها. وهو تجاهل كان من شأنه حتما أن يلحق الضرر بالرأسمالية الصناعية اليافعة آنذاك وكذلك بالطبقة العاملة، ذلك أنه بلغ حد التهديد باستنزاف المعروض من قوة العمل المناسبة والصالحة للاستغلال.

وقد أجمل ماركس ما كان يحدث آنئذ قائلا:

"إن نمط الإنتاج الرأسمالي (من حيث جوهره كإنتاج للقيمة الزائدة، أو الاستحواذ على العمل الزائد) لذلك، وعبر إطالة يوم العمل، لا يؤدي إلى تدهور قوة العمل البشرية بسبب حرمانها من الظروف الطبيعية لتطورها وأدائها من الناحيتين المعنوية والجسدية فحسب، بل إنه  كذلك يؤدي إلى استنزاف قوة العمل ذاتها وموتها قبل الأوان. فهو يطيل الزمن الذي يمضيه العامل في الإنتاج خلال فترة محددة عبر تقصير مدة حياته الفعلية."

غير أن الرأسمالية، وهي تفعل ذلك، تقلص "عمر قوة العمل" عند العامل الفرد، ما ينشأ عنه ضرورة استبدالها بوتيرة أسرع، وهكذا:

"يصبح إجمالي النفقات الضرورية لإعادة إنتاج قوة العمل أكبر؛ كما هو الأمر في الآلة، يصبح الجزء الذي يتطلب إعادة إنتاجه من قيمتها يوميا أكبر كلما زادت سرعة إهلاك الآلة. ولذلك يبدو أن مصلحة رأس المال نفسه تشير في اتجاه يوم العمل الطبيعي"(19)  

هل معنى ذلك أن الرأسماليين سارعوا إلى الانخراط في حملة من أجل تخفيض ساعات العمل وتوفير ظروف أكثر إنسانية في المصانع وفي أحياء الطبقة العاملة؟ قليل منهم، ممن يمتلكون بعد نظر حول حاجات رأس المال ككل في الأجل الطويل، فعلوا ذلك. غير أن معظمهم انخرط في حملات ضد فرض أي ضوابط على ساعات العمل، حتى بالنسبة للأطفال الذي سوف يصبحون ذات يوم قوة عمل بالغة وأكثر إنتاجية.

مرة أخرى، أجمل ماركس المنطق الرأسمالي في واقعه العملي:

"في كل لعبة من ألعاب المضاربة، يعرف الجميع أن الكارثة آتية لا محالة، ولكن كلا منهم يأمل أن تقع على رأس جاره بعد أن يكون هو قد جمع الذهب وأخفاه في حرز أمين، إن شعار كل رأسمالي وكل أمة رأسمالية ’أنا ومن بعدي الطوفان‘ . ولهذا فرأس المال لا يعبأ بصحة العامل أو طول حياته إن لم يرغم على ذلك من قبل المجتمع. فإذا ارتفع الصوت منذرا شاكيا من الانهيار الجثماني والعقلي والموت المبكر والعذاب الناشئ عن الإرهاق في العمل، كان الرد: أينبغي أن نهتم بذلك ما دامت تزيد أرباحنا؟"(20)

لقد احتاج الأمر إلى ضغوط على رأس المال من خارجه، عبر تشريعات تسنها الدولة – وتأتي جزئيا كاستجابة لثورة العمال – من أجل حماية عملية إعادة إنتاج قوة العمل من التخريب الذي يلحقه بها أولئك الذين يستغلونها. ومر نحو ثمانون عاما قبل أن يطبق ما يقترب من الحماية الملائمة لتلك العملية – وكما رأينا في الفصل الخامس، احتاج الأمر إلى مواجهة صعوبات في التجنيد للخدمة العسكرية حتى تشعر الدولة بالضرر الذي ألحقه رأس المال بذخيرة مدافعها بسبب عدم التفاته إلى موارد قوة العمل.

إن نفس المنطق الذي وصفه ماركس تماما نجده في موقف رأس المال من ضخ وإفراز غازات التغير المناخي في وقتنا الحاضر. يلقي السياسيون الرأسماليون كلمات وتصريحات جميلة حول ضرورة أن نفعل شيئا، ويشكلون اللجان وينظمون اللقاءات بين الحكومات، ويعدون بتغيير سلوكياتهم، وبعد ذلك يرضخون وينحنون أمام المصالح التي تقول إن تكلفة هذا الإجراء أو ذاك في معالجة تغير المناخ سوف تبلغ من الارتفاع ما لا يتحمله الاقتصاد.

غير أن فرقا كبيرا هنا بين الميل إلى تدمير مصدر قوة العمل في القرن التاسع عشر وبين إفساد وتخريب مناخ الكرة الأرضية اليوم. كان تدمير قوة العمل يحدث داخل المناطق الصناعية لبلد واحد، وكان بالإمكان معالجته عبر استيراد العمال من المناطق الريفية ومن إيرلندا. كما استطاعت الدولة القومية في النهاية أن تتدخل من أجل ضبط سلوك فرادى الرأسماليين لأجل مصلحة رأس المال ككل.

ليس لدينا دولة عالمية تملك القدرة على فرض إرادتها على كل الشركات الرأسمالية والدول القومية التي يتكون منها النظام حاليا. وكل منها تخشى إذا اتخذت الإجراءات الحاسمة في تأثيرها والضرورية لتخفيض انبعاثات الغاز تخفيضا كبيرا أن تنتهز شركات ودول أخرى هذه الفرصة فتغزو أسواقها. وهكذا تصبح مشكلة تغير المناخ مرتبطة ارتباطا لا ينفصم بالصراعات الأخرى داخل النظام العالمي – أي الصراعات بين مختلف المصالح الرأسمالية القائمة على المستوى القومي، وبين الدول القومية، وبين الطبقات.

سوف تبذل محاولات أكثر للوصول إلى اتفاقيات دولية مستقبلا، وربما بصرامة أكثر قليلا مما سبق. فمن الصعب أن يحدث خلاف ذلك بينما عدد متزايد من رؤوس الأموال التي تكون النظام يبدأ في تجربة آلام تغير المناخ. لكن هذه الاتفاقيات سوف يتخللها دائما ثغرات ونقاط ضعف لأن مختلف الدول سوف تدخلها ولديها مصالح في المدى القصير والمتوسط تتباين تباينا ملحوظا.

إن البنى الوطنية التي يحدث فيها التراكم تعتمد على الطاقة الكربونية بدرجات تختلف اختلافا شديدا. فقد كانت الولايات المتحدة تتمتع بالاكتفاء الذاتي من النفط حتى أوائل سبعينيات القرن الماضي، ولذلك أصبحت بنية التراكم والاستهلاك لديها تعتمد اعتمادا كبيرا على النفط، وترتب على ذلك أن معدل الانبعاثات الكربونية عندها اليوم بلغ  20.2 طن للفرد؛ أما دول غرب أوروبا الرئيسية فقد كانت تفتقد إلى الموارد النفطية محليا، ولذا طورت بنية للتراكم والاستهلاك مختلفة نوعا ما (فمثلا تبلغ تكلفة البنزين بها نحو ثلاثة أضعاف تكلفته في الولايات المتحدة)، ولذلك يبلغ معدل الانبعاثات الكربونية عندها 8.8 طن فقط للفرد؛ ويعتمد التصنيع والنمو الحضري السريع في الصين على استهلاك كميات هائلة من الفحم، كما يقترب إجمالي الانبعاثات عندها من أرقامه عند الولايات المتحدة، وذلك رغم أن معدل الانبعاثات بالنسبة للفرد عندها كان في عام 2004 يزيد قليلا فقط عن سدس معدل الولايات المتحدة ويبلغ نحو 40 بالمئة من أرقام غرب أوروبا.(21)  

وتعني هذه التباينات الكبيرة أن أي إجراءات من شأنها تخفيض الانبعاثات تخفيضا جديا سوف يختلف تأثيرها كثيرا على الشركات التي تعمل في بلدان مختلفة. وهذا ما يفسر لماذا كان الاتحاد الأوروبي يبدو أكثر تمسكا من الولايات المتحدة باتخاذ إجراء ضد التغير المناخي في بداية العقد الأول من الألفية الجديدة: فقد كان ينتظر أن تحقق الدول القومية المكونة له مكاسب من أي إجراءات، كانت ستؤثر سلبا على الصناعات القائمة بالولايات المتحدة أكثر نسبيا مما ستؤثر على صناعات دول الاتحاد. إن رقم الانبعاثات في الولايات المتحدة يحظى بأهمية كبيرة. ولا يمكن "لمؤسسات دولية" تشكل للسيطرة على النظام العالمي أن تكون فعالة إلا بقدر ما تتوافق برامجها مع مصالح رؤوس الأموال القائمة بالولايات المتحدة، بما لديها من قوة عسكرية هائلة ونفوذ مالي كبير. ربما تمتلك قوى إقليمية مثل روسيا والصين والهند أو أوروبا الغربية أحيانا القدرة على منع تمرير قواعد تكون في مصلحة الولايات المتحدة، ولكنها لا تستطيع استبدالها بقواعد أخرى تخدم مصالحها هي. وهذا الأمر ينطبق على تنظيم انبعاثات الكربون بقدر ما ينطبق كذلك على تنظيم التمويل عبر صندوق النقد الدولي أو تنظيم التجارة عبر منظمة التجارة العالمية. إن اعتراف أولئك الذين يديرون مختلف مكونات النظام العالمي بأخطار تغير المناخ سوف يترجم عمليا إلى مفاوضات دولية حامية تخضع فيها كل دولة كبيرة عملية مواجهة تغير المناخ للمصالح التنافسية لرؤوس الأموال التي تعمل داخلها. ولذلك سوف يستمر تنظيم انبعاثات الغاز بطيئا وبلا فاعلية وقاصرا عن وقف ما ينتج عن غازات الكربون من اضطرابات، ليس فقط في المناخ، وإنما كذلك في النظام.  

إن بعض الآثار المباشرة قصيرة الأجل لعملية التغير المناخي قد ظهرت حولنا فعلا. أكثرها وضوحا للعيان تلك التي تنشأ مباشرة عن ارتفاع درجات الحرارة: مثال ذلك الدلائل على تقلص أحجام الكتل الجليدية، أو أن عددا كبيرا من أنواع الطيور في بريطانيا أصبحت تضع بيضها مبكرا بنحو أسبوع عما كانت في خمسينيات القرن العشرين.(22) بعض النتائج الأكثر أهمية لن تظهر ظهورا مباشرا على هذا النحو، حيث تشير النماذج التي أعدت لمراقبة التغير المناخي إلى أن ارتفاع درجة حرارة الكوكب ينتج عنه تحولات في تيارات مياه المحيطات، وفي كمية بخار الماء في الغلاف الجوي، وفي الضغط الجوي، ما يؤدي بدوره إلى تغيرات غير متوقعة في أنماط الطقس يصاحبها، مثلا، زيادة العواصف عددا وقوة من ناحية، وزيادة ظواهر الجفاف من ناحية أخرى. وبينما لا نستطيع أن نستنبط من ذلك أن كل تغير قصير الأجل في حالة الطقس ناتج مباشرة عن عملية التغير المناخي، تتراكم الدلائل على أن الأعاصير وموجات الجفاف تزداد وتيرتها. ولو بدأت آليات الارتداد الخاصة بارتفاع حرارة الكوكب وانطلقت، فإن هذه الكوارث محلية الطابع سوف تصبح أكثر تكرارا. ومعها مزيد من فساد المحاصيل، وغرق دلتا الأنهار والأراضي المنخفضة بالفيضانات ومزيد من فيضانات الأنهار، مع تصحر الأراضي التي كانت تمتاز بالخصوبة وتحولات في أنماط الزراعة.

 

الذروة النفطية 

إن واحدا من القيود الإيكولوجية التي تواجه الرأسمالية أن خام البترول ، وهو للمفارقة المصدر الرئيسي للغازات الكربونية في وقتنا الحاضر، ربما يتجه إلى النفاد. إن مفهوم "الذروة النفطية" أصبح الآن يؤخذ بمزيد من الجدية – بمعنى أننا ربما أوشكنا على بلوغ نقطة لا يمكن عندها زيادة إنتاج النفط حتى يواكب زيادة الطلب.

احتلت هذه المشكلة مكانا بارزا منذ عام 1998، عندما ظهر مقال على صفحات مجلة "ساينتيفيك أميركان" توقع أن يبلغ إنتاج النفط ذروته خلال عشرة أعوام. منذ ذلك التاريخ انطلقت موجات التفنيد والتفنيد المضاد، مع مختلف الاقتصاديين والجيولوجيين الذين يطرحون سيناريوهات متباينة لما يحدث بالنسبة لاحتياطيات النفط والإنتاج المحتمل منه.(23) وتعكس هذه الأفكار إلى حد كبير تأثير المصالح المختلفة. فشركات النفط العملاقة تميل إلى المبالغة في أحجام معروض النفط في الأجل الطويل لأن أسعار أسهمها تعتمد على ذلك. ثم تتعرض أرقامها للمساءلة والشك من قبل أولئك الذين يساورهم القلق حول الاحتياجات المستقبلية للطاقة في الأجل الطويل عند الرأسماليات الوطنية وكذلك من قبل نقاد النظام الذين يميلون إلى الإثارة بوجه عام. وهناك صعوبات كبيرة في التوصل إلى استنتاج دقيق بشأن حقيقة الوضع لأن الدول الأكثر إنتاجا للنفط تخفي الحجم الحقيقي لاحتياطياتها عند المفاوضات فيما بينها داخل منظمة أوبك ومع شركات البترول. وكما يوضح أحد التقارير النقدية:

"إن واحدا من ا|لأسئلة الكبيرة التي لا تزال تنتظر إجابة هو وضع إنتاج النفط في المملكة العربية السعودية. والأغلب أن هذه المسألة هي التي ستحدد توقيت الذروة النفطية للعالم … بسبب السرية التي تحيط بعملية إنتاج النفط في المملكة."(24)

غير أننا يمكن أن نستخلص نتيجتين مؤكدتين من خلال هذا الجدل. إن الذروة النفطية قد تحدث خلال 25 عاما قادمة، وقد نبلغها خلال أعوام لا عقود، ما يضطر العالم إلى الاعتماد على مصادر أخرى للطاقة. فالوكالة الدولية للطاقة، وهي المنظمة المسئولة عن الطاقة لدى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وظلت لفترة طويلة تقاوم فكرة الذروة النفطية، أصبحت الآن تقبل توقع حدوث "أزمة نفطية وشيكة خلال أعوام قليلة."(25) كما توصلت إدارة معلومات الطاقة، التابعة لوزارة الطاقة بالولايات المتحدة، في يوليو من عام 2000 إلى نتيجة مفادها: "أن إنتاج العالم من النفط التقليدي قد يزيد على مدى عقدين أو أكثر قبل أن يبدأ في الانخفاض." لكن جون بيلامي فوستر يوضح أن :"هذا التحليل نفسه ... يشير رغم ذلك إلى أننا ربما نبلغ ذورة العالم النفطية قريبا بحلول عام 2021."(26)

وبصرف النظر عن مجموعة الأرقام التي توافق عليها، فمن الناحية الفعلية يقترب هذا التوسع الأعمى لرأس المال من استنزاف إمدادات أهم مادة خام بالنسبة له، وهي مادة تقوم عليها تقريبا كل عمليات الإنتاج والاستهلاك لديه. ورغم ذلك، ليست الذروة النفطية علامة على اختفاء النفط فورا: بل سوف يستمر النفظ متاحا على مدى عقود كثيرة، لكن تكلفة الحصول عليه سوف ترتفع، كما أن الصراعات التي تدور حول الحصول عليه من عدمه سوف تشتد احتداما.

وبصرف النظر عن موعد بلوغ الذروة النفطية، فإن الدول يساورها القلق حاليا بشأن مستقبل "أمن الطاقة". ولذلك ظهرت تقارير متتالية في الولايات المتحدة تعبر عن هذه المخاوف، وتعود مباشرة إلى تقرير سيئ السمعة بعنوان السياسة القومية للطاقة صدر في مايو من عام 2001، وأعدته مجموعة عمل كان يرأسها ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي آنذاك. لم يذكر التقرير مصطلح الذروة النفطية، لكنه شدد على القلق بشأن ضمان إمدادات النفط للولايات المتحدة وحث على : "وضع مسألة أمن الطاقة موضع الأولوية في سياستنا التجارية والخارجية."(27) كما أن تقريرا صدر في فبراير من عام 2007 عن جهاز المحاسبة الحكومي قال إن جميع الدراسات تقريبا كشفت عن احتمال بلوغ الذروة النفطية قبل عام 2040 وأن الهيئات الفيدرالية بالولايات المتحدة لم تبدأ حتى الآن معالجة مسألة الاستعداد الوطني الضروري لمواجهة هذه الأزمة الوشيكة."(28)  

إن مصطلح "أمن الطاقة"، مثل مصطلح "الدفاع"، يتضمن معنى مزدوجا عندما تستخدمه الحكومات. فقد يعني حماية مدخلات الطاقة اللازمة للاستخدام المنزلي والاستخدام الصناعي. لكنه قد يعني كذلك تفعيل سياسات تسمح بزيادة ممارسة الضغوط على الدول الأخرى. لذلك، مثلا، فإن السيطرة على تدفقات النفط من الشرق الأوسط، والتي كانت واحدة من أهداف غزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003، تتعلق بمساعي السيطرة على إمدادات النفط التي تعتمد عليها دول إقليمية يحتمل أن تتحدى هيمنة الولايات المتحدة أكثر مما تتعلق بتأمين إمداداتها الخاصة. إن الولايات المتحدة لا تعتمد في توفير احتياجاتها من النفط على منطقة الشرق الأوسط إلا بمقدار ثمن تلك الاحتياجات (ذلك مقابل ثلاثة أثمان الاحتياجات النفطية تحصل عليها من كندا والمكسيك وفنزويلا). وليست مصادفة أن الولايات المتحدة تحرص على امتلاك قواعد لها أو وجود حلفاء تستطيع الاعتماد عليهم عند كل نقطة رئيسية على مسارات وخطوط أنابيب النفط العالمية – ومن هنا، مثلا، يأتي ردها العنيف إزاء ترسخ النفوذ الروسي خلال الحرب بين جورجيا وأوسيتيا الجنوبية في أغسطس 2008. إن عالما يقترب من "الذروة النفطية" هو بالضرورة عالم يشتد فيه الصدام بين الدول وداخلها، تماما مثل عالم التغير المناخي.  

إن تفاعلا وتأثيرا متبادلا يحدث حتما بين هذين الخطرين. قد يبدو للبعض أن الذروة النفطية، وما ينجم عنها من ارتفاع أسعار النفط، سوف تكون عاملا في مواجهة تغير المناخ. وقد يكون ثمة ضغط هبوطي محدود في استهلاك النفط – كما حدث مثلا في حالة استهلاك البنزين عندما قفزت أسعار النفط في منتصف عام 2008.(29) غير أن الاتجاهين لا يلغيان أثر بعضهما الآخر تلقائيا. حيث تواكب خطر "الذروة النفطية" مع مستوى من استهلاك النفط بنفس قدر الاستهلاك الحالي على مدى سنوات عديدة، مع تراكم غازات الكربون بمعدل مماثل. وفي نفس الوقت، تؤدي المخاوف المتعلقة بأمن الطاقة إلى تكثيف عمليات البحث عن المزيد من النفط، وإلى التوسع في استخدام المصدر الآخر لغاز الكربون، وهو الفحم، واستخدام الذرة أو الزيوت النباتية في إنتاج الإيثانول والوقود الحيوي لتوفير الوقود لعمليات النقل والتي يمكن أن تزيد من انبعاثات غاز الكربون عالميا.(30)

 

الغذاء والرأسمالية

لفتت الأعوام بين 2006 و2008 إلى أن الرأسمالية تبني عائقا إيكولوجيا آخرا في طريقها – هو عدم قدرتها على إنتاج ما يكفي من غذاء لإطعام من يعيشون في ظلها. وقد أثار ارتفاع أسعار الغذاء أسئلة حول ما إذا كانت الرأسمالية قد بدأت في استنزاف قدرتها على مواصلة زيادة الإنتاج، بينما كان معلقون يشيرون إلى التدهور السريع في معدل نمو الإنتاج العالمي من الغذاء.(31)

لم تكن تلك هي المرة الأولى التي أثيرت فيها هذه المخاوف. ففي السنوات الأولى لنشأة الرأسمالية الصناعية، كان مالتوس يرى أن رفع مستوى معيشة جمهرة السكان أمر عبثي لأن ذلك سوف يدفعهم إلى إنجاب الأطفال بوتيرة أسرع من معدل زيادة إنتاج الغذاء لإطعامهم. وقد رفض ماركس وإنجلز ذلك الرأي القائل بوجود عائق طبيعي أمام تحقيق رفاهية البشر باعتباره تبريرا لعملية الاستغلال من قبل أحد المدافعين عن النظام. لكنهما، كما رأينا في الفصل الثالث، كانا يعتقدان أن الرأسمالية نفسها تصنع العراقيل أمام توفير الغذاء بمجرد تطورها وراء نقطة معينة. وذلك بسبب أن الزراعة الرأسمالية تفقد التربة العناصر الغذائية الضرورية لخصوبة الأرض بمعدل أسرع من معدل استبدالها بأخرى.(32)

لم يضع ماركس وإنجلز هذه المسألة في مركز تحليلهما للرأسمالية لسبب بسيط، هو أنهما أدركا أن النظام استطاع بحلول ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر تعويض استنزاف وتدمير الزراعة في الأراضي القديمة عبر إنتاج المواد الغذائية في أمريكا الشمالية مع فتح المجال أمام زراعة البراري. وأصبحت المسألة ذات أهمية هامشية عند معظم الماركسيين بعد موتهما بسبب استخدام الأسمدة المعدنية التي استطاعت تعويض فقدان التربة العناصر الغذائية الطبيعية. واستمر معدل إنتاج الغذاء عالميا أعلى من معدل نمو السكان حتى نهاية القرن العشرين. وقد حدثت مجاعات فظيعة مع معاناة مئات الملايين من البشر من سوء التغذية المزمن، لكن هذه المجاعات وتلك المعاناة لم تكن نتيجة نقص في الإنتاج وإنما نتيجة البؤس المرتبط بالنظام الطبقي. وتغلبت "الثورة الخضراء" على بوادر نقص شديد في الغذاء كان وشيكا في جنوب وشرق آسيا في ستينيات القرن العشرين عبر إنتاج أنواع جديدة من الحبوب تعتمد على استخدام كميات كبيرة من الأسمدة وزيادة معدلات الري. وتواكبت هذه التقنيات بطبيعة الحال مع انتشار مختلف أشكال الزراعة الرأسمالية لتحل مكان الفلاح الصغير الذي ينتج ما يكفي سد الاحتياجات.

كانت الزيادة في إنتاجية المحاصيل الغذائية حقيقة واقعة – ومن غباء بعض النقاد "العضويين" لأساليب الزراعة الحديثة أن يدعوا خلاف ذلك – مع نمو إنتاجية محصول القمح بمعدل تراوح بين 3 و 4 بالمئة سنويا خلال الفترة من منتصف ستينيات القرن العشرين حتى منتصف الثمانينيات، كما ارتفعت إنتاجية محصول الأرز بنسبة تراوحت بين 2 و 3 بالمئة. لكن معدلات الزيادة انخفضت على مدار العقدين الأخيرين حتى أصبحت بالكاد أعلى من معدل نمو السكان الذي يسير باتجاه الهبوط: "إن الإنتاج الذي تدره الثورة الخضراء بلغ مرحلة الثبات."(33) وأصبح استخدام كميات من الأسمدة تتزايد باستمرار ضروريا من أجل زيادة الإنتاج، كما أن توفير ما يكفي من المياه بات مشكلة متفاقمة، ويؤدي التركيز على عدد قليل من أنواع المحاصيل إلى زيادة المخاطر الناجمة عن أمراض النبات، بينما لا تزيد مساحة الأرض الزراعية المخصصة لإنتاج الغذاء عالميا. وكما أقر أحد تقارير التنمية الصادر عن البنك الدولي:

"إن كثيرا من البلدان التي تعتمد على الزراعة مازالت تحقق نموا زراعيا ضعيفا بالنسبة للفرد مع درجة ضئيلة من التحول الهيكلي...نفس الأوضاع تنطبق على مساحات شاسعة في كافة أنواع هذه البلدان. فالنمو السريع للسكان، وتقزم مساحة المزرعة، وتدهور خصوبة التربة والفرص الضائعة لتنويع مصادر الدخل والهجرة، تسبب المعاناة نتيجة استمرار ضعف القوى الزراعية اللازمة لتحقيق التنمية."(34)

ليست القضية أن بعد 200 عام تأكدت رؤية مالتوس بصورة ما، فالوسائل متوفرة لزيادة إنتاج الغذاء حتى يواكب عدد سكان العالم الذي ينتظر أن ينمو بنسبة 50 بالمئة أخرى قبل أن يبدأ في التراجع البطيء. بل إن المشكلة هي "بنية التراكم الزراعي" القائمة.(35) فمنذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، قامت حفنة من الشركات الزراعية الكبيرة، معظمها تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها، بهيكلة متزايدة للزراعة العالمية، وهي شركات تسيطر على الابتكار في القطاع الزراعي، وتقدم مدخلات الإنتاج (أنواع البذور المختلفة، والأسمدة والمبيدات والميكنة الزراعية) لكبار وصغار الفلاحين على مستوى العالم. ومن مصلحة هذه الشركات أن تحافظ على معايير واحدة لهذه المدخلات (حتى تحافظ على انخفاض تكاليف الإنتاج لديها) مع اهتمام طفيف بظروف الزراعة المحلية المحددة قدر الإمكان. وتتركز أبحاثها على "الابتكار الذي يؤدي إلى خفض التكاليف لا الابتكار الذي يؤدي إلى زيادة المحصول."(36) ومن نتائج ذلك أن وجهة الابتكار نادرا ما تكون إلى ما يلائم احتياجات صغار الفلاحين في العالم الذين يبلغ تعدادهم 400 مليون فلاح – إلا فيما يتعلق بالترويج للمحاصيل المعدلة وراثيا كحل سحري بصرف النظر عن آثارها الجانبية المحتملة على ظروف البيئة المحلية وعدم ملائمة ما جرى تطويره منها حتى الآن لظروف مناطق شاسعة في العالم. وفي نفس الوقت، قامت بعض البلدان النامية بتخفيض استثماراتها في الزراعة إلى نحو 4 بالمئة من إجمالي الناتج القومي مقارنة بحوالي 10 بالمئة خلال ثمانينيات القرن العشرين.(37) غير أنه، كما يقول رونالد تروستل من وحدة البحوث الاقتصادية بوزارة الزراعة الأمريكية: "كانت الأبحاث التي تمول بأموال عامة هي الأكثر ميلا إلى التركيز على الابتكارات التي قد تؤدي إلى زيادة المحاصيل والإنتاج، وتحديدا في تلك المناطق من العالم حيث لا يملك الفلاحون القدرة على دفع إتاوات وتكاليف الحصول على أنواع جديدة من البذور."(38)

ظهرت المخاطر التي تحيط بمعروض الغذاء العالمي ظهورا حادا في عام 2007-2008 عندما ارتفعت أسعار الحبوب عالميا لتهدد بتجويع مئات الملايين من البشر. وكثير من صغار الفلاحين الذين يشترون ويبيعون الغذاء لم يسلموا من أضرار ارتفاع أسعاره. وفجأة انضمت مخاطر "الأمن الغذائي" مع مخاطر "أمن الطاقة" إلى قائمة هموم الحكومات.  على المدى القصير، أدت قدرة الفلاحين في أوروبا وأمريكا الشمالية على زراعة أراض كانت غير مستغلة تحت برامج "التجنيب" إلى زيادة إمكانية سد الفجوة في معروض الغذاء العالمي، وقد انخفضت أسعار بعض الحبوب انخفاضا محدودا مع بداية عام 2009 – رغم أنها لم تتراجع إلى مستوى ما كانت عليه قبل عامين.

كانت هذه الأزمة نذيرا بخطر مستقبلي، بأن مئات الملايين من البشر سوف يتعرضون لمعاناة هائلة، أكثر منها كارثة عالمية تحققت في التو واللحظة.(39) فقد أشارت إحدى الدراسات إلى أن "الخطر الحقيقي" مازال قائما "وأن أزمة غذاء قد تحدث في أي وقت مستقبلا، سيكون تأثيرها عنيفا بشكل خاص على البلدان التي تعتمد على استيراده وعلى الفقراء في كل أنحاء العالم."(40) فهناك دلائل تشير إلى أن ارتفاع أسعار الغذاء في الأعوام 2006 حتى 2008 لم تكن مجرد نتيجة للمضاربة التي شهدتها المرحلة الأخيرة من رخاء منتصف العقد الأول من الألفية. وفي أوائل عام 2009، أوضح أحد التقارير كيف أن "أسعار الغذاء مؤهلة لأن ترتفع مرة أخرى" لأن "الاتجاهات نحو ندرة الموارد في الأجل الطويل، وخاصة التغير المناخي، ومخاطر أمن الطاقة وتراجع وفرة المياه" سوف تمارس ضغوطها على الأسعار والإنتاج.(41)

كشفت أزمة الغذاء في عام 2008 كيف يمكن لمختلف عناصر الأزمة الكامنة في الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين أن تتفاعل مع بعضها الآخر. فأزمة نقص الغذاء لم تنتج فقط عن نضوب مكاسب "الثورة الخضراء" باستهلاكها، بل كانت كذلك نتيجة للآثار المحتملة لتغير المناخ مع تدهور المحاصيل في استراليا نتيجة الجفاف وفي أوروبا نتيجة الفيضان؛ كما نتجت أيضا عن طريقة الرأسمالية المنحرفة إجمالا في مواجهة مشكلة تغير المناخ وأزمة أمن الطاقة عبر تخصيص ثلث محصول الذرة بالولايات المتحدة ونصف محاصيل إنتاج البذور الزيتية في أوروبا لإنتاج الوقود الحيوي؛(42) وعن ارتفاع أسعار النفط، الذي أدى إلى زيادة تكاليف الوقود والأسمدة التي تعتمد عليها الزراعة في القرن الحادي والعشرين؛ وعن حدة مرحلة الرخاء في الدورة الراسمالية في أوائل ومنتصف العقد الأول من الألفية التي أدت إلى زيادة هائلة في استهلاك الطبقة المتوسطة من اللحوم، وخاصة في الصين.

إن هذا النوع من تفاعل العوامل الاقتصادية والبيئية والسياسية هو ما ينبغي أن نتوقع تكراره مرة تلو أخرى في القرن الحادي والعشرين، بما ينتج عنه من أزمات سياسية واجتماعية متكررة وشديدة العمق تضع إطارا للخيار بين كارثة عالمية أو تغيير ثوري.   

ليست هناك تعليقات: