الثلاثاء، 31 أغسطس 2021

رأسمالية الزومبي – كريس هارمان – الفصل الحادي عشر: الأمولة والفقاقيع التي انفجرت – ترجمة رمضان متولي

 

الفصل الحادي عشر

الأمولة والفقاقيع التي انفجرت

أزمة الائتمان        

حالة من "التفاؤل المفعم بالبهجة والحماس"  كانت سائدة عندما اجتمعت نخبة رجال الأعمال في العالم في منتجع دافوس السويسري في يناير عام 2007 حتى "يستمتعوا" بما وصفته جريدة الفايننشال تايمز بـ"الفرص التي نشأت عن العولمة، والتكنولوجيا الجديدة، واقتصاد عالمي يتوسع بأسرع وتيرة منذ عقود."(1) في اجتماعهم التالي في يناير 2008، كانت الحالة مختلفة نوعا. كانت "إصرارا متجهما"(2) – متجهما لأن النظام المالي العالمي بدأ يتوقف مع "أزمة ائتمان"؛ وإصرارا لأن "الاقتصاد الحقيقي" كان يواصل النمو، وبدا أن تدخلا حكوميا ملائما قد يدفع البنوك إلى العودة للإقراض.

تدخلت الحكومات بإجراء في الشهور التالية. ففي يناير قامت البنوك المركزية بتخفيض أسعار الفائدة. وفي فبراير أممت الحكومة البريطانية بنك نورثرن روك للرهن العقاري؛ وفي مارس قدم الاحتياطي الفيدرالي للولايات المتحدة 30 مليار دولار لبنك جي بي مورجان تشيز حتى يستحوذ على بنك بير ستيرن الذي يعاني الإفلاس؛ وفي شهري أبريل ومايو قدمت البنوك المركزية على جانبي الأطلنطي مئات المليارات للبنوك حتى تواصل عملها، وفي يوليو قدمت مئات من المليارات الأخرى؛ وفي بداية سبتمبر قامت حكومة الولايات المتحدة بالاستحواذ على شركتي فاني ماي وفريدي ماك العملاقتين في تقديم قروض الرهن العقاري في خطوة وصفها المستشار الحكومي السابق نوريال روبيني بأنها "أكبر عملية تأميم عرفتها البشرية".(3)

كل ذلك كان بلاجدوى. كان إنهيار أحد أعمدة النظام المالي للولايات المتحدة، بنك الاستثمار ليهمان براذرز، في 15 سبتمبر سببا فيما وصف على وجه العموم بأنه "تسونامي مالي". بنك بعد آخر في بلد بعد آخر اقترب من الانهيار ووجب إنقاذه من خلال برامج الإنقاذ الحكومية التي تكلف مئات أخرى من المليارات وغالبا ما تضمنت تأميما جزئيا. وقد أصبحت أزمة الائتمان أخطر أزمة مالية عرفها النظام العالمي منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين. وبحلول نهاية العام كان واضحا للجميع أن الأزمة كانت أكثر من مجرد أزمة مالية. ففي جميع الاقتصادات الكبيرة كان عشرات الآلاف من العمال يفقدون وظائفهم يوميا؛ وكانت التجارة العالمية تنخفض بمعدل 40 بالمئة سنويا، وكان صندوق النقد الدولي يتنبأ بوقوع "أعنف ركود اقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية في البلدان الثرية."(4) غير أن الدول الثرية لم تكن وحدها التي تأثرت بالأزمة، فقد عانت كوريا الجنوبية وماليزيا وتايلاند وسنغافورة من انكماش اقتصادي حاد؛ وفقد 20 مليونا من العمال في الصين وظائفهم مع انخفاض صادراتها وانفجار الفقاعة العقارية؛ وبدأ وزراء روسيا يخشون من اندلاع أزمة جديدة؛ كما بدأ الناتج الصناعي في البرازيل في الانخفاض؛ وتوقف الانتعاش الاقتصادي في أوروبا الشرقية فجأة مع اكتشاف ملايين الناس أنهم لا يستطيعون الاستمرار في دفع الرهون العقارية لبنوك أوروبا الغربية. في دافوس يناير 2009 "كانت توقعات الانتعاش مشحونة أكثر بالتشاؤم."(5)

ازدهار التمويل     

جاءت الأزمة بعد ربع قرن حقق خلالها التمويل نموا هائلا ليلعب دورا غير مسبوق في النظام. وقد بلغت قيمة أسهم الشركات المالية في أسواق الأسهم بالولايات المتحدة 29 بالمئة من قيمة الشركات غير المالية في عام 2004، أي بزيادة بلغت أربعة أضعاف قيمتها خلال 25 عاما سابقة؛(6) كما ارتفع معدل أرباح الشركات المالية إلى أرباح الشركات غير المالية من حوالي 6 بالمئة في الفترة من أوائل خمسينيات القرن العشرين حتى أوائل ستينيات نفس القرن إلى نحو 26 بالمئة في عام 2001؛(7) وكانت الأصول المالية العالمية تعادل 316 بالمئة من إجمالي الناتج العالمي سنويا في عام 2005، مقابل 109 بالمئة فقط في عام 1980؛(8) وسجل الدين العائلي في الولايات المتحدة 127 بالمئة من إجمالي الدخل الشخصي في عام 2006 مقابل 36 بالمئة فقط في عام 1952، ونحو 60 بالمئة في أواخر ستينيات القرن العشرين و100 بالمئة في عام 2000.(9)

كان لزيادة دور التمويل أثرها في مختلف جوانب الاقتصاد العالمي. فكل تحول في دورة الركود والرخاء بعد أوائل ثمانينيات القرن العشرين كان يصحبه مضاربات مالية، تسببت في ارتفاعات هائلة في أسواق الأسهم الأمريكية والبريطانية في منتصف الثمانينيات ومنتصف التسعينيات، وموجة الزيادة الهائلة في أسعار الأسهم والعقارات اليابانية في أواخر الثمانينيات، وازدهار قطاع التكنولوجيا في أواخر التسعينيات، ورخاء قطاع العقارات في الولايات المتحدة وكثير من دول أوروبا في أوائل ومنتصف العقد الأول من الألفية. وبالتوازي مع ذلك حدثت موجات متعاقبة من عمليات الاستحواذ والاندماج بين الشركات العملاقة، تمولها القروض، من عمليات الاستحواذ على شركات مثل آر بي إس نابيسكو في أواخر ثمانينيات القرن الماضي وحتى موجة الاستحواذات على شركات قديمة قائمة من قبل صناديق الاستثمار المباشر (Private Equity Funds) في منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة.

وفي نفس الوقت، اتجه مستوى المديونية عموما نحو الزيادة بالنسبة للحكومات، والشركات غير المالية والمستهلكين على السواء، مع نمو الإقراض المصرفي بوتيرة أسرع كثيرا في معظم أرجاء الاقتصاد العالمي مقارنة بناتج القطاع الإنتاجي. فقد ارتفع بمقدار الضعف في الولايات المتحدة وثلاثة أضعاف في اليابان في ثمانينيات القرن العشرين؛ وكان رخاء منتصف التسعينيات في الولايات المتحدة مصحوبا بارتفاع استثنائي في مستوى الاقتراض عند الشركات والمستهلكين؛ وكذلك كان رخاء قطاع العقارات والإسكان في منتصف العقد الأول من الألفية مدعوما باقتراض هائل في الولايات المتحدة وبريطانيا وإسبانيا وأيرلندا.

وكان أثر التمويل على الدول الأقل تصنيعا شديد الوضوح بحلول عقد الثمانينيات من القرن الماضي. فقد خلقت قروض أواخر السبعينيات اعتمادا لا ينتهي على المزيد من الاقتراض من المؤسسات المالية حتى تستمر هذه الدول في خدمة ديونها القائمة. وبحلول عام 2003 بلغ إجمالي الدين الخارجي لأفريقيا جنوب الصحراء نحو 213.4 مليار دولار أمريكي، وفي أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي بلغ 779.6 مليار دولار، وبالنسبة للجنوب ككل بلغ الدين الخارجي 2500 مليار دولار.(10)

وإجمالا، كان الدور الذي لعبه التمويل في النظام أكبر كثيرا مما كان خلال سنوات الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين أو خلال سنوات الرخاء الطويل في العقود الأولى التي أعقبت الحرب. في تلك العقود، لم تلعب البنوك بالتأكيد ذلك الدور المركزي الذي نسبه إليها هيلفردينج في بداية القرن وفق مفهومه عن "الرأسمالية المالية" (أنظر الفصل الرابع). ففي الولايات المتحدة، اعتمدت الشركات الصناعية الكبيرة على الإيرادات التي كانت تحققها داخليا في توفير الأموال اللازمة للاستثمار؛ في اليابان وألمانيا لعبت البنوك دورا أكبر، لكن دورها كان المساعدة في توسع قطاعات من رأس المال الصناعي تحظى بالأفضلية. ولم يبد أن التمويل يقطع الصلات التي ربطته برأس المال الصناعي وجعلته تابعا له إلا مع نهاية فترة الرخاء الطويل. فمع ثمانينيات القرن العشرين، كانت أرصدة بمليارات الدولارات – وبعدها بمئات المليارات – تتنقل داخل وخارج قطاعات اقتصادية وبلدان معينة، تلتقط أكثر المنافذ ربحية للاستثمار قبل أن تواصل انتقالها إلى مكان آخر، وغالبا تخلف وراءها خرابا اقتصاديا.  

بدأ نشاط التمويل يؤثر على حياة عمال العالم تأثيرا مباشرا بطريقة لم تشهدها حقب سابقة. كان معظم الناس حتى ثمانينيات القرن الماضي يحصلون على أجورهم نقدا كل أسبوع؛ والآن أصبحت القاعدة هي الدفع عبر حسابات مصرفية. وقد وفر انتشار شراء المنازل في بلدان مثل بريطانيا والولايات المتحدة من ثلث إلى ثلثي عدد الأسر مجالا جديدا لنشاط الإقراض – وتحويل جزء من الأجور والمرتبات إلى سداد الفوائد. وعلى نفس المنوال، أدى التأمين وبرامج المعاشات الخاصة إلى انتشار أذرع التمويل إلى قطاعات من السكان أكبر من السابق. حقا كان الإقراض في صورة ديون الرهن العقاري وعقود الشراء بالتقسيط يحظى بأهمية في ثلاثينيات القرن العشرين، ولكن لم تبدأ المديونية في أن تصبح ذات أهمية محورية في الحفاظ على مستوى معيشة الناس العادي إلا في عقد الثمانينيات. وقد أصبح الرهن العقاري وبطاقة الائتمان جزءا من الحياة اليومية بالنسبة لأغلبية العمال في الولايات المتحدة أو بريطانيا، بينما كانت الحكومات تقريبا في كل مكان تروج لمزايا إيداع المدخرات العادية في مؤسسات مالية كوسيلة للعمال والطبقة الوسطى لتوفير معاشات لأنفسهم عند التقاعد في شيخوختهم. وكما أوضح روبين بلاكبيرن، ساهمت اشتراكات المعاشات في تغذية التوسع السريع لنظام مالي لم يكن للمشتركين أي سيطرة عليه.(11)

صاحب هذا الازدهار في قطاع التمويل زيادة هائلة في وتيرة الأزمات المالية. فكما قال أندرو جلين في كتابه "الرأسمالية المنفلتة" – Capitalism Unleashed – "الأزمات التي تشمل أزمات مصرفية، التي كانت قد اختفت تماما خلال العصر الذهبي، عادت إلى الظهور بقوة منذ عام 1973 وحتى الآن وأصبحت من الناحية العملية أزمات اعتيادية في تكرارها بعد عام 1987 بقدر ما كانت خلال فترة ما بين الحربين."(12) ولاحظ مارتين وولف وقوع "مائة أزمة مصرفية كبيرة على مدى العقود الثلاثة الماضية."(13) غير أن النظام ككل كان يبدو أنه ينتعش مرة أخرى بعد كل أزمة، ولذلك تردد الحديث عشية أزمته الكبرى عن معدلات نمو قياسية وتوقعات بنمو أسرع كثيرا في المستقبل. في الواقع، لعب التمويل دور المخدر بالنسبة للنظام، بأن بدا أنه يمنح النظام طاقة كبيرة ويخلق شعورا بالانتشاء، ومع كل فترة قصيرة من صداع الخمر بعد ليلة السكر تتبعها جرعة إضافية، حتى فوجئت العملية الحيوية بنفسها وقد تسممت بالكامل.

اقتصاد الديون والوهم الكبير

إن نمو قطاع التمويل لم يكن أبدا أمرا منفصلا عما كان يحدث للقلب الإنتاجي للنظام، وإنما كان نتيجة لعملية تدويله من ناحية وللتباطؤ الطويل والممتد في عملية التراكم من ناحية أخرى.

كان أول نمو كبير في قطاع التمويل الدولي في ستينيات القرن العشرين نتاجا للطريقة التي أدى بها نمو التجارة العالمية والاستثمار – وكذلك إنفاق الولايات المتحدة العسكري بالخارج الذي ارتبط بحرب فييتنام – إلى تكون بحيرات من التمويل ("اليورومني") التي أفلتت من سيطرة الحكومات الوطنية. وجاء النمو الكبير الثاني في القطاع مع إعادة تدوير إيرادات نفط الشرق الأوسط التي توسعت بصورة هائلة من خلال النظام المصرفي للولايات المتحدة – وهي الإيرادات التي نتجت عن تزايد اعتماد رأس المال الإنتاجي على نفط الشرق الأوسط.

إن إعادة هيكلة رأس المال الإنتاجي حدثت، كما رأينا، على نحو متزايد عبر الحدود القومية، حتى وإن كانت إقليمية في نطاقها وليست عالمية في معظمها ، ولم ترق إلى كثير من الدعاوى الترويجية حول العولمة. لكن الصناعة لا يمكنها إعادة الهيكلة على هذا النحو دون أن تمتلك روابط تمويلية عابرة للحدود. فهي تحتاج إلى شبكات دولية للتمويل إذا كان لها أن تحول أرباحها إلى بلدها الأم أو تؤسس فروعا في مناطق أخرى من العالم. إن مصدرا هاما لأرباح بعض قطاعات رأس المال المالي تمثل في الرسوم التي يكسبها عبر الإشراف على عمليات الاستحواذ والاندماج بين الشركات الإنتاجية، ومعنى ذلك أنه كان هناك مكسب يمكن تحقيقه من عملها على أساس متعدد الجنسية قبل قيامها بذلك. وكما في وصف ماركس للتمويل في عصره، تقدم التمويل الطريق في تشجيع رأس المال الإنتاجي لأن يتمدد وراء حدوده المستقرة.

وبدوره فتح رأس المال الإنتاجي متعدد الجنسية آفاقا جديدة للمعاملات المالية متعددة الجنسية. إن نجاح شركات صناعة السيارات اليابانية في اختراق أسواق الولايات المتحدة في أواخر سبعينيات القرن العشرين وضع الأساس لتدفق التمويل الياباني في كل من الاستثمارات الإنتاجية (مصانع السيارات) والمضاربات العقارية في الولايات المتحدة. كما أن تدفق الأموال والسلع داخل الشركات متعددة الجنسية وفر قنوات تستطيع عبرها التعاملات المالية أن تفلت من السيطرة الحكومية عند الضرورة.

ومع نمو سلاسل الشراء والبيع وامتدادها أبعد مما سبق، كذلك امتدت سلاسل الاقتراض والإقراض – ومعها اتسعت الفرص أكثر فأكثر للمؤسسات المالية كي تحقق أرباحا عبر اقتراض وإقراض لم يكن مرتبطا ارتباطا فوريا بعمليات للإنتاج والاستغلال. وقد حدث ذلك ضمن سياق أوسع جعل السعي وراء الأرباح من خلال التمويل جاذبا على نحو متزايد لرأسماليين من جميع الأطياف – أي انخفاض معدلات الربح عن مستواها خلال فترة الرخاء الطويل (كما وصفنا في الفصلين الثامن والتاسع). لقد مرت الرأسمالية عالميا بفترة تقترب من أربعة عقود كانت خلالها الربحية أقل كثيرا، حتى في فترات انتعاشها، من مستوى الربحية الذي مكنها من توسيع الإنتاج وزيادة التراكم بسرعة كبيرة في فترات سابقة.

لم تتدهور الربحية إلى درجة الانهيار الكامل، وكان هناك نمو مستمر في كتلة من فائض القيمة السابق تبحث عن فرص لاستثمار جديد مربح. غير أن هذه الفرص تقريبا لم تكن تتوافر في القطاعات الإنتاجية بالكثرة التي كانت عليها فيما سبق. وكان أحد نتائج ذلك، كما رأينا، تباطؤ عام في مستوى التراكم وتدهور في متوسط معدلات النمو. ربما حدث نمو سريع بدرجة معقولة في القطاعات الإنتاجية في جزء من الاقتصاد العالمي أو آخر – مثلا في البرازيل والبلدان حديثة التصنيع في شرق آسيا في أواخر سبعينيات القرن العشرين، في اليابان وألمانيا في الثمانينيات، وفي الصين، وبدرجة أقل في بلدان البريكس (BRICS) الأخرى في العقد الأول من الألفية الجديدة. لكن الربحية لم تكن كافية لرفع التراكم الإنتاجي على مستوى النظام ككل إلى المعدلات السابقة.

كانت ضغوط تنافسية متزايدة تقع على شركات منفردة لتضطلع باستثمارات فردية كبيرة حتى تستمر في تقدمها على شركات منافسة، لكن مع يقين أضعف مما سبق في توافر القدرة على تحقيق ربح على تلك الاستثمارات. وكان رد فعل الشركات والأفراد الأثرياء وصناديق الاستثمار أن أصبحت حذرة تجاه إلزام أنفسها بهذه الاستثمارات حتى لا يدعها ذلك الالتزام بدون نقود جاهزة (أي "سيولة" بلغة قطاع المال) عندما تحدث الأزمة في المرة التالية. وكانت النتيجة ميلا حتميا نحو انخفاض متوسط معدل الاستثمار الإنتاجي.

نمو مخزون رأس المال الحقيقي لدى القطاع الخاص لغير أغراض السكن في البلدان الصناعية(14)

1960-69                     5.0 بالمئة

1970-79                     4.2 بالمئة

1980-89                     3.1 بالمئة

1991-2000                  3.3 بالمئة

 

ينبغي أن نلاحظ أن هذه الأرقام تصور التباطؤ في الاستثمار الإنتاجي بأقل من حقيقته، لأن جزءا كبيرا من الاستثمار توجه إلى مجال التمويل غير الإنتاجي. كما أنه لم يكن في البلدان الصناعية القديمة وحدها أن جزءا متناقصا من القيمة الزائدة توجه نحو الاستثمار الإنتاجي. لقد تعلمت "النمور"، والدول حدثية التصنيع ومجموعة البريكس درسا قاسيا من الأزمة الآسيوية لعامي 1997-1998. فلم تكن على استعداد لأن تنغرز مرة أخرى في مشكلة نقص السيولة في المرة التالية التي تتعرض أسواقها لضربة من حالة عدم الاستقرار العالمية، وقامت بتكوين فوائض من تجارتها الخارجية وادخرتها بدلا من استثمارها محليا. حتى الصين انتهى بها الأمر بفائض في الادخار يزيد على الاستثمار بمعدل 10 بالمئة من إجمالي الدخل القومي، وذلك رغم معدل التراكم غير المسبوق فعليا لديها.

كان ذلك يعني نموا عالميا متزايدا في رأس المال النقدي – نقود بين يدي رؤوس الأموال الإنتاجية وكذلك غير الإنتاجية – يبحث عن منافذ تبدو واعدة بمستويات مرتفعة من الربحية. ومن هنا تأتي الضغوط التي تقع على الشركات لتحقيق أرباح في الأجل القصير وليس في الأجل الطويل. وهكذا أيضا يأتي تتابع فقاقيع المضاربة وتكرار لحظة مينسكي (لحظة انفجار الفقاعة أو التدهور الشديد في أسعار الأصول والأزمة التي تعقب فترة طويلة من المضاربات – المترجم) والانتقال من المضاربة إلى برامج بونزي Ponzi Schemes التي يستخدم رجال قطاع المال فيها الأموال التي يعهد بها بعض المستثمرين إليهم لاستثمارها في سداد أرباح لمستثمرين آخرين ويملأون جيوبهم هم بوسائل غير قانونية.(15) وانتعشت جميع أنواع أنشطة المضاربة غير الإنتاجية، من ضخ الأموال في أسواق الأسهم أو العقارات إلى شراء اللوحات الزيتية التي رسمها الأساتذة القدامى. وفي كل حالة، كان اندفاع المضاربين في شراء أشياء متوقعين ارتفاع أسعارها نبوءة تنطوي لفترة من الزمن على آليات تحققها. فلإنهم يزايدون على بعضهم الآخر كانت الأسعار ترتفع فعلا. وبهذه الطريقة كانت موجات الصعود والهبوط في الجزء الإنتاجي من النظام تجد انعكاسا متضخما لها في موجات الصعود والهبوط في الأصول الأخرى على تنوعها. ونتيجة لذلك توسع قطاع المال، لأنه لعب دورا رئيسيا في تجميع الأموال اللازمة للمضاربة، ثم استطاع بعد ذلك استخدام الأصول التي ارتفعت أسعارها بسبب المضاربة ضمانة من أجل اقتراض مزيد من الأموال.

وهنا تكونت كتلة من رأس المال تتنقل حول العالم هنا وهناك باحثة عن أي فرصة تبدو فيها إمكانية تحقيق الربح. وفعليا، خلال الانتعاش الاقتصادي في أواخر ثمانينيات القرن العشرين:

"أصبح نشاط التمويل نشاطا محموما، مع تحليق قيم الأسهم والعقارات عاليا… وارتفعت المضاربة على العقارات إلى قمم جديدة، كما سجل الاقتراض الخاص مستويات قياسية في الولايات والمتحدة وبريطانيا واليابان… كان هنا نمو حقيقي في الصناعة، لكنه كان نموا قزميا بسبب توسع السوق العقارية وبسبب مختلف أشكال أنشطة المضاربة… وسجل الاستثمار العام نموا أسرع كثيرا من نمو الاستثمار الصناعي – في تناقض حاد مع ما حدث في ستينيات وأوائل سبعينيات القرن العشرين، عندما كانت الصناعة تحقق نموا بنفس السرعة. لقد كان نمو الاستثمار في الصناعة منخفضا بحوالي الثلث في الولايات المتحدة واليابان، وحوالي الثلثين في أوروبا، مقارنة بالفترة السابقة."(16)

وقد وصف كل من بوير وأجلييتا ما حدث خلال فترة الرخاء التالية في الولايات المتحدة في منتصف وأواخر تسعينيات القرن الماضي وصفا دقيقا:

"إن ما يدفع الطلب الكلي والعرض هو توقعات أسعار الأصول، التي تخلق إمكانية دورة حميدة تنطوي على أسباب تحققها ذاتيا. ففي الاقتصاد العالمي تؤدي توقعات الأرباح المرتفعة إلى زيادة في أسعار الأصول، التي تحفز زيادة في طلب المستهلك، والتي بدورها تبرر توقعات الأرباح وتحققها… ويدع ذلك انطباعا يهيمن على المرء بأن نظام النمو المدفوع بالثروة يقوم على توقع ارتفاع لا نهائي في أسعار الأصول."(17)

إن نمو قطاع التمويل متعدد الجنسية زاد من عدم استقرار النظام ولكنه لم يتسبب فيه. وبدورها، تلك الزيادة في عدم الاستقرار شجعت الشركات الإنتاجية على أن تسعى وراء أرباح المضاربة بطريقة قدمت دفعة جديدة لقطاع التمويل وأضافت المزيد إلى أسباب عدم الاستقرار.

أحد الأمثلة الرئيسية على ذلك هو نمو أسواق المشتقات. كانت الوظيفة الأصلية للمشتقات أن تقدم نوعا من التأمين ضد التغييرات المفاجئة في أسعار الفائدة أو أسعار صرف العملات. وكان ذلك امتدادا لممارسة قائمة منذ فترة طويلة لعملية الشراء والبيع "مقدما" – أي الاتفاق الآن على سعر يتم سداده في وقت محدد مستقبلا مقابل سلعة معينة. الآن تطورت هذه المشتقات إلى نظم مركبة للدفع مقابل خيارات شراء وبيع عملات أو مقابل إقراض أو اقتراض أموال بأسعار مختلفة في أوقات مختلفة مستقبلا. وبهذه الطريقة وفرت المشتقات بعض الحماية للشركات الإنتاجية ضد اختلال حساباتها لمستقبل قدرتها التنافسية والربحية بسبب تغيرات طارئة في مختلف الأسواق – وأصبحت جزءا لا يتجزأ من النشاط الطبيعي للعديد من الشركات.(18) لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد. فالمشتقات التي وفرت هذه الحماية يمكن شراؤها وبيعها، وبالتالي أصبح ممكنا المقامرة على التغيرات التي قد تطرأ على أسعارها إذا ارتفعت أو انخفضت أسعار الفائدة أو أسعار الصرف. ووجدت صناديق التحوط، التي تعمل بأموال يوفرها لها بعض الأثرياء بأن يضع كل منهم ملايين قليلة من الدولارات في الصندوق، أنها يمكن أن تحقق أرباحا كبيرة جدا عبر الاقتراض للقيام بهذه المقامرات، مفترضة (كما يفعل كل مقامر مسكين) أنها حتما ستكسب الرهان.

لم يكن الاعتماد على المشتقات هو الطريقة الوحيدة التي انهارت فيها الحدود بين رأس المال الإنتاجي وقطاع التمويل. فكثير من المؤسسات الصناعية بدأت في التوجه نحو قطاع التمويل كسبيل لتحقيق الربح. وفي تسعينيات القرن الماضي توجهت كل من شركتي فورد وجنرال موتورز نحو أنشطة تمويلية مثل "التأجير التمويلي، والتأمين، وتأجير السيارات" حتى أنه "خلال فترة الرواج بين عامي 1995 و1998، كان ثلث أرباح مجموعة (فورد) يأتي من نشاط الخدمات".(19) ونشرت الإيكونومست تقريرا عن أكبر شركة صناعية حاليا في الولايات المتحدة وهي شركة جنرال إليكتريك يقول أن "أرباحها ارتفعت بنوع من التماسك المتوقع… الذي أصبح ممكنا عبر… تلافي أي انخفاض فجائي فيها بأن قامت في اللحظة الأخيرة ببيع أصول تحوزها ذراعها التمويلية الشهيرة بعدم شفافيتها، وهي شركة جنرال إليكتريك كابيتال،" التي كانت مسئولة عن "40 بالمئة من إيرادات جنرال إليكتريك."(20)

مع توجه الرأسمالية في جميع صورها إلى العمليات التمويلية لتتكامل مع العمليات الإنتاجية منذ أوائل سبعينيات القرن العشرين، تعرضت الحكومات لضغوط من أجل التخلي عن الضوابط المفروضة على المعاملات المالية. ولفترة من الزمن، حاولت الحكومات الملتزمة بمفاهيم رأسمالية الدولة أو مفاهيم الكينزية التي تنتمي للحقبة السابقة أن تحافظ على الوضع القائم ضد وسائل التمويل في التدفق عبر الحدود الوطنية. لكنها تخلت عن هذه المحاولة تدريجيا، ويعود ذلك جزئيا إلى أنها اعتبرت الضوابط القديمة على العملة وعلى حركة رأس المال ضوابط غير فعالة، وجزئيا إلى أنها، وقد اعتادت تهيئة مخيلتها وفق ما يقول رأس المال أنه ممكن، اقتنعت بالفكرة القائلة بأن هذا هو السبيل الوحيد إلى تحقيق دورة جديدة من التراكم الرأسمالي. وكان منهج أولئك الذين بدأوا الانطلاق على مسار اليسار الاشتراكي الديمقراطي هو: إن لم تستطع هزيمتهم، انضم إليهم إذن.

عادة ما حدثت المضاربة في مجالات غير إنتاجية – في فقاقيع متكررة في أسعار الأسهم وأسعار العقارات. غير أنها بين حين وآخر كانت تركز على مجال ما، حيث يعتقد المضاربون أن هناك ربحا يمكن تحقيقه عبر الاستثمار الإنتاجي. وكما جاء في تقرير لجريدة الفايننشال تايمز أواخر تسعينيات القرن الماضي:

"بلغ الإنفاق على أجهزة الاتصالات ومعداتها في أوروبا والولايات المتحدة أكثر من 4 آلاف مليار دولار. وما بين عامي 1996 و2001 قدمت البنوك 890 مليار دولار في صورة قروض مشتركة… وقدمت أسواق السندات 415 مليار دولار أخرى من القروض علاوة على 500 مليار دولار جمعت من خلال إصدارات صناديق الاستثمار المباشر والبورصة. بل وأكثر من ذلك جاء من شركات الرقائق الإليكترونية الرابحة التي دفعت نفسها إلى حافة الإفلاس أو وراءها اعتقادا منها أن الانتشار الهائل لاستخدام الإنترنت سوف يخلق طلبا غير محدود تقريبا على معدات قطاع الاتصالات. وأصبح نظام التمويل العالمي مدمنا على إمداد هذه الشعلة بالوقود. وكان ما يقرب من نصف الإقراض المصرفي في أوروبا عام 1999 موجها لشركات الاتصالات… وحوالي 80 بالمئة من السندات مرتفعة العائد أو عالية المخاطرة التي صدرت في الولايات المتحدة موجهة لشركات الاتصالات. وكانت خمسة من أكبر عشر عمليات اندماج أو استحواذ في التاريخ تضم شركات اتصالات."(21)

إن حقيقة وجود عنصر إنتاجي في هذا الرواج أضافت إلى الوهم العظيم بأنه يمكن أن يستمر للأبد. غير أن الرواج كان يقوم على المضاربة، بأن منح قيمة تبادلية هائلة لمنتجات كانت قيمتها الاستعمالية الحالية محدودة جدا. وهكذا أنتج الكثير من "حزم الترددات"، وقالت جريدة الفايننشال تايمز:

"إذا حدث أن 6 مليارات نسمة الذين يقطنون العالم تحدثوا معا بثبات عبر التليفون على مدى العام القادم، فإن كلماتهم يمكن نقلها عبر الطاقة الاستيعابية الممكنة خلال ساعات قليلة… وأن واحدا أو اثنين بالمئة (فقط) من أسلاك الألياف الضوئية المدفونة في أوروبا وأمريكا الشمالية هي التي جرى تشغيلها."(22)

وكان محتوما أن انهار رواج قطاع الاتصالات، مخلفا وراءه فوضى عارمة. فمع بداية سبتمبر 2001 (أي قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي يعزى إليها عادة سبب الركود في ذلك العام) "انخفضت القيمة السوقية لأسهم جميع شركات الاتصالات سواء في التشغيل أو التصنيع" بحوالي 3800 مليار دولار مقارنة بذروتها في مارس 2000" وربما أن "ألف مليار دولار" قد "تبخرت في الهواء".(23)

وأمام هذا الانهيار في فقاعة الاستثمار الإنتاجي، ربما لا يثير الدهشة أن تكون الفقاعة التالية في شيء يبدو أنه… "آمنا مثل العقارات". وأثناء فترة الانتعاش من ركود 2000-2002، وجد أصحاب الأموال (البنوك التقليدية، وشركات التمويل الجديدة مثل صناديق التحوط، وأثرياء فرادى معهم ملايين قليلة من السيولة النقدية الجاهزة) أنهم يستطيعون زيادة ثرواتهم عبر الاقتراض بأسعار فائدة منخفضة وذلك من أجل إقراضها لمن يبدي استعدادا، أو يتم خداعه، لسدادها بأسعار فائدة أعلى. ثم جمعت أشتات القروض المختلفة معا في "أوراق مالية" لبيعها مقابل ربح إلى مؤسسات تمويل أخرى، التي ستقوم بدورها ببيع هذه الأوراق مرة أخرى. ولا يكون لدى أولئك الواقفون عند أحد طرفي سلسلة الإقراض والاقتراض أدنى فكرة عن مصدر الفائدة على الطرف الآخر. في واقع الأمر، كثير ممن كان ينتظر أن يسددوا هذه الفائدة كانوا من القطاعات الأفقر من السكان الأمريكيين ممن هم في أمس الحاجة إلى مكان يعيشون فيه لكنهم كانوا سابقا يعتبرون بلا جدارة ائتمانية. وقد جرى إغراؤهم بالحصول على قروض رهن عقاري مع "تحفيز" بفترة ثابتة عند سعر فائدة منخفض، والذي يمكن أن يرتفع فجأة بعد عامين أو ثلاثة أعوام. وكان يفترض أن الزيادة المستمرة في أسعار المنازل تجعل الإقراض لهؤلاء آمنا، لأنهم إذا أخفقوا في سداد القروض فيمكن استرداد ملكية منازلهم وبيعها بأرباح جيدة. لكن ما غاب عن ملاحظة العباقرة الذين كانوا يديرون المؤسسات المالية أن الأسعار كانت ترتفع بالضبط نتيجة لحقيقة استعداد هذه المؤسسات للمنافسة ضد بعضها البعض على تقديم قروض لشراء المنازل – وأن الأسعار سوف تنخفض حتما إذا بدأت جميعها في استرداد ملكية المنازل.

كانت الشركات تتلقى الثناء والتكريم بقدر ما كانت تضخم ثرواتها عبر فقدان أي صلة بالواقع. كان البنك البريطاني نورثرن روك هو "ضيف الشرف في حفل عشاء مبهر في حي المال سيتي حيث تلقى أرتال المديح نظرا لمهاراته في الابتكار المالي."(24) وامتدح جوردون براون "مساهمة" بنك ليهمان براذرز "في ازدهار بريطانيا."(25) واختير رامالينجا راجو كأبرز "شباب رواد الأعمال في العام" في الهند وحصل على جائزة الطاووس الذهبي من المجلس العالمي لحوكمة الشركات قبل شهور  قليلة فقط من اكتشاف احتياله على شركته نفسها في مبلغ مليار دولار.

مرة أخرى، ينبغي التأكيد على أن مغامرات المضاربة خلال تلك السنوات لم يتورط فيها الرأسماليون الماليون وحدهم. بل شاركهم فيها رأسماليون صناعيون وتجاريون. فأكثر من نصف النمو المفترض في ثروة الشركات غير المالية وغير الزراعية في الولايات المتحدة عام 2005 كان يرجع إلى تضخم ممتلكاتها العقارية.(26)

غير أن الفقاعات التي قادها التمويل لم تكن هامة لمجرد أنها مصدر للأرباح بالنسبة للقطاع الإنتاجي المفترض في الاقتصاد. بل إنها كذلك كانت محورية في ضمان توافر أسواق لمنتجاته ما كانت استثماراته الخاصة ولا ما يدفعه لعماله تستطع توفيرها. ويصدق ذلك على فقاعات ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين. إن معادلة انخفاض الاستثمار مع محاولات الحفاظ على انخفاض الأجور في البلدان الصناعية القديمة (والنجاح في تخفيضها في الولايات المتحدة) جعلت القروض الاستهلاكية تزيد أهميتها في توفير الطلب على المنتجات. كما يصدق أكثر على الفترة في بداية ومنتصف العقد الأول من الألفية. فبدون فقاعة "المنازل" و"الرهن العقاري مرتفع المخاطر" ما كان سيحدث أدنى انتعاش من ركود عامي 2001-2002.

كانت هذه أعوام اتجهت فيها الأجور الحقيقية للعمال نحو الانخفاض في الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبعض البلدان الأخرى. وكانت كذلك سنوات كان الاستثمار الإنتاجي فيها منخفضا في جميع الرأسماليات "القديمة". وقد ورد في دراسة لصندوق النقد الدولي(27) أن "معدلات الاستثمار انخفضت تقريبا في جميع أقاليم البلدان الصناعية". كما ورد في تقرير آخر لبنك جيه بي مورجان في عام 2005:

"إن قطاع الشركات هو القوة الدافعة وراء هذه الفوائض الادخارية، ففي الفترة بين عامي 2000 و2004، بلغت قيمة مدخرات الشركات الصافية بعد تحولها عن سياسة عدم الادخار في كل اقتصادات مجموعة الست (فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة واليابان وبريطانيا وإيطاليا) أكثر من تريليون دولار…إن زيادة الادخار لدى الشركات ظاهرة عالمية حقا، تمتد في الأقاليم الثلاثة الرئيسية – أي أمريكا الشمالية، وأوروبا واليابان."(28)

وبمعنى آخر، إن شركات الولايات المتحدة "تقوم حاليا بمراكمة أرباحها السابقة في صورة نقود بدلا من إنفاقها."(29)

إن انخفاض مستوى الاستثمار بالتزامن مع انخفاض الأجور الحقيقية ينتج عنه في الظروف الطبيعية استمرار الركود. ولكن ما منع استمراره كان تحديدا طفرة الإقراض للمستهلكين الأمريكيين من خلال النظام المالي، بما في ذلك المستهلكون الذين حصلوا على قروض رهن عقاري مرتفعة المخاطر. فقد خلقت هذه القروض طلبا في قطاع الإنشاء وفي صناعات السلع الاستهلاكية – وعبرها خلقت طلبا على الصناعة الثقيلة والمواد الأولية – والذي ما كان سيحدث لولاها. لقد اعتمد الانتعاش من الركود على الفقاعة، الأمر الذي وصفه الماركسي الإيطالي ريكاردو بيلوفيور وصفا موفقا بأنه "كينزية مخصخصة".(30)

 الرأسماليون في حقل الإنتاج، الذين استفادوا من هذه العملية، لا نجدهم فقط في الولايات المتحدة وأوروبا، وإنما نجدهم كذلك عبر المحيط الهادئ في شرق آسيا. فالصناعة اليابانية، التي لازالت تعاني من وطأة تدهور الربحية في أوائل تسعينيات القرن العشرين، أظهرت بعض الانتعاش من خلال تصدير معدات عالية التكنولوجيا إلى الصين التي استخدمت هذه المعدات (مع مكونات من دول أخرى في شرق آسيا وألمانيا) في تعظيم صادراتها على نحو متزايد إلى الولايات المتحدة. وقد كانت هذه الفوائض في تجارتها مع الولايات المتحدة هي التي أودعتها اليابان والصين ودول شرق آسيا في الولايات المتحدة، والتي ساعدت في تمويل الفقاعة وبالتالي قدمت دفعة للاقتصاد العالمي ككل، بما في ذلك الجزء الذي يخص تلك الدول في هذا الاقتصاد. 

وكما علق مارتن وولف بحق: إن "فائض المدخرات" خلق "حاجة إلى توليد مستويات مرتفعة من الطلب التعويضي"(31) وقد وفر الإقراض للفقراء ذلك الطلب: "إن العائلات الأمريكية يجب أن تنفق أكثر من قيمة دخولها. وإن لم تفعل ذلك فإن الاقتصاد سوف يغوص في الركود إلا إذا حدث تغير في ناحية أخرى."(32) "كان يمكن لبنك الاحتياطي الفيدرالي أن يتجنب اتباع ما بدا أنه سياسة نقدية مغالية في طبيعتها التوسعية إذا كان مستعدا لقبول ركود اقتصادي ممتد، أو ربما كساد."(33) وبمعنى آخر إن الفقاعة المالية وحدها هي ما أوقفت وقوع الركود في وقت مبكر. ومعنى ذلك ضمنيا أن النظام ككل كان يعاني من أزمة تحت السطح، لم يكن بالإمكان حلها بمجرد ضبط أنشطة المؤسسات التمويلية.

إن وولف وآخرين ممن أكدوا على اختلال التوازن في الاقتصاد الإنتاجي العالمي لم يرجعوا جذور هذا الاختلال إلى مشكلة الربحية. فحتى يحدث ذلك، كان الأمر سوف يتطلب تحولا جزئيا على الأقل عن علم الاقتصاد النيوكلاسيكي باتجاه الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، وباتجاه ماركس بصفة خاصة. غير أن انخفاض الربحية كان، كما رأينا، وراء تباطؤ التراكم الإنتاجي في أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان، بينما كانت المساعي التي نجحت جزئيا في الحفاظ على الأرباح على حساب الأجور مسئولة عن زيادة الاعتماد على الاستهلاك بالاستدانة. كما كانت محاولات الحفاظ على الربحية في مواجهة تعاظم مراكمة رأس المال الثابت أكثر فأكثر هي التي أدت إلى إبقاء الاستهلاك متدنيا في الصين – والجهود التي بذلت لوقف أي زيادة في القيمة الدولية لليوان كأحد وسائل تحقيق ذلك. كذلك تعلمت دول مجموعتي البريكس والدول حديثة التصنيع من ذكرى أزمات تسعينيات القرن العشرين أن مستوى الربحية في اقتصاداتها لم يكن مرتفعا بما يكفي لحمايتها من عدم الاستقرار عالميا، ما دفعها هي أيضا إلى مراكمة الفوائض. وبصورة عامة، يمكننا أن نقول إن قطاعات الرأسمالية العالمية المختلفة ماكانت لتعتمد على الفقاعة لو أن معدلات الربح عادت إلى مستويات حقبة الرخاء الطويل.

إن عملية الأمولة وفرت قاطرة بديلة للاقتصاد، في صورة الديون، خلال عشرين عاما بعد فقدان اقتصاد السلاح في الولايات المتحدة جزءا كبيرا من فاعليته. فكان ضروريا أن يستكمل اقتصاد السلاح الدائم باقتصاد الديون. غير أن اقتصاد الديون لا يمكن بطبيعته ذاتها أن يكون دائما. فالديون الهائلة التي تقدمها البنوك خلال أي فقاعة تمثل حقا في الحصول على القيمة التي تنتجها قطاعات الاقتصاد الإنتاجية. وعندما يقع تدهور مفاجئ في أسعار الأصول التي زايدت عليها من قبل (في المنازل، والعقارات، والرهون العقارية، وأسواق الأسهم) تكتشف هذه البنوك أن تلك الحقوق لم تعد قابلة للوفاء بها وأنها لا تستطيع أن تسدد ديونها الخاصة إلا بالحصول على سيولة نقدية من مصدر آخر. لكن عملية محاولة الحصول على سيولة نقدية ذاتها تنطوي على بيع المزيد من الأصول؛ ومع قيام جميع البنوك بذلك، تنخفض أسعار الأصول أكثر وتتدهور أكثر فأكثر ميزانيات كل منها. وتنفجر الفقاعة المالية ويتحول الرواج إلى أزمة.

"إن جميع هذه الأوراق لا تمثل شيئا في الواقع أكثر من مطالب متراكمة، أو حقوق قانونية، على الإنتاج المستقبلي الذي لا تمثل قيمته النقدية أو الرأسمالية أي رأسمال على الإطلاق.… أو أنه يخضع لتنظيم مستقل تماما عن قيمة رأس المال الحقيقي الذي يعبر عنه… كما لا تنطوي مراكمة رأس المال النقدي عموما على شيئ أكثر من مراكمة هذه الحقوق على الإنتاج."(34)

إن ما حدث خلال أوائل ومنتصف العقد الأول من الألفية الجديدة أن البنوك افترضت أن هذه المطالبات كانت في ذاتها قيمة حقيقية ولذلك أدرجتها في الجانب الإيجابي في ميزانياتها. وقد اعترف أدير تيرنر، وهو رئيس سابق لاتحاد الصناعات البريطاني الذي يمثل أصحاب العمل البريطانيين ونائب رئيس بنك ميريل لينش في أوروبا سابقا، تأدبا بعد الحدث بأن "النظام كله أصبح يعتمد كثيرا على افتراض أن هذه المجموعة الواسعة من الأصول يمكن اعتبارها أصولا سائلة لأنها دائما قابلة للبيع في أسواق تتسم بالسيولة."(35) كانت الأرباح تقاس وفقا لتقييم الأصول حسب "أسعار السوق الجارية" – أي حسب المستوى الذي ترفعها إليه المزايدة التنافسية. لكن بمجرد أن تدهورت أسواق الرهن العقاري والعقارات، كان على مؤسسات التمويل أن تسعى إلى تسييل أصولها نقدا حتى تتجنب الإفلاس – واكتشفت أنها لا تستطيع ذلك، وهو ما ارتبطت به تلك العملية التي شاع إطلاق مصطلح "تخفيض المديونية" عليها.   

مرة أخرى وصف مارتن وولف ما كان يحدث وصفا دقيقا:

"إن آلة الديون تدور في الاتجاه العكسي، ولأنها ولدت أرباحا زائفة عندما كانت في اتجاه الصعود، فإنها تسحب هذه الأرباح وتبددها في اتجاهها نحو الهبوط. ومع استمرار الدوران العكسي، يخفض المستهلكون الذين يعانون من ارتفاع الديون نفقاتهم، وتضغط الشركات مصروفاتها، وتحلق البطالة في السماء."(36)

ومن هنا تأتي أولى لحظات الحقيقة في أغسطس 2007، عندما اكتشفت مجموعة من صناديق التحوط التي تسيطر عليها البنوك أنها غير قادرة على سداد ديونها، وتوقفت البنوك عن إقراض بعضها الأخرى خوفا من احتمال عدم استرداد أموالها. ومن هنا أيضا عجز مئات المليارات التي ضخت في الأجهزة المصرفية الوطنية لمنع ثانية لحظات الحقيقة في منتصف سبتمبر 2008، عندما أعقب انهيار بنك ليهمان براذرز بأيام مخاطر انهيار بنوك أخرى في كل الدول الغربية الكبرى تقريبا (إيه آي جي بالولايات المتحدة، إتش بي أو إس في بريطانيا، فورتيس في بلجيكا وهولندا، هايبو العقارية في ألمانيا، والبنوك الكبرى الثلاثة في أيرلندا، وبنوك أيسلندا). ومن هنا أيضا، خلال شهرين تاليين، كانت حتى البنوك التي اعتقدت أنها ربحت من المشكلات التي واجهت منافسيها تعاني هي أيضا من أزمة مريعة – وهي سيتي بنك (أكبر بنوك العالم) وبنك أوف أميركا في الولايات المتحدة، وبنك لويدز في بريطانيا.

ومن هنا، وأخيرا، كان واضحا أن هذه الأزمة لم تعد مجرد أزمة مالية. كان التوسع الكبير في قطاع التمويل قد خلق وهما بمرحلة جديدة من "الصعود طويل الأمد" في التراكم الإنتاجي؛ وجاءت أزمة التمويل لتبدد هذا الوهم بنتائجها الصادمة. ومر الاقتصاد العالمي "بأسبوع الحياة على شفير الخطر" في شهر نوفمبر "مع سيطرة حالة الذعر على الأسواق"(37) ففي الولايات المتحدة، كانت شركة كرايسلر تخسر ملايين الدولارات يوميا، وقالت شركة جنرال موتورز إنها تحتاج إلى 4 مليارات دولار فورا حتى تتجنب الإفلاس، وانضمت شركة فورد إليها في طلب 34 مليار دولار من المساندة الحكومية. وفي بريطانيا، أفلست شركتا وولوورثز وإم إف أي. وبدأ حجم عمليات فصل العاملين في كل قطاع يقترب من نزيف الوظائف خلال أزمة أوائل ثمانينيات القرن العشرين. ولم يشعر بهذه المعاناة فقط جانبا الأطلنطي، وإنما كذلك شعر بها جانبا المحيط الهادئ.

في ربيع عام 2008، كانت الفكرة المهيمنة على التحليلات الاقتصادية لدى التيار السائد هي أن "فك الارتباط" بين مختلف الاقتصادات الوطنية سوف يجعل آسيا قادرة على الاستمرار في التوسع بنفس سرعتها القديمة بينما تعاني أوروبا وأمريكا. ومع العام الجديد 2009 انتشر الركود إلى اليابان، حيث انخفض إنتاج السيارات بمعدل قياسي، وإلى الصين، حيث أغلقت الآلاف من المصانع في جنوبها الشرقي،(38) ثم إلى الهند، حيث حذرت مجموعة ضغط لرجال الأعمال بأن 10 ملايين عامل في القطاع الصناعي قد يفقدون وظائفهم بعد انهيار الصادرات.(39) وقد ضربت الأزمة للمرة الثانية ضحايا الأزمة الأسيوية لعام  1997 – وهي تايلاند، وكوريا الجنوبية، وماليزيا وإندونيسيا. وكذلك ضربت ضحايا الأزمة التي اجتاحت بلدان الكتلة الشرقية السابقة منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين حتى الآن – أي دول البلطيق، وأكرانيا، والمجر وبلغاريا ورومانيا. وفي روسيا أدى الانهيار في أسعار النفط العالمية التي بلغت رقما قياسيا قبل ذلك بستة أشهر فقط إلى انخفاض قيمة الروبل، وارتفاع مستوى التضخم وتجدد انتشار الفقر.

برهنت عملية الأمولة واقتصاد الديون على عدم قدرتهما على دفع التراكم العالمي إلى الأمام بسرعته القديمة في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين وفي منتصف العقد الأول من الألفية الثانية. فكانت تتعثر كل بضع سنوات، وفي النهاية تهددها الانهيار التام لتؤدي إلى أزمة لا يمكن التنبؤ بمدى عمقها. أما الحكومات، التي كانت تصر، وإن كان بالكلام دون الأفعال، على إمكانية أن تترك السوق الحرة حتى تعالج عيوبها، فقد ووجهت الآن بالحقيقة الصارمة أن الرأسمالية إذا تركت وشأنها كما في ثلاثينيات القرن العشرين فقد تهوي إلى أزمة كارثية يرتد فيها انهيار كل شركة عملاقة على الاقتصاد كله مؤديا إلى انهيار شركات أخرى. وقد أدركت الدول، بتشجيع من بعض الشركات العملاقة، ألا بديل عن التدخل في الاقتصاد بدرجة غير مسبوقة إلا في ظروف الحرب الشاملة. وهكذا كانت إدارة بوش، أكثر الحكومات جنوحا نحو اليمين في الولايات المتحدة منذ 75 عاما، هي التي قامت فعلا بتأميم شركات الرهن العقاري فاني ماي وفريدي ماك في بداية شهر سبتمبر. وكانت هناك محاولة أخيرة واحدة للاعتماد على السوق عندما سمحت بإفلاس بنك ليهمان براذرز – وهو القرار الذي حظي بمديح في افتتاحية جريدة الفايننشال تايمز التي وصفته بالقرار "الشجاع" وبأنه "مخاطرة قد تأتي أكلها."(40)

النتيجة الكارثية لهذا القرار تركت الدول بلا خيار إلا أن تقوم من الناحية الفعلية بتأميم جزئي، وأحيانا كامل، لبعض البنوك العملاقة وبعض البنوك الصغيرة نسبيا مثل بنكي نورثرن روك وبرادفورد آند بنجلي في بريطانيا، ولا تقتصر على محاولات الإنقاذ التي بلغت كلفتها 1.5 تريليون دولار. وبينما كانت الدول تقوم بذلك، بدأ مستشاروها يفكرون جديا فيما إذا كان الحل الوحيد لهذه الأزمة هو تأميم الأنظمة المصرفية تأميما كاملا. وبدأت رأسمالية الدولة، ورفيقتها الأيديولوجية الكينزية، تعود بقوة إلى الساحة بعد اختفائها في عزلة أيديولوجية على مدار جيل كامل.  

التمويل و"الأمولة"

دفعت الأزمة الكبيرة التي انفجرت في عام 2007 أولئك الذين هللوا لعجائب الرأسمالية خلال مرحلة الوهم الكبير إلى محاولة إلقاء اللوم على أمر آخر غير الراسمالية بذاتها. وكان أسهل السبل إلى ذلك هو اعتبار "البنوك" و"قطاع التمويل" كيانات منفصلة عن بقية النظام الرأسمالي. وقد ذهب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى قمة مجموعة السبع في يناير 2008 معلنا أن "أمرا يبدو أنه خارج السيطرة" في هذا النظام المالي وداعيا إلى زيادة الضوابط للسيطرة عليه.(41) وكانت جميع التقارير عن منتدى دافوس الاقتصادي في عام 2009 تتحدث عن عدم شعبية البنوك لدى ممثلي الشركات متعددة الجنسية والحكومات: "هلل جمهور الحاضرين في إحدى جلسات الحوار مرحبا عندما قال مؤلف البجعة السوداء نسيم نيكولاس طالب أن الوقت قد حان لمعاقبة الصيارفة وإجبارهم على رد ما حصلوا عليه من مزايا وحوافز."(42)  

وانتهت هذه الحوارات إلى نتيجة بسيطة: إن السبيل إلى منع الأزمات المالية مستقبلا هو زيادة الضوابط التي تنظم قطاع التمويل. وكان ذلك موقف الكثير من الاقتصاديين من التيار السائد – سواء من الكينزيين المعتدلين أو النقديين السابقين – مع سجالات متكررة على صفحات جريدة الفايننشال تايمز حول درجة التنظيم والضوابط الممكنة والضرورية. كما كان ذلك موقف بعض المحللين من اليسار الإصلاحي. وقد استطاع روبرت ويد من مدرسة لندن الاقتصادية (London School for Economics) أن يقدم تحليلا خلابا عن حماقات وتناقضات عمليات التمويل التي أدت إلى الأزمة، ثم ينتهي إلى نتيجة مفادها أن زيادة الرقابة والضوابط يمكن أن تمنعها.(43) ودعا كل من لاري إليوت ودان أتكينسون في كتابهما "سقوط الآلهة" إلى زيادة الرقابة وتفكيك المؤسسات المالية العملاقة، ثم راودهما بعض الأمل في اجتماع صناع السياسة لدى مجموعة السبع في أوائل عام 2008 الذي عكف على دراسة "مجموعة من الإجراءات تهدف إلى كبح المصالح المالية فائقة الحركة والطاقة."(44)

وعند اليسار، أدى صعود التمويل فعلا إلى ظهور جديد لأفكار هوبسون وهلفردينج وكاوتسكي القديمة عن "التمويل" أو "رأس المال المالي" التي ترى أن له مصالح تختلف وتتميز عن مصالح رأس المال الإنتاجي. وقد بدأت منظمة الحملات الفرنسية أتاك (ATTAC) نشاطها في أواخر تسعينيات القرن العشرين بالتزام نحو معارضة المضاربة المالية، لا الرأسمالية ذاتها.(45) وكان مطلبها المركزي هو فرض "ضريبة توبين" (Tobin Tax) على حركة الأرصدة المالية عبر الحدود الوطنية، والتي زعموا أنها سوف تعمل على مقاومة الأزمات المالية. وقد وجدت هذه الفكرة التي "تلقي اللائمة على النشاط المالي" صدى لها بين كثير من الماركسيين الراديكاليين. فكتب كل من دومينيل وليفي عن "الليبرالية الجديدة" باعتبارها "التعبير الأيديولوجي عن إعادة ترسيخ سلطة التمويل التي تملي أشكالها ومحتواها في مرحلة التدويل الجديدة.(46) وكانت لهجة جيمس كروتي شبيهة جدا حين جادل بأن "المصالح المالية أصبحت أكثر قوة من الناحية الاقتصادية والسياسية وأن هذه الاتجاهات تواكب معها تدهور في أداء الاقتصاد الحقيقي."(47) وكتب فرانسوا تشسنيه عن "نظام معولم من التراكم الذين يهيمن عليه التمويل" (48) أصبحت فيه "حركة رأس المال النقدي قوة مستقلة تماما في مواجهة رأس المال الصناعي"، تضطره إما إلى قبول "أن يتداخل تداخلا عميقا مع رأس المال النقدي، أو أن يخضع نفسه لمتطلبات رأس المالي النقدي."(49) وقد استخدم نفس التعبير الذي استخدمه كل من مابل وبارر وبوير، ومفاده أن "الرأسمالية الرديئة" قد أصبحت قادرة على طرد وإزاحة "الرأسمالية الجيدة".(50) ورغم أن تشسنيه نفسه، وهو الاشتراكي الثوري، لا يعتبر الشكل القديم للرأسمالية "رأسمالية جيدة"، (ولذلك وضع الكلمة بين علامتي تنصيص)، فقد زعم فعلا أن التمويل هو سبب "تواضع أو تدهور دينامية الاستثمار…"(51) كما نجد تأكيدا مماثلا على فكرة أن قطاع التمويل لديه مصالح تتعارض تعارضا قويا مع مصالح رأس المال الإنتاجي في كتاب بيتر جوان "المقامرة العالمية" –Global Gamble – الذي يقدم تحليلا عظيم الفائدة لجهود الرأسمالية الأمريكية للحفاظ على هيمنتها عالميا. ويقول فيه إن "بعضا من التناقضات الأشد احتداما داخل المجتمعات الرأسمالية تقع بين القطاع المالي وبقية المجتمع."(52)

ورغم أن الدراسات التي تناولت "الأمولة" بالتحليل تباينت تباينا كبيرا في تفاصيلها، فقد اشتركت جميعها في دعوى أن "هيمنة التمويل" أحدثت تحولا في دينامية النظام. وهي تزعم أن رأس المال الإنتاجي يعنى بالتراكم الإنتاجي. وأن ذلك حدث في مختلف أرجاء العالم الصناعي في السنوات الأولى التي أعقبت الحرب، حتى وإن كان تنظيمه مختلفا في الولايات المتحدة وفي بريطانيا، حيث كانت الشركات الصناعية تستخدم الأرباح التي تولدها داخليا حتى تقوم باستثمارات طويلة الأجل، وفي اليابان وفي ألمانيا، حيث كان التعاون مع البنوك يوفر هذه الاستثمارات. ولكن ظهور صناديق الاستثمار الكبيرة و"هيمنة" التمويل قد غير من ذلك. وتحول الوضع حاليا إلى أن قوة الضغط جميعها تدفع إلى أن تحقق الشركات عوائد سريعة لحاملي الأسهم ("قيمة لحاملي الأسهم") عبر صرف عوائد (كوبونات) مرتفعة على الأسهم وتبني إجراءات تضمن سعرا عاليا لها (بما يحقق نموا في الأرباح الرأسمالية لحاملي الأسهم)، كما تتجه إلى أن تحافظ الحكومات والبنوك القومية على أسعار مرتفعة للفائدة. وقد قدم بعض الكتاب الكينزيين مثل ويل هوتون وكيجان نسخا من هذا الموقف ذاته في تسعينيات القرن الماضي من أجل المقابلة بين رأسمالية "الأنجلو_ساكسون" التي تعتمد منهج "الأجل القصير" ومناهج الرأسمالية اليابانية والألمانية التي يفترض أنها أكثر ميلا نحو الاستثمار طويل الأجل. وامتد هذا المنطق حاليا حتى يشمل جميع البلدان الصناعية المتقدمة مع استثناء جزئي لألمانيا من فكرة الاستثمار "قصير الأجل".(54)

وقد وصف كل من كروتي وإبستين وجايادف ذلك بأنه نمو للدخول الريعية وأنه "سلطة أصحاب الريوع"، وفي ذلك يعودون بالذكرى إلى تطبيق كينز مصطلح الريعي على "الرجال" الكسالى الذين كانوا يحصلون على الفوائد أو مدفوعات عوائد الأسهم عبر البريد دون القيام بأي عمل. لكن هؤلاء الريعيين أصبحوا الآن "صناديق الاستثمار، وصناديق المعاشات العامة والخاصة، وشركات التأمين، ومؤسسات استثمار أخرى".(55)

وكوستا لابافيتسا، رغم أنه قدم تحليلا وقائعيا ممتازا لتطور الأزمة المالية في 2007-2008، فقد شدد في تفسيره لهذه الأزمة على جوانب مالية خالصة – وخاصة على تغير سلوك النظام المصرفي، الذي تحول من الإقراض للصناعة إلى إقراض الأفراد وعلى اعتماده على تكنولوجيا الحاسبات الجديدة. وزعم أن "الاستغلال المباشر" للمستهلكين من قبل البنوك أصبح مصدرا هاما لفائض القيمة كما هيمن على ديناميات هذا النظام. (56) لكن هذا النوع من "الاستغلال"، مثل الاستغلال الناتج عن زيادة محلات البيع بالتجزئة لأسعارها(57)، ليس له أهمية إلا بقدر ما يتقاعس العمال عن النضال من أجل حماية القوة الشرائية لأجورهم في مواقع الإنتاج – وهو أمر اعتادت النقابات في بريطانيا على محاولة تحقيقه عبر المطالبة بربط زيادة الأجور مع مؤشر أسعار التجزئة الذي يشمل مدفوعات الفائدة على قروض الرهن العقاري. أو، كما كان يمكن أن يقول ماركس، إن زيادة الاستغلال لا تقع إلا بقدر ما ينجح الرأسماليون الذين يستخدمون العمال في شراء قوة العمل بسعر أقل من قيمتها.(58) وعلى أساس منطق لابافيتساس، يجدر بنا أن نضيف أن العمال ليسوا وحدهم من يخضعون للاستغلال من قبل البنوك وإنما كذلك المدينون من أفراد الطبقة الرأسمالية والطبقة الوسطى الحديثة – فقد كان متوسط ديون الأسر في الولايات المتحدة ممن يتجاوز دخلها 100 ألف دولار سنويا في عام 2003 نحو أربعة أضعاف ونصف ديون الأسر التي يقع دخلها في نطاق يبدأ من 25 ألف دولار سنويا وينتهي عند 50 ألفا.(59)

 

رغم التسليم في أغلب الأوقات بدعوى عملية الأمولة القائلة "بتعظيم القيمة لحملة الأسهم"، فإن هذه الدعوى تنطوي على ثغرات كبيرة. ويوضح كل من ديك برايان ومايكل رافيرتي أنه:

    "لا ينبغي إضفاء هذه الأهمية الكبيرة على سوق الأسهم، لأنها في نهاية المطاف مجرد ملتقى صغير نسبيا لتجميع الأموال. وحتى في الأنظمة التي يطلق عليها قائمة على السوق مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة واستراليا، كانت ومازالت الأرباح المحتجزة والقروض وإصدار السندات أكثر أهمية بكثير… "

وعلاوة على ذلك فإن صناديق المعاشات والصناديق المماثلة:

"يندر أن تلعب دورا فعالا إن وجد في قرارت إدارة الشركات. ذلك أن ضغوط المؤسسات حاملة الأسهم على مجالس إدارة الشركات هي الاستثناء وليست القاعدة…"(60)

 

إن حقيقة أن الشركات توزع جزءا كبيرا من أرباحها عوائدا للأسهم لا يترتب عليها في ذاتها إبطاء مستوى الاستثمار. ذلك أن حملة الأسهم "أصحاب الدخول الريعية" يمكن أن يقرضوا جزءا من دخولهم مرة أخرى لاستثمارات جديدة – وهم يفعلون ذلك إذا اعتقدوا أنهم سيحققون أرباحا كافية. ويقرر أحد أنصار دعوى "تعظيم القيمة لحملة الأسهم" أن معظم الاقتصاديين يرون أن:

"الاستثمار المالي ليس استخداما للدخل وإنما تحويل للأصول. فشراء الأسهم ينقل السيولة من أحد الفاعلين الاقتصاديين إلى آخر، وربما من شركات فرص الاستثمار لديها سيئة إلى أخرى تتمتع بفرص استثمار أفضل. ولذلك فإن الاستثمار المالي لا يمكن الاستعاضة به عن الاستثمار الحقيقي من زاوية الاقتصاد الكلي."(61)

ويقول كروتي أن عملية الأمولة، بزيادتها المنافسة بين الشركات، تؤدي عند نقطة معينة إلى جلب مزيد من الاستثمارات "مكرهة".(62) إن المؤسسات المالية الكبيرة قطعا ليس لديها موقف مبدئي ضد الاسثتمار الإنتاجي، حتى وإن كان قطاع التمويل قد ابتلع نسبة عالية بلغت ذروتها عند 25% من جملة الاستثمارات في الولايات المتحدة في عام 1990 مقابل 12% فقط في منتصف سبعينيات القرن الماضي،(63) وارتفعت إلى ما يقرب من نصف الاستثمارات في بريطانيا في نفس الفترة.(64) وقد تبين ذلك في أواخر تسعينيات القرن الماضي عندما شهد ازدهار قطاع التكنولوجيا الجديدة استثمارا صناعيا في الولايات المتحدة جرى تمويله عبر الاقتراض من هذه المؤسسات حتى تجاوز جملة المدخرات.

 

إن الهيمنة المفترضة لقطاع التمويل على قطاع الإنتاج ترد غالبا إلى قيام بنك الاحتياطي الفيدرالي تحت رئاسة بول فولكر بزيادة أسعار الفائدة زيادة كبيرة في 1979. ويرى كل من بوير وكروتي وتشيسنيه ودومينيل وليفي أن "انقلاب فولكر" كان نقطة فاصلة. ويعتبره دومينيل وليفي بمثابة الانتصار العظيم لقطاع التمويل، ويرون أنه كان السبب في أن أسعار الفائدة المرتفعة "استمرت طوال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين.(65) إن هذه الدعاوى تحمل في طياتها نوعا ما أن قطاع التمويل عموما وحملة الأسهم على وجه الخصوص كانوا يعيشون في معاناة خلال عقود الرخاء الطويل وأنهم لم يتمكنوا من التعبير عن مشاعرهم إلا مع "انقلاب" أواخر السبعينيات من القرن الماضي. غير أن هذه الدعوى ببساطة لا تساندها الحقائق التاريخية. فقد اتسمت عقود ما بعد الحرب بشيوع الثقة الهائلة بالنفس وسط كل قطاعات الرأسمالية. ولم يكن "العصر الذهبي" لرأس المال الصناعي بأي معنى جحيما قائما بالنسبة لحاملي الأسهم والممولين. بل إنهم جميعا ربحوا حيث ترجم نمو الاستثمار الإنتاجي مرتفع الربحية إلى أرباح رأسمالية آمنة في الأجل الطويل.

غير أن نوعا من التغيير قد طرأ مع أزمة سبعينيات القرن العشرين، فقد كره الصيارفة والشركات متعددة الجنسية تعامل "السياسة الاقتصادية الكينزية" مع أزمة السبعينيات من حيث أنها أدت إلى التضخم وانخفاض قيمة الدولار. ومع ذلك، كما يوضح روبرت برينر، لو أن هذه السياسة نجحت في حل مشكلات الربحية وفائض الطاقة الإنتاجية في الصناعة عند بقية قطاعات الرأسمالية الأمريكية، "فمن المعقول تماما أن التحالفات القوية التي شكلت من المصالح المحلية والدولية لتحشد ضدها كانت ستفشل."(66) واقع الأمر أن السياسة الكينزية لم تحقق هذه الأهداف الرأسمالية. بل إن الانتعاش الاقتصادي المحدود من ركود أعوام 1974 إلى 1976 أدى إلى زيادة مستوى التضخم، الذي  بلغ 13.3 بالمئة. وترتب على تلك الزيادة نتيجتان كان لهما تأثير سلبي على جميع قطاعات رأس المال. فكان محتملا أن تدفع العمال إلى الصراع حول مستوى الأجور، كما أنها كانت تقوض قدرة الدولار الأمريكي على القيام بدور المعيار في التعاملات بين الرأسماليين الأمريكيين وبعضهم. وكان هدف الزيادة في أسعار الفائدة أن تحل هاتين المشكلتين – وذلك عبر تخفيض مستوى النشاط الاقتصادي حتى يخاف العمال ويقبلون بزيادة منخفضة في الأجور(وقد حققت ذلك) بالإضافة إلى تخفيض معدل التضخم (وقد حققت ذلك أيضا). ساعدت تلك الزيادة على أن تحقق بعض قطاعات رأس المال أرباحا، كما تسببت في ركود أضر ببعض قطاعات رأس المال الإنتاجي الأمريكي. غير أنها خدمت المصالح العامة للرأسماليين الأمريكيين في مجموعهم.

فكما لاحظ ماركس، تحتاج الرأسمالية إلى النقود حتى تقوم بدور معيار مستقر للقيمة إلى حد مقبول، حتى لو وقع الإضرار بالمجتمع ككل من أجل تحقيق ذلك:

"إن زيادة أسعار الفائدة … يمكن أن تبلغ بهذا القدر أو ذاك حدودا قصوية عن طريق الخطأ، استنادا إلى نظريات زائفة حول النقود وفرضها على الأمة من قبل مصالح مقرضي الأموال… غير أن أساس ذلك يوضع مع الأساس الذي يقوم عليه نمط الإنتاج نفسه. إن انخفاض قيمة نقود التسليف قد يؤدي إلى اضطراب كل العلاقات القائمة. ولذلك تجري التضحية بقيمة السلع بهدف المحافظة على هذه القيمة المتخيلة للنقود ووجودها المستقل… فمن أجل ملايين قليلة في صورة نقد يجب التضحية بملايين كثيرة في السلع. وهو أمر حتمي في ظل الإنتاج الرأسمالي ويشكل واحدا من خصائصه المميزة. (67)                                

 

كانت معاناة مئات الملايين نتيجة قيام فولكر بزيادة سعر الفائدة ثمنا مقبولا من أجل استعادة معيار ثابت نسبيا للقيمة بقدر ما كانت الرأسمالية الأمريكية ككل معنية بالأمر – وبقدر ما ساعد في تعزيز سيطرتها على مناطق أخرى من العالم. إن "الانقلاب" الذي قام به فولكر (والتحول إلى السياسة النقدوية تحت حكم تاتشر في بريطانيا) تمثل في الانتقال من سياسة كان يفترض منها استعادة ربحية الصناعة الإنتاجية – بزيادة عرض النقود حتى تسمح بزيادة الأرباح والأسعار – إلى سياسة أخرى تقوم على تشجيع زيادة أسعار الفائدة بما يضغط على الشركات غير الرابحة ويدفعها خارج السوق ويضغط على العمال من خلال البطالة ويدفعهم إلى قبول أجور أقل. إن رأس المال – وليس فقط رأس المال التمويلي – كان في مسار الإقرار بأن الأفكار الكينزية الجامدة حول الرخاء الطويل لا تستطيع مواكبة المرحلة الجديدة التي وجد رأس المال (بما في ذلك رأس المال الصناعي) نفسه فيها.

وعندما لم تحقق هذه المناورة إلا نتائج محدودة للغاية، وعندما أصبح واضحا أن أسعار الفائدة المرتفعة  بدأت تلحق أضرارا خطيرة بالصناعة الأمريكية، قام فولكر بتخفيضها – ولم يكن ذلك بضغط من رجال الصناعة فقط، وإنما كذلك بضغط من قطاعات من رجال التمويل.(68) فكان اتجاه أسعار الفائدة الحقيقية طويلة الأجل اتجاها هبوطيا، لا صعوديا، على مدى 25 عاما تالية، رغم أنها بقيت أعلى من مستوى فترة الرخاء الطويل حتى عام 2000، انخفضت بعدها إلى حوالي واحد بالمئة في عام 2003.

إن الزعم بوجود قطاعين متمايزين في رأس المال – رأس مال تمويلي ورأس مال صناعي – زعم في مجمله قابل للطعن فيه. إن كثيرا من مؤسسات التمويل الكبيرة لا تقوم فقط بإقراض النقود وإنما أيضا باقتراضها، حيث أنها تنخرط في "أعمال الوساطة" بين مقرضي الأموال ومقترضيها. وما يهمها أكثر ليس المستوى المطلق لأسعار الفائدة، وإنما الفجوات التي تنشأ بين مختلف أسعار الفائدة، وتحديدا بين أسعار الفائدة طويلة الأجل وأسعار الفائدة قصيرة الأجل. كما أن الشركات الصناعية الكبيرة تقوم بإقراض النقود كما تقوم باقتراضها. وهي عادة تراكم الفوائض بين فترات الاستثمار الجديد، وتقوم بإقراضها مقابل الفائدة (أنظر الفصل الثالث).  كما أنها تقوم بتقديم ائتمان لتجار الجملة الذين يتسلمون منتجاتها منها. وباختصار، يتسم رأس المال الصناعي ببعض خصائص رأس المال التمويلي. وكما يوضح إيتوه ولابافتساس: "إن الإيرادات في صورة الفائدة تميل إلى أن تعود أيضا على الرأسماليين الصناعيين والتجاريين، ولا يمكن أن تكون أساسا حصريا بالنسبة لشريحة اجتماعية.(69) يؤكد هذه الفكرة توماس سابلوسكي – الذي يتبنى رؤية "تعظيم القيمة لحاملي الأسهم" جزئيا:

"على مستوى المعنى الشائع البسيط، لا يبدو أن هناك مشكلة في الحديث عن التمويل والصناعة كما لو كانا موضوعين يسهل التمييز بينهما. غير أن تحديد مفاهيم رأس المال الصناعي ورأس المال التمويلي ليس مهمة سهلة…"(70)

ولكن إذا كان ذلك صحيحا، يصعب علينا أن نفهم كيف أمكن إلقاء اللائمة بسهولة على قطاع التمويل في الأزمات التي تكررت خلال العقود الأربعة الأخيرة – سواء في الأزمات المالية أو الصناعية. إن تفسيرا متماسكا لهذه الأزمات يجب أن يتناول النظام ككل بالدراسة، وكذلك الطريقة التي يجري من خلالها تفاعل مختلف مكوناته مع بعضها. وهذا ما حاول ماركس أن يضطلع به في مناقشة طويلة، وإن كانت متفرقة وغير مكتملة، للائتمان والتمويل في الجزء الثالث من كتابه رأس المال. وهو أيضا ما حاول هيلفردينج القيام به مع الفصول الأولى التي تتناول هذه القضايا في كتابه رأس المال المالي.  إن هذه الأفكار تحتاج إلى التطوير حتى تأخذ في الاعتبار هذا التطور الاستثنائي في قطاع التمويل ومؤسساته والأزمات المالية في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين.

 

الأيديولوجيا والتفسير

إن أي أزمة كبيرة لا يكون لها تداعيات اقتصادية فقط. إنها تدفع الرأسمالي إلى مواجهة رأسمالي آخر حيث يسعى كل منهما إلى إلقاء تكلفة الأزمة وأعبائها على كاهل الآخرين، وفي نفس الوقت تخلق شعورا عميقا بالمرارة بين جمهرة السكان. ينطبق هذا النموذج على الأزمة التي بدأت في عام 2007، وكان توجيه اللوم إلى البنوك يمثل مهربا بالنسبة لجميع من دافعوا بحماسة عن فكرة أن الليبرالية الجديدة والعولمة الرأسمالية تعد الإنسانية بمستقبل مجيد.

هكذا زعم جوردن بروان أن هذه الأزمة "كانت نوعا من الأزمات مختلفا تماما" عن أزمات "الأعوام الستين السابقة"، حيث أنها كانت "أزمة مالية عالمية تسببت فيها ممارسات غير مسئولة في إقراض الأموال، من تساهل فيها وعيوب في النظم الرقابية".(71) وبهذه الطريقة أزيح جانبا واقع 180 عاما من الأزمات الدورية في محاولة مستميته لمواصلة التغني بفضائل الرأسمالية.

أولئك الاقتصاديون الراديكاليون ممن يشددون على دور عملية الأمولة في صناعة الأزمة يخاطرون بذلك بفتح المجال لهذه الأفكار التبريرية للنظام. أما الجانب الذي يميز حجتهم فهو الادعاء بأن معدلات الربحية قد انتعشت في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي بما كان يكفي لتحقيق انتعاش للاستثمار الإنتاجي لولا قوة ونفوذ المصالح المالية. فكانت هذه حجة الماركسي الفرنسي مايكل هوسون عندما زعم في عام 1999 بأن "مستويات الربحية عالية"(72)، كما كان كل من ستوكهومر ودومنيل يردد نفس الكلام إلى حد كبير في خريف عام 2008. (73). إذا كانت آراؤهم صحيحة لكان للأزمات التي اندلعت في عام 2001، وفي عامي 2007-2008 على نطاق أوسع كثيرا، أسباب أخرى مختلفة تماما عن أسباب الأزمات السابقة، بما فيها أزمة ما بين الحربين، ولكان إحكام السيطرة من قبل الدولة القائمة على سلوك قطاع التمويل في القرن الحادي والعشرين كافيا لوقف هذه الأزمات. واتساقا مع هذا النهج، وصف دومينيل وليفي "الرؤية الكينزية" بأنها "جد معقولة" وتطلعا إلى تنظيم "تحالفات اجتماعية" من أجل "وقف الهجمة النيوليبرالية وتفعيل سياسات جديدة – أي طريقة مختلفة في إدارة الأزمة."(74)  

غير أنه كما نفهم من مختلف حسابات معدل الربحية في الفصلين الثامن والتاسع، لا يبدو لدينا ما يبرر مزاعم أن أزمات الحاضر لها جذور تختلف عن جذور أزمات الماضي. قد يختلف شكل الأزمة في كل مرة عن شكل الأزمة الأخيرة، لكن أثرها سوف يكون مدمرا بنفس الدرجة. ولن تمنع أي درحة من التنظيم في قطاع المال وحده تكرار الأزمة، كما أن تكلفة محاولة الدولة الرأسمالية لمنع تكرارها قد تصبح عبئا لا يمكنها احتماله.

حقيقة أن "عملية الأمولة"، من حيث أنها نشأت عن وضع انخفضت فيه معدلات الربحية والتراكم، قد أثرت في كل منهما (معدل الربح ومعدل التراكم – المترجم).  فكان هناك فاقد اقتصادي هائل بسبب توجيه عمل ومهارات للقيام بتحريك النقود من جيب إلى جيب آخر؛ وبسبب استخدام موارد مادية، كان يمكن استخدامها إنتاجيا، في بناء وتجهيز وحدات إدارية ومكاتب فاخرة تزداد ضخامة، وبسبب أن "سادة العالم" من رجال المال انهمكوا في الاستهلاك بسفه ملحوظ.  وقد يرجع ذلك أيضا، كما يرى بن فاين، إلى أن من نتائج عملية الأمولة أن "وضعت إسفينا ... بين التراكم الحقيقي والتراكم الوهمي"(75) ما أدى إلى صعوبة أن يرى الرأسماليون ويدركوا فرص الاستثمار الإنتاجي عبر ضباب الأسواق. غير أن المشكلات الأشد عمقا التي تواجه قطاعات رأس المال الإنتاجية هي التي صنعت هذه الأوضاع في نهاية المطاف. إن قطاع التمويل طفيلي يتطفل على طفيلي، وليس مشكلة يمكن التعامل معها بمعزل عن الرأسمالية ككل. 

 

تناقضات النظرية الكينزية الجديدة

إن الصعوبات التي واجهت الحكومات في التعامل مع الأزمة وحدها كشفت كيف أن الأزمة تمتد جذورها في النظام الاقتصادي ككل، فقد كانت أزمة أوقعت أضرارا برؤوس الأموال الكبيرة ولم تقتصر أضرارها على من يعملون لديها. لقد سقط "همتي دامتي" فعلا من أعلى أسوار القصر، غير أن جميع رجال الملك وجميع خيوله تبدو عاجزة عن جمع أشلائه ثانية.

كانت استجابة جميع الحكومات تقريبا للأزمة التي اندلعت في 2007-2008 هي التحول عن سياسة السوق الحرة التي كانت تمجدها على مدى ثلاثة عقود باعتبارها السياسة الوحيدة الناجحة. وبين ليلة وضحاها تخلت هذه الحكومات عن هايك واستبدلته بكينز ولم تحافظ على شيئ من فريدمان إلا تشجيع زيادة المعروض النقدي وقاية من الانكماش.(76)

غير أن الظروف التي استدعت تطبيق السياسات الكينزية على أمل نجاحها كانت أسوأ من تلك الظروف التي جرى فيها تجربة تلك السياسات ثم التخلي عنها منذ ثلاثين عاما، فكان حجم الخسائر المعروفة التي تكبدتها البنوك هائلا بما يجعل خسائرها في منتصف سبعينيات القرن الماضي تبدو قزمية أمامها – ومع كل بنك يعلن إفلاسه، لم يكن هناك من يعرف أي بنك من البنوك الأخرى كان دائنا له وقد يعلن إفلاسه أيضا.

كانت مخصصات الإنقاذ التي أعلن عنها تزيد زيادة هائلة عن جهود "الاتفاق الجديد" الذي أعلنه روزفلت في ثلاثينيات القرن العشرين، فبلغت ذروة الإنفاق الفيدرالي بالولايات المتحدة آنذاك أكثر قليلا من 9 بالمئة من الناتج القومي في عام 1936. أما في هذه الجولة، فكانت نسبة الإنفاق الفيدرالي إلى الناتج القومي 20 بالمئة فعلا قبل أن تبدأ الأزمة، كما أن إدارتي بوش ثم أوباما بعد ذلك رفعتا هذه النسبة عدة نقاط مئوية أخرى. غير أن مستويات المديونية في النظام  كانت أضخم كثيرا، والتي كان يلزم تغطيتها بصورة أو أخرى إذا أريد للنظام المالي أن يبدأ العمل مرة أخرى. قدر جورج سوروس "إجمالي الديون مستحقة السداد" عند 160 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي في عام 1929، ترتفع إلى 260 بالمئة في عام 1932، أما في عام 2008 فقد بلغت هذه النسبة 365 بالمئة و "ينتظر أن ترتفع إلى 500 بالمئة"(77). وفي خريف عام 2008، قدر بنك انجلترا المركزي خسائر النظام المالي عالميا عند مستوى بلغ من الارتفاع نحو 2800 مليار دولار أمريكي.(78) أما خسائر البنوك الأمريكية وحدها فقد قدرها نورييل روبيني عند 1800 مليار دولار في بداية عام 2009.(79) وبينما كانت الحكومات تضخ نقودا في الاقتصاد، كان اقتصاديو التيار السائد الذين يقدمون لها المشورة يتجادلون فيما بينهم حول ما إذا كانت هذه النقود كافية لمنع تحول الركود إلى أزمة كساد، وما إذا كانت الحكومات سوف تستطيع جمع النقود دون أن تدفع أسعار الفائدة إلى الارتفاع وهي التي تحاول تخفيضها، وما إذا كان ينبغي عليها التحول إلى "التيسير النقدي" – أي طباعة النقود – وما إذا كان أي نجاح تحرزه في ذلك قد لا يتضمن المخاطرة بحدوث موجة تضخمية جديدة وتعاظم الأزمة أكثر.(80)  

لم تكن المشكلة تكمن فقط في حجم خسائر البنوك، بل كانت تكمن كذلك في ذلك التدويل الواسع للنظام مقارنة مع ثلاثينيات القرن العشرين أو حتى سبعينياته. كانت الإجراءات العلاجية الكينزية للتعامل مع الأزمة إجراءات مصممة لأن تطبقها حكومات وطنية، لا تملك أي منها موارد تكفي لتحمل أعباء جميع الخسائر التي تكبدها النظام العالمي التي كانت جزءا منه. ربما كانت الدول الأكبر منطقيا قادرة على إنقاذ جانب كبير من نظامها المالي الوطني. ولكن، حتى هنا، كانت المشكلات كبيرة، وكثير من الدول الأصغر لم يكن لديها فرصة لاحتمالها.

 

النظام في فخ       

كشفت هذه الأزمة واحدا من خطوط الصدع الكبرى التي تسري في جسد الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين. إن التفاعل المعقد بين الدول ورؤوس الأموال الذي يشار إليه تبسيطا بمصطلح العولمة يجعل قيام الدول القومية بوظيفتها في مساعدة رؤوس الأموال الضخمة التي تعمل داخلها أمرا أشد صعوبة بكثير، خاصة عندما تكون رؤوس الأموال هذه في أمس الحاجة لتلك المساعدة. فكما أوضح بول كروجمان أن "عوامل خارجية كبرى ترتبط بالسياسة"، حيث "أن الحوافز المالية التي أقدمها تساعد اقتصادكم، بزيادة صادراتكم – غير أنكم لا تتقاسمون أعباء ما أضيفه إلى ديون الحكومة" ولذلك "فإن عائد كل دولار ينفق في تحفيز الاقتصاد بالنسبة لكل دولة منفردة أقل من عائده بالنسبة للعالم ككل." (81)

وقد كان تناقضا من شأنه أن يؤدي حتما إلى شقاق سياسي عميق داخل الطبقات الحاكمة القومية وإلى انقسامات مريرة بين الدول التي كان يفترض أنها تتعاون في مواجهة الأزمة. على المستوى المحلي، أعربت قطاعات من رأس المال عن تذمرها الشديد في عام 2007-2008 إزاء التكلفة المحتملة لعمليات إنقاذ قطاعات أخرى من رأس المال، وعلى المستوى الدولي تنازعت حكومات فيما بينها حيث أدى تركيز كل واحدة منها على بذل الجهود لمنع انهيار رؤوس الأموال التي تنتمي قوميا إليها إلى اتهامات فيما بينها بممارسة "الحمائية المالية". وكما قال أحد المراقبين لجريدة الفايننشال تايمز:

"إن قانونا قويا للنتائج غير المقصودة يعمل هنا بعد كل عمليات إنقاذ البنوك. ولسوف نشهد المزيد والمزيد من السياسات الحكومية ذات الطابع النشاطوي التي تميز الأنشطة الاقتصادية وفقا للانتماء القومي للفاعلين. وينبغي أن يثير ذلك قلقا عند الجميع."(82)

 

حذر جوردون براون، خلال المنتدى الاقتصادي العالمي في يناير 2009، ضد نزعة "الحمائية المالية"، ثم تعرض بعد ذلك لانتقاد شديد بدوره لارتكاب الخطيئة ذاتها عندما مارس ضغوطا على البنوك البريطانية حتى تضخ قروضها محليا ولا تقرض جهات بالخارج.(83) وتعرضت الحكومة الألمانية للانتقاد بسبب عدم تحفيزها لاقتصادها المحلي واعتمادها بدلا من ذلك على التصدير إلى الدول التي قامت بتحفيز اقتصادها؛ وبدورها انتقدت هي حزمتي الإنقاذ للحكومتين الفرنسية والبريطانية كنوع من أنواع الدعم المقدم لشركاتهما قد يلحق ضررا بالمصالح الألمانية؛ وهاجمت الحكومة الجديدة في الولايات المتحدة حكومة الصين بسبب "قيامها بالتلاعب في قيمة عملتها من أجل مساعدة صناعاتها: وردت حكومة الصين على ذلك بأن قالت إن قطاع المال بالولايات المتحدة هو من تسبب في كل هذه الفوضى؛(84) كما أن البلدان الأقل ثراءا ساورها القلق من أن تستخدم الولايات المتحدة "حالة القوة القهرية فتمتص رؤوس الأموال منها".(85) 

أما المدافعون أيديولوجيا عن حرية التجارة فقد حذروا من أن النزعة الحمائية تهدد بتعميق حالة الركود الاقتصادي مثل قانون سموت-هاولي في الولايات المتحدة الذي يفترض أنه تسبب في ذلك في صيف عام 1930 عندما رفع الرسوم الجمركية على بعض الواردات. ويلاحظ بيتر تامين أن "فكرة أن قانون سموت – هاولي بشأن التعريفة الجمركية كانت سببا رئيسيا في وقوع الكساد الكبير تمثل عقيدة راسخة… وقد شقت طريقها إلى ساحات النقاش الشعبية والكتابات التاريخية العامة."(86) غير أنه يضيف "أن هذه الفكرة رغم شعبيتها ورواجها تخفق في تفسير الكساد على كل من المستويين التاريخي والنظري." فلم تنخفض الصادرات إلا بنسبة 1.5 بالمئة من إجمالي الناتج القومي للولايات المتحدة خلال الفترة بين عامي 1929 و 1931، بينما انخفض إجمالي الناتج القومي بنسبة 15% خلال نفس الفترة.(87) أما أولى الخطوات الحقيقية للانتقال من قيعان الأزمة بعد ذلك بعامين ونصف فقد جاءت بعد إجراءات اتخذها روزفلت تضمنت وضع المصالح الرأسمالية القومية في المرتبة الأولى بتخفيض فعال لقيمة الدولار. وكما رأينا، كانت الإجراءات التي اتخذتها الدولة النازية في ألمانيا أكثر فاعلية في ذلك بكثير.  

بالنسبة للشركات التي توجه إنتاجها إلى السوق الوطنية بشكل رئيسي (وكانت تمثل الغالبية العظمى من الشركات في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين)، من الأفضل أن تعمل داخل دولة تنتهج سياسة حمائية من العمل في أخرى لا تنتهجها. كان ذلك هو المنطق الكامن في رأسمالية الدولة والمدارس الأيديولوجية المرتبطة بها: أي الكينزية، ونظرية التبعية والستالينية. فإذا استطاعت الدولة أن تسيطر على أكثر القرارات الاستثمارية أهمية داخل الاقتصاد القومي، يمكنها أن تطمئن إلى استيعاب كتلة فائض القيمة في تراكم جديد لرأس المال حتى إذا استمر معدل الربح في الانخفاض. غير أن هذه السياسة تواصل النجاح حتى تبلغ نقطة معينة عندها يصطدم الاندفاع نحو التراكم بالقيود التي تفرضها المساحة الضيقة للحدود الوطنية. وقد تكشف ذلك في إندفاع ألمانيا واليابان نحو توسيع حدودهما الوطنية بوسيلة الحرب في منتصف وحتى أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، وفي تدهور فاعلية اقتصاد السلاح بالولايات المتحدة بحلول أوائل سبعينيات القرن العشرين، وفي الأزمة التي مزقت الاتحاد السوفييتي بين عامي 1989-1991.

أما اليوم، فإن درجة الاندماج بين الاقتصادات الوطنية وحدها تعني أن تطبيقا جديا لحلول رأسمالية الدولة قد يلحق انهيارا كبيرا ببنية النظام ككل. غير أن ضررا أعظم قد يقع على النظام إذا لم تبذل الدول القومية أي جهد وتركت شركات عملاقة تهوي إلى الإفلاس على أمل أن تصفي الأزمات نفسها ذاتيا، كما يدعو أتباع هايك. إن الاتجاهين الرئيسيين اللذين أشار إليهما ماركس ويعملان في المدى الطويل – اتجاه معدل الربح نحو الانخفاض من ناحية، والاتجاه نحو تركيز وتمركز رأس المال من ناحية أخرى – يتحدان حتى يضعا النظام في حلقة خانقة. ولا ينشأ عن محاولات رؤوس الأموال والدول التي تعمل داخلها للتملص منها إلا زيادة التوترات فيما بينها – وزيادة الألم الذي تلحقه رؤوس الأموال وتلك الدول بمن تعتمد على عملهم في بقائها.

مع انخراط الدول في التدخل في الاقتصاد من أجل التعامل مع الأزمة بعد أكتوبر 2008، اعتقدت بعض قطاعات اليسار أن إحياء كينز يعني إحياءا لسياسات دولة الرفاه في حقبة الرخاء الطويل. فقد أعلن عمدة لندن السابق كين ليفينجستون في بريطانيا أن "الفرضيات الاقتصادية في فكر حزب العمال الجديد... قد نبذت." وصرح بولي توينبي قائلا: "أخيرا استيقظ حزب العدالة الاجتماعية ...وانتهى عصر حزب العمال الجديد." واعتبر ديريك سيمبسون، الأمين العام المشارك لأكبر نقابات المملكة المتحدة يونايت، التقرير التمهيدي للموازنة العامة "تمرينا للإحماء جديرا بالترحيب بعد ثلاثين عاما من عدم الحركة والسياسات الاقتصادية النيوليبرالية." غير أن الواقع سرعان ما كشف عن عكس ذلك. فقد استهدفت الحكومة أن تدفع فاتورة انتعاش اقتصادي قصير الأمد عن طريق تخفيض طويل الأجل في الإنفاق على التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية. ودمجت السياسة الكينزية الجديدة لصالح رأس المال مع استمرار سياسة الليبرالية الجديدة بالنسبة لمن يعملون لديه. لم تنفرد بريطانيا بذلك الدمج بين السياستين، ففي كل قسم من أقسام النظام العالمي، كانت محاولة التعامل مع ضغوط اتجاه معدلات الربح نحو الانخفاض في الأجل الطويل تعني استمرار بذل الجهود في دفع وتمرير "إصلاحات عكسية" في ساعات العمل ومخصصات الرعاية الاجتماعية ومعدلات الأجور والمعاشات. وتزايد هذا الاندفاع حدة مع انخفاض نمو الاقتصاد العالمي إلى الصفر ومخاطر الانخفاض إلى أقل من ذلك. إن التحول إلى الكينزية لم يعد النظام إلى حيويته القديمة ولا قدم خدمة لمصالح العمال والفلاحين والفقراء.  

لم يستطع النظام أن ينتعش من أزمة سنوات ما بين الحربين إلا بعد تدمير هائل للقيمة عبر أعنف أزمة عرفتها الرأسمالية في تاريخها أعقبتها أعنف الحروب. إن استعادة النظام إلى "عصر ذهبي" جديد يعني أن تدمير القيمة سوف يلزم أن يكون أضخم بما يتناسب مع ضخامة رؤوس الأموال اليوم وزيادة الروابط البينية لديها. فحتى إفلاس ثاني أكبر اقتصاد في العالم، أي اقتصاد الاتحاد السوفييتي، منذ عقدين لم يعد إلا بمكاسب هامشية على النظام ككل – أي سعر للنفط أقل مما كان سيحدث في ظروف مغايرة وبعض القوى العاملة رخيصة الثمن بالنسبة للشركات في غرب أوروبا.

من الضروري أن نكرر أن هذا لا يعني تلقائيا أن الأزمة بلا نهاية. إن الحدود التي تقيد مدى قدرة بعض رؤوس الأموال على جني المكاسب من دمار بعضها الآخر لا تعني عدم إمكانية جني المكاسب على الإطلاق. إن محو كثير من الشركات الصغيرة والمتوسطة من الوجود قد يوفر بعض الفرص للشركات العملاقة التي تدعمها الدول. كما يمكن، بل ويحتمل، أن تحدث فقاعات جديدة وفترات من النمو السريع في هذا الجزء أو ذاك من العالم. ولكنها لن تتضمن تقدما متجانسا للاقتصاد العالمي ككل ولن ينجم عنها إلا تمهيدا للطريق أمام فقاعات أخرى تنفجر وأزمات أخرى تندلع. ونتائجها لن تكون اقتصادية فقط.  

ليست هناك تعليقات: