الأربعاء، 6 أكتوبر 2010

مطرقة رأس المال وسندان السلطة ضد الدستور


حكم البدوي في ماله وظلم، وأثبت بالتجربة الحية والوقائع الصارخة أن عصبة رجال الأعمال في مصر لا شأن لهم بمبادئ وقيم حرية الرأي والتعبير، يطلبون حريتهم وحدهم في حماية مصالحهم وزيادة وتدعيم المواقع التي يستطيعون من خلالها تعظيم العائد على استثماراتهم وتعزيز سيطرتهم على القرار السياسي والتوجهات الاقتصادية، لكنهم ضد أي حرية أخرى لا يصب تيارها في مصارفهم.
رجل الأعمال الشهير، صاحب قنوات الحياة ومجموعة سيجما للصناعات الدوائية وحزب الوفد، أقال الزميل إبراهيم عيسى من رئاسة تحرير جريدة "الدستور" التي ارتبطت طوال تاريخها ومنذ تجربتها الأولى في منتصف التسعينيات بإبراهيم عيسى وزملائه الذين صنعوها وأعطوا لها شخصيتها الخاصة والمتميزة بين الصحف المصرية.
ورغم أنني لست من عشاق إبراهيم عيسى ولا أسلوبه في الكتابة والإدارة، فإني أعتقد أن إقصاءه عن الجريدة بهذا الأسلوب الفظ جريمة ارتكبها رأس المال بطغيانه وعدائه لحرية الرأي والتعبير وممالأته للسلطة دون أدنى مواربة.
اقتحمت أموال البدوي أبواب الجريدة وأسوارها لكي تتدخل وتسيطر وتهيمن على سياستها التحريرية وتغير طبيعتها، بل وتقرر ما ينشر على صفحاتها ومالا ينشر. وأثبتت محاولة السيد البدوي نفي ذلك على صفحة كاملة في "الدستور" عدد الأربعاء 6 أكتوبر هذه الحقيقة الساطعة، حتى أنه اعترف دون تردد بطلبه الاطلاع على مقالات قبل نشرها ناسيا أو متجاهلا أنه باعتباره المالك لا ينبغي أن يكون له أدنى علاقة بالتحرير والسياسة التحريرية التي هي شأن رئيس التحرير والمسئولين عنه في الجريدة. فقد طلب الاطلاع على مقال الدكتور محمد البرادعي ومقال الدكتور محمد سليم العوا حسب ما ذكره بنفسه. وبغض النظر عن المبررات التي ساقها لذلك، يظل هذا السلوك منافيا لكل القواعد التي من شأنها ضمان استقلال السياسة التحريرية عن ملاك الصحيفة.
وحقيقة الأمر أن قرار البدوي بإقالة عيسى يأتي إعلانا عن نيته مجاملة السلطة والجهات الأمنية في لحظة من لحظات الأزمة السياسية التي يعاني منها النظام الذي اتجه بالفعل إلى تشديد القبضة على وسائل الإعلام بمختلف طرق "قرص الأذن" حتى تلتزم خطوطا حمراء بعينها خلال الفترة المقبلة. من ذلك فرض الحظر على بث المحاكمات حتى تغيب رقابة الرأي العام عن المحاكمات الشائكة، مثل محاكمة هشام طلعت مصطفى وقضية مدينتي ومحاكمة قاتلي خالد سعيد، وذلك رغم أن الأصل في المحاكمة هو العلانية لضمان الرقابة الشعبية على القضاء. هذا علاوة على تأديب الإعلامي "عمرو أديب" ومقاضاة "وائل الإبراشي" وغيرهما.
سلوك السيد البدوي يثبت أن رأس المال في نهاية المطاف صديق وداعم للاستبداد والفساد الذي تعاني منه مصر وينتعش رأس المال في ظله ويستفيد من طغيانه وسيطرته حتى وإن زعم انتماءه للمعارضة. وهو في ذلك لا يختلف كثيرا عن رأس المال الذي يحكم مؤسسات صحفية كبرى في مختلف أنحاء العالم، من الولايات المتحدة إلى فرنسا وإيطاليا وغيرها من الدول التي جرت فيها حوادث إقالة ومحاصرة إعلاميين لا يعملون وفقا لأهواء "صاحب الدكان". غير أن ما يثير الأحزان أكثر فيما حدث في جريدة الدستور أن الجريدة كانت لها شخصيتها وسياستها المعروفة قبل أن يغزوها حصان طروادة عامدا لتغيير هذه السياسة وطمس هذه الشخصية بحرمان صاحب أكبر مساهمة في صناعتها من العمل فيها.
لا حرية للصحافة والرأي والتعبير مادام أصحاب رؤوس الأموال يستطيعون أن يتحكموا فيها بهذه الصورة الفجة، ومادامت الدولة تحتفظ بترسانة عامرة بأساليب الترويع والقمع والتشجيع والمنح سواء بالنسبة للصحفيين أو ملاك الصحف، فهل من بديل؟
الصحافة الشعبية ربما تقدم بديلا معتبرا في الأوضاع السائدة يضمن استقلال الصحافة عن سطوة رأس المال، لكنه يضعها في مواجهة مكشوفة ومباشرة مع سلطان آلة القمع.
وتقوم الصحافة الشعبية على أساس الملكية التعاونية بحيث يكتتب أعداد كبيرة من الناس بأسهم متساوية في رأسمال الصحفية وينتخبون لها مجلسا للإدارة ومجلسا للتحرير ينحاز إلى هموم الناس وحقهم في المعرفة وفي التعبير عن آرائهم، ويضمن استقلال الصحيفة عن سلطة أصحاب الأموال سواء الملاك أو المعلنون وولاء الصحيفة والمحررين للحقيقة ولجمهور القراء.
هناك الكثير من التجارب في العالم للصحافة التعاونية الشعبية تنجح في الصمود رغم هيمنة الإعلام الذي يسيطر عليه رأس المال والدولة، وقد استطاعت هذه التجارب أن تصمد بدعم من قوة وصلابة وحيوية المجتمع المدني من أحزاب ونقابات وجمعيات، علاوة على استعداد الجماهير لحماية مواقعها ومكتسباتها في مواجهة طغيان السلطة والمال. وفوق كل ذلك وجود نقابات متعددة للصحفيين مستعدة لمواجهة أي اعتداء على حرية الرأي والتعبير أو على حق الصحفي في الحصول على المعلومات وفي نشرها والتعليق عليها والتعبير عن رأيه بدرجة عالية من الحرية والوضوح. نقابات حقيقية للصحفيين تعتمد عليهم في وجودها وفي قوتها المالية والمادية وفي تأثيرها المعنوي هي التي تستطيع حماية الرأي والفكر وهي التي تستطيع مواجهة أصحاب السلطة وأصحاب الثروة عندما يعتدون على هذه الحريات الأصيلة للإنسان الي دفعت الشعوب ثمنا غاليا للحصول عليها.

ليست هناك تعليقات: