الأحد، 19 فبراير 2017

رأسمالية الزومبي - الفصل الثالث - قوى حركة النظام - تأليف كريس هارمان


الفصل الثالث - قوى حركة النظام

ترجمة رمضان متولي 

الواقع والأوهام
منذ أيام ماركس ومن جاءوا بعده مباشرة، تخللت تاريخ الرأسمالية أزمات اقتصادية كانت تحدث مرة واحدة تقريبا كل عشر سنوات – شهدت الولايات المتحدة الأمريكية 15 أزمة اقتصادية خلال 110 أعوام ما بين عامي 1810 و 1920. كانت الشركات تضخ استثمارات كبيرة على مدى سنوات قليلة، وتستخدم عمالا جددا؛ وينشأ عن بناء المصانع وشراء الآلات الجديدة طلب على منتجات صناعات كثيرة مثل الإنشاء والتعمير، وصناعة الصلب واستخراج الفحم، والتي بدورها تستخدم عمالا جددا؛ هؤلاء العمال الجدد يتلقون أجورا، تمكنهم بدورهم من شراء السلع.  وكانت معدلات النمو الاقتصادي شديدة السرعة تدفع الشركات لأن تبذل كل ما في وسعها من أجل إغراء سكان المناطق الريفية – وأكثر فأكثر سكان الدول الفقيرة الأخرى -  ببيع قوة عملهم في المدن. وتنخفض البطالة إلى حوالي 2 بالمئة. ثم يبدو دائما أن خطأ ما كان يحدث. الشركات العملاقة فجأة تشهر إفلاسها، وتلغي الطلب على منتجات كانت تشتريها من صناعات أخرى، فتشهر الشركات العاملة في تلك الصناعات أيضا إفلاسها؛ والعمال في كل مناحي الاقتصاد يطردون من أعمالهم– ولم يكن كثير منهم التحق بالصناعة إلا حديثا؛ ثم يفقدون قدرتهم الشرائية بما يتكفل بتردد الأزمة وانتقالها من صناعة إلى أخرى؛ وتكتسح حالة الذعر عموم الطبقة الرأسمالية، بينما تندفع أرقام البطالة بين ليلة وضحاها إلى 10 بالمئة أو أكثر، وتستمر كذلك عدة أشهر أو حتى سنوات حتى تنطلق مرحلة جديدة من النمو السريع.
كان علم الاقتصاد السائد في ذلك الوقت ينكر أن هذا النوع من "أزمة الانتاج الزائد" مرض مستوطن في النظام، مؤسسا حجته على مزاعم أحد مروجي أفكار آدم سميث بعد اختزالها اختزالا فجا، هو جون بابتست ساي. يزعم "قانون" ساي أن العرض والطلب لابد أن يلتقيا دائما، لأن أي شخص باع أي سلعة في أي وقت لابد أن شخصا آخرا قد اشتراها: فكان الادعاء بأن العرض يخلق الطلب الخاص به. وهكذا يجادل جون ستيوارت مل:
"إن وسيلة الدفع التي يملكها كل إنسان مقابل إنتاج الآخرين تتمثل في تلك (السلع) التي يملكها بنفسه. والبائعون جميعهم بالضرورة مشترون كما يقتضى معنى هذه الكلمة... إن زيادة العرض العام … لجميع السلع عن الطلب… مستحيلة… ويجب أن ينفق الناس … مدخراتهم …بشكل منتج؛ أي على تشغيل العمال." (1)
اضطر مؤسسو المدرسة النيوكلاسيكية إلى الإقرار بواقع أن الاقتصاد يشهد "دورة تجارية" أو "دورة اقتصادية" من الرخاء والركود، لا يتوازن العرض والطلب دائما أثناءها كما تدعي نظريتهم لسبب ما. وكان رد فعلهم على ذلك هو إرجاع هذه الأمور إلى عوامل خارجية تؤدي إلى تشوهات مؤقتة تطرأ على نظام صحي تماما في جوهره لولا تلك العوامل. هكذا كتب جيفونز أن الدورة الاقتصادية تنتج عن البقع الشمسية، التي ادعى أنها تؤثر سلبا على المناخ وبالتالي على إنتاجية الزراعة وربحية التجارة، بينما كان والراس يعتبر الأزمات صورا من الارتباك الناتج عن إخفاق الأسعار في الاستجابة للعرض والطلب، يمكن مقارنة تأثيرها بتأثير عاصفة عابرة على بحيرة ضحلة.(2) 
حاول بعض الاقتصاديين النيوكلاسيك المتأخرين تطوير نظريات عن الدورة الاقتصادية، وقدم أنور الشيخ تلخيصا لمقارباتهم:
"مازال ينظر إلى النظام باعتباره ذاتي التنظيم؛ فقط أصبحوا الآن يعتبرون التوازن عملية تتم عبر دورة اقتصادية لا عبر طريقة سلسة وممهدة...الدورة الاقتصادية في النظرية الأرثوذكسية ليست أزمة...ويجب اعتبار الدورات الاقتصادية "تذبذبا طفيفا"...ما يبرر للمرء تجاهلها عند المواجهة الأولى…موجات التوسع والانكماش الممتدة أو العنيفة تنشأ عن عوامل خارجية…ولذلك، وقوع الأزمات يظل خارجيا على العملية الطبيعية لإعادة الإنتاج الرأسمالية."(3)
وتظل هذه النظرة ثابتة فيما يعرف بـ "نظريات الدورة الاقتصادية الحقيقية". وترى هذه النظريات أن:
"الدورات الاقتصادية هي المحصلة الاجمالية للاستجابة المثلى للأفراد إزاء التغيرات التي تطرأ على البيئة الاقتصادية… ويفترض أن الدورة الاقتصادية تنطوي على تذبذب عشوائي (غير منتظم – كريس هارمان) حول اتجاه."(4)
وما زال (هؤلاء الاقتصاديون) يصرون على ألا يسمحوا لما يرونها انحرافات قصيرة الأجل بأن تقوض إيمانهم بمنظومة قوانين لا مجال للطعن فيها تحدد الكيفية التي يجب بها إدارة اقتصاد يتسم بالكفاءة.

إمكان وقوع الأزمة:
على النقيض من هؤلاء، يرى كارل ماركس أن إمكانية وقوع أزمات الانتاج الزائد كامنة في بنية وطبيعة الرأسمالية ذاتها. وفي فقرتين فقط في الجزء الأول من كتابه رأس المال، فند تماما الأفكار التي تأسست على قانون ساي. لقد أقر بطبيعة الحال بأن أي سلعة يبيعها شخص ما يكون شخص آخر قد اشتراها، لكنه جادل بأن ذلك لا يستتبع بالضرورة قيام البائع بشراء سلعة أخرى فورا وذلك بعد استخدام النقود في تبادل السلع في السوق كافة. فليست النقود معيارا للقيمة في تبادل السلع مباشرة فحسب، وإنما هي وسيلة لتخزين القيمة أيضا. فإذا قرر بعضهم ادخار النقود التي يحصل عليها مقابل سلعة باعها بدلا من إنفاقها فورا، فلن تتبقى نقود كافية في النظام ككل لإنفاقها على شراء جميع السلع التي جرى إنتاجها:   
"لاشيء يفوق  تفاهة تلك العقيدة الجامدة التي تزعم أن تدوال السلع يتضمن بالضرورة توازن عمليات البيع والشراء لأن كل بيع هو شراء وكل شراء بيع في نفس الوقت. إذا كان المقصود من هذا أن عدد عمليات البيع المتحققة فعلا مساوية لعدد عمليات الشراء، فهو مجرد تكرار فارغ للكلام.  إلا أنهم يقصدون البرهنة بهذه العقيدة الجامدة على أن البائع يجر وراءه شاريا خاصا به إلى السوق. لاشيء من ذلك يشبه الواقع. فالبيع والشراء يمثلان تبادلا بين مالك السلعة ومالك النقود، بين شخصين يواجهان بعضهما البعض مثل قطبي المغناطيس....
ما من أحد يستطيع أن يبيع دون أن يشتري منه شخص آخر. ولكن ما من أحد ملزم بالشراء في الحال بسبب أنه قد باع لتوه شيئا ما. إن تداول البضائع يخترق عقبات الزمان والمكان والأفراد التي تفرضها المقايضة المباشرة، وهو يحدث ذلك عبر تقسيم الوحدة المتناقضة، أي التطابق المباشر الذي يوجد في عملية المقايضة بين تخلي المرء عن ناتج عمله واستحواذه على ناتج عمل الآخر، إلى عملية بيع وعملية شراء. فإذا كان الفاصل الزمني كبيرا أكثر مما ينبغي بين هاتين المرحلتين المكملتين لبعضهما في إحداث التحول التام لأي سلعة، أو إذا كان الانفصال بين عملية البيع وعملية الشراء واسعا أكثر من اللازم، فإن الارتباط الوثيق بينهما، أو وحدتهما، يؤكد نفسه عبر إحداث أزمة."(5)

حتمية وقوع الأزمة:
تتضمن هذه الأفكار التي استخدمها ماركس في المجلد الأول من كتابه رأس المال "إمكانية وقوع الأزمات لا أكثر."(6) لكنه في المجلد الثالث من نفس الكتاب ذهب أبعد من ذلك إلى المناداة بفكرة حتمية الأزمات، وذلك عبر تجاوزه أكثر الاعتبارات تجريدا حول بيع وشراء السلع بواسطة النقود إلى البحث في العملية المادية التي ينطوي عليها الانتاج والتبادل الرأسمالي. ويلاحظ غالبا أن ماركس لم يقدم تحليلا واحدا مكتملا للأزمة، وإنما يشير إلى جوانب مختلفة منها في فقرات متناثرة في مختلف أجزاء النص.(7) غير أن بناء تحليل متماسك للأزمة من هذه الفقرات ليس بتلك الصعوبة.
نقطة الانطلاق في ذلك أن التراكم التنافسي يتضمن أن الرأسماليين يحاولون بشكل متزامن زيادة إنتاجهم من البضائع بقدر الإمكان وفي نفس الوقت يسعون إلى تعظيم أرباحهم عبر الحفاظ على انخفاض الأجور. غير أن الأجور تشكل جانبا هاما من النقود المتاحة لشراء البضائع. فيميل الانتاج إلى الحركة في اتجاه، بينما يميل استهلاك الجمهور إلى الحركة في اتجاه آخر:
 "إن شروط الاستغلال المباشر لا تتطابق مع شروط تحققه. بل تتباين هذه الشروط لا من حيث الزمان والمكان فحسب، وإنما أيضا منطقيا. فالشروط الأولى لا يحددها إلا القدرة الانتاجية لدى المجتمع، أما الثانية فيحددها العلاقة النسبية بين مختلف أفرع الانتاج وقدرة المجتمع على الاستهلاك. غير أن هذه الأخيرة تعتمد على شروط توزيع عدائية، تعمل على تخفيض استهلاك الجزء الأكبر من المجتمع إلى حد أدنى يختلف قليلا أو كثيرا في حدود ضيقة.  علاوة على أن قدرة المجتمع على الاستهلاك يقيدها الميل إلى التراكم، أي الاندفاع نحو توسع رأس المال وإنتاج فائض القيمة على مستوى موسع … وكلما تزايدت الانتاجية أكثر، كلما اتسعت الفجوة بينها وبين القاعدة الضيقة التي تعتمد عليها شروط الاستهلاك."(8)
فسر بعض الناس هذه الفقرة كما لو كانت تعني أن حقيقة تعرض العمال للاستغلال بذاتها تضع حدودا لحجم السوق وتصنع الأزمات.(9) وتشترك هذه النسخة من النظرية الماركسية القائمة على فكرة "نقص الاستهلاك" underconsumptionist  في بعض جوانبها مع أحد أشكال علم الاقتصاد السائد تم تطويره تحت تأثير جون ماينارد كينز خلال عقد الثلاثينيات من القرن الماضي. ويبدو أنها تخلص إلى أن الرأسمالية تستطيع أن تتفادى الأزمة إذا تدخلت الدولة لزيادة الاستهلاك في اللحظة التي يبدو فيها الركود محتملا.
لكن فكرة ماركس نفسه لا تتوقف عند الإشارة إلى إمكانية انخفاض الاستهلاك إلى مستوى أقل من الانتاج. بل ينتقل إلى التأكيد على أن الطبيعة المزدوجة لدى مجموعة واحدة من السلع، وهي التي تشكل وسائل الانتاج، باعتبارها قيما تبادلية وقيما استعمالية، تجعل تلك الأزمة حتمية. وقد أوضح اقتصادي ماركسي روسي في أواخر العشرينيات من القرن الماضي، هو بافل ماكساكوفسكي كيف تكشف هذه الطبيعة المزدوجة عن نفسها.(10) فكما رأينا، تتحدد القيمة التبادلية للسلعة بكمية العمل الضروري لإنتاجها باستخدام المستوى المتوسط للتكنولوجيا والمهارات العاملة في النظام ككل (وهو ما يشير إليه ماركس بمصطلح "العمل المجرد"). لكن انتاج السلع ينطوي على عمل إنساني ملموس يدخل الأشياء (القيم الاستعمالية) في تفاعل مادي فيما بينها. وحتى يكتمل الانتاج لابد من وجود العلاقات الصحيحة بين مختلف القيم التبادلية ومختلف القيم الاستعمالية.
هذه العلاقات تصبح أكثر تعقيدا كلما تطورت الصناعة. فآلات النسيج لا يمكن إنتاجها بدون الصلب؛ والصلب لا يمكن إنتاجه بدون خام الحديد والفحم؛ والفحم لا يمكن إنتاجه بدون آلات القطع وأجهزة الرفع وهكذا. غير أن سلسلة التفاعل المادي بين الأشياء تعتمد على سلسلة عمليات الشراء والبيع، وفيها شركات الفحم تبيع منتجاتها لشركات الصلب، وشركات الصلب تبيع لشركات النسيج، وشركات النسيج تبيع للمستهلكين – أي إلى أشخاص يتلقون أجورا أو أرباحا لإنفاقها من شركات أخرى طالما استطاعت أن تبيع بضائعها.     
هذه السلاسل المتداخلة والطويلة التي تربط بين الانتاج والاستهلاك النهائي لا تعمل إلا إذا توفر شرطان مختلفان تماما. فلابد من توافر العلاقات المادية الصحيحة بين الأشياء التي تستخدم في إنتاج أشياء أخرى وفق ما تحدده قوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا. وفي نفس الوقت، لابد أن يؤدي كل فعل من أفعال الإنتاج إلى زيادة كمية القيمة (أي كمية متوسط العمل المجرد) لدى ملاك كل شركة من الشركات المعنية. أي أن التنظيم المادي لإنتاج القيم الاستعمالية لابد بشكل أو بآخر أن يوافق التحديد الرأسمالي للأسعار بواسطة القيم (التبادلية.)
 أي فروق بين هذين الشرطين الضروريين تعني أن توسع الانتاج سوف يؤدي حتما إلى اختناقات في توريد المواد الخام، بما يؤدي إلى ارتفاع أسعارها، وتخفيض أرباح الرأسماليين الذين يشترونها، وبالتالي إعادة توزيع فائض القيمة لصالح منتجي المواد الخام على حساب الرأسماليين الذين ينتجون السلعة النهائية والمكونات الوسيطة. كما تعني كذلك إمكانية أن يبدأ الطلب على إحدى السلع الحيوية، وهي قوة العمل، في تجاوز المعروض منها، بما يؤدي إلى ضغوط نحو ارتفاع الأجور (على الأقل من ناحية قيمتها النقدية رغم أن العمال قد لا يرونها كذلك إذا تسبب ارتفاع أسعار المواد الخام في انخفاض القوة الشرائية للأجور عموما).
ليس هذا كل ما في الأمر، ولو كان كذلك لأصبحت المشكلة مجرد اتجاه نحو غياب التناسب والتجانس بين مختلف أجزاء الاقتصاد.(11) غير أنه توجد مشاكل أخرى. فعملية الانتاج لن تحدث مطلقا إلا إذا اعتقد الرأسماليون أن بإمكانهم الصمود في المنافسة مع الرأسماليين الآخرين عبر الحصول على معدل للربح يساوي على الأقل متوسط معدل الربح في النظام ككل. وحتى يضمنوا ذلك، عليهم إعادة تنظيم الانتاج بصورة مستمرة باستخدام تقنيات أكثر تقدما من أجل زيادة إنتاجية العامل. ولكن لأن كل الرأسماليين يحاولون أن يفعلوا ذلك، فإنهم يقومون باستمرار بتخفيض متوسط كمية العمل المطلوبة لإنتاج السلع – وبالتالي تخفيض قيمة السلع. سوف تميل كمية السلع المادية التي ينتجها النظام نحو الارتفاع، ولكن قيمة كل سلعة منفردة سوف تميل نحو الانخفاض. التنظيم المادي للإنتاج وتدفق القيمة خلال النظام، وهما الشرطان الضروريان لعمله، كلاهما يتغيران بشكل متكرر – لكن هذه التغيرات لا يحدث بينها أي انسجام تلقائي.
تقوم الشركات بالانتاج عبر شراء المعدات المادية (الآلات، والمباني، وأجهزة الكمبيوتر وهكذا) بأسعار تعتمد على كمية العمل الضروري لإنتاجها في لحظة محددة من الزمن. ولكن حتى أثناء سريان الإنتاج، تنخفض قيمة هذه المعدات والسلع التي تستخدمها الشركة في الإنتاج بتأثير زيادة الانتاجية في ركن آخر من أركان النظام. وتقوم حسابات الشركة المتعلقة بربحيتها على الكمية التي أنفقتها على شراء هذه المعدات في الماضي، لا على قيمتها الحالية – غير أنها لابد أن تحقق ربحا على استثمارها الأساسي. وهكذا، من نتائج معدل التراكم السريع الذي يميز فترة الرخاء أن تنخفض أسعار كل وحدة من الناتج، مما يؤثر سلبا على الأرباح التي تحققها استثمارات قامت بها الشركات من قبل في فترة الرخاء.
لا يقتصر الأمر على التغيرات المستمرة في قيم السلع، وإنما يوضح ماكساكوفسكي كذلك أن رد فعل الرأسماليين على هذه التغيرات يؤدي إلى اختلاف الأسعار عن القيم. فمع انخفاض الأرباح توقف بعض الشركات استثماراتها الجديدة لفترة، مما يؤدي إلى انخفاض الطلب على سلع شركات أخرى كانت تورد لها هذه السلع في السابق. ثم تسعى هذه الشركات الأخيرة إلى الحفاظ على حجم مبيعاتها عبر تخفيض أسعار منتجاتها إلى أقل من المستوى الذي تحدده قيمتها بينما تقوم بطرد العمال لحماية أرباحها من السلع التي تبيعها بأسعار مخفضة، وفي نفس الوقت توقف استثماراتها الجديدة خوفا من ألا تكون مربحة. ثم تنطلق موجة من الانكماش عبر الاقتصاد ومعها انخفاض عام في أسعار السلع إلى أقل من قيمتها.
غير أن الانكماش لا يستمر إلى الأبد. بعض الشركات تهوي إلى الإفلاس بما يسمح لشركات أخرى بشراء مصانعها وآلاتها بأسعار رخيصة، وبتخفيض الأجور التي يكون العمال على استعداد لقبولها. وفي النهاية، نبلغ نقطة يمكن لهذه الشركات أن تتوقع عندها ربحا أعلى من المتوسط إذا بدأت في دورة استثمار جديدة، فتنطلق موجة جديدة من التوسع مع مسارعة الرأسماليين إلى انتهاز فرصة تحسن شروط النشاط. وتدفع المنافسة الشركات إلى زيادة الاستثمار إلى مستوى يتجاوز مؤقتا مستوى الانتاج الحالي من الآلات الجديدة والمواد الخام والمكونات. "الانتاج الزائد" في فترة الركود يحل بدلا منه "نقص الانتاج" في فترة الرواج، وكما كانت أسعار السلع تنخفض إلى أقل من قيمتها في فترة الأزمة، فإنها ترتفع إلى أعلى من قيمتها في فترة الرخاء. غير أن هذه الأوضاع تستمر فحسب حتى دخول الآلات والمصانع الجديدة في الإنتاج، فيزيد الناتج في نفس وقت انخفاض قيمة كل سلعة على حدة، محولا بعض الاستثمارات إلى استثمارات غير مربحة فتبدأ مع مرور الوقت موجة أخرى من الركود.   
الفكرة المحورية هنا أن الدورة الاقتصادية لا تنتج عن قرارات خاطئة يتخذها الرأسماليون الأفراد أو حكوماتهم، بل تنتج عن نفس طريقة تعبير القيمة عن ذاتها من خلال الأسعار. ويحدث ذلك عبر تردد مستمر ترتفع خلاله أسعار السلع إلى أعلى من قيمتها ثم تنخفض إلى أقل من قيمتها، وليس عبر توازن مستمر من نوع ما.
لا يمكن إدراك ذلك دون أن نبدأ من التناقضات الموضوعية التي يعبر عنها مفهوم القيمة. وما كان لماركس أن يستطيع تقديم صورة عامة لقوى حركة النظام إلا عبر استخلاصه الدياليكتيكي لهذه التناقضات.

الائتمان ورأس المال التمويلي:
تتأثر فترات النمو والانكماش وتحتدم بسبب الدور الذي يقوم به الائتمان – وكذلك من يلعبون دورا خاصا في هذا المجال، وهم المصرفيون. 
في مسار عملية الانتاج الرأسمالي، يمر رأس المال عبر ثلاثة أشكال.(12) فيبدأ في صورة نقد، يتم استخدامه في شراء الآلات والمواد الخام اللازمة للإنتاج وقوة العمل كسلع، والتي بدورها تدخل مجتمعة في عملية الانتاج لإنتاج سلع أخرى، ثم تباع السلع الأخيرة للحصول على نقد أكثر، يستخدم بعد ذلك في شراء المزيد من وسائل الانتاج وقوة العمل. وبهذه الطريقة تتبع كل دورة إنتاج دورة أخرى إلى مالا نهاية بحيث أن "كل عنصر" فيها "يظهر كنقطة للانطلاق، والانتقال والعودة." (13)
يأخذ رأس المال إذن شكل نقد، وسلع، ووسائل إنتاج وقوة عمل، ثم سلع مرة أخرى، وأخيرا شكل نقد. ولابد أن توجد كل هذه الأشكال في تزامن مع بعضها حتى يعمل النظام. فحتى يستمر الانتاج دون توقف، لابد من وجود معروض من النقد لشراء السلع، ومعروض من السلع تشترى كرأس مال إنتاجي، ومعروض من قوة العمل. وهكذا تتكون دورة الانتاج الرأسمالي من ثلاث دوائر متداخلة – نقد، ورأس مال إنتاجي، وسلع. وكل دائرة تقوم بوظيفة في تراكم رأس المال – وذلك بدرجة معينة وفقا لدينامية خاصة بها.  
عندما كانت وحدات الانتاج صغيرة في مراحل الرأسمالية الأولى، كان الرأسمالي الذي يعمل في حقل الانتاج يستطيع العمل بصورة مستقلة إلى حد معين. فقد كانت لديه إمكانية تمويل شراء المصنع والآلات ودفع أجور عماله من جيبه الخاص، كما كانت عنده إمكانية بيع منتجاته مباشرة إلى المستهلكين لها.
ومع نمو حجم المؤسسات الفردية، وجد هذا الرأسمالي غالبا أن موارده الخاصة لا تكفي لأن يدفع مقدما ثمن المصنع والآلات والخامات التي يحتاجها. وكان عليه أن يقترض من آخرين. وبدأ يعتمد على الاقتراض، وعلى مؤسسات خاصة هي البنوك، تكون مستعدة لإقراض الناس مقابل فائدة على هذه القروض. 
في نفس الوقت، ومع زيادة حجم السوق، أصبح لا يستطيع أن يبيع بضائعة إلا بالاعتماد على متخصصين في تجارة الجملة والتجزئة، لا يستطيعون بدورهم أن يدفعوا ثمن كل هذه البضائع إلا بعد أن يبيعوها إلى المستهلك النهائي. وبذلك يكون صاحب رأس المال الإنتاجي قد اقترض من ناحية وأقرض من الناحية الأخرى. وأصبح الائتمان جزءا لا غنى عنه من عملية الإنتاج الرأسمالي. وكلما ازداد حجم الانتاج الرأسمالي في اقتصاد بعينه، كلما أصبحت سلسلة الائتمان، أي عمليات الإقراض والاقتراض، أكثر تعقيدا وامتدادا.
كذلك يستطيع الرأسمالي الذي يعمل في حقل الإنتاج أن يصبح مقدما للقروض من الحجم الكبير. فما يملكه من رأس المال الثابت – مباني المصنع والآلات – لا يحتاج إلى التجديد إلا كل بضعة أعوام، بينما الانتاج يوفر له تدفقا ثابتا بهذا القدر أو ذاك من الأرباح. ويستطيع أن يقرض هذه الأرباح إلى آخرين خلال الفترة التي تسبق تجديد رأس المال الثابت – وذلك مقابل أن يدفعوا له فائدة.
ما أن يكتمل تطور الرأسمالية إلى نظام إنتاج مهيمن في اقتصاد بعينه، يصبح إقراض الأرباح السابقة التي يملكها الرأسماليون العاملون في حقل الإنتاج، ممن لا يرغبون في إعادة استثمارها فورا، المصدر الرئيسي للتمويل بالنسبة للرأسماليين الذين يرغبون في الاستثمار ولا يمتلكون أرباحا سابقة بما يكفي لذلك. ويظهر النظام المالي كشبكة من المؤسسات الوسيطة بين مختلف الرأسماليين العاملين في حقل الإنتاج (والدولة أيضا بقدر ما تدفعها الفوارق القائمة بين دخلها المباشر من الضرائب وإنفاقها المباشر إلى أن تقرض وتقترض).
ويسعى أولئك الذين يديرون مؤسسات التمويل إلى تحقيق أرباح تماما كما يفعل الرأسماليون العاملون في حقل الإنتاج. فهم يملكون أموالا (رأس المال المصرفي) يدفعون منها نفقات التشغيل ويعبرون بها أي فجوة قد تظهر بين عمليات الإقراض والاقتراض التي يقومون بها (أو على الأقل مخصصة لعبور هذه الفجوة – ففي أغلب الأوقات في تاريخ النظام لم يعبروها)، ويتوقعون أن يحققوا أرباحا عليها، تماما كما يحقق الرأسماليون العاملون في الإنتاج أرباحا على رؤوس أموالهم. غير أنه يوجد اختلاف بينهما، فأرباح من يعملون في مجال التمويل لا تأتي مباشرة من الإنتاج، وإنما يحصلون على حصة من أرباح الرأسماليين العاملين في حقل الإنتاج مقابل إقراضهم – أي مدفوعات الفائدة.
  وغالبا، تخلط الكتابات التي تنتمي إلى الفكر الاقتصادي السائد بين سعر الفائدة ومعدل الربح. وحقيقة الأمر، يختلف مستوى واتجاه حركة كل منهما تماما عن الآخر. فكما رأينا أن معدل الربح يحدده معدل فائض القيمة إلى الاستثمار في عملية الانتاج. وفي مقابل ذلك يعتمد سعر الفائدة فقط على عرض الأموال القابلة للإقراض والطلب عليها. فإذا زادت النقود المتاحة للإقراض في أي اقتصاد، يتجه سعر الفائدة إلى الانخفاض؛ وإذا ارتفع الطلب على الاقتراض يميل سعر الفائدة نحو الارتفاع.
وحيث أن أرباح الرأسماليين العاملين في حقل الإنتاج هي المصدر الرئيسي للأموال المتاحة للإقراض، يدفع ارتفاع معدل الربح إلى انخفاض سعر الفائدة. من ناحية أخرى، إذا كانت الأرباح منخفضة، سوف يسعى كثير من الرأسماليين في حقل الإنتاج أنفسهم إلى الاقتراض ما ينشأ عنه ضغوط نحو زيادة سعر الفائدة. وتعتمد نتائج عمل تلك الضغوط المتناقضة على أسعار الفائدة على عوامل أخرى، خاصة عمليات الاقتراض والتسليف التي تقوم بها الدولة وحركة الأموال إلى داخل أو خارج الاقتصاد القومي. لكن هذه العوامل الأخرى لا يمكنها أن تلغي الضغوط التي يمارسها قطاع الانتاج الحقيقي على قطاع التمويل.
وتنشأ عن مجمل هذه الأوضاع تعقيدات أخرى، فعمليات الإقراض التي تقوم بها مؤسسات التمويل لا تقتصر بالضرورة على كمية الأموال التي توجد تحت تصرفها فعلا والناتجة عن استثمارها الخاص وقروضها. وتستطيع هذه المؤسسات أن تفترض أن ما اقترضته من أموال لن تضطر إلى سداده فورا. ولذلك يمكنها أن تزيد عمليات الإقراض بما يتجاوز قدراتها الآنية، واثقة من أنها سوف تسترد ما يكفي من هذه القروض لسداد ديونها الخاصة عندما يحين أجل استحقاقها.
ويكون لهذا الافتراض معنى طالما استمرت زيادة الإنتاج في القطاع الإنتاجي من النظام؛ حيث يمكن سداد الزيادة في الإقراض اليوم من زيادة الانتاج وفائض القيمة في مستقبل غير بعيد.
وهذه النبوءات بإمكانية استرداد الزيادة في الإقراض تحقق نفسها ذاتيا إلى درجة معينة، حيث أن زيادة الإقراض إلى رأس المال الانتاجي تشجعه على زيادة حجم استثماره وإنتاج المزيد من الأرباح التي يسدد منها قروض المصرفيين. غير أنها تصل في نهاية المطاف دائما إلى نقطة يؤدي عندها الاندفاع نحو تحقيق أرباح من التمويل إلى مستوى من الإقراض يتجاوز ما يستطيع التوسع في الإنتاج الحقيقي سداده، ما ينتج عنه أزمات مالية من ناحية ومساعي للإفلات من تأثيرها بوسائل الغش والخداع من ناحية أخرى. وكما يقول ماركس: "يعمل نظام الائتمان على تسريع التطور المادي لقوى الانتاج والسوق العالمية"، ولكنه يفعل ذلك عبر تطوير "الحافز نحو الإنتاج الرأسمالي، والإثراء عبر استغلال عمل الآخرين، إلى أشد أشكال المقامرة والغش نقاءا".(14) إن التمويل يدفع "العملية (الإنتاجية) إلى ما وراء حدودها الرأسمالية" ما ينتج عنه "تجارة زائدة، وإنتاج زائد، وائتمان يتجاوز المعقول" (15) بأساليب ترتد على الانتاج نفسه.  
رؤية ماركس لهذه العملية استبقت بقرن من الزمان تحليل هايمان مينسكي (16) الذي يحظى حاليا بانتشار واسع، ووفقا لهذا التحليل تنتقل الأنشطة التمويلية دائما من مرحلة من النشاط الطبيعي الذي يحقق أرباحا (التحوط) إلى مرحلة من المضاربة تبلغ ذروتها في نقطة (لحظة مينسكي) لا يمكن عندها استراداد كل ما تم إقراضه -  ما يشجع أفكار الاحتيال - من نوع توظيف الأموال أو التسويق الشبكي (Ponzi or Pyramid schemes) (17) -  تستخدم فيها أموال المستثمرين الجدد لسداد أسعار فائدة مرتفعة لقدامى المستثمرين.
آخر هذه التعقيدات أن المؤسسات المالية لا تستخدم أموالها في إقراض رأس المال الإنتاجي فحسب، بل تقرض الأفراد أيضا لتلبية متطلباتهم (خاصة شراء العقارات)، أو لشراء أسهم في شركات قائمة فعلا عبر سوق الأوراق المالية. وينتظر أن يحقق هذا الاستخدام للأموال سعر الفائدة الجاري تماما مثل الإقراض للشركات الانتاجية، ولهذا السبب تعتبره المؤسسات المالية "استثمارا لرأس المال". غير أن ذلك لا يساهم بأي طريقة في عملية التراكم الرأسمالي، والفائدة التي يربحها تتطفل على ما يجري إنتاجه في القطاع الانتاجي من الاقتصاد. ولذلك يطلق عليه ماركس "رأس المال الوهمي"، واصفا إياه بأنه "أكثر الأشكال صنمية في العلاقات الرأسمالية"(18) - حيث "يظهر فيه رأس المال كمصدر أسطوري يخلق الفائدة ذاتيا" و "يبدو من خصائص النقود أن تخلق قيمة وتدر فائدة بقدر ما هو من خصائص شجرة الكمثرى أن تثمر كمثرى."(19)

التمويل والمضاربة والأزمة:
رأينا أن أرباح رأس المال الإنتاجي هي المصدر الرئيسي للأموال التي تقع تحت تصرف البنوك وتستخدمها في الإقراض، وأن حاجة الرأسماليين العاملين في حقل الإنتاج إلى الأموال لتحقيق التراكم مصدر رئيسي للاقتراض من البنوك. ويعني ذلك أن دورة التوسع والانكماش في الاستثمارات الجديدة يصحبها دورة توسع وانكماش في عمليات الإقراض. لكن دورة إحداهما لا تتوافق تماما مع دورة الأخرى.
يتوسع الائتمان في بداية انطلاق الرخاء، مع حرص بعض الرأسماليين على إقراض أرباحهم التي تشهد ارتفاعا وحرص رأسماليين آخرين على الاقتراض، وجميعهم مقتنعون أن سداد القروض بفوائدها لن يواجه أي مشكلة. غير أنهم في نهاية المطاف يبلغون نقطة يبدأ عندها الاندفاع المجنون نحو الاستثمار في تجاوز الأموال التي تأتي من ينابيع الأرباح السابقة. وتتنافس الشركات في سعيها للاستفادة من هذه الأموال، ليرتفع مستوى الفائدة التي تكون مستعدة لدفعها مقابل الحصول على الائتمان. ارتفاع أسعار الفائدة يخصم من قيمة الأرباح التي تتعرض للانخفاض في نفس الوقت بسبب ارتفاع أسعار المواد الخام والأجور النقدية. فتزيد من الضغوط التي ترجح انتقال النظام من التوسع إلى الأزمة. موجة الانكماش التي تعقب ذلك تجعل الشركات والبنوك أقل استعدادا بكثير للإقراض – ذلك أنها تشعر أنها تحتاج إلى كل مليم مع مخاطر انخفاض إيراداتها من المبيعات. غير أن الانكماش يزيد أيضا حاجة كثير من الشركات إلى الاقتراض إذا كانت ترغب في تعويض نقص دخولها من المبيعات وألا تندفع إلى الإفلاس بسبب التزامات مالية لم تدفعها. وتستمر أسعار الفائدة في الارتفاع لفترة رغم انخفاض الأرباح اللازمة لسدادها، معززة بذلك قوى الأزمة في النظام.
تزداد التذبذبات احتداما بسبب أمر آخر يحدث في ذروة الرخاء، حيث تجد الشركات والبنوك في الإقراض وسيلة سريعة لزيادة أرباحها، وتعرض الائتمان مقابل "أوراق مالية" مختلفة الأنواع (هي في الواقع وعد بالسداد) بما يتجاوز كثيرا احتياطياتها النقدية على افتراض أن المؤسسات الأخرى والأفراد سوف تثق في هذه "الأوراق" وتقبلها كثمن للسلع دون أن تحاول فورا تحويلها إلى نقود سائلة. والنتيجة أن تبدأ معاملة  الائتمان الذي تقدمه البنوك كأحد أشكال النقود – وباعتباره "ائتمان نقدي" يحتسب ضمن بعض قياسات المعروض النقدي.
 يشجع هذا الائتمان اليسير كل شركة على أن تقوم باستثمارات إنتاجية هائلة في سياق المنافسة على الحصول على شريحة أكبر من منافسيها في سوق ماضية في توسعها، حتى وإن تسبب هذا في تجاوز مجموع الانتاج كثيرا قدرة السوق على استيعابه. كما يسمح الائتمان اليسير لمن يحظون بعلاقات ودية مع البنوك بأن يشرعوا في عربدة الإنفاق الترفي، ولكل أنواع المحتالين والغشاشين بأن ينخرطوا في ذلك النشاط فائق الربحية من الاقتراض بهدف التسليف والتسليف بهدف الاقتراض. وتختفي عن المشهد تماما العمليات الحقيقية والأساسية للإنتاج والاستغلال وخلق فائض القيمة – حتى يبدأ الاقتصاد فجأة في التحول إلى الإنكماش، بينما كل قصاصات الورق التي تمثل القروض تستوجب السداد من الأرباح التي تكون أقل كثيرا من أن تغطيها. عند هذه النقطة، تبدأ الشركات والبنوك في فقدان الثقة في قدرة كل منها على سداد ما قامت باقتراضه، وقد يتدهور الإقراض إلى أن يتوقف فعليا فيما يعرف اليوم "بأزمة الائتمان":  
"سلسلة التزامات الدفع التي تستحق السداد في مواعيد محددة تنكسر في مئة موضع. وتحتدم الفوضى والتخبط بسبب انهيار نظام الائتمان المترتب على ذلك … ويؤدي إلى أزمات حادة وعنيفة، إلى إهلاك اضطراري ومفاجئ لقيمة الأصول، إلى ركود فعلي وإفساد لعملية إعادة الإنتاج، وبالتالي إلى انهيار حقيقي في إعادة الإنتاج." (20)  
إن سلوك "رأس المال الوهمي" يساعد كثيرا على احتدام دورة الرخاء-الركود العامة في الرأسمالية. فرغم طبيعته غير الانتاجية، تمثل القيمة النقدية لرأس المال الوهمي في أي نقطة من الزمن استحقاقا على موارد حقيقية يمكن تحويلها إلى نقد، وتحويلها من نقد إلى سلع. مثلا، عندما ترتفع أسعار الأسهم في فترة الرخاء، تضيف إلى قدرة مالكيها على شراء السلع وتميل إلى زيادة قوة الرخاء؛ وعندما تنخفض أسعارها مع الركود، فإنها تضيف إلى الضغوط التي تؤدي إلى انخفاض الإنفاق عبر الاقتصاد ككل. إن أسعار مختلف أنواع رأس المال الوهمي، غير المستقرة حتما والمتذبذبة بصورة فجائية، تعزز حالة عدم الاستقرار العامة للنظام ككل.  إنها تزيد من حدة التأرجح من الرخاء إلى الركود والعكس، كما أنها تدمر قدرة النقود على توفير أداة قياس ثابتة للقيمة.
إن الأزمات الاقتصادية الكبرى تستتبع تقريبا بشكل دائم انهيارات لبنوك ومؤسسات مالية أخرى إلى جانب إفلاس شركات إنتاجية وارتفاع البطالة بين العمال. ولذلك يسهل بالنسبة للناس أن يسيئوا فهم ما يحدث ويلقوا اللوم على التمويل والبنوك والنقود في إحداث الأزمة بدلا من توجيه اللوم إلى الأساس الرأسمالي للإنتاج. 

عصرية ماركس:
كانت الصورة التي رسمها ماركس للأزمة تتقدم كثيرا على الاقتصاديين المعاصرين له ممن ينتمون إلى التيار السائد. فلم يبدأ هؤلاء الاقتصاديون في أن يأخذوا دراسة الأزمات مأخذ الجد إلا بحلول ثلاثينيات القرن العشرين. حتى كبير كهنة مدرسة اقتصاد السوق الحرة "هايك" استطاع أن يعترف في فقرة كتبها أن ماركس هو المسئول، على الأقل في ألمانيا، عن طرح أفكار يمكنها تفسير الدورة الاقتصادية، في حين أن "النظرية الوحيدة في رأس المال التي نملكها حتى الآن وتحظى برضانا، أي نظرية بوم بافرك، لم تساعدنا كثيرا في فهم مسائل الدورة الاقتصادية."(21)
إن الأزمات الاقتصادية المتكررة مازالت جزءا من عالمنا بقدر ما كانت جزءا من عالم ماركس. وعلى الأقل، لا يحاول بعض الورثة الأيديولوجيين لجون ستيوارت مل، مثل جفونز وبوم بافرك، إخفاء هذه الحقيقة – خاصة عندما يكتبون لجمهور من نخبة الطبقة العليا في جريدة الفايننشال تايمز أو مجلة الإيكونومست، لا في ممارسة البروباجندا على الجماهير. هكذا، حاول نايجل لوسن، وهو محافظ تولى منصب وزير المالية في بريطانيا فترة طويلة وتبنى ذات يوم النظرية "النقدية" القائلة بأن الأزمات نتائج عارضة لسياسة البنوك المركزية التي تسمح باختلال عرض النقود (22)،  أن يبرهن في النهاية على عدم مسئوليته عن الأزمة التي وقعت بعد تطبيق سياساته قائلا إن "الدورة الاقتصادية" مسألة حتمية. إنهم يرون الأزمة نوعا من "التدمير الخلاق" دون أن يوضحوا أن الجانب الخلاق يتمثل في ثروة لطبقة معينة، أما الدمار ففي معاش الطبقات الأخرى.   
سوف أعود إلى تناول قضية الأزمات في القرن الحادي والعشرين في صفحات تالية من هذا الكتاب. كل ما نحتاج تأكيده الآن هو أنه لا توجد مشكلة في تحليل الأزمات انطلاقا من أفكار ماركس. في الحقيقة، إن المسألة الوحيدة الخطيرة التي تواجه نظرية ماركس في الأزمة لا تنشأ عن إمكانية حدوث الأزمات في عصرنا، وإنما مصدرها حقيقة أن ثلاثة عقود ونصف قد مرت، بين عامي 1939 و 1974،  ولم تشهد خلالها  دولة رأسمالية كبرى مثل بريطانيا ركودا واحدا انخفض خلاله انتاجها الاقتصادي، ولم يشهد خلالها أكبر اقتصاد رأسمالي، الولايات المتحدة، إلا ركودا واحدا ولفترة قصيرة جدا (في عام 1948-1949).  وقد أصبح انعدام تلك الأزمات موضوعا رئيسيا للنقاش الاقتصادي في عقدي الخمسينيات والستينيات وفي أوائل السبعينيات. بدون التعامل مع هذه القضية والاتفاق حولها، لن يستطيع المرء استيعاب عدم القدرة على تجاوز دورة الرخاء-الركود في عصرنا.  
غير أنه، إذا كانت الأزمات خاصية حتمية في الرأسمالية عند ماركس، فإنها لم تكن في ذاتها النقطة المركزية في تحليله لديناميتها في الأجل الطويل. إنها واحدة من الملامح ذات الطابع الدوري في النظام الذي استطاع أن يتعامل معها مرات عديدة قبل نشر كتاب رأس المال، بغض النظر عن ضخامة المصائب التي تسببت فيها لجماهير السكان، ومعاناة الرأسماليين الذين أفلسوا، أو انفجار الغضب الشعبي بين حين وآخر.  فهذه الأزمات في ذاتها لن تقود النظام إلى نهايته. وكما أوضح الثوري الروسي ليون تروتسكي بعد وفاة ماركس بما يقرب من 40 عاما، "إن الرأسمالية تعيش بدورات الأزمة والرخاء، تماما كما يعيش الإنسان بعمليتي الشهيق والزفير."(23) إن الدينامية طويلة الأجل تأتي من مصدر آخر غير الأزمة – من عمليتين تجريان في النظام وتتسمان بطول الأمد، عمليتان نتجتا عن نضوج النظام وشيخوخته وهو يعبر دورة من التوسع والانكماش تلو الأخرى.


ميل معدل الربح نحو الانخفاض
النظرية
العملية الأولى منهما يطلق عليها ماركس "قانون ميل معدل الربح نحو الانخفاض" (ويختصرها الماركسيون أحيانا إلى "انخفاض معدل الربح" – وهي العبارة التي سوف أستخدمها هنا في أغلب الأحوال.)
 هي واحدة من أكثر جوانب نظرية ماركس صعوبة في  فهمها بالنسبة لحديثي الاطلاع على أفكاره، وكذلك من أكثرها إثارة للجدل. ويرفضها الاقتصاديون غير الماركسيين. هكذا نجد الكاتب الاقتصادي لدي صحيفة الأوبزرفر ويليام كيجان، الذي يتسم بالفطنة غالبا، يستهجن تحليل ماركس معتبرا إياه "كتابا اقتصاديا مدرسيا مهجورا كتب خلال المرحلة الأولى الذاوية لرأسمالية لم تتعرض للإصلاح." وقد اقتبس من كلام الاقتصادي الفرنسي (روبير) مارجولان ما نصه "إن قليلا من الخبرة وبعض المعرفة بالتاريخ يكفي لإلقاء الشك على النظرية (الماركسية) حول حتمية انهيار الرأسمالية بسبب انخفاض معدل الربح."(24) كما يرفضها كثير من الماركسيين الذين يقبلون نظرية القيمة والأفكار الرئيسية العامة في تحليل ماركس للأزمة.(25) ويتحوط آخرون في تأييدهم لها بالالتفاف عليها بكثرة من الشروط تعزلها من الناحية الفعلية عن أي تحليل لتطور النظام في المدى الطويل.  
غير أن ماركس نفسه اعتبر هذا القانون قانونا محوريا بشكل قطعي. وقد استند إليه في التأكيد على أن الرأسمالية مآلها إلى الزوال تحديدا بسبب قوى الانتاج التي تطلقها بنفسها:
"إن انخفاض معدل التوسع الذاتي للرأسمالية، أو معدل الربح، وباعتباره هدف الإنتاج الرأسمالي، يبدو تهديدا لعملية الانتاج الرأسمالي."(26)
وهذا "يدلل على الطبيعة التاريخية الانتقالية المحضة لنمط الانتاج الرأسمالي" وعلى الكيفية التي بها "يتناقض في مرحلة معينة مع استمرار تطوره."(27) إنه يكشف أن "العائق الحقيقي أمام الانتاج الرأسمالي هو رأس المال نفسه."(28)  
لم يلتقط ماركس من الفراغ  فكرة أن معدلات الربح تنخفض. فقد كانت شائعة بين الاقتصاديين الذين سبقوه.(29) فكما يقول إريك هوبسباوم "كان الاقتصاديون ورجال الأعمال في أوائل القرن التاسع عشر يتخوفون من أمرين: معدلات أرباحهم، ومعدل التوسع في صناعاتهم." وكان آدم سميث واثقا من أن معدلات الربح سوف تنخفض نتيجة احتدام المنافسة، وكذلك ريكاردو بسبب افتراض "قانون الغلة المتناقصة" في الزراعة.(30) وقد وضع ماركس تفسيرا لا يعتمد على هذه الافتراضات المشكوك فيها،(31) بل عبر إدراك وفهم أن دينامية التراكم الرأسمالي تحتوي داخلها على تناقض لا يمكن حله.
 إن كل رأسمالي فرد يستطيع زيادة قدرته التنافسية عبر زيادة إنتاجية عماله، ووسيلته إلى ذلك هي استخدام كل عامل مزيدا من "وسائل الإنتاج" – أي الأدوات والآلات وهكذا – في قيامه بعمله، ما يعني ضمنيا أن وسائل الإنتاج تنمو بسرعة أكبر من نمو قوة العمل، وأن هناك نموا في معدل ضخامة وسائل الإنتاج المادية إلى مقدار قوة العمل التي تعمل عليها – وهو معدل يطلق عليه ماركس "التركيب التقني لرأس المال"(32). غير أنه، مع بقاء العوامل الأخرى دون تغيير، سوف تتضمن الزيادة في ضخامة وسائل الإنتاج المادية أيضا زيادة في حجم الاستثمار المطلوب لشرائها، مما يترتب عليه زيادة في معدل الاستثمار إلى قوة العمل، في قيمة وسائل الإنتاج مقارنة بالأجور (أو – باستخدام مصطلحات ماركس: زيادة "رأس المال الثابت" مقارنة بـ "رأس المال المتغير")، وهذا المعدل هو ما يطلق عليه ماركس "التركيب العضوي لرأس المال" (كما أوضحنا في الفصل الأول)(33). وحسب ماركس، فإن زيادة هذا المعدل نتيجة منطقية ملازمة لعملية التراكم الرأسمالي. 
غير أن العمل هو المصدر الوحيد للقيمة وفائض القيمة بالنسبة للنظام ككل، وبالتالي إذا حقق الاستثمار نموا أسرع من قوة العمل، فإنه ينمو كذلك بمعدلات أسرع من إنتاج القيمة الجديدة التي تأتي منها الأرباح. أي اختصارا، تنمو استثمارات رأس المال بمعدل أسرع من مصدر الأرباح، ونتيجة لذلك تظهر ضغوط نحو انخفاض معدل الربح إلى الاستثمار – أو معدل الربح.
إن المنافسة هي السبب وراء زيادة الاستثمار – لحاجة كل رأسمالي إلى العمل على زيادة الانتاجية حتى يظل متقدما على منافسيه. ولكنها عملية كارثية من وجهة نظر الطبقة الرأسمالية ككل، مهما بلغت قوة المنافسة التي قد تضطر الرأسماليين الأفراد إلى المشاركة فيها. ويرجع ذلك، كما رأينا في الفصل السابق، إلى أن الرأسماليين لا يقيسون نجاح أو فشل استثماراتهم بحسب إجمالي الربح الذي تحققه هذه الاستثمارات، وإنما بحسب معدل الربح.
غالبا ما يثار نقطتان اعتراضا على هذه الصورة التي دبجها ماركس. الاعتراض الأول أن التقدم التكنولوجي لا ينطوي دائما على زيادة نسبة وسائل الإنتاج إلى العمال – فقد يكون "توفيرا في رأس المال" بدلا من "تكثيف لرأس المال". فلو أن المعرفة العلمية تتقدم ويجري تطبيقها في تكنولوجيات جديدة، إذن فقد تؤدي بعض هذه التكنولوجيات إلى استخدام قدر أقل من الآلات والمواد الخام مع كل عامل مقارنة بالتكنولوجيا القديمة.  وفي أي لحظة من الزمن سوف نجد بعض التكنولوجيات الجديدة التي توفر رأس المال.
وهذا صحيح، لكنه لا يفند فكرة ماركس، بسبب أن الأرجح هو وجود عدد أكبر من الابتكارات "كثيفة رأس المال" مقارنة بالابتكارات "موفرة رأس المال".  عند أي مستوى معطى من المعرفة العلمية والتقنية، بعض الابتكارات ربما تكون فعلا موفرة لرأس المال، ولكن عندما توظف كل هذه الابتكارات، سوف تظل ابتكارات أخرى – أو على الأقل سوف يشك الرأسماليون أن هناك ابتكارات أخرى – لا سبيل إلى حيازتها إلا بزيادة حجم الاستثمار في وسائل الانتاج. إن واقع أن بعض التقدم التكنولوجي قد يحدث دون أي زيادة في معدل رأس المال إلى العمل لا يعني أن كل مزايا التقدم التكنولوجي يمكن حيازتها بدون هذه الزيادة. فإذا استطاع أحد الرأسماليين زيادة معدل رأس المال إلى العمال، فسوف يمتلك القدرة على الاستثمار والاستفادة من مزايا الابتكارات التي تحتاج إنفاقا أكبر لرأس المال علاوة على الابتكارات التي لا تحتاج ذلك. وإذا لم يمتلك القدرة على زيادة هذا المعدل، فإنه سوف يستفيد فقط من الابتكارات التي لا تحتاج إلى إنفاق رأس المال – وسوف يخسر في المنافسة أمام من لديهم هذه القدرة. وحيث أنه لا يوجد، على الأقل نظريا، حدود للزيادة الممكنة في معدل وسائل الإنتاج إلى العمال، لا توجد حدود، من الناحية النظرية، للابتكارات الممكنة التي تعتمد على هذه الطريقة في المنافسة.
وفي العالم الحقيقي، يسلم كل رأسمالي يعمل في السوق بداهة بأن وسيلة الحصول على أكثر التطورات التكنولوجية تقدما هي زيادة حجم الاستثمار في وسائل الانتاج، أو في "العمل الميت" (ويشمل العمل الميت المتراكم في نتائج البحث والتطوير السابقة). لا أحد يتخيل، إلا على صفحات أكثر دوريات الاقتصاد السياسي المغمورة تخصصا، أن وسيلة شركة فورد موتور في مواجهة المنافسة مع شركة جنرال موتور أو تويوتا تتمثل في تخفيض حجم الاستثمار المادي إلى كل عامل. إن الرأسمالي عادة يعرف إنك لا تستطيع الاستفادة من الابتكارات دون أن تدفع مقابل ذلك.
ولهذه الأسباب سوف يزداد متوسط كمية وسائل الإنتاج لكل عامل، ما يسميه ماركس "التركيب التقني لرأس المال" – ومعه يزيد "التركيب العضوي لرأس المال". ولا يوقف الضغوط نحو هذه الزيادة إلا أمر واحد: إذا حدث لأي سبب من الأسباب نقص في الاستثمار الهادف إلى الربح. في هذه الحالة سوف يضطر الرأسماليون إلى التخلي عن آمالهم في إنجاز الابتكارات الممكنة عبر زيادة الاستثمار وينتظرون تلك الابتكارات التي قد يقعون عليها صدفة.
الحجة الثانية التي تثار ضد نظرية ماركس تزعم أن التغيرات التقنية وحدها لا يمكن أن تؤدي إلى انخفاض معدل الربح، بدعوى أن الرأسماليين لن يطبقوا تقنية جديدة إلا إذا رفعت أرباحهم، وإذا أدى تطبيقها إلى زيادة أرباح أحد الرأسماليين، فإنها بالضرورة سوف ترفع متوسط الربح للطبقة الرأسمالية ككل. هكذا مثلا يقول ستيدمان: "إن قوى المنافسة سوف تؤدي إلى ذلك الانتقاء لأساليب الانتاج في كل صناعة تلو الأخرى بما يفضي إلى أعلى معدل متجانس وممكن للربح في الاقتصاد."(34) نفس هذه الحجة وجدت قبولا عند اقتصاديين ماركسيين كثر على مدار أربعين عاما مضت، مثل جلين(35) وهاريسون هيملوايت(36) وبرنر(37) ودومينيل وليفي(38)، وأفاض في شرحها رياضيا أوكيشيو(39).  واستخلص هؤلاء أن الرأسماليين لن يقدموا على استخدام تقنيات كثيفة رأس المال مما يبدو أنها تؤدي إلى تخفيض معدل أرباحهم إلا إذا تعرض هذا المعدل لضغوط فعلية نحو الانخفاض بسبب زيادة الأجور الحقيقية أو المنافسة الخارجية. فهذه هي العوامل التي تضر بمعدل الربح، وليس التركيب العضوي لرأس المال.
غير أن ما كتبه ماركس نفسه يقدم ردا سهلا على أي حجة تثار من هذا النوع: وهو أن أول رأسمالي يستثمر في التكنولوجيا الجديدة يحصل على ميزة تنافسية على أقرانه من الرأسماليين تجعله قادرا على جني أرباح زائدة، لكن هذه الزيادة لن تستمر بمجرد تعميم التكنولوجيا الجديدة.
إن ما يحصل عليه الرأسمالي نقدا عندما يبيع بضائعه يعتمد على متوسط كمية العمل الضروري اجتماعيا الذي تحتوي عليه هذه البضائع. فإذا أدخل تكنولوجيا جديدة أعلى من حيث إنتاجيتها، ولم يفعل ذلك الرأسماليون الآخرون، فهو ينتج سلعا تساوي نفس كمية العمل الضروري اجتماعيا كما في السابق ولكن بتكلفة أقل من قوة العمل المادية الحقيقية، فتزداد أرباحه.(40) ولكن ما أن يطبق جميع الرأسماليين هذه التكنولوجيا الجديدة، تنخفض قيمة البضائع حتى تتسق مع متوسط كمية العمل الاجتماعي الضرورية لإنتاجها بالتقنيات الجديدة. فتتبخر الأرباح الزائدة – وإذا استخدمت وسائل إنتاج أكثر للحصول على التقنيات الجديدة، ينخفض معدل الربح.(41)
فكرة ماركس تتضمن من الدلالات ما هو أبعد. إن نجاح الرأسمالية نفسه في التراكم يسبب مشاكل في تحقيق مزيد من التراكم. ففي النهاية، ينتج عن اندفاع الرأسماليين التنافسي نحو الحفاظ على صدارتهم في مواجهة رأسماليين آخرين كمية هائلة من الاستثمار الجديد لا يمكن لمعدل الربح أن يدعمها. ولا يمكن لبعض الرأسماليين أن يحققوا ما يكفي من الأرباح إلا على حساب رأسماليين آخرين يدفع بهم إلى خارج النشاط. إن الاندفاع إلى التراكم يؤدي حتما إلى وقوع الأزمات. وكلما زاد حجم الاستثمارات السابقة، كلما جاءت الأزمات أشد عمقا.

اتجاهات مضادة:
 ينبغي أن نؤكد على أن نظرية ماركس تمثل تحليلا مجردا لأكثر الاتجاهات عمومية في النظام الرأسمالي. ولا يمكن للمرء أن يستخلص منها استنتاجات فورية حول الحركة الملموسة للاقتصاد في أي نقطة محددة في الزمان والمكان. بل يجب أولا أن ينظر في كيفية تفاعل هذه الاتجاهات العامة مع عوامل أخرى. وكان ماركس نفسه على وعي تام بذلك، فأدمج في تحليله ما أطلق عليه "الاتجاهات المضادة" (أو العوامل التعويضية - المترجم).
 اثنان من هذه الاتجاهات لهما أهمية محورية. الأول هو زيادة معدل الاستغلال. فإذا ساهم كل عامل في زيادة فائض القيمة، سوف يعوض ذلك حقيقة انخفاض عدد العمال مقابل كل وحدة من الاستثمار. وقد تتحقق زيادة الاستغلال نتيجة لزيادة طول يوم العمل (ما يطلق عليه ماركس "فائض القيمة المطلق")، أو تخفيض الأجور الحقيقية، أو زيادة الكثافة المادية للعمل، أو انخفاض تكلفة توفير وسائل المعيشة للعمال نتيجة زيادة الانتاجية. وفي هذه الحالة يستطيع الرأسمالي زيادة القسم الذي يذهب إلى فائض القيمة من العمل الذي يؤديه كل عامل فرد، حتى وإن لم ينخفض مستوى معيشة العامل. هذه الزيادة في "معدل الاستغلال" يمكن أن تعوض بعض ضغوط الانخفاض على معدل الربح: فقد لا يزيد العدد الإجمالي للعمال بنفس سرعة الزيادة في الاستثمار، ولكن كل عامل أو عاملة ينتج قيمة زائدة أكبر حتى وإن لم تتعرض لتخفيض في الأجر أو لم تضطر إلى العمل بشدة أعلى.  
غير أن هناك حدا لقدرة هذه الوسيلة على تعويض ضغوط الانخفاض على معدل الربح – وهو عدد ساعات يوم العمل. فقد ينخفض عدد ساعات يوم العمل الذي يذهب ناتجه إلى توفير وسائل المعيشة للعامل من أربع إلى ثلاث ساعات، أو من ثلاث ساعات إلى ساعتين، لكن هذا العدد لا يمكن أن ينخفض إلى أقل من الصفر! وفي المقابل، لا يوجد حد لزيادة الاستثمار في وسائل الإنتاج.(42)
نأخذ مثلا لإحدى الشركات التي تستخدم قوة عمل ثابتة تبلغ 30 ألف عامل. حتى لو قامت هذه الشركة بتشغيل العمال لأطول مدة ممكنة تتحملها أجسامهم يوميا (مثلا، 16 ساعة) ولم تدفع لهم أجرا على الإطلاق، فإن أرباحها اليومية لا يمكن أن تتجاوز القيمة التي تتجسد في 30000x16 ساعة عمل. وهذا حد لا يمكن أن تزيد الأرباح حتى تتجاوزه. غير أنه لا يوجد حد مماثل للدرجة التي يمكن للاستثمار أن ينمو إليها (ومع ارتفاع مستوى الاستغلال توجد كمية هائلة من فائض القيمة التي يجب تحويلها إلى استثمار موسع جديد.) وهكذا نبلغ نقطة عندها يتوقف نمو الأرباح، حتى وإن كانت قوى المنافسة تدفع إلى استمرار زيادة مستوى الاستثمار. وسوف يتجه معدل الأرباح إلى الاستثمار – أي معدل الربح – إلى الانخفاض.  
أما "العامل المضاد" الثاني فهو الانخفاض المستمر في كمية وقت العمل – وبالتالي القيمة – المطلوبة لإنتاج كل وحدة من المصانع، والآلات والمواد الخام نتيجة لزيادة إنتاجية العمل. فيزيد التركيب التقني لرأس المال – أي النسبة بين المصانع والآلات وغيرها ككتل مادية إلى العمال، غير أن هذه المصانع والآلات وغيرها تصبح أرخص عند شرائها. وهكذا يكون نمو الاستثمار من حيث القيمة بطيئا نوعا ما عن نموه من حيث مادته.  وهو ما يعوض بدرجة ما اتجاه قيمة الاستثمار نحو تجاوز نمو فائض القيمة.
وقد ظهرت مزاعم بأن هذا العامل يتجاوز مجرد كونه "اتجاها تعويضيا" لقانون ماركس وإنما في الواقع يقوضه تماما. حيث يجادل نقاد ماركس، باستخدام معادلات رياضية قام بتطويرها أوكيشيو، بأن التقدم التكنولوجي يعني أن السلع تنتج دائما بتكلفة أرخص مما كانت عليه في الماضي.(43) فإذا ترتب على الزيادة في معدل العمل الميت إلى العمل الحي في صناعة معينة زيادة في الانتاجية، سوف تنخفض أسعار منتجاتها مقارنة بمنتجات الصناعات الأخرى. غير أن ذلك بدوره سوف يؤدي إلى انخفاض تكاليف الاستثمار في هذه الصناعات ومعدل هذا الاستثمار إلى العمل. أي سوف يؤدي انخفاض تكاليف الاستثمار إلى تخفيض التركيب العضوي لرأس المال وزيادة معدل الربح.
رغم أن هذه الحجة تبدو مقنعة للوهلة الأولى، فهي حجة باطلة وتقوم على تسلسل من الخطوات المنطقية لا يمكن أن تجده في العالم الواقعي. فالاستثمار عملية إنتاجية تحدث في نقطة معينة من الزمن، أما انخفاض كلفة الاستثمار اللاحق كنتيجة لتطور تقنيات الانتاج فيحدث في نقطة لاحقة من الزمن، ولا يحدث الاثنان بالتزامن.(44)
هناك حكمة قديمة تقول: "إنك لا تستطيع أن تبني منزلك اليوم بحجارة سوف تأتي غدا". إن حقيقة أن زيادة الانتاجية سوف تؤدي إلى انخفاض تكلفة ماكينة خلال سنة لا تؤدي إلى تخفيض القيمة التي يضطر الرأسمالي إلى إنفاقها للحصول عليها اليوم. كما أن قيام رأسمالي آخر بشراء الماكينة الأرخص يؤدي مباشرة إلى تخفيض قيمة الماكينة التي يملكها الرأسمالي الأول. وبينما يستطيع الرأسمالي الجديد أن ينتج سلعا بطريقة أكثر ربحية، يضطر الرأسمالي الأول إلى أن يخصم من أرباحه مقدار خسائره في قيمة ماكينته.(45)
عندما يقوم الرأسماليون بقياس معدلات الأرباح، فهم يقارنون فائض القيمة الذي يحصلون عليه من تشغيل المصانع والآلات بما أنفقوا من أموال لحيازتها في فترة ما في الماضي – وليس حسب تكلفة استبدالها اليوم. تزداد أهمية هذه النقطة عندما نتذكر أن عملية الاستثمار الرأسمالي الحقيقية تحدث بطريقة تستخدم فيها نفس أصول رأس المال الثابت (الآلات والمباني) في دورات عديدة من الإنتاج. إن حقيقة أن تكلفة الاستثمار سوف تنخفض إذا حدث بعد الدورة الثانية أو الثالثة أو الرابعة من الإنتاج، لا تغير من التكلفة قبل الدورة الأولى من الانتاج.  
إن التفنيد المزعوم لنظرية ماركس ينشأ، كما يحدث بخصوص ما يطلق عليه مشكلة التحول، عن تطبيق معادلات متزامنة على عمليات تستغرق فترة من الزمن. فالمعادلات المتزامنة، بحكم التعريف، تفترض تزامن الأحداث، أي دون مرور فترة من الزمن.
إن تدهور قيمة رأس المال المستثمر قطعا لا يجعل الحياة يسيرة بالنسبة للرأسماليين. فحتى يستمروا في النشاط، عليهم تعويض إجمالي تكلفة استثماراتهم السابقة مع تحقيق ربح، وإذا ترتب على التقدم التكنولوجي أن أصبحت قيمة استثماراتهم الآن مثلا نصف ما كانت عليه سابقا، فسوف يضطرون إلى شطب هذا المبلغ بالإنفاق من إجمالي أرباحهم. وما يربحونه باليد اليمنى يخسرونه باليد اليسرى، مع ما يسببه لهم "إهلاك" رأس المال من صداع جم مثله مثل الانخفاض المباشر في معدل الربح.(46)   
إن الرأسمالية لا تقوم على القيمة فحسب، وإنما أيضا على التوسع الذاتي للقيم المتجسدة في رأس المال. وهو ما يتضمن بالضرورة مقارنة فائض القيمة الحالي بالاستثمار الرأسمالي السابق الذي يتدفق منه. ولا يتماسك مفهوم "التوسع الذاتي للقيم" نفسه بدون تلك المقارنة. كما أن انخفاض قيمة الآلات والمواد الخام المستخدمة في الانتاج التي سددت أثمانها فعلا يضر بعملية التوسع الذاتي للقيمة.
انخفاض تكلفة الاستثمار قد يساعد الرأسمالي الجديد، غير أنه يكون بدوره واقعا تحت ضغوط من رأسماليين آخرين يستثمرون بعده باستخدام آلات أرخص. وفي جميع الأوقات، يساهم وجود فائض قيمة تحقق في دورات سابقة من الانتاج ومتاح للاستثمار في تقنيات أحدث في زيادة معدل الاستثمار إلى قوة العمل.
هناك نمو مستمر في إجمالي فائض القيمة الذي يفتش عن فرصة للاستثمار. وكلما ارتفع ما يستطيع أحد الرأسماليين الاستحواذ عليه من هذا الفائض، كلما زاد حجم الاستثمارات التي يستطيع القيام بها، وارتفع ما يستطيع أن يطبقه من ابتكارات تؤدي إلى زيادة الانتاجية بالمقارنة مع منافسيه. قد يستطيع أحد الرأسماليين الآن شراء آلة انتاجيتها ضعف إنتاجية آلة اشتراها بنفس الثمن منذ عام مضى. غير أن ذلك لن يفيده إذا كان أحد منافسيه يستخدم كمية أكبر من فائض القيمة المتراكم ليشتري آلة تكون إنتاجيتها أربع أضعاف إنتاجية آلته القديمة. لن يستطيع هذا الرأسمالي  أن يستمر في النشاط إلا إذا أنفق أكثر ما يمكن إنفاقه من فائض القيمة على وسائل إنتاج جديدة. فإذا أصبحت تكلفة وسائل الإنتاج أرخص، لن يترتب على ذلك إلا أن يصبح مضطرا إلى شراء المزيد منها حتى يحقق نجاحا في المنافسة. مع تعادل الظروف الأخرى، سوف يستمر الميل إلى زيادة التركيب العضوي لرأس المال طالما ارتفع فائض القيمة المتاح للاستثمار عما كان عليه سابقا (47). ولا يختلف الأمر إذا أصبحت وسائل وخامات الانتاج المادية أرخص سعرا – فلن يترتب على ذلك إلا استخدام المزيد منها.

الأزمة وانخفاض معدل الربح
ومع ذلك، إذا لم يكن إهلاك رأس المال عبر زيادة الانتاجية يستطيع وحده إنقاذ معدل الربح، فإنه يستطيع ذلك إذا تواكب معه حدث آخر – هو الأزمة، لأنها تتضمن دفع بعض رؤوس الأموال إلى الإفلاس. ويضطر الرأسماليون عندها إلى التخلص من رؤوس أموالهم لا بقيمتها المخفضة فحسب، وإنما مقابل أي ثمن يستطيعون الحصول عليه مهما كان ضئيلا. ويستفيد من ذلك الرأسماليون الذين ينجون من الأزمة، فيستطيعون التقاط وسائل إنتاج – أي قيمة متراكمة – بأسعار بخسة بما يمكنهم من استعادة معدلات ربحيتهم.
وبهذه الطريقة يمكن لإهلاك رأس المال أن يخفف من الضغوط التي يتعرض لها النظام الرأسمالي ككل، بحيث يقع عبء تكلفته على هؤلاء الرأسماليين الذين يدفعون خارج النشاط، لا على من يستمرون. يتحمل الرأسماليون الذين تنهي الأزمة وجودهم كثيرا من تكلفة إهلاك رأس المال في مصلحة النظام ككل، بما يفتح إمكانية للرأسماليين الذين يستطيعون الاستمرار أن يستمروا بتكلفة رأسمالية أقل ثم بمعدلات ربحية أعلى مما قد يكون عليه الحال في ظروف مغايرة.  "إن الأزمات دائما ليست إلا حلولا قسرية خاطفة للتناقضات القائمة. إنها انفجارات عنيفة تعمل على استعادة التوازن الذي اختل لفترة من الوقت."(48)
ما بين الأزمات الدورية والاتجاه طويل الأجل في معدل الربح نحو الانخفاض تفاعل مزدوج بصفة مستمرة. إن زيادة معدل الاستثمار إلى العمل المستخدم كاستثمار جديد يحدث خلال فترات التوسع يمارس ضغوط انخفاض على معدل الربح، في نفس وقت تعرضه لضغوط ارتفاع أسعار المواد الخام وتكلفة الأجور. وقد يكون لذلك أثر مباشر يدفع الشركات إلى وقف الاستثمار بسبب انخفاض معدل الربح، مما يسبب ركودا في القطاعات المنتجة للسلع الرأسمالية والذي ينتشر بعد ذلك في قطاعات أخرى. أو أنه قد يحدث بشكل غير مباشر إذا نجحت الشركات في حماية معدل الربح مؤقتا عبر تخفيض قسري للأجور الحقيقية. وفي تلك الحالة، لا تستطيع الشركات المنتجة للسلع الاستهلاكية بيع بضائعها – أو كما يقول ماركس، لا تستطيع "تحقيق فائض القيمة" الذي حصلت عليه باستغلال العمال – فتنخفض أرباحها، ما يؤدي مرة أخرى إلى الركود. (49)  
غير أن الأزمة بدورها تؤدي إلى إفلاس بعض الشركات وتفتح فرصا أمام شركات أخرى لشراء معداتها والمواد الخام واستئجار العمال بأجور أقل. فإذا أفلست أعداد كافية من الشركات، تستطيع الأزمة نفسها أن تعوض الاتجاه طويل الأجل لمعدل الربح نحو الانخفاض تعويضا كاملا. وباختصار، يساهم تدهور معدل الربح في حدوث الأزمة الدورية، لكن الأزمة الدورية تساهم في حل مشكلة تدهور معدل الربح في الأجل الطويل.  
لم تنشر نظرية ماركس حول اتجاه معدل الربح نحو الانخفاض حتى مر على وفاته 11 عاما، ولم يكن لها تأثير كبير على تحليلات أتباعه لمدة عقدين بعد نشرها. كما لم تظهر لها أي ملامح في أهم الأعمال الماركسية النظرية التي كتبها روزا لوكسمبرج وفلاديمير لينين ونيكولاي بوخارين. ورغم قبول رودولف هيلفردينج للنظرية، فلم تشكل جزءا محوريا في تحليلاته.(50)  ولم يحدث قبل حلول عشرينيات القرن الماضي أن بدأت محاولة منظمة لاستخدامها في تحليل مسار النظام على المدى الطويل من قبل الماركسي النمساوي-البولندي هنريك جروسمان. وجاءت محاولته كرد فعل على نزوع كثير من الماركسيين إلى إنكار أن الرأسمالية تتجه حتما نحو أزمة كبرى، أو "انهيار". وقد قبل الفكرة على شكلها الذي طرحه من قبل الاشتراكي الديمقراطي النمساوي أوتو باور، الذي ادعى أنه كشف عن قدرة الرأسمالية على التوسع إلى ما لا نهاية، باستخدام نماذج لماركس في المجلد الثاني من رأس المال ترصد العلاقة المتداخلة بين مختلف قطاعات الإنتاج الرأسمالي.(51)
وفي مواجهة باور، ادعى جروسمان البرهنة على أن هذه النماذج إذا جرى تطبيقها على عدد كبير وكاف من دورات الانتاج سوف نبلغ نقطة ينخفض عندها معدل الربح إلى درجة لا تسمح باستمرار الإنتاج دون تخفيض الأجور الحقيقية وتخفيض استهلاك الطبقة الرأسمالية نفسها. وسوف يحدث ذلك لأن "أفق عملية التراكم يتسع … مقارنة بحجم رأس المال المتراكم فعلا" حتى مع اتجاه معدل الربح نحو الانخفاض. في النهاية، سوف نبلغ نقطة يبتلع عندها استمرار التراكم كل فائض القيمة الحالي، ولا يترك شيئا للاستهلاك الترفي للطبقة الرأسمالية، ثم يبدأ في التهام القيمة المطلوبة للإبقاء على الطبقة العاملة.(52) 
في المقابل، اذا استخدم فائض القيمة على نحو متزايد في صيانة معدل الربح على الاستثمار القائم، سوف تتدهور كمية المتاح منه للاستثمار الجديد. ولن تكون القطاعات الصناعية التي توفر حاجات الاستثمار قادرة على النشاط. وتنشأ حالة من "فائض التراكم المطلق" و "حالة من التشبع الرأسمالي يواجه فيها رأس المال الذي يعاني من فائض التراكم نقصا في فرص الاستثمار، وصعوبة أكبر في أن يتغلب على مشكلة التشبع."(53) وفي هذه الحالة أو تلك، سوف يعجز النظام عن إعادة إنتاج نفسه.   
تعرضت أفكار جروسمان للعديد من الانتقادات.(54) فمن غير الواضح في فكرته لماذا يجب أن يظل معدل التوسع في الاستثمار ثابتا من دورة إنتاج إلى أخرى، بدلا من أن يتدهور ببطء استجابة لانخفاض معدل الربح، وبالتالي يقلل الاتجاه نحو زيادة التركيب العضوي لرأس المال. ففي تلك الحالة، قد يبدو أن "الانهيار" يمكن تأجيله لفترة طويلة جدا. أضف إلى ذلك أن كتاب جروسمان يتسم بالغموض حول ما إذا كانت نظريته تبرهن على حتمية الأزمة أم على حتمية انهيار النظام تماما. يقر جروسمان بأن الأزمة يمكن أن تعوض ميل معدل الربح نحو الانخفاض، غير أنه يستنتج أن:
"إن الآلية ككل تتجه بعناد نحو نهايتها الأخيرة مع عملية التراكم العامة … وما أن تتلاشى هذه العوامل التعويضية نفسها أو تتوقف عن العمل ببساطة، ستكون اليد العليا للاتجاه نحو الانهيار، ويؤكد نفسه في شكل نهائي للأزمة الأخيرة."(55)
 ومع ذلك، يمكن أن نتوقع ظروفا افتراضية تنطبق عليها أفكار جروسمان. فقد تجبر المنافسة الحادة بين رؤوس الأموال – والتي تزداد حدتها مع اتجاه معدل الربح نحو الانخفاض – كلا منها على الاستثمار في مزيد من وسائل الانتاج عالية التكلفة حتى تحصل على التكنولوجيا المتقدمة التي تكون شرطا مسبقا للبقاء. وبهذه الطريقة تتناقض المتطلبات التقنية للنجاح في المنافسة مع إمكانية الحفاظ على الربحية؛ وسوف يتناقض تجسد رأس المال في قيم استعمالية معينة مع إمكانية التوسع في قيمته. وقد تمنع مقاومة الطبقة العاملة استعادة معدل الربح بواسطة تخفيض أجور العمال إلى مستوى يقل عن تكلفة إعادة إنتاجها. وقد يمنع حدث ما دورات الرخاء-الركود من دفع بعض الشركات إلى خارج النشاط فتخفف المشاكل طويلة الأجل عن كاهل شركات أخرى. عندذاك، تستطيع نظرية جروسمان أن تكشف عن الكيفية التي يمكن لانخفاض معدل الربح بها التسبب في مشكلات عميقة للنظام، وذلك دون التعامل معها كبرهان قطعي على أن الرأسمالية ستنهار حتما من تلقاء نفسها.
تركيز وتمركز رأس المال
أما العملية الثانية طويلة الأمد التي أدركها ماركس فقد أطلق عليها "تركيز وتمركز" رأس المال.(56) لا صعوبة في فهم ما يتضمنه هذا المصطلح، فالتركيز يشير إلى الكيفية التي تستطيع من خلالها رؤوس الأموال المنفردة تحقيق التراكم بواسطة الاستغلال، وبالتالي تزداد حجما، وتغدو الشركة الصغيرة شركة كبيرة، والشركة الكبيرة تغدو عملاقة – شرط أن تستطيع البقاء مجتازة كل الأزمات الدورية. أما التمركز فيشير إلى الكيفية التي تستأصل بها كل أزمة بعض رؤوس الأموال، تاركة لرؤوس الأموال الباقية السيطرة على جزء أكبر من النظام ككل.
تنطوي هذه العملية على نتائج هامة – لم يستخلصها ماركس كلها بنفسه. فكلما كبر حجم الوحدات المنفردة من رأس المال وتضخمت الحصة التي تمثلها في مجمل النظام، يكون تأثيرها أشد على بقية النظام في كل مرة تتعرض واحدة منها للإفلاس. عندما تعجز شركة صغيرة عن تحقيق ربحية وتقع في الإفلاس، يؤدي ذلك إلى انهيار جزء صغير فقط من سوق شركات أخرى صغيرة كانت تربح من توريد منتجات لها، ويكون أثر الدومينو هنا محدودا جدا. غير أن إفلاس واحدة من الشركات العملاقة في النظام يمكن أن يترتب عليه أثر مدمر على شركات كبيرة أخرى كانت تربح اعتمادا على هذه الشركة العملاقة كسوق لمنتجاتها، ويمتد الأثر المدمر إلى أي بنوك أو شركات أخرى قامت بإقراضها، ويتحول أثر الدومينو إلى أثر انهيار جليدي.    
ومع ذلك، تستطيع الشركات، في نفس الوقت، أن تحظى بالحماية من قوى السوق إلى درجة معينة بفضل حجمها وحده. إن حركات العمل الجزئية داخل مؤسسة رأسمالية كبيرة لا تدخل مباشرة في منافسة مع حركات العمل الجزئية خارجها. وما يحدد طبيعة العلاقة بين هذه الحركات وتلك هي قرارات الإدارة بدلا من المنافسة. وكما يبين ماركس:
"في الصناعة الآلية (المانيفاكتورة) … يكون مجمل الكيان العضوي العامل شكلا من أشكال وجود رأس المال. ويمتلك الرأسمالي الآلية التي تتكون تفصيلا من العديد من العمال الأفراد…إن الصناعة الآلية بالمعنى الدقيق للكلمة لا تقتصر على إخضاع العامل الذي كان مستقلا قبلها إلى سيطرة ونظم رأس المال، وإنما تنشيء علاوة على ذلك تدرجا هرميا من العمال أنفسهم… ولا يقتصر الأمر على تقسيم مهام العمل التفصيلية على أفراد مختلفين، بل إن الفرد نفسه يختزل إلى محرك أوتوماتيكي لعملية جزئية …"(57)    
إن المؤسسات الكبيرة تشبه جزرا داخل النظام يتم فيها تنظيم العلاقة بين العمل الذي يقوم به الأفراد وفقا لخطة، وليس وفقا للعلاقة ما بين منتجاتهم من خلال السوق:
"بماذا يتميز تقسيم العمل في الصناعة الآلية؟ بحقيقة أن العامل المفرد لا ينتج سلعا، بل إن المنتج المشترك فقط الذي ينتجه كل العمال الأفراد معا هو ما يصبح سلعة. إن تقسيم العمل في المجتمع ينتج عن شراء وبيع منتجات مختلف فروع الصناعة، بينما يرجع الارتباط بين العمليات الجزئية داخل الورشة إلى بيع عديد من العمال قوة عملهم إلى رأسمالي واحد، الذي يستخدمها كقوة عمل مركبة... فبينما يجبر قانون التناسب الحديدي داخل الورشة عددا محددا من العمال على القيام بمهام محددة؛ في مجتمع خارج الورشة تلعب الصدفة والنزوة أدوارهما في تقسيم المنتجين ووسائل الإنتاج على مختلف فروع الصناعة."(58)
لا توجد هذه الجزر من التخطيط داخل الشركات في معزل عن ذلك البحر من الانتاج السلعي الذي يحيط بها. فالنظام الداخلي يأتي استجابة للضغط الخارجي نحو استخلاص ومراكمة فائض القيمة من أجل التنافس: "إن الفوضى في تقسيم العمل في المجتمع والاستبداد في تقسيم العمل داخل الورشة يشترطان بعضهما الآخر."(59) ينشأ الاستبداد عن الضغط الذي يمارسه الرأسمالي حتى يربط إنتاجية العمل داخل المؤسسة بإنتاجية العمل دائمة التغير في النظام ككل. لكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك دون استخدام القسر، والضغط على كل عامل لتحقيق مستوى الانتاجية في المجتمع الأوسع الذي ينشأ عن التفاعل العشوائي بين السلع.
يعمل قانون القيمة بين مختلف المنشآت من خلال السوق. أما داخل المنشأة فيجب أن يفرض بواسطة التنظيم الواعي من جانب الرأسمالي. إن التخطيط في الرأسمالية ليس نقيضا للسوق؛ وإنما وسيلة الرأسمالي التي يسعى بها إلى فرض متطلبات السوق على قوة العمل.(60)
ومع ذلك، غالبا ما يكون لدى الرأسمالي فترة من حرية الحركة. وقد تستطيع المنشأة تحقيق أرباح إذا كانت أسواق منتجاتها تنمو بسرعة رغم وجود ارتفاع ملحوظ في تكاليف الإنتاج بداخلها عن التكاليف السائدة في مجمل النظام. نفس الوضع عندما تستحوذ المنشأة على حصة كبيرة من السوق في قطاع من قطاعات الإنتاج يتطلب كميات كبيرة من رأس المال الثابت. فقد تكون طرق الإنتاج المرتبطة بالتركيب المادي لرأسمالها الثابت (قيمته الاستعمالية) أعلى تكلفة بكثير من تلك التي تتوافر في النظام ككل (مثلا عندما تستخدم آلات قديمة يعمل عليها كثير من العمال)، غير أنها تتمتع بحماية من المنافسة الخطرة لفترة زمنية طويلة لمجرد ارتفاع تكلفة دخول شركات جديدة نفس القطاع لتنافسها. إن وجود رأس مال معين كأصل ثابت، يتشكل ماديا من قيمة استعمالية علاوة على إمكانية تحويله إلى قيمة تبادلية سائلة يعني أن قانون القيمة لا يطبق عليه مباشرة وفورا.
إن هذه الحالة لا يمكن أن تستمر إلى مالانهاية. فسوف يؤدي تطوير طرق إنتاج جديدة أكثر تقدما في النظام إلى مواجهة هذه المنشأة منافسة مفاجئة وخطيرة في نهاية المطاف. وعندئذ، وبسبب أثر الأزمة عليها، تكون المنشأة مضطرة إلى إعادة الهيكلة حتى تقوم بالإنتاج وفقا لقانون القيمة أو تنزلق. وبقدر ما يزيد عدد المنشآت التي تمتعت بالحماية نسبيا في الماضي – أي بقدر ما ترتفع درجة تركيز وتمركز رأس المال – بقدر ما تكون الأزمة أكبر عند اندلاعها في نهاية الأمر.
غير أن الشركة العملاقة تستطيع أن تتجنب الأزمة في الفترة البينية – وأحيانا تكون هذه الفترة طويلة جدا. وعندما تكون كثرة من الشركات العملاقة قادرة على تجنب الأزمة لفترة زمنية، قد ينشأ انطباع بأن ذلك النظام – أو أن جزءا منه – قد أضحى بلا أزمات. وما لا يلاحظه أحد أن الثمن الذي يدفعه النظام في تجنب الأزمات هو غياب إعادة الهيكلة اللازمة لتعويض ضغوط الانخفاض طويلة الأجل على مستوى الربحية. فتتجنب رؤوس الأموال أزمات صغيرة، لا لشيء إلا أن تتعرض في النهاية إلى ضربة من أزمة أكبر كثيرا.  

حافة الرأسمالية الأخرى؟
نقطة أخيرة غالبا ما تفتقد إليها شروح أفكار ماركس: حيث يفسر تركيزه على نمو "قوى الإنتاج" كفكرة مطابقة لمعنى النمو الاقتصادي مهما كلف الأمر. غير أن في ما كتبه ماركس وأنجلز من كتابات مبكرة ومتأخرة إدراك نافذ لطبيعة هذا النمو المتناقضة في المجتمعات الطبقية عموما وفي الرأسمالية خصوصا. فقد كتبا في عام 1845/6:
"تأتي مرحلة في تطور القوى الإنتاجية تظهر عندها قوى إنتاج ووسائل في التعامل لا تحدث إلا ضررا، ولا تعود بعدها قوى إنتاجية وإنما قوى تدميرية."(61)
لم تقف رؤية ماركس وإنجلز عند اعتبار الرأسمالية نظاما مدمرا في عمومها فحسب، وإنما وضعا كذلك الخطوط العريضة لتحليل نقدي محدد للدمار البيئي الذي تحدثه، كما أكد كتاب مثل جون بلمي فوستر في السنوات الأخيرة.(62)
إن ماركس يعتبر البشر جزءا لا يتجزأ من العالم الطبيعي، وقد كتب:
"إن العمل قبل كل شيء عملية يشترك فيها الإنسان والطبيعة، وفي سياقها يبدأ الإنسان التفاعلات المادية بينه وبين الطبيعة بمحض اختياره ويضبطها ويسيطر عليها. فهو يطرح نفسه في مواجهة الطبيعة كإحدى قوى الطبيعة ذاتها، ويحرك ذراعيه وساقيه ورأسه ويديه، أي القوى الطبيعية في جسده، حتى يأخذ منها منتجاتها في شكل يلائم حاجياته."(63)
بيد أن اندفاع رأس المال في إنتاج فائض القيمة يؤدي به إلى تدمير حيوية الطبيعة، والشروط الضرورية لحياة البشر:
"يحل الاستغلال وإهدار حيوية التربة مكان زراعتها بوعي وتعقل بوصفها ملكية جماعية أبدية وشرطا لا غنى عنه لوجود وإعادة إنتاج سلسلة الأجيال المتعاقبة للجنس البشري."(64)
هنا ينشأ "صدع يتعذر ترميمه في لحمة التفاعل الاجتماعي كما تفرضها قوانين الحياة الطبيعية."(65)  "إن الانتاج الرأسمالي يطور التكنولوجيا، والتركيب لعمليات متنوعة وجمعها في كل اجتماعي واحد، فقط عبر استنزاف المصدرين الأساسيين لكل ثروة – أي الأرض والعامل…"(66) وتماما كما "تبدد الصناعة الكبيرة قوة العمل وتدمرها" فإن "الزراعة الميكانيكية الكبيرة … تستنزف الحيوية الطبيعية للتربة استنزافا مباشرا…"(67) أقر ماركس أن الانتاج الرأسمالي بشكل بطئ يقوض الأساس الذي يقوم عليه – كما يقوم كل الانتاج البشري -  وهو التفاعل الحيوي بين الإنسانية وبقية العالم الطبيعي. 
 كانت ملاحظات ماركس تتركز بالأساس على الآثار المباشرة للزراعة الرأسمالية على خصوبة الأرض التي لم يكن ممكنا التغلب عليها في عصره إلا باستخدام مستودعات أسمدة جوانو-نيتروجينية معدنية تكونت على مدى آلاف السنين من زبل الطيور المتراكم أساسا على الساحل الشمالي في شيلي. وقد التقط كارل كاوتسكي أفكار ماركس وطورها بهذا المعنى في تسعينيات القرن التاسع عشر معتبرا أنها تتضمن وقوع أزمة في إنتاج الغذاء في المدى القريب. لكن يبدو أنها فقدت أهميتها مع اكتشاف أن الأسمدة النيتروجينية يمكن إنتاجها صناعيا (عبر عملية هابر-بوش) خلال فترة الحرب العالمية الأولى واستطاع الانتاج العالمي من الغذاء أن ينمو طوال القرن العشرين دون صعوبة.  غير أن التحليلات الخاصة بالعلاقة بين البشرية والطبيعة كانت تحوي مضامين أوسع من قلق بسيط بشأن إنتاج الغذاء، كما أوضح إنجلز في مخطوطة كتابه ديالكتيك الطبيعة الذي لم ينشر إلا في منتصف عشرينيات القرن العشرين بعد مرور 30 عاما على وفاته.  
وهنا يلاحظ إنجلز أنه، رغم اختلاف البشر عن الحيوانات الأخرى في قدرتهم على "تسيد" الطبيعة، فغالبا ما يكون لذلك تاريخيا نتائج سلبية مباغتة تشطب ما تحقق من مكاسب أولية. وضرب مثلا بكيفية أن إزالة الغابات أدت إلى خراب اليونان والشام وآسيا الصغرى:
"هكذا مع كل خطوة نخطوها تذكرنا بأننا أبعد ما نكون عن السيطرة على الطبيعة كما نسيطر على شعب أجنبي، أو كشخص ما يقف خارج الطبيعة – وإنما نحن، بلحمنا ودمنا وعقلنا، ننتمي إلى الطبيعة ونعيش في قلبها.(68)  
يوفر لنا التقدم العلمي بشكل بطئ وسائل لتفادي إحداث الكوارث البيئية عبر إدارة وتنظيم "النشاط الإنتاجي". لكن هذا "التنظيم" يتطلب "أكثر من مجرد المعرفة". يتطلب "ثورة كاملة في نمط الانتاج القائم حتى الآن، وفي نفس الوقت ثورة في كامل نظامنا الاجتماعي المعاصر."(69) هذا ضروري لأن:
" لدى الرأسماليين الأفراد، الذين يسيطرون على الإنتاج والتبادل، قدرة على ألا يعبأوا إلا بأكثر نتائج أفعالهم نفعا بصورة مباشرة … إن نمط الانتاج الحالي، في علاقته بالطبيعة كما بالمجتمع، غارق في الاهتمام فقط بأكثر النتائج الملموسة والمباشرة؛ ثم تجد تعبيرا عن الدهشة بأن الآثار الأبعد لأفعال تتجه لتحقيق هذه الغاية تأتي مختلفة تماما، أنها في معظم الأحوال من طبيعة مناقضة تماما."(70)
مضمون ذلك أن الرأسمالية تنطوي على حافة أخرى في بنيتها إلى جانب تلك التي يتضمنها ميلها البنيوي نحو الأزمات الاقتصادية. وهي أنها إذا تركت وشأنها يمكن في نهاية الأمر أن تدمر الشروط البيئية ذاتها اللازمة لأي شكل من أشكال الوجود البشري، بما في ذلك الرأسمالية نفسها. لم يطور ماركس ولا إنجلز هذا المضمون، لكن ذلك أصبح أمرا بالغ الأهمية بعدهما بمائة عام.
  
نظام ديناميكي ومتناقض:
إن الإقرار بأن الرأسمالية نظام دائم التوسع من العمل المغترب يتخلل صفحات كتابات ماركس الاقتصادية. فهو نظام يجري فيه الاستحواذ على القوى الحية من الناس وتحويلها إلى منظومة من الأشياء التي تسيطر عليهم. إن رأس المال عمل يجري تحويله إلى منتج وحشي هائل هدفه الوحيد أن يتوسع ذاتيا: "إن رأس المال عمل ميت، لا يعيش إلا مثل مصاص الدماء عبر امتصاص العمل الحي، ويعيش أكثر كلما امتص مزيدا من العمل."(71) وهذا ما يمنح الرأسمالية دينامكية في النمو لا تباريها فيها المجتمعات السابقة.  
إن الاندفاع اللانهائي نحو ضخ فائض القيمة بهدف الاستمرار في ضخ المزيد من فائض القيمة، نحو التراكم بهدف الاستمرار في التراكم، لا يعرف حدودا. فمع ظهور الرأسمالية في أجزاء من شمال غرب أوروبا، اضطرت إلى أن تمد أذرعها حتى تحتوي الأرض بأكملها، وتخضع المزيد من العمل الحي لنظامها:
" إن حاجة البرجوازية إلى توسيع أسواق منتجاتها بصورة دائبة تطاردها في كامل أصقاع الكرة الأرضية، فلابد لها أن تعشش في كل مكان، وأن تقيم في كل مكان، وأن ترسخ العلاقات في كل مكان. وعبر استغلالها للسوق العالمية، أعطت البرجوازية طابعا كوزموبوليتانيا للانتاج والاستهلاك في جميع البلدان. وحتى يزداد الرجعيون غما، انتزعت البرجوازية من تحت أقدام الصناعة قاعدتها القومية التي كانت تقف عليها. إن جميع الصناعات القومية الراسخة في القدم دمرت أو يلحق بها الدمار يوميا، وتزيحها صناعات جديدة أصبح تبنيها من جميع الأمم المتحضرة مسألة حياة أو موت. صناعات لم تعد تستخدم المواد الأولية المحلية، بل مواد أولية تجلبها من أكثر المناطق بعدا. صناعات تستهلك منتجاتها لا داخل البلد وحسب بل في جميع أنحاء العالم، وبدلا من الحاجات القديمة التي كان يلبيها انتاج البلاد، تنشأ حاجات جديدة يتطلب إشباعها منتجات بلدان وأقاليم مناخية بعيدة، وعلى أنقاض الاكتفاء الذاتي والانعزال المحلي والقومي القديم، نجد تعاملا في كل اتجاه، واعتمادا متبادلا شاملا بين جميع الأمم."(72)
إن تحليل ماركس يبرز تحديدا ما يفتقد إليه علم الاقتصاد السائد منذ عصره وحتى الآن – أي إدارك اندفاع الرأسمالية الشامل نحو الأمام.(73) وينفرد نموذجه بين جميع النماذج الأخرى بتقديم تحليل لنظام توسع حتى شمل معظم أرجاء أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية عند وفاته في عام 1883 – ثم توسع أكثر حتى شمل العالم كله في القرن العشرين. لكنه لا يقف عند هذا الحد، فنموذج ماركس لم يكن عن نظام ذاتي التوسع فحسب، بل عن نظام يعتمد في توسعه على تفاعل قوى متناقضة يجد تعبيرا عنه في الأزمة وضغوط الانخفاض على معدل الربح. إن توسع النظام يؤدي في نفس الوقت إلى نمو هائل في قوى الانتاج – أي في قدرة البشرية على إنتاج وسائل معيشتها – وإلى تحويل هذه القوى الإنتاجية إلى قوى تدمير من خلال تقويض حياة البشر.
إن الرأسمالية نظام يدفع نحو الشمولية – يراودني إغراء بأن أكتب "نظام شمولي" – بصورة لم يبلغها أي نمط إنتاج سابق، يجبر كل العالم على أن يرقص على إيقاعاته المجنونة للمنافسة والتراكم. وبينما يحقق ذلك، يرتد النظام كله باستمرار على العمليات الجزئية التي يعتمد عليها. فيدفع كل رأس مال إلى تخفيض قسري لأسعار قوة العمل إلى الحدود الدنيا التي تحافظ على قدرة عماله على العمل واستعدادهم له.(74) إن صدام رؤوس الأموال يجبر كلا منها على التراكم بطريقة ينتج عنها ضغوط انخفاض على معدلات الأرباح بالنسبة لها جميعا، ويمنع أيا منها عن التوقف حتى لو أصبحت في لحظة أو أخرى على وعي بالدمار الذي تتسبب فيه. إنه نظام يجلب خرابا دوريا على كل من يعيشون فيه، هجين يثير الرعب من وحش فرانكنشتاين ودراكيولا، وحش من إنتاج البشر وقد خرج عن السيطرة ويعيش على التهام دماء الحياة ممن خلقوه.  

بهذا الإدراك قبل أي شيء آخر تتميز مقاربة ماركس عن كل مدارس علم الاقتصاد السائد، سواء أرثوذكسية أو منشقة، مما يعني أنها وحدها التي تقدم دليلا لتحليل الرأسمالية في القرن الحالي. غير أن ذلك يعني استخدام مفاهيم ماركس حتى نتجاوز ماركس. 

ليست هناك تعليقات: